المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل الثامن: فن المقال النزالي - فن المقال الصحفي في أدب طه حسين

[عبد العزيز شرف]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة:

- ‌الفصل الأول: الدكتور طه حسين ومدرسة الجريدة

- ‌مدخل

- ‌بيئة المقال الصحفي في مصر

- ‌مدخل

- ‌ البيئة المصرية:

- ‌ الاتصال بالحضارة الأوربية:

- ‌ الحياة السياسية:

- ‌ الحياة الفكرية:

- ‌ الحياة الاجتماعية:

- ‌مدرسة الجريدة

- ‌مدخل

- ‌ مدرسة الجريدة وجيل طه حسين:

- ‌ طه حسين ولطفي السيد:

- ‌الفصل الثاني: طه حسين وبيئة المقال الصحفي في مصر

- ‌مدخل

- ‌ طه حسين والبيئة الأولى:

- ‌بيئة التكوين الصحفي:

- ‌ طه حسين والبيئة الثانية:

- ‌الفصل الثالث: طه حسين وبلاغة الاتصال بالجماهير

- ‌مدخل

- ‌عناصر الأصالة والتجديد:

- ‌بين التقليد والتجديد:

- ‌بلاغة المقال الصحفي:

- ‌بلاغة الاتصال بالجماهير في مقال طه حسين

- ‌مدخل

- ‌التبسيط والنمذجة الصحفية:

- ‌الأسلوب الواقعي:

- ‌الأسلوب الاستقصائي:

- ‌الأسلوب الاستقرائي:

- ‌الأسلوب الصحفي:

- ‌الفصل الرابع: أًساليب التحرير في مقال طه حسين

- ‌مدخل

- ‌الرؤيا الفنية في مقال طه حسين

- ‌أساليب التحرير في مقال طه حسين

- ‌مدخل

- ‌ المقال القصصي:

- ‌ المقال الوصفي والتقرير الصحفي:

- ‌ المقال الرمزي:

- ‌ الرسائل المقالية:

- ‌الفصل الخامس: طه حسين وفن العمود الصحفي

- ‌مدخل

- ‌فن العمود المتخصص:

- ‌فن العمود الصحفي

- ‌مدخل

- ‌خصائص العمود الصحفي:

- ‌مضمون العمود الصحفي:

- ‌تحرير العمود الصحفي:

- ‌فن العمود الرمزي:

- ‌الفصل السادس: فن اليوميات الصحفية في أدب طه حسين

- ‌مدخل

- ‌بين الذاتية والموضوعية:

- ‌فن المقال الاعترافي:

- ‌فن اليوميات الصحفية:

- ‌الفصل السابع: فن المقال الرئيسي الافتتاحي

- ‌مدخل

- ‌المقال الرئيسي الافتتاحي

- ‌مدخل

- ‌ خصائص المقال الرئيسي عند طه حسين:

- ‌ الوحدة العضوية في بنية المقال الرئيسي:

- ‌ طه حسين كاتب المقال الرئيسي:

- ‌الفصل الثامن: فن المقال النزالي

- ‌الفصل التاسع: فن المقال الكاريكاتيرى

- ‌الكاريكاتير الوظيفي في مقال طه حسين

- ‌طه حسين كاتب المقال الكاريكاتيري:

- ‌العناصر الفنية في المقال الكاريكاتيري

- ‌أولا: عنصر التجسيم للعيوب

- ‌ثانيًا: عنصر التوليد

- ‌ثالثًا: عنصر التشبيه أو التمثيل

- ‌رابعًا: عنصر التضاد

- ‌خامسًا: عنصر التندر:

- ‌الفصل العاشر: المقال التحليلي والتقويم الصحفي

- ‌مدخل

- ‌التحليل الصحفي

- ‌مدخل

- ‌أولًا: "توقيت" المقال التحليلي

- ‌ثانيًا: التعليق على الخبر بعد وقوعه

- ‌ثالثًا: التحليل الصحفي وحركة الأحداث

- ‌التقويم الصحفي

- ‌مدخل

- ‌أولًا: اعتماد التقويم الصحفي على الذوق أو العقل الذي يستخدمه استخدامًا جيدًا

- ‌ثانيًا: إن طه حسين كان شديد الحفل بالأسلوب والوضوح في التحليل والتقويم

- ‌ثالثًا: إتجاه طه حسين في مقاله التحليلي إلى ربط "حدث" التحليل الصحفي بدائرة اهتمامات القراء

- ‌مراجع البحث:

- ‌أولًا: المراجع العربية والمترجمة:

- ‌ثانيًا: الصحف والمجلات

- ‌ثالثًا: أهم المراجع الأجنبية

- ‌ملاحق البحث:

- ‌ملحق رقم "1":نقابة الصحفيين تنعي فقيد الأدب العربي:

- ‌من وثائق الجامعة ملحق رقم "2" كتاب طه حسين إلى رئيس الجامعة الأمير أحمد فؤاد بشأم التقدم للبعثة إلى أوروبا

- ‌ملحق رقم "3": كتاب طه حسين إلى رئيس الجامعة، بشأن ترشيحه للبعثة ألى أوربا

- ‌ملحق رقم "4": صورة كتاب الاستقالة الذي رفعه لطفي السيد إلى وزير المعارف العمومية، بعد إخراج طه حسين من الجامعة في عهد صدقي:

- ‌ملحق رقم "5": نموذج لفنِّ اليوميات الصحفية في مقال طه حسين

- ‌ملحق رقم "7": المقال الأول للدكتور طه حسين في صحيفة "كوكب الشرق" الوفدية

- ‌الفهرس:

- ‌المخطوطات

الفصل: ‌الفصل الثامن: فن المقال النزالي

‌الفصل الثامن: فن المقال النزالي

يرتبط المقال النزالي بسياسة المقال الرئيسي ارتباطًا وظيفيًّا، ذلك أنه يتوسَّل به في مواجهة أو مهاجمة سياسة مناوئة للمذاهب والمبادئ والميول والاتجاهات التي يتفق فيها مع الحزب الذي يمثله في صحافته، وعندما نتحدث عن هذا الفن المقالي، فإن علينا أن نكون على بينة مسبَّقة من أنه فنٌّ خاصٌّ يُكتَبُ لأهداف معينة، في مقدمتها التأثير على القراء من جهة، ومناوئة لاتجاهات مضادة من جهة أخرى1. وفي ضوء هذا الفهم تتضح العلاقة الوظيفية بين فنِّ النزال وأغراض المقال الرئيسي أو الافتتاحي من حيث أنه يعبِّرُ عن الصحيفة ورأيها كمؤسسة، ولذلك يعفيه الباحثون في الصحافة من التخفُّفِ من الانحياز المسبَّق لرأي ما، ويذهبون إلى أنه ينطلق من آراء مسبَّقة، يؤيد كاتب المقال أن يحمل القارئ على اعتناقها، مستخدمًا الأسلوب النزالي الذي يحتمل شجب الآراء المخالفة وتسفيهها2.

واكتسب هذا الفن المقالي في النزال خصائصه منذ كانت الصحافة النزالية في إنجلترا في القرن الثامن عشر، نوعًا من المصارعة الحرَّة، وسيلة المصارع فيها أن يصرع ولو بالكيد، وغايته منها أن يغلب بأية وسيلة3. لذلك كانت الخصومات الأدبية والسياسية تقوم بين الحين والحين، يخوض فيها الأدباء والصحفيون والساسة، على أن هذه الخصومات كانت في أغلبها حزبية شخصية، ليس فيها الشمول في المعاني، ولا تتعلق بمبادئ عامة، أو فلسفات جامعة، فارتبط المقال السياسي بالمسائل الحزبية والتصرفات الشخصية أكثر من ارتباطه بالموضوعات المذهبية العامة، التي بدأ الاهتمام بها قبيل الثورة الفرنسية4. ومع ذلك فقد كانت المقالات النزالية ذات أثر بارز في إرساء معاني الحرية5، شأنها في ذلك شأن المقالات النزالية في الصحافة المصرية التي اتجهت في اتجاهين؛ الأول: اتجاه الأدب، والثاني: اتجاه السياسة.

ففي الأدب ظهرت معركة حامية الوطيس بين القديم والجديد، وهي المعركة التي بدأت على صفحات "الجريدة"، وتناظر فيها: الرافعي عن القديم وطه حسين عن الجديد، ثم ما لبثت هذه المعركة أن انتقلت إلى صحيفة "السياسة" اليومية لمحررها هيكل، وما زال لهذه المعركة آثار في صحافتنا المصرية إلى اليوم. وفي الاتجاه الثاني من اتجاهات النزال السياسي كثرت المعارك بين الأحزاب

1، 2 M. Lyle، Spencer: op. cit.، p. 43.

3، 4، 5 الدكتور إبراهيم إمام: فن المقال الصحفي في الأدب الإنجليزي ص215.

ص: 280

المصرية التي ظهرت بعد الحرب العالمية الأولى، وأخذت تتزايد شيئًا فشيئًا فيما بعد. وقد انزلقت هذه المعارك السياسية أو الحزبية إلى مستوى الخوض في الأشخاص والأعراض.

على أن الصحافة المصرية قديمة عهد بالنزال العنيف، فقد كانت بين المويلحي وعلي يوسف ملاحاة ومهاترات لا ندري لها سببًا غير المنافسة الصحفية بينهما1. ولكن هذا النزال العنيف "تحضَّر وتمدْيَن على يد صحيفة "السياسة"، فصار أبلغ في الإيذاء. والعنفت السوقي القديم كان يقابل في الماضي من ضحاياه بالازدراء أو التأديب الجسماني، ولكن العنف المتحضِّر يحز ويؤلم ويرهق. فكانت إذ ذاك حرب الأعصاب قبل أن تخلق الكلمة، وكان من تلك الأيام أن أولعنا نحن المصريين بحب الصحافة المهاجمة وخصوصًا إذا تناولت الأشخاص. والناس يعرفون أن الصحف يتسع انتشارها حينما تكون معارضة، بل إن مؤيدي الحزب الحاكم يفضلون قراءتها على قراءة جرائد حزبهم، إذ هي ترضي في المعارضين والمؤيدين جميعًا ذلك الولع بتعقُّب الرجال الذي اكتسبناه أجمعين2.

وعند الدكتور طه حسين، نجد هذا الفن النزالي والاتجاه القوى إليه منذ بيئة التكوين الصحفي، فهو حريص على النزال ليتابع "القراء ما يكتب"، وهي الرغبة التي أفصح عنها في مقالاته الأولى حينما طلب في مقال "من أيهم أنا"3 أن "يسمع كلمة لناقد"، 4 أو "يرى مقالًا لعائب"5، بعد أن دعا "القراء إلى أن ينازعوه أطراف القول فيما يكتب أو يقول"6، وفي ذلك ما يشير إلى استجابته لمذهب "الغُلُوّ والإسراف" في التحرير الصحفي عند عند أستاذه الشيخ عبد العزيز جاويش7، وما يستتبعه من عنف في النقد والنزال، على النحو الذي تكشف عنه مقالاته الأولى في نقد المنفلوطي من عرضٍ كاريكاتيري، وسخرية مُرَّة لاذعة، فهو يسمي كتاب المنفلوطي "طاعون اللغة"8، ويخطابه ساخرًا على النمط البياني:".. فلا أقسم بالزور وأحاديث الغرور، ما رزء الآباء في الأبناء، والأمهات بالبنات بأعظم ما رزء العلم بمثلك، وإني عليك من هذا لمن المشفقين"9 هي سخرية أقرب منها إلى الهجاء النثري، تدفعه

1 الدكتور عبد اللطيف حمزة: مرجع سبق ص176.

2 محمد شفيق غربان: تاريخ المفاوضات ص130.

3، 4، 5 الجريدة في 28 أكتوبر 1910.

6 المرجع السابق.

7 مذكرات طه حسين ص36.

8 العلم في 22 يناير 1911.

9 الشعب في 8 مايو 1911.

ص: 281

حين يسمع بأن ما ينشر تحت عنوان "اللزوميات" في "المؤيد" هو للمنفلوطي، ولما يتبين حقيقة الأمر بعد، إلى أن ينقد ما نشر تحت هذا العنوان على أنه صادر من صاحب "النظرات" فيقول: "ومهما أكثر أبو فصاده من أقيسته، وأطال أبو العلاء في لزومياته، ومهما أغرق كلاهما في الإخفاء وانتحال الأسماء، ومهما نصبت لأحدهما الشباك، واختلفت في ثانيهما الآراء، فإن كثيرًا من الناس يعرفون من هما، ولا ينظرون إلى أقوالهما

إلخ"1.

على أن فن النزال في مقال طه حسين لم يلبث أن تطور ليغدو فنًّا قائمًا بذاته، يدور حول فكرة شاملة، ويسعى إلى الغلب والفوز والإقحام والتوجيه والتقويم، متوسِّلًا بالسخرية والتهكم في أحيان كثيرة، وقد يلجأ إلى الاستفهام الإنكاري، وهي أمور أكسبت مقاله النزالي بعد اتساع ثقافته ونضوجها سمات جدلية تتوسَّل بالمنطق والتفكير العقلي، على نحو ما تشير إليه المقالات الواعدة في "السفور"، حيث لم يعد يكتب حبًّا في الكتابة ورغبةً فيها فحسب، وإنما يترسَّم وظيفة اجتماعية للنزال لكي ينجاب عن المجتمع العربي "هذا الفتور، ويذاد هذا النوم2، ولعله من أجل ذلك "صنع" مساجلة "الحرب والحضارة" مع صديقه الدكتور محمد حسين هيكل الذي يقول: أذكر أن صديقي طه حسين كتب بعد أشهر من صدور السفور وبتوقيع "تأسيت" مقالًا قيمًا بعنوان: "الحرب والحضارة"، أيد فيه النظرية القائلة بأن الحروب هي التي دفعت الإنسانية إلى الأمام، وهي التي قدَّمت العلم، وهي التي أنشأت الحضارة المختلفة وأقرتها بين بني الإنسان، وتلوت المقال كما كنت أتلو كل ما يُكْتَب في السفور، ولما ذهبت إلى القاهرة والتقيت وطه، سألني إن كنت قرأت مقاله.. فأبديت له إعجابي به ودهشتي للفكرة التي أملته في وقت تدوي فيه الميادين كلها بأهوال القتل والقتال والتخريب وإحراق المدن. فأجاب: "إنما كتبت هذا المقال لترد أنت عليه حتى نتجادل، ولتؤيد النظرية المضادة التي تذهب إلى أن الحروب طالما دمرت وخربت، وإن حماقة الإنسانية هي التي تدفعها للحروب". وراقتنا الفكرة جميعًا؛ لأنها "تدعو شبابنا للتفكير، وتدعو قراءنا لمتابعة ما نكتب". فالناس لا يحبون شيئًا حبهم الخلاف والجدل، وإن بلغا من العنف مبلغ النضال والحرب"3.

