المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ خصائص المقال الرئيسي عند طه حسين: - فن المقال الصحفي في أدب طه حسين

[عبد العزيز شرف]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة:

- ‌الفصل الأول: الدكتور طه حسين ومدرسة الجريدة

- ‌مدخل

- ‌بيئة المقال الصحفي في مصر

- ‌مدخل

- ‌ البيئة المصرية:

- ‌ الاتصال بالحضارة الأوربية:

- ‌ الحياة السياسية:

- ‌ الحياة الفكرية:

- ‌ الحياة الاجتماعية:

- ‌مدرسة الجريدة

- ‌مدخل

- ‌ مدرسة الجريدة وجيل طه حسين:

- ‌ طه حسين ولطفي السيد:

- ‌الفصل الثاني: طه حسين وبيئة المقال الصحفي في مصر

- ‌مدخل

- ‌ طه حسين والبيئة الأولى:

- ‌بيئة التكوين الصحفي:

- ‌ طه حسين والبيئة الثانية:

- ‌الفصل الثالث: طه حسين وبلاغة الاتصال بالجماهير

- ‌مدخل

- ‌عناصر الأصالة والتجديد:

- ‌بين التقليد والتجديد:

- ‌بلاغة المقال الصحفي:

- ‌بلاغة الاتصال بالجماهير في مقال طه حسين

- ‌مدخل

- ‌التبسيط والنمذجة الصحفية:

- ‌الأسلوب الواقعي:

- ‌الأسلوب الاستقصائي:

- ‌الأسلوب الاستقرائي:

- ‌الأسلوب الصحفي:

- ‌الفصل الرابع: أًساليب التحرير في مقال طه حسين

- ‌مدخل

- ‌الرؤيا الفنية في مقال طه حسين

- ‌أساليب التحرير في مقال طه حسين

- ‌مدخل

- ‌ المقال القصصي:

- ‌ المقال الوصفي والتقرير الصحفي:

- ‌ المقال الرمزي:

- ‌ الرسائل المقالية:

- ‌الفصل الخامس: طه حسين وفن العمود الصحفي

- ‌مدخل

- ‌فن العمود المتخصص:

- ‌فن العمود الصحفي

- ‌مدخل

- ‌خصائص العمود الصحفي:

- ‌مضمون العمود الصحفي:

- ‌تحرير العمود الصحفي:

- ‌فن العمود الرمزي:

- ‌الفصل السادس: فن اليوميات الصحفية في أدب طه حسين

- ‌مدخل

- ‌بين الذاتية والموضوعية:

- ‌فن المقال الاعترافي:

- ‌فن اليوميات الصحفية:

- ‌الفصل السابع: فن المقال الرئيسي الافتتاحي

- ‌مدخل

- ‌المقال الرئيسي الافتتاحي

- ‌مدخل

- ‌ خصائص المقال الرئيسي عند طه حسين:

- ‌ الوحدة العضوية في بنية المقال الرئيسي:

- ‌ طه حسين كاتب المقال الرئيسي:

- ‌الفصل الثامن: فن المقال النزالي

- ‌الفصل التاسع: فن المقال الكاريكاتيرى

- ‌الكاريكاتير الوظيفي في مقال طه حسين

- ‌طه حسين كاتب المقال الكاريكاتيري:

- ‌العناصر الفنية في المقال الكاريكاتيري

- ‌أولا: عنصر التجسيم للعيوب

- ‌ثانيًا: عنصر التوليد

- ‌ثالثًا: عنصر التشبيه أو التمثيل

- ‌رابعًا: عنصر التضاد

- ‌خامسًا: عنصر التندر:

- ‌الفصل العاشر: المقال التحليلي والتقويم الصحفي

- ‌مدخل

- ‌التحليل الصحفي

- ‌مدخل

- ‌أولًا: "توقيت" المقال التحليلي

- ‌ثانيًا: التعليق على الخبر بعد وقوعه

- ‌ثالثًا: التحليل الصحفي وحركة الأحداث

- ‌التقويم الصحفي

- ‌مدخل

- ‌أولًا: اعتماد التقويم الصحفي على الذوق أو العقل الذي يستخدمه استخدامًا جيدًا

- ‌ثانيًا: إن طه حسين كان شديد الحفل بالأسلوب والوضوح في التحليل والتقويم

- ‌ثالثًا: إتجاه طه حسين في مقاله التحليلي إلى ربط "حدث" التحليل الصحفي بدائرة اهتمامات القراء

- ‌مراجع البحث:

- ‌أولًا: المراجع العربية والمترجمة:

- ‌ثانيًا: الصحف والمجلات

- ‌ثالثًا: أهم المراجع الأجنبية

- ‌ملاحق البحث:

- ‌ملحق رقم "1":نقابة الصحفيين تنعي فقيد الأدب العربي:

- ‌من وثائق الجامعة ملحق رقم "2" كتاب طه حسين إلى رئيس الجامعة الأمير أحمد فؤاد بشأم التقدم للبعثة إلى أوروبا

- ‌ملحق رقم "3": كتاب طه حسين إلى رئيس الجامعة، بشأن ترشيحه للبعثة ألى أوربا

- ‌ملحق رقم "4": صورة كتاب الاستقالة الذي رفعه لطفي السيد إلى وزير المعارف العمومية، بعد إخراج طه حسين من الجامعة في عهد صدقي:

- ‌ملحق رقم "5": نموذج لفنِّ اليوميات الصحفية في مقال طه حسين

- ‌ملحق رقم "7": المقال الأول للدكتور طه حسين في صحيفة "كوكب الشرق" الوفدية

- ‌الفهرس:

- ‌المخطوطات

الفصل: ‌ خصائص المقال الرئيسي عند طه حسين:

1-

‌ خصائص المقال الرئيسي عند طه حسين:

وتأسيسًا على ما تَقَدَّمَ، نحاول أن نتعرَّف على أشكال التعبير في المقال الرئيسي عند طه حسين، فنجد أن هذا المقال الافتتاحي أو الرئيسي في الصحافة المصرية قد مَرَّ بطورين:

أولهما: كانت فيه المقالة الرئيسية تحتلّ الصفحة الأولى، وكانت المقالة الرئيسية في هذا الطور طويلة مسرفة في الطول، حتى لقد بلغت في بعض الأحيان نحوًا من أربعة آلاف كلمة1، وكثيرًا ما كانت تذيَّل بتوقيع الكاتب.

