الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فن العمود الصحفي
مدخل
…
فن العمود الصحفي:
ويرتبط هذا الفن المقالي كذلك بما اتصف به النصف الأول من هذا القرن في نهايته من عامل السرعة من جهة، وبالضغوط التي تعرَّضَت لها الصحافة المصرية، كما يبين من التشريعات الخاصة بالنشر منذ الثلث الأخير من القرن الماضي، والتي بلغت ذروتها في الحرب العالمية الثانية، كما تبيَّنَ فيما تَقَدَّمَ؛ بحيث أصبح المقال الموقَّع في الصحف اليومية في مواجهة ضغوطٍ لا تنبع كلها من داخل صناعة الصحف، وإنما تنبع من أعمال الرقابة الإدارية على الصحف، مستغرِقَةً أكثر السنوات التي عاشتها الصحافة الحديثة1.
وتأسيسًا على هذا الفهم، فإن فنَّ العمود الصحفي يرتبط بهذه الظروف التي ذهبت بمقاله إلى التوسُّلِ بالرمز، كما تَقَدَّمَ، فقد أُعْلِنَت الأحكام العرفية في مصر حين أُعْلِنَت الحرب الثانية سنة 1939، ثم رُفِعَت بعد ست سنين، ولكنها لم تلبث أن أُعِيدَت حين أُعْلِنَت حرب فلسطين، ثم رُفِعَت بعد ثلاث سنين2 "فقد استمتعنا إذن -كما يقول طه حسين3- بالحرية الكاملة ثلاث سنين أثناء ثلاثة عشر عامًا. ومن قبل الأحكام العرفية الأولى كانت انقلابات سياسية لم يكن خطرها على حرية التفكير والتعبير أقل من خطر الأحكام العرفية؛ بحيث نستطيع أن نقول غير مسرفين: إننا حرمنا الحرية الحرة أكثر من خمس عشرة سنة في أقل من ربع قرن، والحرية قوام الحياة الأدبية الخصبة، فإذا ذهبت أجدب الأدب وعقم التفكير ما في ذلك شكّ، وقد قال نابليون ذات يوم:"ليس لدينا أدب جيد، وتبعة ذلك على وزير الداخلية"، فقد أحسَّ نابليون إذن أن رقابة وزير الداخلية على الكُتَّاب قد ذهبت برونق الأدب واضطرته إلى العقم والجدب، كان ذلك منذ قرن ونصف قرن4، ويذهب طه حسين إلى أن حياة الناس من هذه الناحية لم تتغَيَّر رغم اختلاف العصور5.
ذلك أن فنَّ القول في حياتنا الحديثة يعيش على "الإذاعة والنشر لا على إحسان المحسنين وعطف أصحاب الثراء والسلطان على الأدباء؛ فالأديب
1 جلال الدين الحمامصي: الصحيفة المثالية ص245.
2، 3 خصام ونقد ص9.
4، 5 المرجع السابق ص10.
يكتب ليقرأة الناس، والناس لا يقرأونه إلّا إذا نُشِرَ كتابه أو مقاله، والكُتَّاب والمقال لا ينشران حين يتحَكَّم في نشرهما الرقيب، والرقيب يحظر على الناس أن ينشروا كتبهم وفصولهم حين تخوض هذه الكتب والفصول فيما لا تُحِبُّ الحكومة أن تخوض فيه"1.