وفي هذه المساجلة اتخذ "دكاترة السفور" على حدِّ تعبير الشيخ مصطفى عبد الرازق4 حديث الحرب فلسفة، وقاموا "بين صيحات التواكل وأنين

1 مصر الفتاة في 31 أغسطس 1909.

2 فصول ص11.

3 الدكتور محمد حسين هيكل، مذكرات جـ1 ص76، مجلة الهلال، فبراير 1935.

4 عبد العزيز شرف: فن المقال الصحفي في أدب محمد حسين هيكل ص147.

ص: 282

الجرحى يتنازعون بينهم أمر الحضارة وعلاقتها بالحروب، يأبى الدكتور طه حسين إلّا أن يثبت نفع التقاتل للجمعيات البشرية، وعنده أن كلَّ مدنية في الأرض إنما تنبت تحت ظلال السيوف. ولكن الدكتور هيكل يفزع من سيلان الدماء الإنسانية، ولا يرى خيرًا في الحرب التي هي في نظره بقية مما تركت الوحشية في صدور الناس، فلسفة الأزهري القديم فلسفة مسلَّحة، وفلسفة الأستاذ المحامي دعة وسلام"1.

وفي الفلسفة المسلَّحة عند طه حسين، نجد فكرة متكاملة لموضوع النزال؛ لأن طبيعة هذه المساجلة أشبه بالمناظرة الفكرية حول موضوعٍ يمسُّ البيئة العامة عن قرب، وهو موضوع الحرب الدائرة في العالم أثناء كتابتها، فهي أقرب إلى أن تكون موقفًا من المتناظرين إزاء المناخ العام، لا سيما وأن "السفور" قد نشأت في ظل الأحكام العرفية بعد "موت" الجريدة، ولم تكن لتصدر إلّا إذا أعلنت أن "لا شأن لها بالسياسة"2، ولذلك تنتقل هذه" الفلسفة المسلَّحة" إلى طورٍ جديد بعد ثورة 1919، وصدور صحيفة "السياسة" التي اتجهت في اتجاه المعارضة، وعرفت "كيف تشغل المفكرين المصريين" بمناهجها الجديدة3، فقد كان محرورها -كما يقول هيكل4- قد شعروا بأن ما أصاب الصحافة من هزال الحرب بسبب المراقبة جعلها بعيدة عن الغاية السامية التي وضعت لها، وذلك كله تجب مداواته ليتسع أمام النظر الحياة، وليشعر الناس بأن حريتهم في هذا المدى الواسع غير محدودة، وليقدروا ما كسبوه بسبب هذه الحرية من قوة في الحياة، ومن سلطان وسعادة للوصول إلى هذه الغاية.. جاهدنا، لتدخل الصحافة ما يقتضي الحال إدخاله من التجديد5.

وتقوم الفلسفة المسلحة عند الأزهري القديم في هذا التجديد المقالي، الذي أدخلته "السياسة" في الصحافة المصرية من بعد، على الاتجاه نحو الهجوم دائمًا، بحيث يبقى خصمه "مدافعًا أبدًا"6، ونجد هذه القاعدة في فن النزال عند طه حسين، لا تشذُّ إلا حين يصدر كتابًا من كتبه فيتناوله بالبحث، كما نجد في نشأته ومقوماته الشخصية ومصادر ثقافته، من تقويم هذا النزال وتوجيهه.

1 عبد العزيز شرف: المرجع السابق ص147.

2 المرجع نفسه ص94، السفور في 21 يوليو 1915.

3 الدكتور إبراهيم عبده: مرجع سبق ص206.

4، 5 الدكتور محمد حسين هيكل: مرجع سبق ص170، السياسة في 2 نوفمبر 1922.

6 الدكتور محمد حسين هيكل: مجلة الهلال، فبراير 1935.

ص: 283

ومن ذلك أن البيئة الأزهرية كانت تحفل بفنون الجدل، حين نشأ فيها طه حسين، ذلك أن الأجيال التي سبقته مثل:"محمد باشا صالح، وسعد باشا زغلول"1 كانت تحرص على هذا الجدل وتتفنن فيه، فكان سعد زغلول ينادي صاحبه ليتجادلا، ويترك له اختيار الجانب الذي يدافع عنه، ليتولى سعد الدفاع عن الجانب الآخر. و"حدث يومًا أن كان الشيخ محمد صالح غير متهيئ للجدل، فلما قال الشيخ سعد الله: هلمَّ نتجادل، قال الشيخ محمد: فليكن موضوعنا إذن "فائدة الجدل"، واختار هو الدفاع عن أن للجدل فائدة، ودافع الشيخ سعد الله عن أن الجدل لا فائدة منه ولا غناء فيه"2. وفي ذلك ما يشير إلى أثر البيئة التي تمثلها الأزهري القديم في فلسفته المسلَّحة، إلى جانب الثقافة العربية القديمة، وما تشير إليه من توجيه في فنون الجدل عند طه حسين، فالجدل -كما يقول ابن خلدون3 هو: معرفة أدب المناظرة التي تجري بين أهل المذاهب الفقهية وغيرهم، فإنه لما كان باب المناظرة في الرد والقبول متسعًا، وكل واحد من المتناظرين في الاستدلال والجواب يرسل عنانه في الاحتجاج، ومنه ما يكون صوابًا، ومنه ما يكون خطأ، فاحتاج الأئمة إلى أن يضعوا آدابًا وأحكامًا يقف المتناظران عند حدودها في الرد والقبول4. وسُمِّيَتْ هذه الآداب "آداب البحث والمناظرة"5 على أن الخلاف والجدل في عرف العلماء العرب يختلفان عن البحث والمناظرة من حيث أن الغرض منهما الإلزام، والغرض من المناظرة إظهار الصواب6، فهي تعنى بخدمة الحقيقة والصواب، لا يعنيها الناس كما يعنيها إثبات الحق وبيان وجه الصواب.

ويظهر أثر هذه الثقافة العربية القديمة، في تأثُّرِه بالفقه الذي درسه في الأزهر، فيذهب طه حسين إلى إيثار كلمة "الفقه" على كلمة "القانون" في مناظرته مع هيكل، ذلك أن الفقه عند طه حسين" ييسر" للكاتب دراسة نفوس الأفراد والجماعات ومعرفة خصائصهم، وما يعرض لهم في حياتهم الداخلية والخارجية من الأحداث والخطوب، وهو محتاج إلى هذا لأنه مضطر بحكم صناعته، سواء أكانت أدبًا أم فقهًا إلى أن يتحدث إلى الناس فيما يكتب وما يقول. وهو من هاتين الجهتين محتاج إلى العلم بشئون الناس، والتأثير في نفوسهم إذا تحدَّث إليهم في فصاحة وبلاغة وحسن أداء7. ويذهب تأسيسًا على هذا إلى أن الكاتب البارع أو المحامي الماهر لا تأتيهما البراعة من إتقان علوم الفقه بقدر ما تأتيهما من القدرة "على إقناع القضاة وقهر الخصوم"8.

1، 2 الدكتور محمد حسين هيكل: مجلة الهلال، فبراير 1935.

3، 4 المقدمة ص51 "مطبعة التقدم".

5، 6 حسين والي "الشيخ": الموجز ص32.

7 الدكتور طه حسين: "بين الأدب والقانون" مجلة يناير 1935.

8 المرجع نفسه.

ص: 284

ومن ذلك يبين أثر البيئة الأزهرية وأثر "الفقه" وما يَضُمُّه من مسائل جدلية في تنمية الاتجاه الفطري إلى "النزال" عند طه حسين، وتوسّل هذا النزال بفنون الجدل المستقاة من ثقافته العربية القديمة، في إقناع القراء وقهر الخصوم. ذلك أن الثقافة العربية القديمة أيضًا قد زوَّدته بأسس جدلية توسَّلت بها الفرق الإسلامية، وأصحاب المقالات الفلسفية في الحوار وتقرير الآراء، والتي بدأت شفوية في الحديث والخطابة، ثم صارت كتابية تسجل في كتب ورسائل، كما نجد في مناظرة الهمذاني والخوارزمي في نيسابور1، ومناظرة "صاحب الديك" التي كتبها الجاحظ في "الحيوان" لبيان رأيين مختلفين، وغيرهما كثير.

والباحث في أصول النمط النزالي في مقال طه حسين يجد امتداد التيار القديم في التحرير المقالي، والذي جعلناه في معطيات هذا البحث مؤثرًا من المؤثرات التي أنتجت فن المقال الصحفي في الصحافة العربية والمصرية، ومن أصول هذا التيار ما نجده عند العلماء العرب من تناول المتن والسند والدليل والتقسيم وغيرها من المسائل الموضوعية والمعنوية، وما نجده كذلك من ازدهار النزال في التيار القديم لارتباط نشأة النثر العربي بنشأة الأحزاب السياسية بعد تفوض نظام الخلافة وإقامة الملك2، ثم نشأة المناظرات العلمية والفلسفية والدينية بعد ذلك3. وذلك كله بالإضافة إلى فنِّ "الهجاء" الذي عرفته الثقافة العربية القديمة وتفننت فيه، وإلى هذا التيار القديم يُرْجِعُ طه حسين ازدهار "النمط النزالي" في المقال الصحفي بين الحربين، ذلك أن الخصومات السياسية قد يسَّرت اللغة تيسيرًا غريبًا، ومنحت العقول حِدَّة رائعة ونفاذًا بديعًا، واستطاعت أن تشغل الجماهير وتعلمهم العناية بالأمور العامة، والاهتمام لها، والتفكير المتصل فيها. وأحدثت أو قل: أحيت في النثر العربي فن الهجاء الذي أتقنه الجاحظ وقصر فيه من جاء بعده من الكُتَّاب. فقد أصبح هذا الهجاء السياسي من أهم الألوان لأدبنا العربي الحديث، فيه الحدة والعنف، وفيه المتعة واللذة، وفيه التنوع والاختلاف بتنوع الأمزجة واختلافها، وفيه الإيجاز والإطناب، وفيه التصريح والإشارة"4.

وإلى جانب هذا الأثر القديم في ثقافة طه حسين نجد للثقافة الفرنسية الحديثة أثرها في توجيه مقاله النزالي، نكتفي من ذلك بإشارته إلى القصص التمثيلية التي تثير ألوانًا من النقد "لها خطرها، بعضها يتصل بالسياسة

1 رسائل بديع الزمان الهمذاني، ص47، ط بيروت 1921.

2، 3 الدكتور طه حسين: من حديث الشعر والنشر ص26.

4 ألوان ص27.

ص: 285

فيختصم فيه الناس كما يختصمون في السياسة، وبعضها يتصل بالأدب، فيختصم فيه الأدباء دون غيرهم من الناس، وبعضها يتصل بالأدب والسياسة جميعًا"1، وكان للبيئة الفرنسية صداها في نزال طه حسين، فالناس في هذه البيئة""يختصمون دائمًا، تفرض منافعهم عليهم هذا الاختصام، ولكنه اختصام لا يفسد الحياة، ولا ينغِّصُ العيش، ولا يدفع إلى المكر، ولا يغري بالكيد، ولا يغيِّر صداقة الأصدقاء، ولا يجعل بعض المواطنين لبعض عدوًا. وما أكثر ما يختصم المختصمون في مثل هذه البيئة أشد الاختصام وأعنفه في الصحف أو في البرلمان أو في غير الصحف والبرلمان من وجوه النشاط! ولكنهم على ذلك يلتقون وقد ألقوا عن أنفسهم ثقل الخصومة حين ألقوا عن أنفسهم ثقل العمل، وخلصت قلوبهم وضمائرهم لما يكون بين المثقفين حين يستقبلون مشهدًا من مشاهد الفن، أو موضوعًا من موضوعات الأدب أو خاطرًا من خواطر الفلسفة"2.

ويتمثل هذه البيئة الفرنسية في نزالياته، حين يريد أن يختصم المصريون كما يختصم الفرنسيون وغيرهم من الشعوب المتحضرة الراقية، ذلك أن المصريين "يختصمون كما كان الناس يختصمون في بعض البيئات القديمة، لا يرعون في خصومتهم رفقًا ولا أناة ولا ذوقًا ولا وقارًا، وإنما هو العنف والإمعان في العنف حتى يصلوا إلى أبعد غاياته مهما تكن النتائج، يخلطون أنفسهم بأعمالهم وأعبائهم، ويسرفون في الإيمان بأنفسهم حتى يقدروا أنهم إذا نهضوا بالسياسة وأعبائها فإنما ينهضون بأمورهم الخاصة لا بأمور غيرهم من الناس. ولست أعرف أشد غرورًا ولا أعظم إمعانًا في الحمق من رجل يعيش في العصر الحديث ويمارس الأعمال العامة على النحو الحديث، ثم لا يفرق بين شخصه وبين أعماله العامة، ولا يقدر أنه حين ينهض بالمنصب أو يمارس السياسة ليس إلّا وكيلًا للشعب ينوب عنه في تدبير بعض أمره نيابة موقوته قد تقصر وقد تطول، ولكنها موقوته على كل حال"3.

