الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بين الذاتية والموضوعية:
وغنيٌّ عن البيان أن لطه حسين أسلوبًا بيانيًّا مميزًا وفريدًا في الصحافة المصرية الحديثة، والمجال هنا لا يتسع لتحليل عناصر هذا الأسلوب وتحديده وتقييمه، فقد سبق أن حاولنا شيئًا من ذلك بالقدر اللازم لدراسة فنِّ المقال الصحفي في أدبه، على أن هذا الأسلوب في فنِّ اليوميات خاصة، جاء ثمرةً للتطور في مقاله من الذاتية إلى الموضوعية، وذلك أمرٌ طبيعيٌّ؛ لأن المقال الصحفي فن حضريّ خالص، يأتي متأخرًا في الحضارة، بعكس الشعر، فإنه أول الفنون الأدبية ظهورًا في العالم1، وذلك أمر طبيعي بالقياس إلى طه حسين نفسه كذلك، فقد بدأ في التعبير الأدبي بقول الشعر، وكان هذا الشعر أوَّل ما نُشِرَ في الصحف2، وهي -كما يبين بدايةً ذاتيةً نتيجة الاتجاه الأدبي المبكر، وفي ذلك ما يفسِّرُ نزوعه إلى النثر الفني في محاولاته الأولى، واتِّسام هذه المحاولات بالطابع الذاتي الذي يتَّخِذُ من موضوع المقال نقطة قفز إلى التعبير الذاتي، كما نجد في مقالي "الذوق والجمهور"3 و"الحب"4، وغيرهما من المقالات الأولى.
ذلك أن المقالات الأولى في بيئة التكوين جاءت تعبيرًا عن إحساسه بالحياة وتجربته الناشئة فيها، وهي في هذا تقابل نزوعه المبكِّر إلى الشعر الغنائي؛ "لأن كليهما -المقال الأدبي والشعر الغنائي- يغوص بالقارئ إلى أعمق أعماق نفس الكاتب أو الشاعر، ويتغلغل في ثنايا روحه حتى يعثر على ضميره المكنون. فكل الفرق بين المقالة والقصيدة الغنائية هو فرقٌ في درجة الحرارة، تعلو وتتناغم فتكونُ قصيدةً، أو تهبط وتتناثر فتكون مقالة أدبية"5.
وعلى ذلك فإن الكثير من قصائده الشعرية، يمكن مقابلتها بصور مقالية في بيئة التكوين، تعلو وتتناغم فتكون قصيدة:
"يا شفى الله من الفسـ
…
ـق نفوس العاشقين
أنا المعذال في العشـ
…
ـق إذا شاءوا فداء
1 المرجع نفسه ص171.
2 كانت أول قصيدة تنشر لطه حسين هي رثاء حسن باشا عبد الرازق سنة 1908 ومطلعها:
تبين فقد بدَّلْتَ أدمعنا دمًا. الجريدة في 1908.
3 الجريدة في 31 يوليو 1911.
4 الجريدة في 7 نوفمبر 1912.
5 الدكتور زكي نجيب محمود: جنة العبيط ص10.
إنما العشق رسول الفسـ
…
ـق يدعو الجاهلين
سيقولون بذيء
…
ليس في الحق بذاء"1
وتهبط وتتناثر فتكون مقالة أدبية:
"لا أخفي على الناس أن في طبيعتنا شغفًا بالجمال، وميلًا إلى الحسن، لكن إذا غلت نفوسنا في هذا الميل وذلك الشغف، لم يكن غلوُّها إلّا مرضًا يجب أن نداويه ونطب له. والحق أقول أنَّا قد بلغنا من الغلوِّ في ذلك مبلغًا لا يسعنا الصبر عليه، فقد أصبح حب الجمال سبيلًا إلى الغيّ، وداعية إلى الفسوق"! 2.
ومن ذلك يبين الاستشعار المبكِّر بالذات عند طه حسين، بحيث يصبح الخيط جدَّ رفيع بين قصيدته الغنائية ومقالته الذاتية، على النحو الذي يبين من تمثُّلِهِ للمقالة الرومانسية عند المنفلوطي في المرحلة الأولى من التكوين، كما يبين من مقالة بعنوان "من أيهم أنا"3، وغيرها من المقالات التي تشف عن الغنائية الفردية التي وسمت كُتَّاب مصر في مطلع هذا القرن وفي مقدمتهم المنفلوطي4، كنتيجة لاصطدامه بسلطان المجتمع.
على أن هذا الاتجاه الذاتي في مقال طه حسين ما يلبث أن تعمقه الثقافة الغربية، وتمثِّلُ الاتجاهات الجديدة، فيتنوع بتنوع تجاربه، ويتسم بطابع شخصيته المتفردة بين الكُتَّاب، كما سيبين عند دراسة المقال الاعترافي، حيث يقترب مقال طه حسين من فنِّ "مونتاني" الذي يُعَدُّ تعبيرًا صادقًا عن فن المقال الأوروبي. معمِّقًا هذا الاتجاه الذاتي في الحديث عن نفسه، وعن ذكريات صباه وشبابه، وعن الأحداث الطريفة المعجبة التي مَرَّ بها في طور الرجولة والاكتهال. وكان طه حسين شأنه في ذلك شأن "مونتاني" لا يتورَّع عن كشف عيوبه للناس.
1 الجريدة في 14 نوفمبر 1910، محمد سيد كيلاني: مرجع سبق ص70.
2، 3 الجريدة في 7 نوفمبر 1910، المرجع السابق ص38.
4 الدكتور عبد الحميد يونس: فن القصة ص35.