الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
برجسون "بالموقف الوعر". فيصف الواقع السيء بعبارات الاحترام الرقيقة Respactability، ويذهب إلى كشف تنظيم أخلاقي للأخلاقية من خلال حدَّيْن أقصيين للمقارنة، هما الأكبر والأصغر، الأحسن والأسوء. ويتم النقل بينهما صعودًا أو هبوطًا، فإذا ضاقت المسافة قليلًا، تحصل على حدود يقل التضاد بينها شيئًا فشيئًا، كما يبين من النموذج السابق حين يكشف المقال عن تعارض الواقعي والمثالي، تعارض ما ينبغي أن يكون وما هو كائن، يقول طه حسين:
"لهذا كله عجب أشد العجب، حين أقبل علي جماعة من الناس قد أضناهم الجوع، وأنهكهم الحرمان، وظهرت عليهم آثار السوء، وضعفت أصواتهم؛ لأنهم لا يجدون ما يقيم أودهم، ويمكنهم من أن يتحدثوا إليك في صوت ظاهر ممتلئ مستقيم، ولم أشك حين رأيت هؤلاء الناس البائسين المحرومين في أنهم جماعة من الأجانب الذين مسهم الضر في بلادهم، وضاقت بهم الحياة في أوطانهم، فأقبلوا إلى مصر يلتمسون فيها اليسر والسعة، ويفزعون إلى ما فيها من النعيم والرخاء. ولكنني لم أكد أتحدث إليهم وأسمع منهم حتى اشتد عجبي وانتهى إلى أقصاه؛ لأني علمت أن هؤلاء الناس مصريون، نعم مصريون!! "1.
ومن ذلك يبين الاستخدام الوظيفي لعنصر التضاد في المقال الكاريكاتيري من خلال النقل بين الاتجاهين المتنافرين، فتارة يقول طه حسين ما ينبغي أن يكون متظاهرًا بالاعتقاد بأن هذا هو الكائن، وعلى ذلك يقوم التهكم Ironie، وتارة يمضي في عكس هذا الاتجاه فيصف ما هو كائن أدق الوصف بأن هذا ما ينبغي أن تكون عليه الأمور، وتلك هي طريقة السخرية الكاريكاتيرية.
1 المرجع نفسه.
خامسًا: عنصر التندر:
بحيث تأتي النوادر، كل واحدة منها وكأنها لم تذكر إلّا في هذا الموضع الذي يشير إليه الكاتب بالذات، أو كأنها لم تذكر إلّا من أجل هذا الشخص أو النموذج الذي يسخر منه، ويرتبط هذا العنصر عند طه حسين بالوحدة العضوية للمقال، التي تتيح له البراعة في طريقة التندر من خلالها، ولكن هذا العنصر عند طه حسين على ما يُسَمَّى بـ"الدعابة المغرضة tendentious، أو التندر الوظيفي الذي يشبع في المقال بعض الميول النزالية، أو الأغراض السياسية".
وفي مقال طه حسين، نجد أن هذا العنصر الكاريكاتيري يفترض دائمًا وجود "الآخر" الذي يسخر منه، أو يهزأ به، وهو بذلك يؤدي وظيفته
الاجتماعية، من حيث ترديد الأصداء ونشر الإشاعات الساخرة، ولكنه ظاهرة اجتماعية ترتبط بدائرة مغلقة، هي دائرة المقال الصحفي في مكان وزمان معينين، الأمر الذي يجعلنا حين نريد تفهم السخرية على حقيقتها في مقال طه حسين، أن نحدد الوظيفة النافعة التي تقوم بها، وهي في صميمها وظيفة اجتماعية، فالفكرة الموجهة في دراسة برجسون1، للضحك هي أن الظاهرة التي نحن بصددها لا تخرج عن كونها استجابة لبعض مطالب الحياة الجمعية، بمعنى أنه لا بُدَّ من أن تكون لعنصر التندر في المقال الكاريكاتيري دلالته الاجتماعية.
