الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثالث: طه حسين وبلاغة الاتصال بالجماهير
مدخل
…
الفصل الثالث: طه حسين وبلاغة الاتصال بالجماهير
نتحدث في هذا الفصل عن "عناصر الأصالة ومظاهر التجديد في مقال طه حسين" تأسيسًا على أن وسائل التعبير الفنِّي لا يمكن أن تنفصل بحالٍ عن المضمون، ولقد تعرَّفْنَا على مضمون المقال الصحفي عند طه حسين في كتابنا المتقدم1، وانتهينا إلى أنه يدور حول محورين أساسيين في استراتيجيته القومية، هما: محور التغيير ومحور التدعيم، وهما كذلك أهم صفات الشخصية المصرية؛ حيث تقترن صفة البقاء والاستمرار التي عرفها المؤرخون عن تطوّر التاريخ في مصر، بعملية "التغيير والتجديد" من خلال وحدة الشعور التي تنتظم الأصالة والتجديد، لتربط حاضر الثقافة المصرية بماضيها، وهذه الظاهرة من وحدة الشعور لدى المصريين هي التي قوَّمت شخصية المصريين التاريخية، وصبغت مقال طه حسين بصبغتها شكلاً ومضمونًا، ذلك أن أي عمل إبداعيٍّ إنما يأتي على أساس عملية تحضيرٍ وإعدادٍ طويلةٍ تشترك فيها كل الخبرة السابقة للفن، والفنان نفسه، وعلاقاته المتبادلة مع مَنْ حَوْلَه وما حَوْلَه من الناس، ومع العالم بأسره، وبالمثل فإن عملية إدراك العمل الفني لا تحدث كظاهرة منفصلة عن التاريخ، أو كواقعة معزولة خاصة بصاحبها فقط.
فمحور التأثُّر في فنِّ القول أو الإفادة من فنون القول الأخرى هو الأصالة؛ أصالة الأفراد، وأصالة القومية2، وبهذا المحور -في فنِّ المقال- خاصة، تتحقق المحاكاة الرشيدة المثمرة التي تفيد من مظانِّ الإفادة الخارجة عن نطاق الذات حتى يتسنَّى الارتقاء بالذات عن طريق تنمية إمكانياتها "ولا يستطيع امرؤ أن يصقل نفسه، ولا أن يبلغ أقصى ما يتيسر له من كمالٍ إلّا بجلاء ذهنه بأفكار الآخرين، وبالأخذ المفيد من آرائهم ودعواتهم"3.
وتأسيسًا على هذا الفهم، فإنَّ فنَّ المقال في أدب طه حسين، قديم جدًّا وحديث جدًّا، قد اتصل قديمه بحديثه اتصالاً مستقيمًا لا انقطاع فيه ولا التواء؛ ففيه خصائص الآداب القديمة، وفيه خصائص الفن الصحفي الحديث، وفيه ما يُمَكِّنُنَا من استخلاص حديثه من قديمه، وما يغنينا عن كثير من الفروض4.
وأخصُّ ما نلاحظه في مقال طه حسين، أنه يأتلف من عنصرين لا يحتاج استكشافهما إلى جهد أو عناء: أحدهما داخلي يأتيه من نفسه ومن طبيعة الأمة
1 طه حسين وزوال المجتمع التقليدي.
2، 3 الدكتور غنيمي هلال: مرجع سابق ص107.
4 ألوان ص13.
المصرية التي ينتمي إليها، والآخر: خارجيٌّ يأتيه من الشعوب والثقافات التي اتصل بها، ونعني بهذين العنصرين: الأصالة، والتجديد.
ونبدأ فنتعرف على لغة الاتصال بالجماهير في مقاله الصحفيّ، ومميزات أسلوبه ومهاراته في الاتصال، ثم نتعرَّف على مقاله بين التقليد والتجديد تمهيدًا للتعرُّفِ على رؤياه الإبداعية في فنِّ المقال الصحفي في تشكيلاته النهائية التي ظهر بها واضحًا في شخصيته وفَنِّه. تأسيسًا على أن الفنَّ الصحفيّ "طريقة تفكير ورؤية خاصة متميزة للحياة"1 والمقال الصحفي في ضوء هذه الرؤية يغدو عملاً نقديًّا في الوقت ذاته، أكثر مما كان في أيِّ وقت مضى، ذلك أن عملية الإبداع الفنيِّ تتضمَّن اختيارًا للشكل وللغة، ولعدد لا يخضع للحصر من التفاصيل الصغيرة التي تشكِّلُ فنَّ المقال وتحدده، وكل كاتبٍ هو بهذا المعنى ناقدٌ بالضرورة. فأكبر الكُتَّاب هم أصحاب أعمق وأشمل قدرة على النقد2، وهي القدرة التي تميِّزُ الرؤيا الإبداعية في مقال طه حسين نتيجة إلحاحه في الوعي بالذات، وغلبة التأمُّل العقلي على عالم التعبير الفني في أدبه على العموم، ومقاله على الخصوص. وقد يرجع ذلك إلى اهتمامه واهتمام جيله بقاضاياه وفلسفته وتفسيراته، والتزامه لهذه القضايا في كثير من الأحيان، ونظرته إلى الفن كضرورة من ضرورات الحياة، فيجد في فنِّ المقال وسيلةً لمبادلة الجمهور اهتمامًا باهتمام، ومناسبة لتوضيح ما في فنِّه من مغزى، الأمر الذي يجعلنا ننظر إلى عناصر الأصالة والتجديد في مقال طه حسين، على أنها عملية إبداعية تنتظم العمل الإبداعي والعمل النقدي عن قصد، من أجل إيجاد الاتصال والفهم المشترك.
وليست محاولة التعرُّفِ على الرؤيا الداخلية في مقال طه حسين تتعلَّقُ باللغة والأسلوب فحسب، بل هي بالأحرى محاولة للتعرُّفِ على الرؤيا الفنية المتكاملة التي تُمَيِّزُ وتحدِّدُ إبداعه في فن المقال الصحفي، الإبداع الذي لا ينفصلُ فيه عن إنتاجه.
1 الدكتور إبراهيم إمام: مرجع سابق.
2 Haskell M. Block and Herman Salinger.
The Creative Vision p. 10