وثانيهما: أصبحت فيه المقالة الرئيسية تحتلُّ مكانًا آخر غير الصفحة الأولى منذ تركت هذه الصفحة للأخبار الخارجية -كما أصبحت لا تحمل توقيع الكاتب، وامتازت من حيث الطول بالقصر، بحيث لا يمكن أن تتجاوز -بشكلٍ ما- ستمائة وخمسين كلمة على الأكثر2.

وقد ارتبط هذا الطور الأخير بالتطور الذي أصابته الصحافة بعد الحرب العالمية الأولى وما تلاها من أحداث قلبت الحياة المصرية رأسًا على عقب، حتى عودة الحياة الدستورية للبلاد بتصريح فبراير 1922، ثم ظهور الأحزاب المصرية المختلفة.

فإذا قلنا أن صحيفة "السياسة" كانت أول صحيفة تظهر في هذا الطور على صورة من النضج الصحفي لم تعهد من قبل، وكان لها أثرها من بعد، فلعلنا نستطيع أن نقول: إنها من أوائل الصحف التي عرفت "المقال الافتتاحي" بصورته الحديثة، على يد "هيكل" في "حديث اليوم"، والذي كان يكتبه بدون توقيع3، والمقال الرئيسي الموقَّع الذي كان يكتبه طه حسين إلى جانب هذا المقال الافتتاحي، الأمر الذي يجعلنا نؤثِرُ تسمية "المقال الرئيسي" عند دراسة فن المقال الصحفي في أدب طه حسين، لأنه مقال موقَّع في معظم الأحيان، في حين أن المقال الافتتاحي الذي عرفناه عند هيكل توفَّر لديه عنصر عدم التوقيع، وحينما تولى د. طه حسين رئاسة تحرير "كوكب الشرق"، وأخذ في كتابة مقالها الافتتاحي الرئيسي، جعل عنوانه "حديث المساء"، ولكنه مضى يوقِّع على مقالاته، الأمر الذي يجعلنا نذهب إلى أن نموذج المقال الافتتاحي كان موجودًا بالقياس إلى هيكل وطه حسين، حين اختار الأول "حديث اليوم" لمقاله في "السياسة"، وحين اختار الثاني "حديث المساء" لمقاله في "كوكب الشرق". على أننا نلاحظ إيثار طه حسين لكلمة "الحديث" في اختيار عنوان مقاله الثابت، فوجدناه يختار "حديث الأربعاء" لعموده الثقافي، وحين ينتقل إلى "كوكب الشرق" يجد فيها المقال الافتتاحي معنونًا بـ"مسألة اليوم"4 الذي يكتب فيه بضعة مقالات، إلى أن تظهر الصحيفة في ثوبها الجديد بعد

1، 2 الدكتور حمزة: مرجع سبق 230، ومن ذلك مقال للسيد علي يوسف بعنوان:"حفلة الوداع" وخطبة اللورد كرومر، المؤيد في 7 مايو 1907.

3 عبد العزيز شرف: مرجع سبق ص246.

4 كوكب الشرق في 8 مارس 1933.

ص: 245

اشتراكه في تحريرها1. فيكتب بعنوان ثابت هو "حديث المساء"2، وهو العنوان الذي يشير مع غيره، إلى صفة كاتبه الذي يمتاز "بالإيناس في إجراء الحديث". ويحتلُّ عمودين من الصفحة السادسة في معظم "الأحوال"، بعد أن جعل من صفحة الافتتاحيات في الصحيفة نموذجًا واقعيًّا لصحافته، يظهر فيه أثر النموذج الأوربي الذي يضمُّ إلى جانب المقال الرئيسي في هذه الصفحة عدة أعمدة تتألف من تعليقات سياسية واقتصادية واجتماعية، إلى جانب تعليق خفيف يشترك في تحريرها مع صفوة من كُتَّاب صحيفته.

ومن ذلك يبين أن مقال طه حسين في صفحة الافتتاحيات، الذي كان يحتل يمينها بصفة مستمرة، يتسم بسمات خاصة يُعْرَف بها، فهو ينشر تحت عنوان ثابت، وفي مكان ثابت، ولكنه ليس غفلًا من التوقيع، على أن هذا الأمر الأخير، وإن كان يخرجه من دائرة المقال الافتتاحي إلّا أنه يسمه بسمات "المقال الرئيسي" لتكون التسمية أدق. وهو مع ذلك يتميز بخصائص فنية يتميز بها هذا المقال في الصحافة المعاصرة، كما يتميز بها الكاتب نفسه، فهذا المقال الرئيسي الموقَّع -عند طه حسين- يحمل قيمة مزدوجة من حيث الرأي، فهو يطرح رأي كاتبه المؤثر، ومن ناحية ثانية، يطرح رأيًا تسمح به سياسة الصحيفة، بل قد يختلف معها. وفي تاريخ صحافتنا المصرية أمثلة كثيرة لهذا المقال عند طه حسين، فيما كان ينشره الكُتَّاب من المدرسة الحديثة، مثل: العقاد وهيكل وعزمي وعبد القادر حمزة وغيرهم. "وكان المقال الرئيسي يبيع الصحيفة ويسبب رواجها"3.

