الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الأسلوب الاستقرائي:
وهذا الأسلوب مظهر من مظاهر ارتباط المقال الصحفي عند طه حسين بالحياة العملية ودلالات الواقع الملموس، ورؤياه العقلية والعملية على السواء، رغم ما تتذوق فيه من عطور شعرية وموسيقية"1، إن الأسلوب التعبيري عند طه حسين إنما هو حركة عقلية، ودعوة عملية، تتخذ من هذا التقطيع الموسيقي وهذا التنغيم إيقاعًا لحركتها، ولو تأمَّلنا هذا الإيقاع بعمق لوجدناه تارة إيقاعًا استدلاليًّا، وتارة أخرى إيقاعًا استقرائيًّا، ولوجدناه في الحالتين عملية استنباطية تتدرج لتشمل الظاهرة العملية أو الواقعية موضوع المقال، حتى تسيطر عليها من كل جهاتها، وتنتهي بها إلى الغاية العقلية والعملية التي تريدها لها، بل ويريدها للقارئ كذلك2.
ذلك أن طه حسين لم يقنع بالقياس المنطقي منهجًا لمقاله، كما نجد في بيئة التكوين ومصادرها الثقافية القديمة، فكان المنطق الأرسطي يُسْعِفُهُ في معاركه الكثيرة التي خاضها؛ وكان طوع بنانه، ولكن المنطق الأرسطي سلاح مؤقت المفعول، لا سيما إذا كانت مقدماته غير سليمة، ومن هنا كان سر تطور آراء طه حسين في المشكلة الواحدة كلما اكتشف أبعادًا جديدة للفكرة التي ينظرها، ولقد كانت له من أمانته وجرأته ما جعله يعلن ذلك على الناس ويراه حقًّا عليه3.
ومن مظاهر أسلوبه المنطقي المتأثر بالثقافة القديمة، تأليف الجمل على شكل مقدمات ونتائج، تبدأ منطقيًّا وتنتهي منطقيًّا، ومن خلال المناقشة التي تشيع في غضون المقال، على طريقة الأزهريين أو كتب التراث القديم، والإكثار من التقسيمات والتعريفات والتلخيصات، على أن اتصاله بالثقافة الأوربية وبالمنهج الديكارتي خاصة، ذهب به إلى التوسُّل بأساليب جديدة يستخدمها في معالجة موضوع مقاله لكسب معرفة جديدة، وقد انتقل بها من مرحلة البحث العلمي إلى مجال الحياة اليومية، مدركًا خطر هذه الأساليب الجديدة في الكشف عن مواطن الزلل في التفكير العادي والتصرفات اليومية، وتبرئة الحياة من آثار التفكير الخرافي، ومعاونة القرَّاء على تفسير ما يصادفهم من أحداث، وما يعترضهم من إشكالات.
ومن هنا ينتقل المقال الصحفي في أدب طه حسين من مرحلته الأولى إلى مرحلة جديدة، تكشف عن عقم القياس الذي لا يكشف عن معرفة جديدة.. حقيقة أنه أفاد مقاله في تنمية القدرة على الجدل والنزال، ولكنه يفسر لنا ما نعلمه، ولا يكشف لنا عَمَّا نجهله فيما يقول "ديكارت"4 في حملته على القياس الصوري، وشرط الاستدلال في كل صوره أن يفضي بالباحث إلى كسب معرفة جديدة لا تكون متضمنة في مقدماته.
1 محمود أمين العالم: مجلة الهلال فبراير 1966.
2 المرجع نفسه.
3 د. محمد سامي البدراوي: مرجع سبق ص276، الدكتور طه حسين حافظ وشوقي، المقدمة.
4 الدكتور توفيق الطويل وآخرون: مشكلة الحق والباطل ص82.
من أجل هذا صرَّحَ طه حسين في بيئته الصحفية الثانية بأنه يريد أن يصطنع "هذا المنهج الفلسفي الذي استحدثه ديكارت للبحث عن حقائق الأشياء"1، ذلك أن هذا المنهج يتيح له أن يكون "واضحًا جليًّا، وأن يقول للنَّاس ما يريد أن يقول دون أن يضطرهم إلى أن يتَأَوَّلُوا ويتعمَّلوا ويذهبوا مذاهب مختلفة في النقد والتفسير والكشف عن الأغراض التي يرمي إليها"2؛ إذ الأصل في التفكير العلمي أنه أداة لكسب معرفة جديدة عن طريق الانتقال من معلوم إلى مجهول وفقَ قواعد معينة حدَّدها منهج علمي، وقد ثبت أن الكثير من الحقائق لا يتيسر الكشف عنه بطريق القياس الذي يبدأ بوضع مقدِّمات عامة، ويهبط منها متدرجًا إلى أفرادٍ تندرج تحت هذه المقدمات. ومنطق الأشياء يقتضي البدء بالصعود قبل القيام بالهبوط، أي: أنَّ الباحث يتدرج في استدلالٍ صاعدٍ يرتقي فيه من الحالات الجزئية إلى المقدمات العامة، وهذا الاستدلال الصاعد هو الاستقراء الذي يتَّسِمُ به الأسلوب الصحفي في مقال طه حسين، لينتقل من جزئيات الواقع الملموس إلى حكم عام، فإذا كان معيار الصدق في القياس اتساق نتائجه مع مقدماته، فإنه في حال الاستقراء تتطابق نتائجه مع خبرتنا في العالم الحسي والواقع الملموس، ومن أجل ذلك فإنه أصلح في الأسلوب الصحفي الذي يقتضي اتساق "صورة الفكر ومادته" المشتقة من الواقع العملي.