ومن نماذج التندر الوظيفي في مقال طه حسين، اعتماده على هذا العنصر في مدخل مقال بعنوان:"إنذار"2.. يقول فيه:
"كانوا يخوضون في ألوان مختلفة من الحديث، فقال قائل منهم: زعموا أن من أكل السمك، وشرب اللبن، ثم دخل الحمام لم يخرج منه إلّا مجنونًا، ولم ينكر على هذا القائل قوله من أصحابه، وكانوا كثيرين، إلا رجل واحد ألح في الإنكار والمماراة حتى ضاق به أصحابه، وحتى أقسم هو ليأكلنّ السمك، وليشربنَّ عليه اللبن، وليدخلن بعد ذلك الحمام، وليخرجنَّ منه موفور العقل متزن الطبع، معتدل المزاج. ورآه الناس بعد ظهر ذلك اليوم يطوف في شوارع القرية ويقف بأنديتها ومجالس أهلها عاريًا قد جمع ثيابه كلها على رأسه، واندفع في ضحك مخيف وهو يقول: زعموا أن مَنْ أكل السمك وشرب اللبن ودخل الحمام لم يخرج منه إلا مجنونًا. وقد فعلت ذلك كله، افترون علي أثرًا من آثار الجنون، أو مظهرًا من مظاهر الاضطراب. "والذين يعرفون هذه القصة التي يتندر بها الناس إذا ذكروا أكل السمك، وشرب اللبن، ودخول الحمام، لا يملكون أنفسهم أن يذكروها ويضحكوا منها ويغرقوا في الضحك إذا رأوا صحف الوزارة في هذه الأيام، ولا سيما إذا قرأوا الاتحاد التي ظهرت أمس، والشعب التي ظهرت اليوم"3.. إلخ.
ثم يستمر بعد ذلك في التندر بما جاء في الصحيفتين، بحيث يبدو للقارئ عند نهاية المقال أن هذا التندر لم يذكر إلّا من أجل هاتين الصحيفتين موضع السخرية النزالية. ويذهب في توضيح استخفاف خصومه بالمنطق، إلى استخدام منطقٍ جديد يختلُّ فيه القياس، كما تبيَّن من قصة الرجل الذي أكل السمك وشرب اللبن ودخل الحمام.. فالاختلال في المنطق مقصود لأجل تحقيق السخرية، ويذكرنا هذا الاستخدام الوظيفي للتندر في المقال الصحفي بقياس "أبيمنيدس الكريتي" الذي يقول فيه: "إن كل
1 Bergson; "Le Rire Essai sur la sihnigication du comique" pp. 4-6.
2، 3 كوكب الشرق في 17 أغسطس 1923.
أهل كريت كاذبون" وبما أن أبينمنيدس نفسه من كريت، إذن فهو كاذب، ومن ثَمَّ فإن أهل كريت صادقون
…
إلخ. ومن أصداء هذا الاستخدام الوظيفي في نماذج عديدة من المقال النزالي، نذكر لطه حسين مقالًا بعنوان:"جنون"4 يقول فيه:
"هو فنون من غير شك، فمنه الهادئ المطمئن، ومنه الهائج الحاد، ومنه الوادع الأنيس، ومنه النافع الجامع، ومنه ما يكون في الصمت، ومنه ما يكون في الكلام، ومنه ما يكون في السكون والاستقرار، ومنه ما يكون في الحركة والاضطراب، ومنه مايكون ضحكًا، ومنه ما يكون بكاء، ومنه ما يكون فنونًا أخرى لا سبيل إلى إحصائها إلا أن تقرأ كتب الأطباء، أو تسأل القائمين على المجانين في سراي العباسية، تلك التي ذكرها أحد النواب أمس، والتي زعم أنها تخرج لمصر سادتها وقادتها الذين يشرفون على أمورها، ويدبرون مرافقها هذه الأيام"؟!!