فهذا المقال الرئيسي عند طه حسين شأنه عند كُتَّاب المدرسة الحديثة يتميِّز بمقدرة الكاتب على تقصي مجريات الأحداث، وبكونه ثقة أو مرجعًا رفيع المستوى في الميدان الذي يكتب فيه، وتميزه بالخبرة الصحفية التي تبدأ من مرحلة التكوين في مدرسة الجريدة، إلى ما يتمتع به الكاتب من بلاغة في الأسلوب الصحفي، أسلوب الاتصال بالجماهير. وهي أمور تمكِّنُ طه حسين من تميز مقاله الصحفي بين مقالات كُتَّاب المدرسة الصحفية الحديثة، على أن هذه الأمور لا تتعارض مع خصيصة الثبات على سياسة واحدة، ونعني سياسة الصحيفة، التي "لا يصح أن تكون مذبذبة بين سياسات كثيرة"4، ذلك

1 كوكب الشرف في مارس 1933.

2 نشر "حديث المساء" لأول مرة في "كوكب الشرق" في العدد 2341، "22 مارس 1933".

3 جلال الدين الحمامصي مرجع سبق ص219.

4 الدكتور عبد اللطيف حمزة: نفس المرجع ص220.

M. Lyle Spencer; op. cit.، pp. 157-159.

ص: 246

أن طه حسين لم يكتب في صحيفة من الصحف الحزبية إلّا وهو على درجة من الوفاق مع سياستها وسياسة حزبها، كما وجدنا في مقالاته في صحيفة "السياسة" اليومية، حين كان على وفاق مع "الأحرار الدستوريين"، وكما وجدنا في مقالاته في صحيفة "كوكب الشرق" حين كان على وفاق مع "حزب الوفد"، وهي علاقة مبادئ وآراء وعقائد ومواقف يؤيدها الحزب وتدافع عنها الصحيفة.

ولعل وضوح الرؤيا لمفهوم المقال الرئيسي من ناحية الحذر والاحتياط في إبداء الرأي هو الذي حدا بطه حسين إلى أن يُذَيِّلَ المقال بتوقيعه لتحديد الحدِّ الفاصل بين رأيه ورأي الحزب حين يصطدم الرأيان، لكيلا يعرِّض صحيفته للخطر، وهو بذلك يحسم المسألة التي تثار دائمًا حول "ضمير الكاتب" من خلال التوفيق بين الدوائر الثلاث التي تحكم المقال الرئيسي، ونعني: سياسة الجريدة، وصياغة المقال، واهتمام القراء. ومن أجل ذلك وجدناه يفكِّر عندما يكتب المقال مرتين، الأولى بوصفه كاتب المقال الرئيسي، والأخرى بوصف أنه يعبِّر عن رأي الصحيفة التي يكتب لها وباسمها هذه المادة، ويقول الدكتور طه حسين1 في توضيح ذلك:"كان هيكل لي رئيسًا، أو كان لي زميلًا، فلم يعرف قط للرياسة معنى، وإنما كان صديقًا للذين يعملون معه سواء أكان رئيسًا أم مرءوسًا، كنا نلتقي مساء كل يوم، فنتحدث ويجادل بعضنا بعضًا في تحرير صحيفة الغد، ثم نقتسم ما يكتب في هذه الصحيفة من الفصول، ويخلو كلٌّ منا إلى فصله، حتى إذا أتمه التقينا؛ فقرئ ما كتبه كل واحد منا وأقررناه جميعًا، وربما أصلحنا في هذا الفصل أو ذاك، ثم تصدر جريدة السياسة بعد غد. يرأس تحريرها "هيكل"، ويشترك في تحريرها مع أصدقائه وزملائه"2.

وأغلب الظنّ أنه كان يفعل ذلك في "كوكب الشرق" من خلال صلته بزعماء حزب الوفد، كما سبق القول في ذلك، وهو الأمر الذي يتيح لمقاله الرئيسي أن يوفِّق بين الدوائر الثلاث المشار إليها.

أما الخصيصة الثالثة التي يشترط توافرها في المقال الرئيسي وهي: خصيصة التبسط في الحديث، والإيناس في السرد3، فهي من لوازم كتابات طه حسين، كما سبق أن تعرَّفْنَا عليها في أسلوبه الصحفي، فهو لا يستعلي على قرائه، وإنما يرتبط القارئ بمقال طه حسين بإحساس الألفة والصداقة، ولذلك يعتمد طه حسين في مقاله على الملاحظة، وضمير المخاطب، ويشعر القارئ

1، 2 من كلمته بكتاب "الدكتور محمد حسين هيكل" ص8.

3 الدكتور عبد اللطيف حمزة: نفس المرجع ص185.

ص: 247

بأنه صديقه الذي يحدِّثُه حديثًا يهم القارئ والكاتب بدرجة متساوية، كما يشعر القارئ بأنه "يستمع إلى بعض إخوانه يدور معه، ويدخل معه في شجون من الحديث لا يحب أن يصل إلى نهايتها"، ونجد في هذا الصدد تطبيق طه حسين للروح الديمقراطية التي يؤمن بها فيما يكتب؛ لأنه يجعل من المقال الصحفي محاولة هادئة لجذب القراء إلى صحيفته، سواء كانت صحيفة حزب أقلية مثل "السياسة"، أو صحيفة حزب الأغلبية مثل "كوكب الشرق"، فهو يشعر قراءه بأنهم شركاء في حلِّ المشكلات العامة، وفي ذلك ما يفسِّر اعتماده على ضمير المخاطب في معظم مقالاته، فهو مثلًا يقول:

"إذا رأيت في النظام السياسي أو الاجتماعي أو الاقتصادي شرًّا واقتنعت بأن إزالته واجبة، وبأن إقرار الخير مكانه أمر محتوم، كان من حقك أن تدعو لي ما ترى، وكان من الواجب عليك أن تلحَّ في الدعوة لما ترى، وكنت آثمًا في حق نفسك إن كتمت رأيك وأخفيته على الناس، وكنت آثمًا في حق الناس إن لم تدلهم على مواطن الشرِّ في حياتهم، ولم ترشدهم إلى ما فيه المنفعة والخير.