ومن ذلك يبين أثر البيئة الفرنسية في توجيه المقال النزالي عند طه حسين، توجيهًا يقوم على أن "الشعب في البلاد الحُرَّة يرى أن الحياة العامة ملك له هو لا للسياسة ولا للقادة4، ولذلك فإن واجب المقال النزالي يقضي عليه أن يوجه إلى احتمال "جد الحياة العامة، ويشقى بهذا الجد أحيانًا في نفسه وماله، فإن الحق الوطني المدني له أن ينعم بما في حياته العامة من خير، ويلهو بما في هذه الحياة العامة من فكاهة أو دعابة أو مزاح. والمهم هو أن حياة

1 رحلة الربيع والصيف ص65، 71، 74.

2، 3، 4 رحلة الربيع والصيف ص65، 71، 74.

ص: 286

الشعب ملك للشعب، يبتئس بها حين تفرض عليه الابتئاس، ويبتهج بها حين تثير في نفسه الضحك. وليس للناهضين بأعباء هذه الحياة أن ينكروا ذلك أو يضيقوا به، فهم حين يقبلون النهوض بأعبائهم لا يشترطون على الشعب ألا يضحك منهم حين تدعو سيرتهم للضحك، وألا يتنَدَّر بهم حين تدعو سيرتهم للتندر، وكما أن الكاتب والشاعر والفيلسوف والعالم لا يشترطون على قرائهم قبل أن يقدموا إليهم آثارهم أن يعفوهم من النقد، فالساسة والقادة والموظفون لا يشترطون على الناس قبل النهوض بأعمالهم أن يعفوهم من النقد، سواء كان هذا النقد مرًّا أم حلوًا وجدًّا أم مزاحًا1".

ومن ذلك يبين أيضًا أن طه حسين قد وجد في الصحافة الفرنسية نموذجًا للنزال الصحفي، كما وجد في "خصومتها السياسة لذة، لأن فيها ذكاء حادًّا، وفيها رقة في اللفظ، وفيها إصابة في الجدال، وفيها على هذا كله براءة من السب والشتم ولغو الكلام وهراء الحديث2".

فإذا أضفنا إلى ذلك تمثله للأسلوب الديكارتي في مقاله الصحفي بصفة عامة، وفي مقاله النزالي خاصة، فسيتضح لنا الأثر الفرنسي في مقال طه حسين، وهو الأثر الذي ينمي الأثر العربي ويقوّمه، كما أثَّر التيار الصحفي في طور التكوين في توجيه مقاله النزالي، ذلك أن هذه البيئة الصحفية -كما تَقَدَّم- قد شهدت معارك قلمية ترتبط بنشأة الأحزاب السياسية في مصر، كما ترتبط بالحياة الأدبية في القرن الماضي وأوائل هذا القرن، على نحو ما نجد في معارك: عام الكف، وعام الكفء، وعام الكفر3. وقد تعَرَّفنا على أثر هذه البيئة من خلال تشجيع الشيخ جاويش للأسلوب النزالي في مقال طه حسين، ذلك أن مذهب الشيخ جاويش هو "مذهب الغُلُوِّ والإسراف4، فكان يحبب العنف إليه ويرغبه فيه، ويحرضه عليه تحريضًا5.

على أن هذه المؤثرات الخارجية قد تضافرت جميعًا مع مقومات شخصية طه حسين ومصادر ثقافته على تطوير الأسلوب النزالي، الذي استجاب له طه حسين نتيجة لاتجاهه الشبيه بالفطري؛ فقد وجدنا من حادثة "اللقمة الشهيرة" أثر البيئة الأولى في اكتسابه صفة الجلد، التي جعلته يُحَرِّمُ على نفسه ضروبًا من اللعب وألوان الطعام والشراب1، وإلى هذه الصفة، ذهبنا إلى إرجاع جلده

1، 2 المرجع السابق ص75، 162.

3 عباس العقاد: رجال عرفتهم ص61 وما بعدها، الدكتور عبد اللطيف حمزة أدب المقالة جـ3 ص53.

4، 5 مذكرات طه حسين ص36.

6 الأيام جـ1 ص5.

ص: 287

في النزال العنيف، متى أتيحت له الوسائل، وملك أن يفصح عن حقيقته ومشاعره وآرائه في صبره على النزال وجرأته في مواجهة الخصوم، يرتبط بهذه الخصائص الشبيهة بالفطرية، ميل طه حسين الشديد إلى أن يكون في صفوف "المعارضة" أكثر مما يميل إلى صفوف "الإجماع"، نجد ذلك الميل لديه منذ سافر إلى القرية أول مرة وهو طالب بسيط في الأزهر، فاستخفَّت به القرية وهي تحتفي بأخيه كلما شقَّ دروبها، بل تحتفي به غائبًا فترفع الصوت في السؤال عنه والاطمئنان عليه. فآذى نفسه ذلك فمضى ينقد كل شيء: دلائل الخيرات التي كان يعتز والده بقراءتها، ومجالس الشيوخ، وامتدَّ نقده إلى المحكمة الشرعية نفسها، فانتقم لنفسه صبيًّا وخرج من عزلته؛ وشغل الناس في القرية والمدينة بالحديث عنه والتفكير فيه. وتغيَّر مكانه من الأسرة، مكانه المعنوي إن صحَّ هذا التعبير، ولم تعرض عنه أمه وأخواته، ولم تقم الصلة بينهم وبينه على الرحمة والإشفاق، بل على شيء أكثر وآثر عند الصبي من الرحمة والإشفاق، وانقطع ذلك النذير الذي سمعه الصبي في أول الإجازة بأنه يبقى في القرية، ينقطع عن الأزهر، ويصبح فقيهًا يقرأ القرآن في المآتم والبيوت1.

فاتجاه طه حسين إلى صحافة المعارضة منذ عودته إلى وطنه بعد ثورة 1919، سواء في صحافة الأحرار الدستوريين، أو في صحافة الوفد حين كان الوفد في معارضة صدقي، اتجاه أصيل في نفس طه حسين، منذ كان يجادل شيوخه في الأزهر حتى خرج منه عقب جدال. حتى السلطان نفسه عارضه فكان إذا غضب على شيخ انتصر له وأعلن انتصاره له في الصحف، وسعى إلى داره، ولزم درسه فيها، لا حبًّا في علمه" ولا تهالكًا على شيخه، ولكن تحديًا لذلك السلطان الذي كنا نراه جائرًا متحكمًا، ولا نريد أن نذعن لجوره ولا لتحكمه"2 وقد تعرفنا على آثار هذا الاتجاه في النزاليات الأولى لطه حسين، حين هاجم المنفلوطي الذي كان الناس "يجمعون" على الإعجاب به، إن جاز هذا التعبير، وكما تبيَّنَ من مساجلة "الحرب والحضارة" في السفور؛ وهي مساجلة "صنعها" طه حسين، على نحو ما تقدَّم تفصيل ذلك، يتوسَّل بها إلى القراء ليثير فيهم "الجدل والتفكير"، ولم تلبث هذه النزاليات "أن تمثَّلت عناصر الثقافة القديمة والحديثة، والمقومات الشخصية، لتؤصل بعد عودته إلى وطنه فن المقال النزالي الصحفي في مزاج جيله، وتقيمه على تقاليد مكينة، كما تبيَّن من دراستنا لمصادرها في القديم والحديث، وهو فن يتوسَّل به رغم حزبيته إلى التعبير عن أفكار تتعلق بالمبادئ العامة، وتدور حول اتجاهات جديدة في إطار من "التعقيل" و"التنوير"، ذلك أن قالب "النزال" في نهاية

1 المرجع نفسه.

2 أديب ص19.

ص: 288

الأمر وسيلة لدعوة القراء إلى "التفكير"، و"متابعة" ما يكتب الكُتَّاب؛ ليؤدي المقال وظائفه "التوجيهية" و"التقويمية" و"الإقناعية" على أفضل نحو ممكن.

ولعل في كلمة "أندريه جيد" تليخصًا لمحور النزال في مقال طه حسين، ونعني قوله:"لتكن حياتك ثائرة مثيرة، لا تجعلها هامدة ساكنة"، فالقالب النزالي في مقال طه حسين وسيلة ثورية يتوسّل بها إلى هدم الهدم، والتقليد والمحاكاة، وهو لذلك ينتقل من الاعتماد على المنطق الأرسطي في طور التكوين، والذي كان يتخذ منه سلاحًا ذا حدَّيْن في مقاله النزالي، من حيث تنظيم التفكير والتسلُّح بعدته في النزال، إلى منطق جديد يتوسَّل بالأسلوب الديكارتي الوظيفي، حيث لم يعد يكتب "حبًّا في الكتابة ورغبة فيها"1 كما كان يفعل في طور التكوين الصحفي، ولكنه أصبح يكتب من خلال رؤيا وظيفية للمقال، تتغَيَّا التبسيط والتوجيه والتقويم والتثقيف، وما إلى ذلك من الوظائف التي تسهم في تكوين الرأي العام المصري، الذي يريده طه حسين على أن يكون "أشد أنواع الإصلاح سطوة وأعظمهم بطشًا"2.

ذلك أن دوافع الكتابة والتحرير عند طه حسين، تأتي من أن "موضوعًا من الموضوعات مشكوك فيه، فلا بُدَّ من أن يثيبت، أو غامض فلا بُدَّ أن ينجلي، فلا بد من أن يعرف، أو ضعيف فلا بد من أن يقوى، أو قوي فلا بد من أن يضعف"3. فهذه الدوافع للكتابة والتحرير عند طه حسين تقتضي التوسُّل بوسائل جديدة "لهداية الذهن"، كما ذهب إلى ذلك "ديكارت" في معارضة المنطق الأسططاليسي، ذلك أن هذه الوسائل تتيح للمقال الصحفي، وللقالب النزالي منه خاصة، السير على هدى؛ وخطة مرسومة، ومنهج محدد، ذلك أن ديكارت يذهب إلى أن أوَّل ما يلزم للمعرفة، وللإنسان الواعي، هو الشعور بضرورة المنهج، ثم إيجاده، وتطبيقه في مجالي النظر والعمل جميعًا، ويتحدد هذا المنهج في "قواعد مؤكدة تعصم الذهن الباحث من الوقوع في الخطأ، وتمكنه من بلوغ اليقين في جميع ما يستطيع معرفته، دون أن يستنفد قواه في جهود ضائعة"4، وهذه القواعد عند طه حسين هي التي تحدد منهجه المقالي في المعرفة ليبدد آثار ما تبقَّى من "عصور الظلمة المظلمة، والجمهور القبيح"4.

1 مذكرات طه حسين ص38.

2 السفور العدد 14.

3 الدكتور طه حسين" بين الأدب والقانون" مجلة الهلال يناير 1935، مرجع سبق.

4 الدكتور طه حسين: نفس المرجع.

ص: 289

وقد استطاع طه حسين بقواعد المنهج الديكارتي أن يثير لدى القراء الرغبة في "التفكير؛ لأن الإنسان الذي يشك لا بُدَّ أن يفكر، والشك هو دليل الفكرة، كما أن الفكر دليل الوجود، وتأسيسًا على هذا الفهم تصبح الكتابة أمرًا محتَّمًا -عند طه حسين؛ إذ لا بُدَّ من وجود "قوم يكتبون وكثرة من الناس لا بد من أن تقرأ"1. وهذه القراءة ليست "لقطع الوقت"2، ولكنها غذاء "العقل والذوق والقلب"3.

ومن أجل هذه الغاية يصبح النزال في قاموس الكلمات الكاشفة، إن صحَّ هذا التعبير، يقابل "الخصام" في قاموس طه حسين4، ذلك أن الصحف في سبيل إثارة "التفكير" كانت تشترك "في درس موضوع واحد أثاره كاتب من الكُتَّاب، فأنكر عليه كاتب آخر بعض ما قال، أو كل ما قال، وأسرع إلى هذا الكاتب وذاك أنصارهما فاختصموا وأطالوا الاختصام، وانتفع القراء والكُتَّاب جميعًا بهذه الخصومات"5. بل إن هذه الخصومات أو النزاليات هي التي بنت لجيل طه حسين "مجدًا، وجعلتها من قادة الرأي"6. ذلك أن من طبيعة الكاتب نفسه أن "يكتب، ومن طبيعة نفسه أن يتصل بالناس، ليقرأوه ويشاركوه في الحس والذوق والشعور"7. والكاتب لذلك -عند طه حسين- ليس محتاجًا إلى أن "يرضي الناس عنه فحسب، ولكنه محتاج إلى أن يرضوا عنه ويسخطوا عليه"8، بل إنه يذهب إلى أن "الخصومة قوام الحياة، ولأمر ما قال الناس منذ أقدم العصور: إن الحياة صراع، وإن الحياة صراع، وإن الحياة جهاد"9.

وفي ضوء الرؤية الوظيفية للنزال عند طه حسين، نحاول أن ننظر في عجالة سريعة، في خصائص المقال النزالي في صحافته، والتي تميز بها في أداء الوظائف الصحفية للمقال:

أولًا: إن طه حسين يتوسّل بالنزال توسُّلًا وظيفيًّا في مقاله، فقد أراد إلى أن "يستيقظ النائم ويتنبه الغافل ويخرج الهادئ من هدوئه، ويزعج المطمئن الراضي عن اطمئنانه، ورضاه"10، وهو لم يرد إلى ذلك في النزال السياسي فحسب، ولكنه ذهب إلى ذلك في النزال الأدبي والثقافي أيضًا، ذلك أنه كان يذهب إلى أن لا شيء "أضرَّ بالحياة وأدفع لها إلى البلادة والجدب من هذا الذي يتورَّط فيه المثقفون من الخمود والركود، والرضى بما كان" والاطمئنان

1 المرجع نفسه.

2، 3، 4 خصام ونقد ص6، 7.

5، 6، 7 المرجع نفسه ص7، 23.

8، 9، 10 المرجع نفسه ص23، 143.