"لا يعجب القراء، ولا يضغب النواب، ولا تسخط الحكومة، ولا تنشط النيابة، فأقسم ما ذكرت الجنون ولا فكرت فيه، وما كنت لأذكره الآن أو أفكر فيه، لولا أني قرأت صحف الصباح، فإذا بطل من أبطال النواب، يخطب في الاستجواب فيشرد الحساب، ويدخل من كل باب، حتى إذا انتهى إلى الأزمة وما تحتمل مصر من أثقالها، وتلقي من أهوالها، وذكر الصيارف وأمر الصيارف، وذكر شدة الحكومة في جباية الضرائب، وتجشُّم الفلاح للخطوب، واحتماله للكروب، وصبره على المكتوب، لم يشك في أن الذين يخضعونه لهذه المحن ويبتلونه بهذه الفتن إنما هي من خريجي سراي العباسية، ثم استنزل رحمة الله وعفوه ورضاه على سيده ومولاه قراقوش!.
"فلست أنا الذي ذكر الجنون وفنونه، ولست أنا الذي ذكر قصر العباسية ومن فيه، ولكن من حقي فيما أظن إذا جرت ألسنة النواب بمثل هذا الكلام، أن أقف عنده وأتبين معناه، وأَدُلُّ الناس على خفاياه"1.
ومن ذلك يبين اختلال القياس في نظام الحكم الذي ينازله مقال طه حسين، وهو الاختلال الذي يقوم على أداء الوظيفة الاجتماعية للمقال، والتي يكشف عنها المقال في خاتمته بسخرية مرة لاذعة.
"ليتَعَزَّ هذا الشعب البائس التعس، أو ليعرض عن العزاء، ليصبر هذا الشعب البائس التعس، أو ليعجز عن الصبر، فليس للشعب خطر حين يتعزَّى، وحين يجزع، وليس للشعب خطر حين يصبر، وحتى يبلغ من اليأس، ما دام النواب يخطبون فيبرعون في الخطابة، ويختصمون فيتفرقون في الخصام،
1 المرجع نفسه.
وينتهي الأمر إلى أن تظهر الحكومة بالشكر، وتنصرف الحكومة، وإن لواء الانتصار ليخفق على رءوس الوزراء!! "2.
وهكذا يكشف المقال عن منطق زائف يقوم على اختلال القياس، ويسخر من نظام الحكم المنعزل عن الشعب، وكأنما يقوم بوظيفة "الجزاء الاجتماعي" الذي يسخر من منطق مختل، هو منطق "سراي العباسية" كما جاء في المقال؛ بحيث يبين لنا بوضوح أن "المغالطة" التي يقوم عليها المقال ليست مجرد فكاهة بريئة، وإنما هي مغالطة وظيفية تخدم أغراض النزال.
وهنا نجد في نماذج المقال الكاريكاتيري عند طه حسين، "غرضًا" أو "وظيفة" تكمن وراء ذلك العرض الكاريكاتيري للمقال، وسواء كانت هذه الوظيفة اجتماعية أم نزالية أم معبِّرة عن أية أغراض أخرى، فإن من المؤكد أنها تكمن وراء الكثير من النوادر البريئة التي قد يوردها المقال بحسن نية في مظهرها، ومن ذلك يستمد المقال الكاريكاتيري طابعه الساخر المضحك لما يشيع فيه من وظيفية في البناء والتحرير.