"هذه أوليات يخيّل إلى مَنْ يقولها أنه لا يقول شيئًا جديدًا، ويُخَيَّلُ إلى من يسمعها أنه لا يسمع شيئًا طريفًا؛ لأن ترديدها قد كثر بين الناس في جميع العصور، وفي جميع البيئات، حتى سئمها القائلون والسامعون، ولكنها على ذلك ما زالت غامضة، ولا زال غموضها مصدر الشر الكثير في حياة الأمم والشعوب، ولعل غموضها مصدر ما نحن فيه الآن من فساد واضطراب. فقد نخطئ في الخلط بين الحق والواجب، وقد نغول في تقدير هذا الحق وهذا الواجب، وقد يضطرنا هذا الخطأ وهذا الإسراف إلى أن نريد الإصلاح فنسيء، ونقصد إلى الهداية فنضلَّ، ونتعمَّد الإرشاد فنتورط في الاعتداء، نقتنع بالرأي فيغرنا هذا الاقتناع، ويخيل إلينا أننا نحن وحدنا المصيبون، وأن غيرنا جميعًا مخطئون، ثم لا نلبث أن يملكنا هذا الغرور ويدفعنا إلى إهدار الحرية، وإذا نحن نحاول أن نفرض آراءنا على الناس فرضًا، وأن نكرههم على ما نحب لهم من الخير إكراهًا، وإذا نحن نزعم لأنفسنا العصمة ونبرئها من الخطأ، ونقدِّس آراءنا تقديسًا، ونتخذ الذين لا يشاركوننا فيها ولا يظاهروننا عليها أعداء، ونسير فيهم سيرة الأعداء.

"ولعلك حين تريد أن تفهم الأزمة التي اضطرنا إليها رئيس الوزراء والذين يؤيديونه، لم تجد لها تفسيرًا غير هذا الغرور الذي يتورَّط فيه أصحاب الآراء في السياسة والاقتصاد والاجتماع. ظن رئيس الوزراء وأصحابه أن نظامنا السياسي القديم شرّ؛ لأنه لم يكن يلائم آمالهم وأطماعهم ومثلهم العليا

1 المرجع السابق ص185.

ص: 248

في الحكم وتصريف الأمر. ورأوا أن في هذا النظام أصولًا يجب أن تزول، وأن تَقَرَّ مكانها أصول أخرى، رأوا أن الانتخاب العام المباشر لا يوصلهم إلى الحكم، ولا يضمن لهم كثرة الشعب، ورأوا أن سلطة البرلمان إذا اتسعت وبعدت حدودها لا تمكنهم من البقاء في الحكم إن أوصلتهم إليه المصادفات، ورفعتهم إليه الظروف، فأرادوا تخصيص الانتخاب وتضييقه، وأرادوا تقييد سلطان البرلمان والقصِّ من جناحه، وحاولوا أن يدعوا إلى ذلك فلم يفلحوا، وألَحُّوا في المحاولة فلم يستجب لهم أحد، ولم يؤمن لهم إنسان"1 إلخ.

وهكذا يتدرَّج مع القارئ في حديث ممتع موجَّه إليه، مع إيناس في السرد، مما يشعر قارئه بأنه إنما يستمع إلى صديق يحدثه، لا إلى كاتب يعيش في برجه العاجيّ يلقي الكلمات إليه في استعلاء. وهذه الخصيصة في مقال طه حسين هي التي تُيَسِّرُ لمقاله الرئيسي أداء مهمة من أخصِّ المهام في هذه المادة الصحفية، ونعني: الإقناع عن طريق الشواهد والأمثلة المشتقة من الأحداث الجارية. وعند طه حسين نجد أن هذه الشواهد تتسع لتشمل الأحداث التي جرت في الماضي، والتجارب الإنسانية التي اختزنها في ذاكرته، إما بطريق الممارسة وإما بطريق الاطلاع. وقد وسمت هذه الوظيفة الإقناعية مقال طه حسين الصحفي، بحيث تثبت له تقوفًا في تحرير هذا المقال؛ لأنها تظهر ثقافته واطلاعه ووقوفه على التاريخ العام والتاريخ الخاص. ومن ذلك ما كتبه في المقال المتقدِّم، يستشهد به على حق الناس في مقاومة الاستبداد الذي يحكم به صدقي مصر، فيقول:

"وربما كانت هذه الأيام التي تبتدئ العام الهجري الجديد، وتذكِّر المسلمين بتاريخهم حافلةً بالعبَر والعظات لمن أنساهم الغرور، فوجب عليهم أن يتذكَّروا. فإن الداعي إلى الإسلام، والمؤسس لهذه الدولة الإسلامية، لم يُهِنْ أحدًا، ولم يفرض على الناس دينه فرضًا، ولم يأخذهم بهذا الدين كرهًا، وإنما دعا الناس إليهم رفيقًا بهم، محبًّا لهم، شفيقًا عليهم، ولقي منهم في سبيل هذا الرفق عنتًا، وفي سبيل هذا الحب بغضًا، وفي سبيل الإشفاق قسوة وعنتًا، وما زال يدعوهم إلى سبيل رقة بالحكمة والموعظة الحسنة، ويجادلهم بالتي هي أحسن، فيستجيب له خيارهم، ويلقاه شرارهم بالبغي والعدوان، حتى ظهرت كلمة الله، وانتشر نوره وعَزَّ دينه، فآمن له الثائرون به، والمتنكرون له"2.

ثم يخلص من ذلك المثل الذي يستشهد به في مناسبته إلى قوله:

1 كوكب الشرق في 28 أبريل 1933.

2 المرجع نفسه.