وليس معنى هذا أن الأسلوب الصحفي في مقال طه حسين يستغني بالاستقراء عن القياس، إذ أنه يتوصَّلُ بالاستقراء إلى القضايا العامة، ولذلك يجعل هذه القضايا في قياسٍ يتثبَّت عن طريق قواعده من صحة هذه المقدمات العامة، ويكون ذلك بتطبيقها على حالات جزئية من الواقع المتجدد لحركة الأحداث، وبهذا نجد أن القياس في أسلوب طه حسين متمم للاستقراء، كما أن الاستقراء ضروري للقياس من حيث أن التثبُّت من صحة المقدمات العامة في المقال، إنما يكون عن طريق الاستقراء.
ومن ذلك يبين أن مقال طه حسين يرتقي إلى النتائج العامَّة من الجزئيات المشتقة من الواقع الملموس ومن سياق حركة الأحداث، بملاحظة هذه الجزئيات وتقويمها، من خلال الاستقراء العلمي Imperfect Induction أو الناقص، لكسب معرفة جديدة، أو للكشف عن حقائق مجهولة وفقًا لما تقتضيه وظيفة المقال في اتجاهاته المختلفة سياسيًّا وثقافيًّا واجتماعيًّا.
وشواهد هذا الأسلوب الاستقرائي في مقال طه حسين تفوق الحصر،
1، 2 في الأدب الجاهلي ص67، 1، 2.
إلّا أننا نكتفي بالإشارة إلى نموذجين منها في مقال بعنوان: "مذهبان"1، وآخر بعنوان:"صراع"2، حيث يفحص مجموعة من الظواهر المعاشة ابتغاء الكشف عن عللها، عن طريق وصفها وتقرير حالتها وفاقًا للواقع المحس، ففي المقال الأول يفحص مذهب الحكم، ويكشف عن انحرافها في مصر: "
…
هذا هو مذهب الناس عامة في فهم الحكومة وفهم واجبها، وفهم الصلة بينها وبين الشعب. ولكن المذهب الآخر الذي يراه فريق من المصريين، والذي هو أقرب إلى الحق وأدنى إلى الصواب، ينحو نحوًا آخر غير هذا النحو في الحكم والفهم والتقدير، فالحكومة عند هؤلاء المصريين وجدت لإقرار الأمن، ولكن لإقرار أمنها هي قبل أمن الشعب، ووجدت لحماية الأنفس والأموال، ولكن لحماية نفسها هي وأموالها من قبل أنفس الشعب وأمواله"3. وهو لا ينتهي إلى هذه النتيجة، ووصف هذا المذهب إلّا عن طريق تقرير حالته وفاقًا لشواهد الواقع المحس، فهو حين يتحدَّث في المقال الثاني عن "الصراع بين الحياة والرأي في مصر، لا يتحدث عن صراع مجرَّدٍ، ولكنه يكشف عن معلولات هذه الظاهرة عن طريق وصفها وإدراك العلاقة بين الظاهرة ومعلولها، ذلك أن كثيرًا من المصريين "مع السف الشديد لم ينشأ تنشئة حرة، ولم يتكوَّن هذا التكوين الذي يمكِّنُه من أن يفهم الحياة على وجهها"4 وأن هؤلاء "مع الأسف الشديد يُخَيَّلُ إليهم أن الحياة هي الحركة والنشاط، وهي الطعام والشراب"5، وهؤلاء في نهاية الأمر "مصدر ما تجده في مصر من محنة، وما تخضع له من فتنة في السياسة والرأي والمال، ولا لشيء إلّا لأنهم يريدون أن يعيشوا، ولا لشيء إلّا لأنهم لا يستطيعون إلّا أن يعيشوا"6.. إلخ.
فالأسلوب الاستقرائي إذن في مقال طه حسين يقوم على ملاحظة الجزئيات والأحداث ووصفها وتقرير حالتها، وإن كان لا يقنع بالوصف والتقرير، وإنما يتجاوز ذلك إلى الكشف عن العلاقات العلية بين بعضها والبعض الآخر؛ كما سيجيء؛ عند دراسة المقال التحليلي ابتغاء فهمها والتحكم في توجيهها لصالح الإنسان المصري. ومعنى هذا أن الأسلوب الاستقرائي أنسب الأساليب في تحرير المقال الصحفي، لما يتيحه من أحكام عقلية عامَّة يتوصل إليها كاتب المقال عن طريق ملاحظته لحركة الأحداث تقريرًا لحالتها، ووصفًا لحقيقة أسبابها ونتائجها، وأساس هذا الاستقراء هو الاطراد في وقوع الأحداث، ومن هنا يتميز الاستقراء الصحفي بأنه وصفيٌّ يقرِّرُ حالة الظواهر كما هي في الواقع، ويقوّمها في ضوء حركة الأحداث، لا كما "ينبغي أن تكون" كما تذهب إلى ذلك قوانين العلوم المعيارية7. وإذا كانت وظيفة الاستقراء الصحفي هي تفسير الظواهر الحسية الواقعية، أمكننا أن نذهب إلى أن المقال الصحفي لا يعرض للبحث في طبيعة الظواهر وماهيتها، والغاية من وجودها، لأن هذا من شأن الفلسفة التقليدية.
1 كوكب الشرق في 30 يوليو 1933.
2 كوكب الشرق في 25 مايو 1933.
3 كوكب الشرق في 30 يوليو 1933.
4، 5، 6 كوكب الشرق في 25 مايو 1933.
7 الدكتور توفيق الطويل: مرجع سبق ص88.