ص: 290

إلى ما هو كائن، والاستخفاف بما يمكن أن يكون1". ويصرح طه حسين أنه كان يؤثر دائمًا "سخط العقول على رضاها، وأن أحب لها القلق وأكره لها ما يمكن أن تضطر إليه من هذا الأمن المخيف الذي ينتهي بها إلى الفتور وإيثار الدعة، والاطمئنان الذي يحبب إليها الراحة، ويغريها بالكسل، ويزين لها الاستسلام والتسليم أيضًا2".

وفي ضوء هذا الفهم الوظيفي للنزال، فإن طه حسين في كثير من الأحيان هو الذي يطلق "السهام" الأولى، ويتخذ مكان "الهجوم" قبل أن يكون في "الدفاع"، ذلك أن النزال عند طه حسين إنما يكون "في سبيل الرأي أو في سبيل كلمة تقال، وليس من قالها3" ويتمثَّل في ذلك بقول الشاعر القديم:

يموت الفتى من عثرة بلسانه

وليس يموت المرء من عثرة الرجل4

وعثرة اللسان هذه -عند طه حسين، إنما يكون مصدرها "حب الحق والحرص على النصح للناس وإن كرهوا النصح والناصحين5، وهي لذلك في المقال النزالي تُعَرِّضُ الكُتَّاب والمصلحين للمحن "لأنهم يقولون ما لا يرضى الناس6"؛ ولأنهم يحاولون "أن يلقوا في روع الناس ما لم يألفوا، وما لم يحبوا ويريدون أن يحملوهم على منهج جديد من مناهج الحياة، مخالف للمناهج التي آثروها بالحب ووصلوا بها قلوبهم وعقولهم وصلًا، وكرهوا أن يزعجهم الناس عنها بعد أن طال اطمئنانهم إليها7". تلك هي الرؤيا الوظيفية للنزال في مقال طه حسين، حين يتجه في الاتجاه الثقافي والسياسي أو الاجتماعي، وهي الرؤية التي تجعله كما يقول الدكتور هيكل عنه "مهاجمًا" أبدًا، وكما ظهر أثر تلك الرؤية النزالية في مساجلاته الأولى حول "الحرب والسلام"، ومع الرافعي وجورجي زيدان والمنفلوطي، وكما ظهر أثر الرؤيا في مقاله السياسي أو الاجتماعي من بعد، ذلك أنه كما يقول -يستطيع أن يحمل نفسه "على الصمت؛ لأنها تأبى إلا الكلام حين يوجد موضع الكلام"8؛ ولأنه إن "أكرهها على ما لا تحب" واضطرها اضطرارًا إلى الصمت، وحملها على الإغراق فيه، جاءه الراضون عنه والساخطون عليه: "فاستكرهني على القول وأخرجوني من العزلة"، وخلطوني بأنفسهم، وأشركوني في خصوماتهم ومشكلاتهم التي لا تنقضي"9.

1، 2 المرجع نفسه ص57.

3، 4، 5 المرجع نفسه في 108، 109.

6، 7 المرجع نفسه ص109، 133.

8، 9 المرجع نفسه ص133.

ص: 291

ذلك أن النزال -عند طه حسين- هو مصدر المذاهب الأدبية المختلفة، والمذاهب الفلسفية على اختلافها1، ولم تكن الخصومة بين العقاد والمازني وشوقي عنده -تجريحًا، لأنها "فتحت للمعاصرين من الأدباء المصريين أبوابًا جديدة في الفن، وآفاقًا جديدة في النقد، وعلمتهم أن الشعر لا ينبغي أن يكون تقليدًا للقدماء ومحاكاة لهم في رصانة اللفظ وجزالة الأسلوب وروعة النظم مهما تكن، ومكانة هؤلاء الأدباء، ومهما يعظم حظهم من التفوق والنبوغ. وإنما ينبغي أن يكون الشعر مقتطعًا من الحياة التي يحياها الناس في العصر الذي يقال فيه، مقتطعًا منها وسابقًا لها أيضًا؛ وفاتحًا لقرائه وسامعيه آفاقًا جديدة في التصور والحسِّ وفي الشعور والخيال"2.

على أن النزال في مقال طه حسين يرتبط كما تَقَدَّم برؤية وظيفية، تبين من موقف مقاله من زوال المجتمع التقليدي، وهي الرؤيا التي جعلته يتخذ أسلوب الاستقراء الديكارتي أسلوبًا لمقاله النزالي، على النحو الذي أشرنا إليه، لأنه أنسب الأساليب في التغيير ومواجهة عوامل التدعيم الوسيطة، الأمر الذي يجعلنا نذهب إلى أن النزال في مقال طه حسين لا ينفصل عن الاستراتيجية الحضارية العامة التي صدرت عنها جميع مقالاته الصحفية في الاتجاهات المختلفة.

ثانيًا: إن طه حسين -تأسيسًا على ما تَقَدَّم- لم ينازل أحدًا لمجرد الرغبة في التجريح، ولكنه يتمثل وظيفة النزال قبل أن يقدم عليه، وهو لذلك حين يتهيأ لنزال يدرس الأمر مليًّا، حتى يتمكَّن من تحقيق الإقناع المنشود، ومن ذلك أنه خاصم العقاد في غير "موطن من مواطن الخصومة"3. خاصمه في "السياسة، وخاصمه في الأدب، وخاصمه في غير السياسة والأدب أيضًا"4، ولكن هذه الخصومة كما يقول: "لم تغض من قدر العقاد في نفسي، وما أظن أن بين لدات العقاد وأترابه ومعاصريه من يقدره ويكبره مثل ما أقدره أنا وأكبره"5. وسبق أن أشرنا إلى أنه أثنى على أدب العقاد في جريدة "السياسة" حين كانت "الخصومة بين الوفديين والدستوريين كأعنف ما تكون الخصومات". لم يمنعني ذلك من أن أسجل أنه كاتب عظيم وشاعر ممتاز، وقد كانت الحرب سجالًا بينه وبيني، فلم يمنعه ذلك من أن يقوم مقام الرجل الكريم في مجلس النواب، فيدافع عني حين كان الوفديون جميعًا عليَّ حربًا"6. وقد خاصم الرافعي كما خاصمه العقاد، وخاصم المازني وهيكلًا وغيرهم كما خاصموه: "ولكن ذلك لم يمنعنا في يوم من الأيام من أن نكون أصدقاء يعرف بعضنا لبعض حقه، ويضمر بعضنا لبعض ما يضمر الصديق للصديق من

1، 2 المرجع نفسه ص143.

3 المرجع نفسه ص143.

4، 5، 6 المرجع نفسه ص145.

ص: 292

الوفاء"1، كما خاصم توفيق الحكيم أو خاصمه توفيق الحكيم2: "وسله إن شئت عَمَّا تركت هذه الخصومة في نفسه، ولا تسلني أنا عَمَّا تركت هذه الخصومة في نفسي، فكل الناس يعرف أن الخصومة بين الناس وبيني مهما تشتد، فهي أهون شأنًا وأقل خطرًا من أن تترك في نفسي أثرًا".

وتفرض هذه القواعد الأخلاقية على النزال أن يقضي كاتبه فيما يقضي فيه بعلم، وأن يحكم فيما يقدر على الحكم فيه"3، ويذهب طه حسين إلى أن القواعد هي التي جعلت كُتَّاب المقال النزالي في صحافتنا "بنَّائين، فهم لم يكونوا هدامين حين اختصموا"4، ذلك أن الخصومة في نهاية الأمر "قوام الحياة"5.

على أن هذه القواعد النزالية، لم تشمل النزال الأدبي فحسب، وإنما تخطته بالتجاوز لتشمل النزال الصحفي عامة، في الأدب والسياسة والاجتماع والاقتصاد، وغيرها من ميادين النزال، وهي القواعد التي تمثَّلت في "دستور للنزال" تمثلته المدرسة الحديثة بصفة عامة، ومدرسة "السياسة" بصفة خاصة، ويتلخص هذا الدستور النزالي، كما يقول طه حسين في:"أن تفرغ الصحيفة للمسائل ذات الخطر التي يُعنى بها الناس في هذه الأيام -أي وقت صدروها- والتي قد تفيد الكتابة فيها بعض الشيء"6، وهو لذلك ينكر على "السياسة" أن تكتب فيها "لا يستوجب كل هذه الجهود"7، فرب واحد جيد يكفي "لإذاعة ما تريد السياسة أن تذيع من المناقشة والجدال"8، وتأسيسًا على هذا الفهم ينكر على "السياسة" أن تنشر فصلًا لكاتب "فيما يظهر لا يملك نفسه، كما ينبغي للذين يريدون أن يخوضوا في غمار الكتابة في السياسة، ويصنفوا بنوع خاص آراء الأحرار الدستوريين، الذين عرفناهم في قديم الزمان، لا يحبون همزًا ولا غمزًا، ولا يؤثرون شتمًا ولا سبًّا، موقوفًا على الهمز واللمز، وعلى التعريض السخيف، والتلميح الذي كنت أحب أن أجل السياسة عنه"9. ذلك أن "فن الكتابة السياسية على مذهب الأحرار الدستوريين خاصة، وعلى مذهب المثقفين عامة"10 يأبى الأسلوب الذي يتنافى مع القواعد الأخلاقية لفن النزال، وهي القواعد التي يصدر عنها طه حسين في نزاله، لذلك، فهو يؤثر الأسلوب العقلي في النزال، الذي يعصم ذهن الكاتب

1، 2 المرجع نفسه ص146.

3، 4، 5 المرجع نفسه ص142، 143.

6، 7 كوكب الشرق في أول يونيو 1933.

8، 9 المرجع نفسه.

10 المرجع نفسه.

ص: 293

من الوقوع في الخطأ، ويمكنه من بلوغ الإقناع في جميع ما يستطيع معرفته، دون أن يستنفد قواه في جهود ضائعة.

وقد وجد طه حسين في منهج ديكارت الفكري، وقواعد "هداية الذهن"1 أسسًا تحقق لمقاله النزالي خطة مرسومة، ومنهجًا محددًا، في مجال النظر والعمل، وهو في المجال السياسي أنسب المناهج التي تجعله يبدأ النظر من جديد حتى يتبين الحقيقة، ولكن هذا المنهج الديكارتي في نزال طه حسين يقابل وسيلة أخرى توسَّل بها في مقاله لاجتناب الخطأ في النزال، "حين يتحتم أن تُسْتَخْدم للتمحيص مع كثير من العناية والتأمل طريقة يعرفها المسلمون جيدًا، هي طريقة "التجريح والتعديل Inadmissible et Intole'rable، وطريقة التجريح والتعديل ابتدعها رواة السنة النبوية، مؤداها البحث الدقيق الذي يجب إجراؤه للتحقق من أمانة المحدِّث وصدقه، وكلما أريد التحقق من صحة حديث روجعت تلك المعلومات الخاصة بمن رواه من المحدثين، وقد انتهى الأمر بأن جعل من تلك المعلومات شبه معجمات يستطيع مراجعتها كل عالم، فيستخرج منها بعض القواعد التي تساعد في تقدير قيمة كل حديث. وتؤلف هذه القواعد عما يعرف "بمصطلح الحديث"1.

ويقول طه حسين: "ويجب تطبيق هذه الطريقة على الوقائع التاريخية التي تأتي بها الرواية، فإذا كان الراوية أمينًا صادقًا.. سليم الذهن، أمكن تصديق ما يرويه.. إلخ3.

ونجد آثار هذه الطريقة، وآثار المنهج الديكارتي في مقال طه حسين، بصفة عامة، وفي مقاله النزالي خاصة، ليكتشف الظواهر السياسية والاجتماعية والثقافية بأداة العقل، وليزيل الأوهام العالقة بالمجتمع التقليدي، على أن توكيده أن العقل ليس هو الملكة الوحيدة للمعرفة، يؤكد ما ذهبنا إليه من قبل، من ارتباط منهجه العقلي بإحساس عملي واقعي وظيفي، يتابع الظواهر ويتقرَّاها ويسيطر عليها من خلال مقاله الصحفي في نهاية الأمر. ومن نماذج هذا المقال الصحفي النزالي، مقال بعنوان "موقفان"4، يقول فيه: "الناس يقولون ويسرفون في القول، ويؤكدون ويلحون في التأكيد أنَّ صاحب المعالي وزير الأشغال لا يحب خزان جبل الأولياء ولا يطمئن إليه، ولا يرى على أقل تقدير العجلة في إقامته وتشييده وتكلف ما سنتكلفه من النفقات في

1، 2 فلسفة ابن خلدون الاجتماعية، ط1 القاهرة 1925.

3 كوكب الشرق في 11 مارس 1933.

ص: 294

تلك الإقامة وهذا التشييد، وفي هذه الأيام التي تشتد فيها الحاجة، لا أقول إلى الاقتصادر والتدبير، بل إلى البخل والتقتير1.

ومن تعبيراته في هذه الفقرة من المقال يبين المنهج الديكارتي في التوسُّل بالشك الذي يتضح من قوله: "الناس يقولون" و"يؤكدون" إلخ. وهذا الأمر الذي يميز مقالاته النزالية حيث يبدؤها بالشك، والمضي فيه إلى أبعد الحدود، وتعليق رأيه حتى يتبين الحقيقة. وهو لذلك يقول في المقال المتقدِّم بعد استعراض "شكوكه": وقد يكون من الحق على الحكومة لنفسها أولًا، ولمصر ثانيًا، وللإنجليز ثالثًا، أن تصدر بلاغًا تريح الناس فيه من الكلام حول موقف المستشار المالي في هذه المسألة، كما أراحتهم من الكلام حول موقف وزير الأشغال.. إلخ"2. إلى أن يقول في خاتمة المقال مؤكدًا على "استجلاء الحقيقة":

"ونستطيع أن نؤكد للحكومة أن موقف المستشار المالي من خزان جبل الأولياء له خطره، وهو خليق بأن يتحدث فيه إلى رئيس الوزراء على شدة حاجته إلى الراحة والهدوء، هو خليق أن يسأل رئيس الوزراء عن الطريقة المثلى المعقولة التي ينبغي أن تسلك تجاهه وتوضيحه أمام الرأي العام"3.