ص: 249

"سيستقيل صدقي باشا أو سيقال، فينحلّ منْ حوله كل شيء، ويتفرَّق من حوله كل إنسان، وتعود الأمور بعده كما كانت قبله. أما المصلحون حقًّا فقد اعتزلوا الحكم، بل فارقوا الحياة وبقي إصلاحهم! وقوي بعدهم، واتسع سلطانهم؛ لأنهم لم يسلكوا إلى إصلاحهم هذه الطريق التي سلكها رئيس الوزراء، ولم يؤثروا أنفسهم بهذا الخير الذي آثر به رئيس الوزراء نفسه1".. إلى أن يقول في نهاية المقال:

"أفيؤثر الله الرحمة واللين، والدعوة إلى الخير بالتي هي أحسن، ويأبى الناس إلّا أن يكرهوا الأمم والشعوب على ما لا تريد؟ "2.

ويستشهد طه حسين بحوادث التاريخ الإسلامي في مقاله الصحفي على هذا النحو، فهو يتمثَّل الحديث التاريخي المشابه للحدث الجاري، ويقرن بينهما لتحقيق الإقناع المنشود، كما في مقاله عن "وداع"3، المديرين الراحلين، حين يذهب إلى أن أمرهم "لا يعدو قصة زيارة كل إقليم يودِّع مديره مستريحًا لهذا الوداع، ويستقبل مديره الجديد خائفًا من هذا الاستقبال"4. ومن ذلك يبين أنه يستشهد بالحدث التاريخي في مجال تناول الحدث الواقعي الذي يُسْتَشْهَدُ به في المقال، وهو هذا الإجراء الذي اتخذته حكومة صدقي بالنسبة لمديري الأقاليم، ونقلهم من أقاليمهم. أما الحدث التاريخي فهو واقعة زياد "لما ضبط العراق لمعاوية، وأقرَّ فيه النظام الجديد بالقهر والعنف، كتب إلى الخليفة يسأله أن يضمَّ إليه ولاية الحجاز، وهَمَّ الخليفة أن يفعل، وجزع أهل الحجاز حين انتهى إليهم هذا النبأ، فلجأوا إلى عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، يسألونه أن يدعو على زياد فلم يدع عبد الله على أحد، ولكن استقبل القبلة فيما يُقَال، وسأل الله العافية، والسلامة والمغفرة للمسلمين، وكفى الله أهل الحجاز زيادًا، وأراح الله أهل العراق من زياد، لأنه نقل زيادًا إلى دارٍ أخرى، لا ولاية فيها إلّا الله، ولا سلطان فيها إلّا لله، وليس فيها خوف من والٍ، ولا إشفاق من أمير"5.

وبعد أن يقرِنَ بين الحدثين، يؤكِّدُ للقراء أنه "بعيد كلَّ البعد عن أن يفكِّرَ في أنَّ بين ولاتنا في الأقاليم هؤلاء الذين نسميهم المديرين، وبين زياد شبهًا ما..! فقد كانت في زياد خصال من الشرِّ لم يبلغوها مع الشرور

! "6.

وهكذا نجد في مقال طه حسين الاستشهاد بأحداث الماضي البعيد والقريب، وربطها بأحداث الحاضر لتأكيد فكرة يريدها من وراء مقاله، ومن ذلك في

1، 2 المرجع نفسه.

3، 4 كوكب الشرق في أول أبريل 1933.

5، 6 المرجع نفسه.

ص: 250

مقال بعنوان: "نظام"1. قوله: "كره الحكماء في كل وقت، وفي كل مكان، وفي كل جيل، الغلوَّ والإسراف، وأحبوا دائمًا أن يكون القصد والاعتدال قوام ما يأتي الناس من عمل، وما ينهجون من نهج في الحياة، ويُخَيَّلُ إلينا أنَّ علماء الدين هم أحق الناس برعاية القصد، والحرص على الاعتدال، وهم أحق الناس بتجنُّب الإفراط، وتجنُّبِ التفريط معًا. فإذا كان الإسراف عيبًا فالتقصير عيب آخر، وعلماء الدين أجدر الناس أن يتجنبوا كل عيب، وأن يتجنبوا بنوعٍ خاصٍّ عيب الإفراط وعيب التفريط؛ لأنهما مصدر كثير من الرذائل، وسبيل كثير من الآثام. وقد قصَّر علماء الدين في ذات الدين تقصيرًا شديدًا أخذهم به الناس، ولاموهم عليه، فوقفوا صامتين جامدين من أمور ما كان ينبغي لهم منها الصمت ولا الجمود، وتركوا غيرهم من الذين لم يتخذوا حماية الدين صناعة، ولا الذَّوْدَ عن الدين مهنة، ولم يتقاضَوْا على ذلك من الدولة أجرًا، ولم ينالوا في ذلك من الدولة والناس ضروب التشريف والتعظيم، تركوا غيرهم من هؤلاء الناس يعملون ويقولون ويدفعون ويذودون، ومهما يَقُلْ القائلون، فإن بلاء غير الأزهريين في حماية الدين والذود عنه أعظم ألف مرة ومرة في هذه الأعوام الأخيرة من بلاء الأزهريين2. ثم يستشهد من الحياة الواقعة بموقف الأزهريين من التبشير:"فقد صمت شيوخ الأزهر فأطالوا الصمت، وهدأ شيوخ الأزهر فأطالوا الهدوء، واضطربت نفوس المسلمين والمصريين من حولهم أشد اضطراب ونفوسهم هادئة"3 و"ألحَّ الناس في كل الصحف المصرية الإسلامية على الشيوخ في أن يغضبوا للإسلام، ويظهروا شيئًا من الاستعداد للذود عنه والقيام عليه، وظل الشيوخ هادئين حتى نهض غيرهم فعمل. ثم أذن الله للشيوخ فاجتمعوا وقرروا، ثم قالوا ومضوا يقولون، وعملوا ومضوا يعملون، ولم نتردَّدْ نحن حين أخذ الشيوخ في القول والعمل في أن نعرف لهم ذلك، ونثني عليه، ونشجيعهم على المضي فيه، وندعو الناس إلى أن يثقوا بهم ويطمئنوا إليهم، ويغتبطوا بأنهم قد أخذوا يقومون بما هيئوا للقيام به"4 إلخ.