وهكذا خضعت الصحافة في مصر لمثل الظروف التي تخضع لها الصحافة في غيرها من الأقطار الأخرى، وأصبحت مضَّطرةً إلى استحداث فنون تحريرية جديدة تواجه المصادرة التي فُرِضَت على الصحف والكتب، حين كانت تريد "أن تبصِّرَ المصريين بحقائق أمورهم وشئونهم، ونظرت مصر التي كانت ترى أنها ملجأ الحرية في الشرق الأدنى، وأنها قائدة الشعوب العربية إلى الكرامة والعزة والاستقلال، وأنها آمنت بغي الدولة التركية القديمة وطغيانها أحرار سوريا ولبنان والعراق"2، نظرت مصر فإذا كِتَابٌ قد كتبه أحد أبنائها يُحَالُ بينه وبين المواطنين، وإذا به يُنْشَر "المعذبون في الرض" في لبنان، و"يُذاع في أقطار البلاد العربية، ثم يعود إلى مصر فيدخلها خائفًا يترقَّبُ، ويستخفي به قراءه استخفاء، ثم يُعاد طبعه ونَشْرَه في لبنان، والقراء من المصريين يسمعون بذلك فينكرون فيما بينهم وبين أنفسهم، ولكنهم لا يستطيعون أن يجهروا بهذا النكير"3. كانت مصر إذن -كما يقول طه حسين- قد عادت إلى: "مثل ما كانت عليه فرنسا أثناء القرن السابع عشر، حين كان بعض كُتَّابِهَا يفرون بكتبهم لينشروها في هولنده مخافة البأس والبطش وطغيان الرقيب"4، ومصدر ذلك عند الحكومة هو "الخوف الذي يورِّطُ في البغي، وهو الذعر الذي يدفع إلى الطغيان، وهو التنكيل بالكاتب من طريق التنكيل بكتابه، وهو الاستجابة للهوى، والانقياد للشهوة، والحكم في الناس بالحب والبغض لا بالحق والعدل، ولست أعرف أشد حمقًا ولا أجهل جهلًا ولا أغبى غباء من الذين يصدرون في حكمهم عن الخوف والذعر، وعن الشهوة والهوى، وعن الحب والبغض، فهم يورِّطُون أنفسهم في ألوان من السُّخْفِ لا تكاد تنقضي، يحسبون أن قدرتهم تبلغ كل شيء، مع أنها قدرة إنسانية محدودة، لها مدى لا تستطيع أن تتجاوزه، فهي تصادر كتابًا في مصر، وتظن أنها حالت بينه وبين المصريين، ثم لا تلبث أن تراه قد نشر في لبنان، وعاد إلى مصر فقرأه الناس فيها، وانتقض عليها كل ما أبرمت، وفسد عليها كل ما دبرت، واستبق الناس إلى هذا الكتاب، وتنافسوا في الظُّفْرِ به، ولو قد خلَّّت الحكومة بينهم وبينه لكان منهم القارئ له والمعرض عنه، ويحسبون أنهم يفهمون كل شيء، وأن عقولهم تنفذ إلى ما لا تنفذ إليه عقول غيرهم من الناس،
1 المرجع نفسه ص10.
2، 3، 4 المعذبون في الأرض ص10، 11.
وعقولهم، مع ذلك عقول إنسانية تفهم من الأمر قليلًا وتعيا عن فهم الكثير، ولو قد فطنت عقولهم لكل ما كانت الصحف تنشر من الفصول، ولكل ما كانت المطابع تذيع من الكتب، لعطَّلوا الصحف كلها تعطيلًا، ولأغلقوا المطابع كلها إغلاقًا، وأيّ شيء أدلُّ على ذلك من هذا الأدب الجديد الذي أنشأته حكومات الطغيان إنشاء"1.
وفي ضوء هذه الرؤيا التي يحددها طه حسين لمواجهة الكُتَّاب المقاليين، وغير المقاليين للظروف السياسية، يمكن القول أنَّ فنَّ العمود الصحفي كان من أهم هذه الفنون الجديدة التي توسَّل بها طه حسين "حين اضطرت حكومات الطغيان الكتاب إلى العدول عن الصراحة إلى فنون من التعريض والتلميح ومن الإشارة والرمز، حتى استقلَّ هذا الأدب بنفسه، وتنافس القراء فيه تنافسًا شديدًا، وجعلوا يقرأون ويؤولون ويناقش بعضهم بعضًا في التأويل والتحليل، واستخراج المعاني الواضحة من الإشارات الغامضة"2.
ومن آثار فن العمود الصحفي في مقال طه حسين، هذا الفن الجديد الذي اتخذ اسم "جنة الشوك"، وكان ينشره على شكل عمود في صحيفة "الأهرام" في الأربعينيات، ثم جمعت مقالاته في كِتَاب نُشِرَ لأول مرة عام 1945 3.
واتخذ من هذا العمود الصحفي، اسمًا لعموده في جريدة "الجمهورية" في الستينيات.