ويتفق هذا الأسلوب العقلي في النزال عند طه حسين مع اتجاهه الديمقراطي، ذلك أن "الذين يحبون الحياة الديمقراطية، ويحصرون عليها مخاصين، لا ينبغي أن يستمتعوا بخيرها ويضيقوا بشرها إلى هذا الحد، وإنما ينبغي أن يقبلوها كما هي، وأن يجدوا ما استطاعوا في إصلاح شرورها وعيوبها، لا بالعنف ولا بالشدة ولا بضيق النفوس وحرج الصدور، ولكن بالأناة والحلم، وبضبط النفس وقهر الهوى، وبالدعوة إلى الخير بالحجة والموعظة الحسنة، لا بالاستعداء ولا بالنذير"4.

وتأسيسًا على هذا الفهم يذهب إلى تأييد الصحف الهازلة، في مواجهة رفض الدكتور هيكل لها، ذلك أن النزال في مفهوم طه حسين يقتضي أن تقول جميع الاتجاهات ما تشاء، وأن تتوسَّل إلى ذلك القول بما تشاء من وسائل صحفية؛ فحزب الوفد -كما يقول طه حسين- "كغيره من الأحزاب الديمقراطية، له صحفه الرسمية التي تصف آراءه، وتصور مذاهبه، وتدعو بلسانه، فهو مسئول عن هذه الصحف، ولكن هناك أشياعًا للوفد كثيرين، يتصلون به، وينتصرون له، ويدعون إليه بالكلام حينًا، وبالكتابة في الصحف حينًا آخر، وهؤلاء لا يستشيرون الوفد، ولا يصدرون فيما يكتبون عن وحي من الوفد،

1، 2، 3 كوكب الشرق في 11 مارس 1933.

4 كوكب الشرق في 31 مايو 1933.

ص: 295

ولا يوجههم الوفد في الطرق التي يسلكونها، ومن حق الوفد لنفسه أن يشجعهم حين يدعون إلى مذهبه، وينتصرون لمبدئه، وليس من حق أحد أن ينكر ذلك على الوفد أو يلومه فيه"1.

ذلك أن الأسلوب العقلي في النزال يقتضي مناخًا ديمقراطيًّا يتمكَّن فيه من أن يتناول الأشياء على النحو الذي يُبَيِّنُ "الحقيقة" ويكشف عنها، ذلك أيضًا أن "اليقين يقتضي الشك"2، الأمر الذي يصل بين النزال ووظيفة "المعارضة" من حيث تبيان "خطأ الوزارة"3 وطلب إصلاح هذا الخطأ، فإذا "قصرت الوزارة" فإن المقال النزالي مطالب بإظهار تقصيرها4، وإذا "شطت الوزارة"5 فإنه مطالب كذلك بتبيين "شططها، وطلب إليها أن ترتَدَّ إلى شيء من القصد والاعتدال"6، ومن أجل ذلك يأخذ المقال النزالي على "ديكتاتورية" صدقي كل سبيل، كما أخذ على التبشير والمبشرين كل سبيل كذلك، لأن مقاومة الاستبداد، لا تقل خطرًا عن مواجهة الخطر الذي يهدد معتقدات الناس، على أن هذا الفهم يدحض الزعم، روجت له صحف الوزارة بأن "المعارضين يتخذون قصة المبشرين وسيلة إلى إحراجها، وإنما الحق الذي لا شك فيه أن المعارضين قد أرادوا وما زالوا يريدون وسيريدون دائمًا أن تنهض الحكومة بما خلقت له، وهي إنما خلقت قبل كل شيء لحماية المواطنين من العدوان الخارجي، ومن فساد النظام واضطراب الأمن في داخل البلاد، وليس حماية للمواطنين من العدوان الخارجي أن يترك المبشرون يقدرون عليهم من كل مكان، فيعبثون بصبيانهم، ويسيئون إليهم في الدين والكرامة والأخلاق"7.

على أننا لا نجد في مقالة النزالي مجرد فكر ليسعى للتفسير، وإنما نَحُسُّ به فكرًا يسعى للسيطرة على الواقع التاريخي والاجتماعي، إنه يعيد صياغة الأحداث وترتبها وتبويبها على نحوٍ منطقي عقلي صارم، بحيث نجد في مقاله النزالي رجل سياسة خبير بنفوس الرجال وأحوال الحياة، وذلك على الرغم من كثرة العبارات الظنية التشككية، التي يتوسَّل بها في التعبير عن "مواقفه" العملية المدروسة، ومن ذلك مقال بعنوان:"عناد"8 يقول فيه:

1 المرجع نفسه.

2 أندريه كرسون: ديكارت.

3، 4، 5 كوكب الشرق في 25 يونيو 1933.

6 المرجع نفسه.

7 المرجع نفسه.

8 كوكب الشرق في 13 مارس 1933.

9 السياسة في 3 ديسمبر 1922.

ص: 296

"زعم المصريون أن المستشار المالي نصح للحكومة المصرية ألا تتعجل إنشاء خزان جبل الأولياء، ثم أكد المصريون هذا الزعم وجعلوه يقينًا، ثم نشرته الصحف، وطلبت وطلبنا معها إلى الحكومة أن تبين للناس وجه الحق فيه، وقد أخذ الإنجليز يزعمون وينشرون كما كان المصريون يزعمون وينشرون أن المستشار المالي لا ينصح بالمضي في هذا المشروع الآن، وكل شيء يدل على أن الإنجليز سيستقلون بعد ما زعموا كما زعم المصريون ثم استيقنوا، وإذن فمن المحَقَّق "إلى أن تقول الحكومة غير هذا"، أن الرجل الذي تصر الحكومة الإنجليزية على بقائه في منصبه بمصر رقيبًا على تصرفات مصر المالية أن يحتمل تبعة الصمت: على هذا التصرف الغريب في هذه الأزمة المنكرة، معنى ذلك كما قلنا من قبل أن هذا المستشار الإنجليزي لا يتردد في أن يقهر عواطفه الإنجليزية، ويعرض عن المنافع الإنجليزية، ويعلن إلى الحكومة رأيه مكتوبًا، وهو النصح بتأجيل المشروع الآن.

"كل هذا حق إلى أن تنفيه الحكومة نفيًا صريحًا واضحًا لا يحيط به الغموض والإبهام مثل ما أحاط بموقف وزير الأشغال من هذا المشروع1".

وتكاد بعض الألفاظ والتعبيرات في هذا القسم من المقال تشير إلى الأسلوب الديكارتي في استجلاء الحقيقة، ولكن هذه الحقيقة عند طه حسين هي الحقيقة العملية الواقعية، التي تحدد المعالم الأساسية للرؤيا الوظيفية عند كاتب المقال. ذلك أن الشك الديكارتي في مقال طه حسين، يتوسَّل بالأسس المنهجية، التي يضيف إليها طه حسين طريقه العقلي العملي العام، الذي يتسم بسمات ديكارتية أخرى غير الشك، مثل الوضوح والتميز في الحكم والتعبير والتحليل، كما يبين من المقال المتقدم حين يعتبر "الصمت" تبعة، وأن "النفي" يجب أن يكون "صريحًا واضحًا لا يحيط به الغموض والإبهام". وما إلى ذلك مما يشيع في مقالاته الأخرى.

ومن هذه المقالات يمكن تفسير الحاجة المستمرة في نزالياته، على أن يكون لكل وزارة "برنامج واضح" يمكن أن "يناقش ويناله التنقيح والتمحيص"2. ذلك "أن لأمة المصرية قد كسبت في هذا العصر الجديد حقًّا جديدًا، وهي حريصة على أن تحتفظ بهذا الحق وتستمتع به، هذا الحق هو أن تقرأ لكل وزارة جديدة برنامجها الذي تبيِّنُ فيه آراءها السياسية، وخطتها في تحقيق هذه الآراء3".

1 كوكب الشرق في 13 مارس 1933.

2، 3 السياسة في 13 ديسمبر 1922.

ص: 297

وفي سبيل هذا المطلب الدستوري يكتب بعنوان "وزارة بلا برنامج1" مؤكدًا منهجه في الوضوح والتعبير والتحليل:

"إنما وزارة الأقوال تلك التي تعرض عن كل حركة منتجة، وتكتفي بضروب القول الحسن تبذلها من غير حساب، ولم يطالب أحد الوزارة بذلك، وإنما نطالبها ويطالبها معنا الجمهور كله بأن تبين لنا ماذا تريد أن تعمل، وكيف تريد أن تعمل للخير حقًّا. فإن الرأي العام إذا عرف برنامجها وخطتها استطاع أن يراقبها عن كثب، فيؤيدها إن أصابت، ويرشدها إن تعرَّضت للخطأ قبل أن تقع فيه؛ لأنه يعلم ما تريد، ويعلم خطتها في تحقيق ما تريد. وهو بهذا التأييد والإرشاد لا ينفع الوزارة وحدها، بل ينفع الأمة قبل كل شيء؛ لأنه ينبه الوزارة إلى ما تتعرَّض له من الخطأ، فإذا سمعت له هذه الوزارة أمَّنت منافع الأمة أن تضيع، وإذا لم تسمع له كان الرأي العام قد أدى واجبه، وبيِّنَ وجهة نظر الجمهور، فأصبح غير مسئول عَمَّا تتورط فيه الوزارة من الأغلاط2".

ويتوسَّل طه حسين في سبيل الوضوح والتبسيط بطريقة التجريح والتعديل عند المسلمين كما تقدم، كما يتوسّل بالمنهج الديكارتي في النزال، ف"الصمت" و"الغموض" في الأعمال السياسية من أبغض الأمور لمقاله النزالي، ومقاومتهما للإشارة إليه، من مقال يكشف عنوانه عما ذهبنا إليه، ونعني مقال:

"تكلم نسيم! 3 "

"وكلام نسيم عجب من العجب، فقد عرفناه صامتًا إلّا عن ذكر الله والتسبيح بحمده والاعتماد عليه في القليل والكثير، والدقيق والجليل. تكلَّم نسيم وقد كان صامتًا، وسكن نسيم وقد كانت متحركًا، ذلك أن صاحب الدولة ورئيس وزارة الشعب يجمع خصلتين متناقضتين ولكنهما تميزان عظماء الرجال؛ فهو ساكت إذا تحرَّك، ساكن إذا تكلَّم. وآية ذلك أنه حكم شهرين وأكثر من شهرين فعمل كثيرًا. كثيرًا جدًّا، ولكنه لم يقل شيئًا إلا الاعتماد على الله والاستعانة بالله، ثم أقيل وسكن فبدأ يتكلم، ولست أزعم الآن أنه عمل خيرًا أو قال خيرًا، ولكني أثبت قبل كل شيء أن نسيم

1 السياسة في 3 ديسمبر 1922.

2 المرجع نفسه.

3 السياسة في 27 مايو 1923.

ص: 298

باشا صامت إذا عمل، ناطق إذا لم يعمل. فلننظر ماذا قال بعد أن رأينا، أو بعبارة أصح، بعد أن احتملنا نازلة القضاء بما عمل. لننظر ماذا قال، لا لنستفيد ولا لنعتبر، فليس الكلام الذي نطق به نسيم اليوم موضعًا للفائدة أو العبرة. لننظر ماذا قال لنضحك، نعم لنضحك، فقد قال نسيم باشا شيئًا مضحكًا، ومضحكًا جدًّا، وليته عمل كما قال فأضحك ولم يبك، وسر ولم يحزن، ولكن الله أراد أن تكون أعمال نسيم باشا مبكية مؤلمة، وأقوال نسيم باشا مضحكة تبعث البهجة في النفوس.

"تكلم نسيم. وهل تدري إلى مَنْ تَكَلَّمَ؟

"تكلَّم إلى الخواجا دورماني، وإلى مَنْ تريد أن يتحدث نسيم إذا لم يتحدث إلى الخواجا دورماني وإلى الخواجا كاسترو؟ فقد خلق كاسترو ودورماني بوقين لنسيم، وخلق نسيم أنفخ في هذين البوقين، وبين هذا النافخ بنت اليوم ولا بنت أمس. ولكنها قديمة. فكثيرًا ما نفخ نسيم قبل الحكم وأثناء الحكم. وكثيرًا ما زمَّر كاسترو ودورماني قبل الحكم وأثناء الحكم، وما يزالان يزمران بعد الحكم، ولكل مزمار سامع، كما أن لكل بوق نافخًا. فلكاسترو ودورماني ناس يسمعون ويطربون، كما أن لكاسترو ودورماني ناس يوحون وينفخون.

"تكلم إذن نسيم باشا وهو بطبيعة الحال يدفع عن وزارتيه، نعم وزارتيه: عن وزارته الحديثة التي أضاعت نُصَّ السودان، ومسحت الدستور، وألقت على الكثرة المطلقة جرائم القتل رسميًّا، وعن وزارته القديمة التي حاولت قتل الروح الوطني وإفساد الخلق الوطني، وكادت توفق من هذا كله إلى شيء كثير.

"نعم يدفع نسيم عن وزارتيه ولكنه لا ينهض بحجة، ولا يعتز بدليل، وإنما يصيح بأنه بريء، وبأنه مظلوم، وبأنه مخلص، وبأنه صادق، وبأنه مستجمع كل صفات الخير، وبأنه أراد أن يكون مسخ الدستور والعبث بحق الشعب محققًا لسلطان الأمة وسيطرتها على أمورها، وأن يكون النزول عن نص السودان مؤيدًا لحقوق مصر في السودان، مثبتًا لمركز المفاوض المصري يوم تدرس مسألة السودان، وأن يكون اتهام الكثرة المصرية بجرائم القتل موصلًا إلى تحسين الصلات بين المصريين والإنجليز. ولكن نسيمًا هو الذي ينفخ ودورماني هو الذي يصيح، وإذا صاح هذا ونفخ ذاك فليس لنا إلّا أن نضحك1! ".

ومن ذلك النموج يبين توسُّل طه حسين بأدوات السخرية في التجريح

1 المرجع نفسه.