على أنَّ طه حسين في سبيل أداء مهمة الإقناع في مقاله، لا يتوسَّل بربط أحداث الماضي بالحاضر فحسب، ولكنه يشتق أمثلة مقاله في معظمها من الأحداث الجارية في الحاضر، ولهذه الشواهد حيِّزٌ كبير في ماله، وكثيرًا ما يكون هذا المقال بمثابة تعليق على الأخبار والأحداث الجارية، مع الاستشهاد التقارير الإخبارية، وهو لذلك يكشف عن إلمام كاتبه بالموضوع الذي يكتب

1، 2 كوكب الشرف في 27 يوليو 1933.

3 كوكب الشرق في 27 يوليو 1933.

4 المرجع نفسه.

ص: 251

فيه، والذي يبين من اطلاعه على ما يكتب في الكتب والصحف المصرية والأجنبية، ليقف على أفكار هذه الصحف والدوريات، شأنه في تحرير المقال الرئيسي شأنه في تحرير المقال النقدي والتنويري والثقافي، حين يقف على أحدث الآراء في النقد، أو أحدث الكتب في المادَّة التي هي موضوع نقده أو تنويره. ومن ذلك في مقال طه حسين أنه لا يتناول موضوعات مجردة، ولكنه يشتق هذه الموضوعات من الواقع الأمر الذي يجعل شواهده المؤيدة لفكرته مستمَدَّة من هذا الواقع أساسًا، فهو حين يكتب عن "الرشوة"1 في "حديث المساء"، لا يتناولها كفكرة مجردة، وإنما يتناولها في إطار جدتها الزمنية، وما تمليه الأحداث والشواهد في الحياة الواقعة، فهو يقول:

"لا تغضب الوزراة، ولا يغضب الوزراء، ولا تغضب النيابة، ولا يغضب البرلمان، فلسنا نحن الذين يذكرون الرشون ويفصِّلون أمرها تفصيلًا، ولسنا نحن الذين يسيئون إلى سمعة مصر، ويغضُّون من قدرها، ويصورنها للناس في هذه الصورة المنكرة التي تمثِّلُ حكومتها قائمة على الرشوة، تشتري ضمائر الناس؛ فيبيعها الناس ضمائرهم بالمال!

"لسنا نحن الذين يقولون شيئًا من هذا، ويأتون شيئًا من هذا، بل نحن نكتب لنصف ما نجد من الألم اللاذع والحزن الممض، حين يقال عن مصر مثل هذا الكلام، وحين تصور مصر للناس في مثل هذه الصورة"2.

ثم ينتقل بعد هذا "التقديم" المثير لاهتمام القارئ إلى سرد "الشواهد" التي يتخذ منها موضوع مقاله، فيقول:

"صحيفة إنجليزية من الصحف الكبرى، قد عُرِفَت بحبها للوزراة القائمة، وإيثارها إياها، لا نقول بالمودة والعطف، بل نقول بالغلوِّ في النصر والتأييد، لا تتحرَّج من أن تعلن أن رئيس الوزراء أحسَّ ضعف وزارته قبل مرضه، ثم أحسَّ تهالكها في هذا الضعف بعد أن أتاح الله له شيئًا من الشفاء، فأراد أن تسترد وزارته شيئًا من القوة، فاصطنع في سبيل ذلك الرشوة، وتوسَّل إلى ذلك بشراء الضمائر! يشتريها من الموظفين بالعلاوات والترقيات! ويشتريها من الزراع بهذه الأموال التي زعم أنه ينفقها لتخفيف ثقل الأزمة على الفلاحين"3.

ويستشهد في هذا المقال بأقوال صحيفتين أجنبيتين هما "الديلي تلغراف"4 و"التيمس"5 في تأييد الظاهرة التي يناقشها مقاله

1 كوكب الشرق في 21 مايو 1933.

2 كوكب الشرق في 21 مايو 1933.

3، 4، 5 المرجع نفسه.

ص: 252

والتي تذهب إلى أن "أمر الحكم في مصر قائم على الرشوة وبيع الضمائر! "1، وعلى هذا الاستشهاد الوظيفي يقوم المقال الصحفي عند طه حسين في تأكيد فكرته من وراء المقال.

على أن هذه الخصيصة الإقناعية وما تقتضيه من شواهد وأمثلة مشتقة من الأحداث الجارية في الحاضر، ترتبط بخصيصة خامسة تجعل من مقال طه حسين مقالًا صحفيًّا من الطراز الأول، ونعني خصيصة الجدَّة الزمنية، أو مسايرة المقال للأحداث الجارية. ذلك أن المقال الرئيسي في صحافة طه حسين يعالج موضوعات الساعة و"مسألة اليوم" مهتمًّا بالأفكار التي تشغل أذهان الناس وقت ظهور الصحيفة، كما يبين من العنوان الثابت لمقاله الرئيسي:"حديث المساء". ذلك أن هذه الخصيصة ترتبط بانتظار القراء لرأي الصحيفة في كل حادث يعرض لهم، أو فكرة تُولَد بينهم، أو وضع من الأوضاع السياسية أو الاجتماعية أو الاقتصادية يُرَادُ نقله إليهم.