ونذكر في هذا الصدد مقالًا بعنوان: "حصار"1 يقول فيه طه حسين: "أقبل إلى مكتبه صباح يوم من الأيام، وجلس إلى مائدة عمله حيران واجمًا، ثم أخذ قلمًا وعبث به شيئًا من الوقت ثم ألقاه، ونظر أمامه دون أن يرى شيئًا، وفتح أذنيه جميعًا فلم يسمع شيئًا، والتفت عن يمينٍ واستلقى في كرسيه، ثم انحنى على مائدته، ثم أهوى بيده إلى زرٍّ كهربائي فمسَّه مسًّا، كان يريد أن يجعله رفيقًا خفيفًا، ولكن اضطراب نفسه جعله قويًّا عنيفًا، وأقبل الخادم مسرعًا، فألقى إليه أسماء في غير ترتيب ولا نظام، ولا لقب ولا شيء آخر، وإنما هي أسماء يجري بها لسانه، فتنفذ في أذن الخادم كما ينفذ السهم، ثم يسكت وينصرف الخادم وفي نفسه شيء غريب يحدِّثُه أن أمرًا ذا بال يملأ قلب الوزير خوفًا، ونفسه فزعًا واضطرابًا، وأغلق الخادم الباب من ورائه، وظل الوزير حيران واجمًا قلقًا في مكانه، ينفق جهدًا غير قليل؛ ليحتفظ بما يجب للوزراء من مظاهر الهدوء، واستقرار القلوب في الصدور. ويُفْتَح الباب ثم يغلق، وقد دخل فلان، وما يكاد يصافح الوزير حتى يفتح الباب ويدخل آخر، وتتصل هذه الحركة: باب يفتح، وشخص يدخل، وثغر يبتسم عن خوف، وثغور تبتسم عن جدة، وأيد تلتقي، وكراسي تقرب من المائدة، وأجسام تستوي عليها، ثم تهدأ الحركة، وتستقر الغرفة، ويصدر أمر الوزير بأن لا يفتح الباب إلّا إذا دقَّ الجرس، مهما يكن الأمر، ومهما يكن الطارق منا أو الطارقون.
1 المرجع السابق.
2 كوكب الشرق في 6 أبريل 1933.
"ثم يسكت الوزير لحظة مقيدة كأنه يجمع الخواطر المشردة في نفسه، أو كأنه ينفذ من هذا الصمت وسيلة يهيئ بها من حوله للاستماع له، ثم يتكلّم فلا يخبر بشيء ولا ينذر بشيء، ولكنه يسأل عن شيء، يسأل أصحابه:
- أقرأتم الصحف؟
فيقولون: نعم.
الوزير: أرأيتم؟
القوم: ماذا؟
الوزير: ألم تروا شيئًا؟
القوم: شيئًا يستحق العناية.. لا.
أحدهم: كل شيء هادئ مطمئن.
الوزير: كل شيء هادئ مطمئن.
أحد القوم: ليس في الصحف شيء غير عادي.
ومن ذلك يبين استخدام القالب القصصي، واستخدام عنصر الحوار استخدامًا كاريكاتيريًّا يؤتي وظيفة السخرية التي ينطوي عليها هذا القالب القصصي. خصوصًا وأن فيها من المفاجأة التي يدور حولها موضوع المقال، وهي سَفَر النحاس إلى سمنُّود1، "وهو الأمر الذي كان يقض مضاجع الوزارة الصدقية"، حين يسافر في كل عيد وتحتاط الوزارة لسفره، وتحتاط لإقامته، وتحتاط لعودته2 ويتخذ طه حسين من هذا الأمر موضوعًا للسخرية من نظام الحكم الذي لا يقوم على أساس شعبي من جهة، ولتأييد سياسة الحرب الذي يعبر عنه في مقاله من جهة أخرى، وهو هنا "حزب الوفد"، من خلال أسلوب قصصي كاريكاتيري يوفِّر على كاتبه بهذا التلميح، وبذلك الإيحاء غير المباشر الإشارة الصريحة السافرة، أو النزال العلني النابي.
ويتوسَّل بهذا الأسلوب الكاريكاتيري كذلك في السخرية من وزارة إسماعيل صدقي، في مقال بعنوان:"درس"3 يبين فيه العامل الذهني بوضوح، من خلال استخدام ذكائه ومنطقه وسرعة بديهته في السخرية، يقول طه حسين:
"رئيس وزرائنا أستاذ تلاميذه الوزراء، يعلمهم كيف يحكمون، وكيف يدبرون أمور الشعب وفقًا لسياسته التي رسمها أو رسمت له، وهو يراقب حكمهم وتدبيرهم، فمن أجاد منهم أبقاه، ومن قصَّر منهم أقصاه!
1، 2 المرجع نفسه.
3 كوكب الشرق في 21 مارس 1933.