ص: 299

والتعديل الذي يقوم على العقل، على أننا نجد في مقاله النزالي كذلك، اتجاهه وفق المنهج الديكارتي من "المعاني" إلى "الأشياء"1، أي: ألَّا ننسب إلى الأشياء إلّا ما ندركه إدراكًا بديهيًّا في معاني تلك الأشياء، وأن نرتب جميع أفكارنا في نسق خاص، بحيث يكون كل معنى منها مسبوقًا بكل المعاني التي يستند إليها، وسابقًا لجميع المعاني التي تستند إليه.

ونجد نموذج هذا الاتجاه في المقال النزالي عند طه حسين، في مقال بعنوان:"نجدة"2 يقول فيه:

"إذا قويت الوزارات آثرت الصراحة والحزم في القول والعمل، وإذا ضعفت الوزارات لجأت إلى الحيلة والالتواء فيما تعمل أو تقول، ويظهر أن وزارتنا قوية أشد القوة، عزيزة أشد العزة، ولكن قوتها تسمى ضعفًا في غير مصر، وصراحتها تُسمى التواء، وحزمها يُسمى حيلة ومداورة. وقد قلنا غير مرة أن للأمور العامة وضعين مختلفين، أحدهما: هذا الوضع القديم المألوف الذي تُسمى فيه الأشياء بأسمائها، هو هذا الذي نشهده في بلاد الأرض كلها، والأخر: هذا الوضع البديع الشاذ الذي تُسمى فيه الأشياء بنقائضها، وهو الذي نشهده في بلدنا السعيد، فنحن أحرار، ولكننا لا نستطيع أن نقول، ولا أن ننتقل، ولا أن يلقى ضحية الحركة الوطنية الحاضرة. وإليك بعض ما قال نسيم باشا مترجمًا ترجمة صادقة: -كلا! كلا! لن أقول شيئًا.

"لقد أديت واجبي، واجبي كله على عسرة ومشقة أحيانًا، فإذا هدأت الشهوات وأحسن خصومنا فهم الحقائق فسيَرَوْنَ أن السياسة التي اتبعتها كانت "رسميًّا" السياسة الوحيدة الممكنة، وكانت على كل حال بمقتضى الظروف أحسن سياسة تعين الشعب على تحقيق الغاية التي يسعى إليها بكل قواه"3.

ثم ينتقل بعد هذا الجزء الذي يتوسَّل فيه بوسائل طريقة الشك الديكارتي، إلى تقويم أقوال "نسيم"، يقول طه حسين:

"أقرأت! أفهمت! أمَّا أنا فقد قرأت وفهمت، كان سياسة نسيم باشا السياسة الوحيدة الممكنة، وكانت سياسة نسيم باشا السياسة الوحيدة التي تعين الشعب على تحقيق آماله، كانت السياسة الوحيدة الممكنة لأن السفر إلى لوزان كان مستحيلًا؛ ولأن إصدار الدستور كاملًا كان مستحيلًا؛ ولأن الاحتفاظ بنص السودان كان مستحيلًا.

1 أندريه كرسون: مرجع سبق.

2 كوكب الشرق في 29 أغسطس 1933.

3 المرجع نفسه.

ص: 300

"كان يجب أن يقعد نسيم باشا عن لوزان، وكان يجب أن يمسح نسيم باشا الدستور، وأن يضحي بسلطان الشعب لرجال البلاط، وبنُصِ السودان للإنجليز، كان هذا واجبًا. ولكنا نستطيع أن نقول لدولة الباشا: إن هذا لم يكن واجبًا، وإن قومًا غيره كادوا يسافرون إلى لوزان، ويحتفظون بنص السودان، ويصدرون الدستور كاملًا، وإن قومًا غيره استطاعوا أن يبرئوا هذا الدستور من كثير من ضروب المسخ والتشويه، ولكن الأغرب من هذا أن تكون سياسة نسيم باشا هي السياسة الوحيدة التي تعين مصر على تحقيق آمالها، وأن يكون الفرد في لوزان معفيًا لمصر من ديون الجزية بعضنا بعضًا، ولا أن يجتمع بعضنا إلى بعض في حفل عام، أو خاص، إلّا إذا أذنت الوزارة ورضيت، والوزارة تأذن وترضى ولكن لأصدقائها وأنصارها، فأما خصومها فذلك شيء ليس لهم أن يستمتعوا به أو يفكروا فيه. ونحن آمنون، ولكن جرائم القتل والشروع في القتل يذاع بعضها كل يوم، فإذا هو مروّع مخيف، أشبه بما تشتمل عليه بعض البلاغات الرسمية حين تصور خسائر الأعداء من القتلى والجرحى في بعض المواقع الحربية المنظمة. فقد كانت خسائر مصر يوم كذا خمسة عشر أو ستة عشر أو أربعة عشر، منهم القتيل، ومنهم الجريح المشرف على الموت، ومنهم الجريح الذي يُرجى له الشفاء، ولا تذكر السرقات، ولا تذكر خطف الأطفال، ولا تذكر الاعتداء على الترع، فكل ذلك شيء لم يبق له خطر. ونحن موسرون، ولكن امرأة تكلف من يعرض ابنتها للبيع، ورجلًا يعجز عن أن يعول أهله، ومنهم زوجه وأطفاله فيصب عليهم الزيت ويشعل فيهم النار. ونحن مدبرون، ولكن الدول الأجنبية تأبى أن تجيبنا إلى فرض الضرائب على رعاياها؛ لأنها ترى من إسرافنا وتبذيرنا وإلقائنا للمال باليمين والشمال ما يقنعها بأنا أغنياء، فلا ينبغي أن نشق على سادتنا الأجانب بفرض الضرائب عليهم، والتسوية بينهم وبين عبيدهم المصريين. ونحن أعزة في بلادنا، ولكن طائفة من الأجانب يعتدون على ديننا وأخلاقنا وأعراضنا، سرًّا وجهرًا، فإذاحاولنا أن نرُدَّهم عن ذلك، أو نَحُول بينهم وبينه، قامت من دونهم قوى خفية وأخرى ظاهرة فردتنا نحن وصدتنا، وقالت: إياكم وفرض الرقابة على هؤلاء الناس، حتى تنظم لكم هذه الرقابة تنظيمًا برأي الإنجليز، وبعد استئذان المبشرين.

"وعلى هذا النحو تجري أمورنا كلها معكوسة مقاومة، والناس عنها راضون، وإليها مطمئنون، ومنهم من يفاخر بها، ويتخذ منها الأدلة الواضحة على هذا الشأو البعيد، الذي قطعناه في سبيل الحرية والاستقلال، وعلى هذا المنزل الرفيع الذي نزلناه من التقدُّمِ والرقي حتى كدنا نبلغ الكمال، ونحن بالغوه من غير شك في آنٍ قريب جدًّا، متى فرغ رئيس الوزراء من الاصطياف والاستشفاء1".

1 المرجع نفسه.

ص: 301

وهكذا ينتقل المقال النزالي من "المعاني" إلى "الأشياء"، وهذه الأشياء في مقال طه حسين، "شواهد" مشتقة من الواقع، وتعتمد على الأخبار والماجريات، ويتم الانتقال بين "المعاني" وبين هذه "الأشياء" من خلال ذهن عملي واقعي، يتوسّل بهذه الأشياء توسُّلًا وظيفيًّا لأداء المعاني التي يهدف إلى توصيلها لقارئه، بغرض "الإقناع" أو بغرض "التغيير".

ثالثًا: استخدام الأسلوب الجدلي في غرض غير مباشر، لإحداث تأثير أقوى على القارئ من جهة الإقناع بفساد دعوى الخصوم، وقد أشرنا فيما تقدَّم إلى أثر الثقافة العربية في توجيه أسلوبه الجدلي، وجهة تقوم على تمثُّل فنون الجدل واستخدام أسرار اللغة العربية استخدامًا وظيفيًّا في أداء أغراض هذا الجدل من خلال النزال الصحفي، فمن مظاهر الأصالة في مقال طه حسين تمثُّله مناظرات المتكلمين والفلاسفة ورؤساء الفرق السياسية وجدلهم في الكوفة ومسجد البصرة في أول القرن الثاني للهجرة، ويؤيد كلٌّ منهم "مذهبه السياسي باللسان، بعد أن كان يؤيده بالسيف،1 والتأييد باللسان، هو النزال القولي في مقابل النزال الحربي، ولكن هذا النزال القولي يدعو "الناس إلى شيء كثير من التفكير والاعتبار والعظة"2.

فالأسلوب الجدلي أسلوب إقناعي يتوسَّل به طه حسين في مقاله النزالي، الذي يتحدد مفهومه الجدلي بأنه يتوسَّل في تأييد رأيه بالبرهان وإبطال رأي منازله ودحض حجته. "والأصل فيه أن يكون حديثًا غير مكتوب، ولكن بعضه يكون كتابة كالجدل في الرسائل والجرائد والمجلات"3، ويقوم هذا الجدل المكتوب على "علم أدب البحث، وعلم الجدل لتنظيم الكلام على وجهٍ يعطي كل مجادل حقَّه"4. والجدل في مقال طه حسين النزالي، أسلوب يعتمد على الكشف عن "الحقائق، وتبين ما في الكلام من دخل، فترى الحجة قوية في ظاهرها حتى يدحضها بفكر دقيق ونظر ثاقب، فلا تجدي الفكرة الغامضة والعبارة المبهمة، بل تحدد الفكرة وتصاغ لها العبارة، لا تزيد عليها ولا تنقص، ويستولي الفكر لا الوهم على الكلام، فيصرفه تصريفًا لا يقوى عليه إلا من أوتي حظًّا من العقل الناقد والبيان القدير"5.

وتأسيسًا على هذا الفهم، نجد أن الأسلوب الجدلي في نزاليات طه حسين غير مباشر، بمعنى أنه قد يتوسَّل بالحوار، كما أنه قد يتوسَّل بقالب الوصف والتصوير، أو القالب القصصي، كما سنجد في المقال الكاريكاتيري. على أن

1، 2 من حديث الشعر والنثر ص35.

3، 4 الدكتور طه حسين "وآخرون": التوجيه الأدبي ص23، 24.

5 الدكتور طه حسين "وآخرون": التوجيه الأدبي ص23، 24.

ص: 302

هذه القوالب الفنية في النزال تشترك في عدة سمات نزالية تتغيَّا الإقناع، منها:

1-

إن طه حسين حين يجادل يرتبط بخصمه، ويتقيد بأفكاره إلى حدٍّ ما، يستمع إليها، ثم يناقشها، ولذلك يردد في عبارته كثيرًا من ألفاظ منازله وعباراته، إذا كانت موضوع النزال.

ومن ذلك مقال بعنوان: "همج"1، يستخدم فيه كلمه مهجورة عنوانًا لمقاله، من ألفاظ خصومه في مجلس النواب "في عهد صدقي"، يقول طه حسين:

"نعوذ بالله أن نحب هذه الكلمة، أو أن نؤثرها، أو أن نتخذها عنوانًا لفصلٍ من الفصول عن رضى بها أو ميل إليها، ولكنها كلمة أصبحت رسمية، أو كسبت حقًّا من الحقوق المدنية، فلم يبق بد من أن نقر لها بهذا الحق الذي كسبته أن نؤمن لها بهذه المزية التي ظفرت بها، أو أي حق أعظم من أن ينطق بهذه الكلمة نائب من النواب في مجلس النواب، على منبر النواب، وتحت قبة البرلمان، أو أيّ مزية أميز، وأي فضيلة أفضل من أن تسجَّل هذه الكلمة في مضبطة مجلس النواب، ومن أن تسجَّل على أن نائبًا قذف بها في وجه الوزراء وزملائه من النواب!

"نعم امتازت هذه الكلمة، وكسبت حقوقًا، وليس على الصحف بأس أن تستعمل الألفاظ المهجورة، وتتخذها عنوانًا لما تكتب من الفصول بعد أن يمنحها النواب الحقوق المدنية، فيجب أن يقوم مجلس النواب الآن مقام المجمع اللغوي الذي أعلن تكوينه ثم لم يكن، وعزم على تأليفه ثم لم يؤلف، وأكبر الظن أن وزير التقاليد قدَّر في نفسه أن مجلس النواب يستطيع أن يستغني عن هذا المجمع، فيحيي المهجور من الكلام -وقد كدت أن أملي الهجر- ويضيف إلى اللغة ما ليس فيها، وما دام مجلس النواب قادرًا على أن يشرع في كل شيء، ويراقب كل شيء، ويقضي في كل شيء، فهو بإذن الله قادر أن يشرع في اللغة ويراقبها ويقضي فيها!!.

"ولكن مجلس النواب لم يحدد أمس -ولعله يريد أن يحدد اليوم- معنى كلمة الهمج هذه، فليس لكلمة من الكلمات قيمة إلّا أن يُحَدَّدَ معناها، ويضبط ما تدل عليه، وكان النائب الذي نطق بهذه الكلمة وأدخلها في معجم البرلمان، مغضبًا ثائرًا، منغص المزاج، فيجب إذن أن لا يكون قد أراد بها دعابة ولا فكاهة ولا مزاحًا، وفضلًا عن أن يكون قد أراد بها تحية للمجلس أو ثناء عليه!

1 كوكب الشرق في 24 مايو 1933.

ص: 303

"وغضب رئيس المجلس حين سمع هذه الكلمة لنفسه، ولنواب الأمة، ووزراء الدولة، فطلب إلى النائب المحترم أن يسترد كلمته هذه، ويظهر أن النائب المحترم من تلاميذ أستاذنا الشيخ محمد المهدي رحمه الله، فقد أساء إلى بعض الناس بكلمة ساقها إليه، فلما طلب سحبها كما يقولون أجاب""يا ولدي كلمة قيلت فكيف أسحبها" لذلك أبى النائب أن يسحب كلمة بعد أن قالها، وقد غضب المجلس، أو بعبارة أدق، اختلف المجلس في وقع هذه الكلمة، أكان شديدًا فينبغي أن يألم له النواب؟ أم كان خفيفًا فينبغي أن يغضي عنه النواب؟ لذلك لم يثوروا بصاحب الهمج هذه! وإنما ألحوا عليه في رفق ولطف في أن يستردها، ويعتذر منها، ولم يكن يعدل لين المجلس إلا شدة النائب! فقد كان المجلس يلح في الاعتذار، وكان صاحب الهمج، يكرر الهمج، حتى إذا أثقل زملاؤه عليه، لم يسحب الكلمة، وإنما سحب نفسه، وخرج من المجلس جديدًا شديدًا، يمزق بيديه مشروع القانون الذي كان يعرضه وزير التقاليد! وكان يدرسه المجلس ويظهر الميل إليه، والتأييد له، وكان النائب ينكره، ويرى أن الهمج لا يعرضونه ولا يقبلونه!!