وقد تعرَّفْنَا عند دراسة مضمون المقال الصحفي في أدب طه حسين على مواكبته للأحداث السياسية والاجتماعية والثقافية، بما في ذلك شئون حزبه وعلاقته بالأحزاب الأخرى، ولذلك نجد في مقاله الصحفي كثرة "المقدِّمَات الخبرية" والشواهد المشتقة من سياق الأحداث، الأمر الذي يشير إلى عنصر "الجدَّة الزمنية" إشارةً صريحة، فلم يَعُدْ المقال -كما كان في بيئة التكوين- يتناول فكرة مجرَّدة، ولكنه يتناول الحدث الواقعي الذي تبرزه الحياة في صورة خبرية، ليدلي برأيه القائم أساسًا على هذه الشواهد العملية في الحياة الواقعة. فحين يكتب عن العمال ومشكلاتهم، يتَّخِذُ من "أضرابهم" مناسبة لإثارة هذه المشكلات واقتراح ما يتصوَّره لعلاجها، فيكتب في "حديث المساء" بعنوان:"حصار"2، مقدمًا له بهذه المقدمة الخبرية:

"ما زال الخلاف متصلًا بين العمال وشركة السيارات، وما زالت مصالح الناس معطَّلة في غير عذر واضح ولا سبب مفهوم.. إلخ"3، ثم يدلف من هذه المقدمة إلى مناقشة المشكلة من جذورها، فهي ليست في مقاله منعزلة عن أحداث الحياة الواقعة، ولذلك يتَّخِذُ عنوان المقال عند طه حسين ألفاظًا زمنية توحي إلى هذه الخصيصة، ومن ذلك مقال بعنوان: "

والآن"4، يقول فيه:

1 المرجع نفسه.

2، 3 كوكب الشرق في 17 يونيو 1933.

4 كوكب الشرق في 17 أبريل 1934.

ص: 253

".. نعم والآن نحب أن نعرف أين يكون الرضى وأين يكون السخط؟ ونحب أن نعرف أين يكون الأمل وأين يكون اليأس؟ ونحب أن نعرف آخر الأمر لمن تحكم مصر الآن؟

"فأما أين يكون الرضى عن الحياة المصرية الآن، فسؤال تستطيع أن تلقيه متى شئت؟ وحيث شئت؟ وعلى من شئت، وأنت واثق كل الثقة بأنك ستظفر بجواب سلبي واحد مهما تكن الظروف، ومهما تكن البيئات، ومهما يكن المسئولون، وهو أن هذا الرضى الذي تبحث عنه ليس في قلوب المصريين، ولا يمكن أن يكون في قلوب المصريين على اختلاف طبقاتهم وتباين منازلهم، وتفاوت حظوظهم من الثقافة والتعليم. لا نستثني من ذلك إلا الوزراء، وأشباه الوزراء، وأنصار الوزراء، وهم جماعة تستطيع أن تحصيهم، وأن تحقق في إحصائهم، حتى إذا فرغت من التحقيق والإحصاء الدقيق تستطيع أن تضيف إليهم مثلهم أو مثليهم هبة منك وتبرعًا، وأنت بعد هذا كله لن تبلغ الألف، ولن تتجاوز بهم المئات. وهؤلاء قد يخبرونك بأنهم راضون، وقد يقسمون لك جهد آبائهم أنهم راضون، ولكنك مع هذا تستطيع أن تشك وتستطيع أن ترتاب، بل تستطيع أن توقن أنهم ساخطون؛ ساخطون على خصومهم الذين ينكرون الحياة المصرية الحاضرة، ساخطون على مخالفيهم الذين لا يطمئنون إلى أساليب الحكم في هذه الأيام، ساخطون على أقلِّ تقدير على الشعب المصري، إذا لم يكونوا ساخطين على فنون الحكم في مصر"1.

وتبين هذه الخصيصة كذلك من مقال بعنوان: "غدًا.."2، حيث تشير الألفاظ الزمنية في لغة طه حسين، إلى تمثُّل عنصر الجدَّة الزمنية تمثلًا مستمرًّا في مقاله، فهو لا يستخدم هذه الألفاظ في عنوان المقال فحسب، ولكنه يستخدمها كذلك في صلب المقال، مثل قوله:"إنما هم الوزراء ورئيسهم الذي سافر أمس ليستشفي ويستريح"3، وقوله:"وقد برئ رئيس الوزراء بعض الشيء من مرضه، وما زالت التيمس تقول: إن وزارته الآن لا رأس لها! "4، وقوله في مقال بعنوان:"عاصفة"5 يتناول فيه "موقف القضاة المصريين في المحاكم المختلطة من زملائهم الأجانب، وموقف هؤلاء الزملاء منهم"6:

"ليست هذه - أي العاصفة- التي ثارت عنيفة يوم الأحد، فأفسدت الجوَّ، وجعلت التنفس فيه شاقًّا عسيرًا، فإن ثورة الريح مهما يبلغ بها العنف

1 المرجع نفسه.

2 كوكب الشرق في 7 أكتوبر 1933.

3، 4 كوكب الشرق في 17 مايو 1973.

5، 6 كوكب الشرق في 4 أبريل 1934.

ص: 254

تنتهي إلى الهدوء، كما أن الجوَّ مهما يبلغ من الفساد ينتهي إلى الصلاح"1. وهذه العاصفة قد أثيرت "منذ حين"2. وقوله في النزال ضد الوزراة النسيمية:"نحن مضطرون إلى أن نقدِّرَ كلام "الليبرتية" قدرًا خاصًّا هذه الأيام؛ لأنا نعلم أن الليبرتية لا تنطق عن الهوى منذ تألَّفت الوزراة الجديدة. نعلم ذلك ولا نشك فيه، وكل شيء يدل على أننا غير مخطئين، ففي يوم الخميس الماضي نشرت الليبرتية مقالًا افتتاحيًّا بقلم كاسترو، أنبأتنا فيه بما يُنْتَظَرُ من الوزارة الجديدة، فلما كان الغد نشرت الليبرتية حديثًا مع رئيس الوزراء مطابقًا كل المطابقة لما كان يُنْتَظَرُ من الوزارة الجديدة. فلما كان بعد غدٍ وهو يوم السبت الماضي، طلب إلى الليبرتية لأمرٍ ما تصحيح شيء من حديثها مع رئيس الوزراء لم يكن يحتمل خطًأ ولا يحتاج إلى تصحيح"3، ويقول بعد ذلك في نفس المقال:"وقد نشرنا أمس مقالًا لليبرتية قلنا أنه عظيم الشأن. وبين يدينا اليوم مقال آخر لليبرتية ليس أقل خطرًا مما نشرناه أمس. والمقالان متصلان اتصالًا قويًّا ظاهرًا، فلنحاول فهمهما وتفسيرهما، فقد ينتج لنا ذلك ما طلبناه وألححنا فيه من برنامج الوزارة4" إلخ.