وفي هذا العمود الصحفي الذي يتوسَّل بالرمز، نجد ارتباط صحافة طه حسين بالظروف الاجتماعية والسياسية، التي ذهبت به -كما يقول- إلى التعبير عن "مظاهر كنا نبغضها ولا نستطيع أن نتحدث عنها في صراحة أثناء تلك الأيام السود، فكنَّا نؤثر الغموض على الوضوح، والرمز والألغاز على التصريح، والإشارة والتلميح على تسمية الأشياء بأسمائها، وكانت حكومة ذلك العهد ورقابتها تقرأ فلا تفهم، فتخلي بين الكُتَّاب وما يكتبون"4. وكذلك قهر هذا الفن المقال الجديد "بغي البغاء، وأفلت من رقابة الرقباء.
وسجَّل على الظالمين ظلمهم، وعلى المفسدين إفسادهم، وأنشأ بينه وبين القراء لغة جديدة يفهمها الأدباء وقراؤهم، وفنًّا جديدًا يذوقه القراء ويحبونه
1 المرجع نفسه ص12.
2 المرجع نفسه ص12.
3 طبعته دار المعارف عام 1945.
4 المعذبون في الأرض ص21.
ويؤثرونه على فنون التصريح والوضوح. والأدب أشبه شيء بالنهر العظيم القوي الذي يندفع من ينابيعه فيشق مجراه حتى يصل إلى البحر، قاهرًا ما يلقاه من المصاعب، مقتحمًا ما يعترضه من العقاب، محتالًا في شق طريقه ألوانًا من الحيل تنتهي به كلها إلى غايته، فظلم الظالمين وبطش أصحاب الطغيان وتحكُّم الرقباء كل أولئك أضعف من أن يقوم في سبيل الأدب والفن، أو يحول بينها وبين القراء"1.
ومن ذلك يبين أن السبب الذي أدَّى إلى ظهور فن العمود الصحفي في مقال طه حسين، هو نفسه السبب الذي جعله يرسل أنفاسًا "حارَّة محرقةً كأنها شُعَلٌ من نار تضيء لقرائنا الطريق، وتهديهم إلى قصد السبيل"2. ولعل في ذلك ما يجعلنا نذهب مع الباحثين في الصحافة إلى أن العمود الصحفي الإنساني هو الذي يمكن توزيعه على أكبر عدد ممكن من صحف العالم3 من جهة، وهو الذي يمكن أن تجمع فصوله في كتبٍ كما في "جنة الشوك" و"جنة الحيوان" من جهة أخرى. فإذا كانت الصحافة عملًا اجتماعيًّا محلي النزعة، فإن العمود الصحفي بطابعه الإنساني يستطيع أن يصل بالصحافة إلى مرتبة الأدب؛ لأنه يتجه دائمًا إلى النفس البشرية، وإلى الاهتمامات العامة4. وعن هذه الرؤيا كان يصدر طه حسين حين ذهب إلى أن فن العمود الصحفي في مقاله إنما هو "أدب جديد"5 جاء نتيجة لما "صُدِمَت به مصر من ألوان الكوارث في حياتها السياسية التي حَدَّتْ من حرية الرأي والقول بين حين وحين4، ذلك أن هذه الكوارث "زادت العقل المصري قوة وأيدًا؛ لأنها عامته العكوف على نفسه، وفتقت له ألوانًا من الحيل للتعبير عَمَّا كان يريد أن يعبر عنه"6، ولا ندري كما يتساءل طه حسين، "أكان من النافع أم غير النافع لمصر أن تتعثَّر في حياتها السياسية، ولكنَّ الشيء الذي لا شكَّ فيه هو أن هذه الأزمات السياسية التي وقفت الإنتاج الأدبي شيئًا ما، قد أنضجت هذا الأدب العربي ومنحته صلابة ومرونة في وقت واحد، علَّمته كيف يثبت للخطوب، وكيف ينفذ من المشكلات"7.
فالظروف السياسية التي مرَّت بها مصر إذن هي السبب الحقيقي في ظهور العمود الصحفي في أدب طه حسين، على أن هذا السبب يرتبط كذلك بما اتصف به القرن العشرون من عامل السرعة، أو كما يصفه طه حسين، فأننا نعيش في "عصر السهولة والسرعة، في عصر الراديو والسينما والصحف
1، 2 نفسه ص13.
3 الدكتور إبراهيم إمام: مرجع سبق ص216.
4، 5، 6 ألوان ص25.
7 المعذَّبون في الأرض ص12.