"هناك كانت حِدَّة وشدة، وهناك كانت ثورة وفورة، ولكنها لم تكن عامة ولا شاملة، وإنما كانت مقصورة على جماعة من النواب، لهم فيما يظهر أمزجة حادة، وحِسٌّ سريع التأثر، وكانت كثرة المجلس آخذة بالعفو، آمرة بالعرف، ميالة إلى الصفح، ولا سيما إذا قبل صاحب الهمج أن يتَقَدَّم بالاعتذار، وسترى اليوم إلى أين تبلغ هذه القضية: أيسحب النائب كلمته فيبقى في المجلس؟ أم يأبى النائب سحب كلمته فيسحبه المجلس من بين أعضائه سحبًا موقوتًا أو غير موقوت؟! ".

ثم يختم المقال بهذه النتيجة الساخرة التي طرح معطياتها فيما تَقَدَّم من القول:

"وإذن فستشهد القاهرة مساء اليوم ثورتين، ثورة في مجلس النواب، وثورة في مجلس الشيوخ، ولكنهما ستكونان بإذن الله خفيفتين كل الخفة، هادئتين كل الهدوء، لن تضطرم فيهما النار حتى يطفئها الاعتذار!! ثم يمضي الليل ويشرق النهار، ونقرأ أن نوقشت القوانين وأبواب الميزانية في المجلسين في سرعة دونها مر القطار السريع"1.

ويبين التزامه بمناقشة الأفكار والآراء التي يطرحها خصمه، وترديده عبارات منازله في إطار من السخرية من مقال يكشف عنوانه عن هذه السمة بوضوح، ونعني مقال:

1 المرجع نفسه.

ص: 304

"حديث وتصحيح

أو تورط كاسترو"1.

يقول فيه:

"نحن مضطرون إلى أن نضع هذين العنوانين لما نريد أن نكتبه اليوم، مضطرون إلى ذلك لأنه حق، فبين يدينا حديث لصاحب الدولة رئيس الوزراء"1 مع كاسترو. وبين يدينا تصحيح لهذا الحديث، نُشِرَ الحديث يوم الجمعة، وصُحِّحَ يوم السبت، وتناول الناس الحديث وتصحيح الحديث راضين مبتهجين يوم الجمعة، ثم مغضبين متشائمين يوم السبت.

"فهذا شأن العنوان الأول، فأما العنوان الثاني فحق أيضًا، حق كالعنوان الأول، كاسترو متورط. ومتورط جدًّا.. والله يعلم أننا مخلصون في الإشفاق عليه، بريئون من الشماتة فيه، فأما إنه متورط فيظهر ذلك إذا قرأت مقدمة الحديث ومقدمة التصحيح، فهو في مقدمة الحديث يقول بالحرف: "مع أن هذا الأمر يظهر مخالفًا لأدب اللياقة فقد أقدمنا عليه، وطلبنا مساء الأمس إلى صاحب الدولة توفيق باشا نسيم أن يستقبلنا".

"أفهمت؟ طلب كاسترو3 إلى رئيس الوزراء مقابلة، وهو لم يطلب هذه المقابلة إلى وزير يؤلف وزارته ليتحدث إليه في الجو والمطر، وإنما أراد أن يتحدَّث، وقد تحدَّث بالفعل في السياسة، وتلطف الوزير فأجاب، وأجاب بصراحة في بعض المسائل، وبإجمال وغموض في بعضها الآخر. أي: أن كاسترو زار الوزير زيارة صحفي، وعلم الوزير أن هذه الزيارة صحفية، فتحدث إلى الزائر كما يجب أن يتحدث وزير إلى صحفي، فصرَّح حين يَحْسُن التصريح والتفصيل، وأجمل حين يحسُن الإجمال والغموض. وأكثر من هذا أن كاسترو نفسه قد صرَّح للوزير بأنه يحدثه كمعبِّر عن الرأي العام "كذا".

"فأنت ترى أن كاسترو ذهب ليعلم علم رئيس الوزراء، ولعل رئيس الوزراء هو الذي خص كاسترو بأول حديث سياسي له في هذه الوزارة. فأنت تعلم وأنا أعلم أيضًا كيف تُلْقَى الأحاديث السياسية في مصر وفي غير مصر، ذهب كاسترو إذن ليعلم علم رئيس الوزارة بهذا يحدثنا يوم الجمعة، ولكن ما أمسى المساء، وما أشرقت شمس السبت، وما توافد الناس على رياسة الوزراء حتى استحالت الحال وتبدَّلت الأمور، وأراد الله أن يغيِّرَ كل شيء فظهر

1 السياسة في 4 ديسمبر 1922.

2 توفيق نسيم.

3 كاسترو رئيس تحرير "الليبرتية".

ص: 305

إن كاسترو لم يذهب يوم الجمعة محدِّثًا ولا صحفيًّا، وإنما ذهب مهنئًا لا أكثر ولا أقل.

"نستغفر الله! بل هناك أكثر من هذا، فإن كاسترو الذي كان صحفيًّا فأصبح مهنئًا، تحدَّث إلى الوزير في مسائل سياسية، ونشر الحديث على غير ما ألقاه الوزير، غيَّرَ وبدَّلَ، أضاف إلى الوزير ما لم يقل، وحمله ما لا يريد أن يحتمل1.

ثم يقول بعد تفصيل المناقشة فيما قال "كاسترو":

"الحق أنَّا لا نشمت في كاسترو ولا نلومه على تسرُّعِه في نشر شيء لم يتثبَّت صحته، فهو صحفي، وهو يعلم مقدار كلف الأمة بحرية المعتقلين والمبعدين، وحرصها على هذه الحرية، وهو بعد هذا كله مؤيد للوزارة الجديدة، فمن حقه ومن حق الأمة والوزارة عليه أن يسرع فينشر من الأحاديث ما من شأنه أن يرضي الأمة ويمهِّد للوزارة تمهيدًا حسنًا.

"إذن فالرجل لم يفعل شيئًا غريبًا، وإنما أدَّى واجبًا واستمتع بحق، ولكن للسياسة شرها وخيرها. وللصحافة عرفها ونكرها، وقد أراد سوء الحظ أن يخطئ كاسترو فهم حديث الرئيس، أو أن يكون الرئيس قد تعجَّل ثم بدا له فاستأنى. أراد سوء الحظ على كل حال أن يعدنا كاسترو باسم رئيس الوزراء يوم الجمعة، وأن يخلف وعده بأمر رئيس الوزراء يوم السبت"2.

على أن هذا التقيد بأفكار المنازل أو الخصم، يرتبط في المحل الأول -عند طه حسين- بالوظيفة الإقناعية، ولذلك نجده يردِّدُ في عباراته في هذا المقال الذي ينازل فيه رئيس تحرير صحيفة معبرة بالفرنسية، ألفاظًا من تعبير منازله، ويسجلها بلفظها الفرنسي، ولا يكتفي بترجمتها إلى العربية، ومن ذلك قول طه حسين:

"وليس في ذلك شيء من المبالغة، فقد كان جواب رئيس الوزراء يوم الجمعة حين سُئِلَ عن الاعتقال والإبعاد، أن هذا الأمر لا يمكن أن يُقْبَلَ ولا يمكن أن يحتمل" ووددنا لو استطاع الناس جميعًا أن يشعروا بقوة هذين اللفظين في اللغة الفرنسية، كذلك كان جواب رئيس الوزراء يوم الجمعة.

ولكن ظهر يوم السبت أن رئيس الوزراء لم يقل هذا ولم ينطق بهذين

1 السياسة في 4 ديسمبر 1922.

2 السياسة في 4 ديسمبر 1922.

ص: 306

اللفظين القويين، بل كان أشد من ذلك حذرًا ومهارة في الجواب، فقال:"بديهيٌّ أن هذه الحال لا يمكن أن تدوم".

"أترى الفرق بين الجوابين؟ أترى أن الأول كان جذوة مشتعلة، وأن الثاني هادئ هدوء السياسي الذي لا يريد أن يعدك، ولا يريد أن يدخل اليأس عليك، إذن فباسم رئيس الوزراء وعدنا كاسترو يوم الجمعة، وباسم رئيس الوزراء أخلفنا يوم السبت"1

إلخ.

2-

إن موضوع النزال والجدل يكون مقسمًا تقسيمًا منطقيًّا، وفق المنهج الديكارتي كما تقدَّم، في تقسيم الموضوع ما وسعه التقسيم، ليدور الجدل حول أقسامه واحدًا بعد الآخر من خلال نظام الأسباب، الذي يجعل للموضوع "وحدة" عضوية، وطه حسين باستخدام الأسلوب الاستقرائي يقابل استخدام "الترديد والأقيسة المنطقية الأرسططاليسية في المناظرة العربية القديمة". والتي كان يستخدمها في طور تكوينه الصحفي قبل سفره إلى فرنسا، ذلك أن الاستقراء الديكارتي -كما تقدَّم- حل في منهج مقاله محل المنطق الأرسطي، لما يتمتع به الاستقراء من وسائل تعين كاتب المقال على "هداية الذهن"، ومن ذلك مقال بعنوان:"خصومتان"2، يبين لنا أثر التقسيم الاستقرائي في تطوير الأسلوب الجدلي للنزال.

"ثارت في مجلس النواب خصومتان عنيفتان في هذا الأسبوع، ذهبت إحداهما لغوًا كأن لم تكن، وكادت الأخرى تفسد الائتلاف بين حزبي الحكومة، لولا أن الذي بيده عقدة هذا الائتلاف لم يأذن بعد بالطلاق بين الحزبين الشقيقين3 كما تسميهما بعض الصحف.

"فأما الخصومة العنيفة التي ذهبت لغوًا كأن لم تكن، فهي التي أثيرت حول سياسة التعليم، فقد خطب النواب وردَّ عليهم نواب آخرون. وتكلَّم وزير المعارف وخُيِّلَ إلى الذين قرأوا كلام أولئك وهؤلاء أن تغييرًا عظيم الخطر سينال سياسة التعليم في أصولها وفروعها، ثم سكنت العاصفة وصفي الجو وابتسمت السماء، ومضت سياسة التعليم كما تريد وزارة المعارف أن تمضي، إن كانت وزارة المعارف تعرف وجهًا تمضي فيه بسياسة التعليم". ثم ينتقل من ذلك إلى تقسيم "سياسة التعليم" إلى قسمين:

1 السياسة في 4 ديسمبر 1922.

2 كوكب الشرق في 20 مارس 1933.

3 حزب الاتحاد وحزب الشعب.

ص: 307

"فالواقع أن وزارة المعارف في هذا العهد السعيد قد اضطربت بين سياستين؛ إحداهما سياسة الوزير السابق وكانت تعتمد على التجديد والرقي، وكانت تعتمد أيضًا على تعرُّف العلل التي يشكو منها التعليم في مصر.. إلخ".

إلى أن يقول: "ولكن وزير المعارف السابق ذهب إلى بروكسل، وخلفه الوزير القائم فذهب إلى بروكسل أيضًا، سياسة التعليم الأولى وقام التقليد مقام التجديد؛ فأقفلت معاهد، وألغيت أعمال.. إلخ"1.

ثم ينتقل بعد تفصيل ذلك ما وسعه التفصيل إلى الخصومة الثانية والتي تتعلق بدار "الأوبرا"، ويعلق بعد تفصيل هذه الخصومة الثانية كذلك بقوله:

"وما كنت أظن أن سياسة التعليم تثير عاصفة لا تلبث أن تهدأ، وأن دار الأوبر تثير عاصفة تتجاوز مجلس النواب إلى أندية الأحزاب وإلى دور الوزراء القائمين والمستقلين، وتزعج حتى رئيس الوزراء الذي هو في أشد الحاجة إلى الراحة وهدوء البال، ولكن يريد أن تنعكس الأشياء دائمًا في مصر، فيهون التعليم كله وتعزّ الأوبرا، ويلقي وزير التقاليد في الدفاع عن التجديد "وأيّ تجديد" ما يطاق وما لا يطاق من خصومة الشعبين"2.

3-

الأسلوب الجدلي في نزاليات طه حسين يعبِّر عن المعاني السياسية والمناظرات بين الأحزان وفي "المناظرات متسع للتهاون والتبسط في القول. فأما عندما تتكلف اللغة التعبير عن الفلسفة والعلول الدقيقة، فالتجوّز والتساهل والاتساع ليس من الأشياء التي تحتمل، بل من الأشياء التي تجد فيها اللغة كثيرًا من المشقة"3. ولعل في ذلك ما يفسِّر قول طه حسين أن المقالات النزالية يسَّرت اللغة العربية "تيسيرًا غريبًا"2 كما تقدَّم، على أن طه حسين، كان يتمثَّل الوظيفة الإقناعية للمقال النزالي، ولذلك كان يحذر كل الحذر من استعمال الغلوّ أو الصنعة، وما إليها من أدوات التأثير، الأمر الذي يجعل من لغة المقال النزالي تمثِّلُ تحولًا جديدًا في الصحافة المصرية بصفة عامة، وصحافة طه حسين بصفة خاصة لما يتيحه لها "الجدل" من مرونة! تتجاوز لغة الأدب، ولتصبح لغة "عملية" وظيفية مستقلة بنفسها، ومن ذلك أن طه حسين قد استحدث تراكيب جديدة في لغة الصحافة المصرية لم تخطر للأدباء الأولين على بال.