ومن ذلك يبين أن خصيصة الجدَّة الزمنية في مقال طه حسين تجعله مسايرًا للأحداث الجارية، مرتبطًا بها، غير منعزل عنها، وهي لذلك ترتبط بخصيصة الإقناع عن طريق الشواهد والأمثلة المشتقة من الأحداث الجارية في الحاضر.

أما الخصيصة السادسة في مقال طه حسين، فهي لا تنفصل عن الخصائص الأخرى في المقال الرئيسي، ونعني: خصيصة التوجيه والإرشاد، وهي خصيصة تختفي دائمًا وراء أسلوب طه حسين التصويري الاستقرائي، ذلك أن هذه الخصيصة تتميَّزُ عند طه حسين باتجاهه القويِّ نحو القارئ كما تَقَدَّمَ، وهو الاتجاه الذي يتميَّزُ بالإيناس والصلة المتبادلة بين الكاتب والقارئ، ذلك أن القرَّاء -كما يقول طه حسين- هم "كل شيء"5، وأن "الكُتَّاب دائبوا التفكير في قرَّائهم إذا قرأوا، وإذا فكَّروا حاولوا الإجادة، وإذا وُفِّقُوا أو لم يُوَفَّقُوا إليها"6. وكنتيجة لهذه الصلة القوية بين طه حسين وقرائه، وجدنا خصيصة التوجيه والإرشاد في مقاله الصحفي تختفي وراء أسلوبه الذي يسعى إلى رفع العامَّة إلى مستواه، في الوقت الذي لا يتعالى فيه على قرَّائه، وتلك مهارة "صحفية

1 كوكب الشرف في 4 أبريل 1934.

2 المرجع نفسه.

3، 4 السياسة في 8 ديسمبر 1922.

5، 6 مجلة الهلال في يوليو 1934.

ص: 255

لا تستعصي على كثيرين من الكُتَّاب -متى قصدوا إليها- وكانت سياسة صحفهم ترمي إليها".

وفي مقال طه حسين، نجد القصد واضحًا في مهارته الصحفية التي تصل قراءه به، وتبين خصيصة التوجيه والإرشاد في مقاله من قوله:

"ليس من الأشياء التي تُحَبُّ أو يُشْتَدُّ إليها الميل، أن تلقى دروسًا في الأخلاق على قوم يجب أن يكونوا قدوة في حسن الأخلاق، بل ليس من الأشياء التي تُحْتَمَلُ، أو تبتغي أن تلفت الوزراء السابقين واللاحقين إلى هذه الواجبات اليسيرة التي تفرضها الأخلاق.

"وحسب الكتاب أن يلفتوا الوزراء والمشتغلين بالحياة العامَّة إلى الواجبات السياسية التي تفرضها المصلحة العامة وتحتِّمُها الأخلاق في خدمة الشعوب. والأمر يزداد مشقَّةً وعسرًا حين يتصل العهد بالسابقين واللاحقين من وزراء هذا العهد السعيد، فهم معصومون من الخطأ، مبرؤون من العيب، منزَّهُون عن هذه الخصال التي يمكن أن تشين مثلك ومثلي من عامة الناس"1. ويخلص من سخريته بالوزارة القائمة إلى تأكيد خصيصة التوجيه التي لا يقبلها خصوم طه حسين. يقول:

"وإذا كانت هذه حالهم فنحن جماعة الكُتَّاب نَتَجَنَّى عليهم، ونتجاوز الحدود في أمرهم حين نزعم أنهم قصَّروا في السياسة، أو أخطأوا في سبيل المنفعة العامَّة، أو أهملوا حقًّا من حقوق الناس وهُمْ كرام إلى أقصى حدود الكرم، حلماء إلى أبعد آماد الحلم، يقبلون منا التجني، ويعفون لنا عن النقد، ولا يخاصموننا في ذلك إلّا قليلًا، وقد يقرينا كرمهم فنغلو في النقد، ويطمعنا حلمهم فنغرق في التجني، وهم مع ذلك لا يغضبون ولا يعبسون، وإنما يمضون في العفو ويلحُّون في العطف، ويريحون النيابة من التحقيق، ويريحون المحاكم من القضاء، ويريحون الشرطة من أخذ الناس، ويريحون الناس من عنف الشرطة، ويعصمون أجسامهم من وقع السياط. فكيف بنا إذا تجاوزنا السياسة وشئونها، ونقدنا الوزراء السابقين واللاحقين فيما يتصل بأعمالهم وأقوالهم مما يتَّصل بالأخلاق. ولكن صناعة الكتابة، والكتابة في الصحف بنوع خاصٍّ؛ تدعو إلى شيء من التطفُّل؛ وتدفع أصحابها إلى أن يدخلوا فيما لا يعنيهم؛ ويعرضوا لما لا ينبغي أن يعرضوا له، ويقولوا فيما لا ينبغي أن يقولوا فيه. وأكبر الظن أن الوزراء السابقين واللاحقين من رجال هذا العهد السعيد سيعفون للكُتَّاب عن هذا التطفُّل كما يعفون لهم عن ذلك التجني

1 كوكب الشرق في 21 أكتوبر 1933.

ص: 256