"ووزير داخليتنا أستاذ تلاميذه المديرون والمحافظون وحكام الأقاليم، يعلمهم كيف يديرون أقاليمهم طبقًا للسياسة التي يمليها رئيس الوزراء، أو يبلغها إلى رئيس الوزراء، لهو يجمعهم إليه كلما سنحت فرصة للاجتماع، وهو يتصل بهم إذا لم يتمكَّن الشباب بلقاءهم، وهو إذا لقيهم مجتمعين، أو اتصل بهم منفردين، ألقى عليهم درسًا، ووجه إليهم أسئلة، فمن فهم الدروس وأحسن والجواب وأظهر ذلك بالسيرة العملية المرضية في سياسة الأقاليم وحكمها رقَّاه. ومن لم يظهر منه سَبْقٌ إلى الفهم، ولا مهارة في الجواب، ولا نشاط في السيرة العملية، تركه حيث هو، حتى يظهر تفوقه. ومن ظهر في فهمه التواء، وفي أجوبته انحراف، وفي سيرته اعوجاج عن السياسة المرسومة والخطط المعلومة، هبط به إلى إقليم دون إقليمه، أو انتزعه انتزاعًا من حكم الأقاليم!.
"وقد كان أمس يومًا من أيام الدرس، ويومًا من أيام الامتحان، فقد اجتمع المديرون إلى أستاذهم الجديد ووزير الداخلية، فسمعوا منه وتحدثوا إليه، وتلقوا أسئلة وأجوبة عليها، وليس من اليسير أن نتعَرَّف بالتفصيل موضوع الدروس والامتحان، وإن قالت الصحف أمس واليوم كما تقول دائمًا: إن الأمن العام كان موضوع الحديث في هذا وذاك، ولكن من المرجَّح إن لم يكن من المحقَّقِ أن الدرس الذي ألقي صباح السبت على المصريين جميعًا، وعلى وزراء العالم كله ورجال الإدارة فيه، كان موضوع الحديث في درس أمس -ولعلك تذكر أن هذا الدرس قد ألقي في الهواء الطلق، ولم يكن محاضرة يكثر فيها الكلام، ولا مناظرة ينعقد فيها الحوار، وإنما كان درسًا عمليًّا أشبه بالتمرينات التي يؤخذ بها الطلاب في فصول الدرس. وكان موضوعًا معقدًا بعض التعقيد، زعيم أو زعيمان يزوران شعبًا يحبهما، والشعب يلقاهما بأروع مظاهر الحب لهما والسخط على خصومهما. والحكومة تكره حب الشعب لزعمائه، وتشفق من سخط الشعب على سادته القاهرين له، وتريد أن تريح نفسها من مظاهر الحب للزعماء، والسخط على القاهرين؛ لأن هذه المظاهر تكذب ما شاع وملأ الأسماع وطبق آفاق الدنيا وتردد في أجواء السماء، من أن الشعب لم يبق له إلا زعيم واحد يحبه ويفنى فيه، ويفديه بالأمهات والآباء والأبناء، وبما كان يملك أيام الرخاء، وبما لا يملك منذ ألمَّ به الشقاء، وهذا الزعيم هو رئيس الوزراء1! ".. إلخ.
ومن ذلك يبين أن عنصر التندر في الكاريكاتير المقالي عند طه حسين عنصر وظيفي، يسخر من كل ما من شأنه أن ينحرف بأية قيمة من القيم الكبرى نحو قيمة أخرى أصغر، أو نحو حالة انعدام تام للقيمة، وهو الأمر الذي يتفق مع مذهب "لالو" عالم الجمال الفرنسي المشهور2. والذي يقرر أن
1 المرجع نفسه.
2، 3 الدكتور زكريا إبراهيم: مرجع سبق ص177، وهي معادلة صاغها كالآتي: Contraste Degradation = Devaluation.