فمن ذلك قوله:

1، 2 كوكب الشرق في 20 مارس 1933.

3 من حديث الشعر والنثر ص19.

4 ألوان ص29.

ص: 308

"للظروف السياسية ذوق كثير جدًّا، دقيق جدًّا"1.

وقوله: "ولكن الناس يحبون للحكومات أن تملك نفسها، وتضبط عواطفها، وتصطنع الحكمة والرفق فيما تقول"2.

وقوله: "لنبين مواضع العوج في سياسة الوزارة القائمة"3.

وقوله: ذاق مجلس النواب لذت الاستجواب!

وقوله: "فقد يدعو فساد الظروف السياسية الداخلية للحكومة إلى أن تدور وتضطر، فتمضي حينًا، وترجع حينًا5.. إلخ". و.. "كل هذا يمكن تفسيره وتأويله في السياسة الداخلية؛ لأن السياسة الخارجية لا ينبغي أن تعتمد على مداورة الأحزاب ولا مصانعة الأصدقاء ومدافعة الخصوم"6.

وقوله: "يظهر أن في جوَّ السياسة المصرية الخارجية غيومًا، لعلها خفيفة رقيقة ليس وراءها شيء، ولعلها ثقيلة ضعيفة وراءها أشياء"7 إلخ.

وقوله: "والظاهر أن الوزارة المصرية القائمة تقف الآن مواقف مريبة"8.

ومن ذلك أيضًا استحداث صفات ونعوت تكتسب مدلولات سياسية جديدة من خلال مقاله النزالي. مثل:

-الوزارة الإدارية9.

- المضاربة السياسية10.

- الغموض السياسي11.

- الصمت السياسي12.

- الوحي السياسي13.

1 كوكب الشرق في 7 مايو 1933.

2 كوكب الشرق في 5 مايو 1933.

3 كوكب الشرق في 4 مايو 1933.

4 كوكب الشرق في 10 مايو 1933.

5، 6 كوكب الشرق في 2 أبريل 1933.

7 كوكب الشرق في 28 مارس 1933.

8 كوكب الشرق في 28 مارس 1933.

9 السياسة في أول ديسمبر 1922.

10 كوكب الشرق في 14 نوفمبر 1933.

11 كوكب الشرق في 2 أبريل 1933.

12 كوكب الشرق في 10 مايو 1933.

13 كوكب الشرق في 5 مايو 1933.

ص: 309

- التمثيل السياسي المضحك1.

- المؤتمر السياسي2.

- أزمة سياسية.. أزمة اقتصادية3.. أزمة وزارية4.

- الترقيع الوزاري5.

- نادي سياسي6.

- الحرج السياسي7.

- الآلام السياسية والاقتصادية8.

- سياسة المعاذير9.

- وزير التقاليد10.

- الجو الوزاري11.

- الاضطراب السياسي12.

- الوحدة الوطنية13.

- الوزارة الميتة14.

- البرنامج المرن15.

- السياسة السلبية16.

- الوطنية الزجاجية17.

ثم من ذلك مما نراه من معان جديدة لبعض الأفعال. كما في قوله:

1 كوكب الشرق في 26 مارس 1933.

2 كوكب الشرق في 15 أبريل 1933.

3، 4، 5 كوكب الشرق في 14 أبريل 1933.

6 كوكب الشرق في 29 أبريل 1933.

7، 8 كوكب الشرق في 29 مايو 1933.

9 السياسة في 11 ديسمبر 1922.

10 كوكب الشرق في 30 يونيو 1933.

11 كوكب الشرق في 11 مايو 1933.

12 كوكب الشرق في 20 مارس 1933.

13 كوكب الشرق في 25 يوليو 1933.

14 كوكب الشرق في 4 أكتوبر 1933.

15 السياسة في 12 ديسمبر 1922.

16 السياسة في 15 ديسمبر 1922.

17 السياسة في أول ديسمبر 1922.

ص: 310

ويظهر أن الأسلاك تضطرب بين الندرة والقاهرة1.

والشاهد في قوله: "يضطرب"، فقد أصبح لهذا الفعل معنًى جديدًا في لغة السياسة في الصحافة المصرية.

وقوله: "فإذا أضفت إلى هذا أن الله قد سلَّط على مصر هؤلاء الإنجليز المقيمين في لندرة، والقابعين في وزارة الخارجية"2. معبرًا بذلك عن سلطات الاحتلال البريطاني في مصر.

وقوله: "وهو الذي جعل في مصر هيئات سياسية مختلفة تحترب فيما بينها وتقتتل"3، فاستخدام فعلي "تحترب" و"تقتتل" هنا استخدام صحفي.

وقوله: "يستمتع صغار الموظفين بالحرمان"4.

وقوله: "وكذلك تستقبل مصر هذا النبأ"5.

وقوله: "ويسكت رئيس الوزراء على هذا النبأ الثاني أيامًا6.

وقوله: "ما أجدر المصريين جميعًا ألا تخرجهم المحنة عن أطوارهم، وألا تكدِّر الأزمة ما كانوا يتعزون به من مودة وحب وصفاء7".

وقوله: "إنما النضال الصحيح يعصم الروح الوطني من الضعف"8.

وقوله: "وضع الوزراء أصابعهم في آذانهم".

وقوله: "فقد فتح باب الأزمة الوزارية مرات ثم أغلق9.. إلخ..

ومن ذلك يبين أن هذه الأساليب التي شارك طه حسين في استحداثها من خلال مقاله الصحفي، جاءت ثمرة للنزال الذي يسَّر اللغة، وابتعد بها عن لغة الأدب، وجعلها لغة صحفية عملية وظيفية، تخدم الوظيفة الإقناعية في النزال بصفة خاصة، ووظائف المقال الصحفي بصفة عامة.

1 السياسة في أول يناير 1923.

2 كوكب الشرق في 15 أغسطس 1933.

3 كوكب الشرق في 18 إبريل 1933.

4 كوكب الشرق في 16 مايو 1933.

5 كوكب الشرق في 23 أكتوبر 1933.

6 كوكب الشرق في 2 مايو 1933.

7 كوكب الشرق في 29 مايو 1933.

8 كوكب الشرق في 29 إبريل 1933.

9 كوكب الشرق في 6 يوليو 1933.

ص: 311

رابعًا: الاستيثاق من أضعف الجوانب في كلام الخصوم نتيجة ما طُبِعَ عليه من قدرة جدلية، فما يلبث طه حسين أن يأخذ بتلابيب هذا الجانب ويظل في تحليله، ومجاراة منطقه في اشتقاق النتائج حتى يظهر كل ما يحمله هذا العنصر من الضعف ومن الحاجة إلى التقويم، ومن ذلك ما كتبه في "حديث المساء" بعنوان:"إذن"1 إلخ.. يقول:

"سأل سائل في مجلس النواب الإنجليزي عن أمر المبشرين أمس، فأجابه وزير الخارجية جوابًا نحب أن نقف عند آخره؛ لأن آخره خليق بالتفكير، جدير أن يزيل بعض الغموض الذي يحيط بموقف الوزارة المصرية من مسألة التبشير، فالناس يذكرون أن المبشرين أثاروا غضب الناس في العام الماضي، وأن هذا الغضب استطاع أن يصل إلى البرلمان، وأن يثير لنفسه صدى في مجلس النواب، والناس يذكرون أن رئيس الوزراء أراد أن يردَّ على هذا الصدى، فأعلن أن الحكومة تفكِّر في إصدار قانون يمكن الدولة من مراقبة التعليم، ويمكنها بعد ذلك من إلقاء التبشير.

"انتظر الناس أن يصدر هذا القانون في الدورة الماضية فلم يصدر، وانتظر الناس أن يذكر هذا القانون في خطبة العرش لهذا العام البرلماني فلم يذكر، وانتظر الناس أن يعرض القانون على البرلمان في دورته الأخيرة فلم يعرض.

وأثار المبشرون غضب المصريين مرة أخرى، وكان غضب المصريين في هذه المرة عنيفًا وكان إجماعيًّا، فلم يكن بُدٌّ من أن يصل إلى البرلمان، ومن أن يحدث لنفسه صدى في المجلسين، ولم يكن بُدٌّ من أن تتكلم الوزارة، ومن أن تعمل لتسكت غضب المصريين، وترد على صداه في البرلمان، وانتظر الناس أن تتحدث الوزارة عن هذا القانون الذي وعدت به منذ عام فلم تتحدث، وكتبنا نحن وكتبت الصحف الأخرى تطلب إلى الحكومة أن تصدر هذا القانون، فلم تقل الحكومة شيئًا، ولكن صحيفتها لامتنا على ذلك أشد اللوم، وأنَّبَتْنَا على ذلك أشد التأنيب، وزعمت أننا نطالب الحكومة بما لا قِبَلَ لها به، ولأننا نتحداها ونتعمَّد تعجيزها وإحراجها، ونسيت أن رئيس الوزراء نفسه هو الذي وعد بإصدار هذا القانون، ثم ألحَّ المصريون في المطالبة بهذا القانون، ووضع الوزراء أصابعهم في آذانهم، وأعرضوا عن هذا الأمر إعراضًا، فالآن يُخَيّلُ إلينا أن وزير الخارجية البريطانية قد حلَّ بواجبه أمس هذا اللغز، وأزال بجوابه هذا الغموض، فهو يعلن إلى سائله في مجلس النواب الإنجليزي أنه أذن للمندوب السامي في مصر أن يتحدَّث إلى ولاة الأمور من

1 كوكب الشرق 6 يوليو 1933.

ص: 312

المصريين في إمكان وضع نظام مراقبة مركزية على بعض النواحي لأعمال المبشرين. ومعنى ذلك إن فهمنا لغة الساسة البريطانيين، أن المندوب السامي مفوَّض من حكومته في أن يدرس مع حكومتنا أمر هذا التشريع الذي وعد به رئيس الوزراء منذ أكثر من عام، والذي انتظره الناس منذ صدر هذا الوعد من رئيس الوزراء، فلم يظفروا به إلى الآن، والذي كانت صحيفة الوزارة ترى مطالبة الحكومة، إسرافًا عليها وتعجيزًا لها، وتعمدًا لدفعها إلى الحرج والضيق1".

ومن ذلك أيضًا مقال رئيسي بعنوان: "خوف ومكر"2 يقول فيه، بعد استيثاقه من كلام "الليبرتيه" وأضعف الجوانب في هذا الكلام، ثم يستمر في تحليل هذا الكلام حتى يظهركل ما يحمل هذا العنصر من ضعف إلى أن يقول:

"أفهمت هذه الكلمة؟ أرأيت كيف كان السير موريس أيموس فيها موضع اللوم العنيف، وكيف كان يتعرَّض للفصل من وظيفته لأنه اجتمع إلى المائدة مع الأحرار الدستوريين؟ ولكن "الليبرتيه" نشرت في مساء 8 يناير مقالًا آخر جاء فيه ما يأتي:

".. إني أجلُّ أعظم إجلال سيدي المستشار القضائي، وكل إنسان يعلم أنه كان ولا يزال يؤيد أشد التأييد ذاكرة اتفاق بين مصر وانجلترا يضمن لهذا البلد حرية فعلية، وقد أقام أدلة كثيرة بينة تثبت عطفه على القضية القومية المصرية.

"ولكن القوم كانوا قد أكدوا أنه قد كانت السياسة موضوع حديث طويل أثناء وليمة نادي محمد علي، وأردت أن أُلْفِتَ "كذا" المستر موريس أيموس إلى ما كان يمكن أن ينشأ عن هذه الإشاعات من إساءة إلى ما يمتاز به من المنزلة العالية "كذا" التي هو أهل لها "كذا"3".

ويظل في تحليل هذا الكلام المتناقض الذي تنشره "الليبرتيه" إلى أن يقول:

"فقد كان السير موريس إيموس يوم الجمعة موظفًا يخلُّ بواجباته، ويكيد مع أعداء الحكومة للحكومة التي تأجره، وكان يجب على هذه الحكومة أن تلفت هذا الموظف إلى واجباته، وأن تتشدد في ذلك حتى لا يفسد عليها الأمور، ولا يضطرب النظام، ثم أمسى السير موريس إيموس يوم الاثنين مستشارًا

1 المرجع نفسه.

2، 3 السياسة في 9 يناير 1923.

ص: 313

للحكومة مسموع الكلمة فيها، نزيه المسلك معها، صادق الولاء لها، مؤديًا واجبه كما ينبغي، خليقًا أن يرفع إليه الاعتذار- والاستفغار بعد الحمد والثناء.

"فما مصدر هذا التغير الشديد الذي تناول لهجة كاسترو فجعلها -لا نقول حلوة عذبة- وإنما نقول ذليلة ضارعة بعد أن كانت مرة قاسية؟ مصدر هذا التغيير وما قلناه لك أنه قد جرى خلف ستار. ولكن لكل قصة عظة وعبرة، ولقصتنا هذه عظاتها وعبرتها وهي كثيرة، منها أن الصحفيين قد أصبحوا في هذه الأيام ضحايا لهذا الوحي المضطرب الذي لا يثبت على شيء، ولا يثبت من شيء، فهم يؤدون فيعرفون، ثم يؤمرون فينكرون1".. إلخ.

تلك هي خصائص المقال النزالي في صحافة طه حسين، كما استطعنا أن نستخلصها من خصائصه في التحرير الصحفي، والتي غذَّتْهَا ثقافة عميقة، وأفادت من ملكاته في التصوير والتعبير والجدل والسخرية، وهي الملكات التي نحاول أن ندرس أثارها في القالب الكاريكاتيري للمقال النزالي، على أن هذا النزال وإن كان يرتبط بالمبادئ الحزبية التي طُبِعَ بطبعها، فإنه عند أهل الثقافة السياسية أحرص على بيان الحقائق، وأعدل في إرسال الرأي، ولكنما للسياسة والصحافة أهواء تلطف وتعتدل نسبيًّا، غير أنها لا تنقرض ولا تتلاشى.

1 المرجع السابق.

ص: 314