الموقف الخطير الذي لا يلبث أن يتكشَّف عن موقف تافه عديم الأهمية يستثير لدينا الضحك، كما تبين من النماذج المقدرة، حيث يتخذ طه حسين من المواقف الوزارية التي تبدو أمام الوزارة جدية خطيرة، مجالًا للسخرية منها بتحويلها إلى مواقف تافهة تستثير الضحك، وفي هذه الحالات -كما يقول شارل لالو3- ينشأ الضحك عن عملية "هبوط في القيمة تعبِّر عن انتقال مفاجئ من نغمة عليا إلى نغمة دنيا. والهبوط في القيمة يساوي في مقال طه حسين: التباين + الانحلال، وهكذا يقوم عنصر التندُّر في الكاريكاتير المقالي عند طه حسين على إظهارنا على المثالب والعيوب حتى نضحك منها، وليس من شأنه أن يكشف عن المحاسن والميزات حتى نعجب بها، وهو على هذا الفهم، يقوم بوظيفة النزال الصحفي من خلال نقد القيم السياسية، بمناسبة ظهور تفاوت بين قيمتين من بينها، وهذا النقد يتخذ صورة نغمتين متنافرتين يأتلف من مجموعها عمل فني، هو المقال الكاريكاتيري في نهاية الأمر.
نخلص مما تقدَّم إلى أن المقال الكاريكاتيري عند طه حسين مقال صحفي وظيفي يقوم على العقل، ذلك أنه يقوم على السخرية الوظيفية، وليس على الفكاهة اللاوظيفية. والسخرية في كاريكاتير طه حسين تعتمد على الذكاء، فهي على نقيض الفكاهة تمامًا، ذات طابع وظيفي يتوسَّل بها طه حسين لتقوم بالتصحيح الاجتماعي "من حيث صيانة الاستقرار الفكري، والاتحاد العاطفي في المجتمع المصري ضد شتى عوامل التنافر والمفارقة أو الإعراب، كما يتوسّل بالكاريكاتير في مقاله إلى نقد الخارجين على المجتمع المصري، وقد يقوم بوظيفة النقد والإصلاح بالنسبة للجماعة ذاتها، كما تقدَّم، وهو أيضًا وسيلة فعالة لتحقيق ضربٍ من التغير الاجتماعي، فالمقال الكاريكاتيري في الفن الصحفي إذن يقوم بوظيفة المصلح الاجتماعي إلى جانب وظيفته كجزاء اجتماعي.
كما أن العنصر الإدراكي، إلى جانب هذا العنصر الوظيفي في مقال طه حسين، يقترن بطابع السخرية المصرية التي تنصبُّ على "الجلافة والغفلة، فمثال الرجل الكامل عند المصريين هو اللبق اليقظ الذي يتجنب الخشونة، ويفطن للخداع والمراوغة، فلا تجوز عنده حيلة، وأي شيء هو أدنى إلى الطبيعة المصرية وأشبه بالتاريخ المصري من التراكم على هذا الأسلوب! "فالجلافة في القول أو في التصرف هي أول شيء يضحك منه أبناء أمة قديمة الحضارة، مصقولة الحاشية، تأنَّقت في الكلام حتى جعلته فنًّا كثير اللحون والإشارات، وتأنَّقت في الكياسة وآداب المعاملة والمعاشرة حتى جعلتها فنًّا كثير المراسم والأصول، لا يتقنه إلا من نشأوا عليه بالتربية والمرانة. أما الغفلة: فالمصري يزدريها ويزدري من يقع
1 المرجع السابق.
فيها؛ لأن الحوادث والنظام قد أحوجته إلى الحيلة وحسن التخلُّص، واضطرته إلى التصرُّف بين الناس على حذر وكياسة توافق مصلحته وتليق بأدبه"1، ولذلك وجدنا المقال الكاريكاتيري عند طه حسين يقترن بضرب من التنويه الخفي والتلميح الذكي، كما تبين من النماذج المتقدمة، حيث يشير من طرف خفي إلى شيء أو حدث أو شخص، قد يكون هذا الشخص وزيرًا أو رئيسًا للوزراء، دون أن يعرب صراحة عمَّا يقصد، كما يبين من الكاريكاتير السياسي في المقال، وكما تبين من الكاريكاتير الصحفي عند طه حسين بصفة خاصة، حيث يقتضي هذا النوع من الكاريكاتير المقالي النزالي، تفوقًا في النزال أو الهجوم "aggression"، لكي يعرب بطريقة رمزية عن شعور العداء أو الرغبة في المهاجمة أو النزال.
وقد يكون من الحديث المعاد أن نقول: إن الكاريكاتير الوظيفي في المقال الصحفي العربي في جانب كبير منه عملية عقلية تقترن بالكثير من مظاهر النشاط الذهني الذي تميز به: كالفطنة وسرعة البديهة والسخرية والتهكُّم والقدرة على التلميح والبراعة في الردِّ والتفنُّن في استخدام الأسرار اللغوية العربية.. إلخ، ولكن على الرغم من استخفاف المقال الكاريكاتيري بأحداث الواقع السياسي أو الاجتماعي، فإن هذا الاستخفاف لا يخلو من صبغة عقلية ناقدة تميَّزَ بها طه حسين، يخاطب من خلالها عقول قرائه أكثر مما يخاطب العاطفة والوجدان.
ولو أننا رجعنا إلى تصنيف بعض علماء النفس لضروب الهزل، لوجدنا أنهم يقسمونها إلى ثلاثة أنواع هي "الفكاهة""Humour" و"النكتة""Espirt" والكوميديا "Comique"، وتقابل هذه الأنواع الثلاثة في حياتنا النفسية، على التعاقب، الوجدان والنزوع والإدراك1. فالكوميديا هي من بين ضروب الهزل جميعًا أقربها إلى الكاريكاتير المقالي، من حيث القرب إلى قطب الإدراك أو العرفان أو المنطق، فالمقال الكاريكاتيري بالتالي "فن عقلي" يقوم كغيره من فنون المقال الصحفي على النشاط الإبداعي، وإذا صحَّ ما قاله "دولاكروا"3 من أن الفن صناعة خلق أكثر مما هو وجدان وعاطفة. فإن من واجبنا أن نطبق هذه الحقيقة على فن المقال الكاريكاتيري فنقول: إنه هو الآخر قدرة عقلية على تنظيم الواقع في جسم حي هو ما نسميه بالمقال الكاريكاتيري.
ولكن المقال الكاريكاتيري كأثر فني بهذا المعنى ليس تصويرًا للقيم العليا والمثل الأخلاقية السامية، وإنما هو تحوير لمثالب الواقع وعيوبه ونقائص أشخاصه ومظاهر ضعفهم، في إطار ينطوي على "انسجام معكوس
1 عباس العقاد: مرجع سابق ص31، 32.
2، 3 الدكتور زكريا إبراهيم: مرجع سبق ص182.
Harmonie Invarste3، وأخيرًا، فإن هذا الفن المقالي الكاريكاتيري يقوم عند طه حسين على صفات ذاتية؛ منها ظرفه في الأسلوب، وخفة الظل في الكتابة كأحسن ما تكون خفة الظل عند الإنسان المصري، وسعة الأفق، والذخيرة الهائلة من التجارب الإنسانية التي خبر بها الناس خبرة جيدة، وتنتظمها ثقافة عريضة متعسّفة في بعض المجالات. وفي الصحافة يتسع المجال للانتفاع بهذه الميزات، التي تتيح للمقال أن يتجه نحو "الكلي" أو "العام" من خلال نمذجة صحفية عامة، لشخصيات سياسية أو اجتماعية تعبِّر في الغالب عن ضربٍ من الانحراف عن المجتمع وقيمه ومُثُله العليا. وهذا ما يفعله على وجه التحديد عالم التاريخ الطبيعي حينما يجد نفسه بإزاء "نوع" واحد، فيحاول أن يصنِّف وأن يصف شتى الفصائل التي تندرج تحته1. ومن هنا فإن روح الانتقاد التي تميَّزَ بها طه حسين وجدت مرتعًا خصيبًا في شخص الآخرين. فاتجاه المقال الكاريكاتيري نحو الغير هو الذي أكسبه طابع "العمومية" الذي يتميز به الكاريكاتير.
1 المرجع السابق ص182.
Ch. Lalo. "Esthetique du Rire"، Paris، Flamnarion، 1949، p. 545.
2 المرجع السابق ص197.
Cf. H. Bergson: op. cit.، pp. 125-426.