الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
للنمذجة الصحفية التي تقوم على رؤيا الكاتب للعالم والأشياء والثقافات، إلى أن معركة:"لاتينيون وسكسونيون" كانت معركة بين نموذجين" ثقافيين، على نحو ما نعرف عن نموذج طه حسين1 للثقافة اللاتينية، ونموذج العقاد للثقافة السكسونية"2.
وقد تعرَّفْنَا فيما تَقَدَّمَ على نمذجة طه حسين "للشعر القديم" بهدف تبسيطه في مرحلة التدعيم، عند الحديث عن مقالات "حديث الأربعاء"، وهو نموذج:"حديقة طال عليها الزمن، وأهملت إهمالًا متصلًا، ولم تنقطع عنها مع ذلك مادة الحياة، فمضت أشجارها وشجيراتها تنمو في غير نظام، هذا النمو المهمل المضطرب"3. ويتوسَّلُ بنمذجة هذا الشعر إلى تبسيطه وتفسيره لرأب الصدع، وسد الهوة السحيقة بين القرَّاء المحدثين والشعر القديم، لتحقيق أغراض التدعيم في استراتيجيته القومية، على النحو المتقدم في كتابنا عن "طه حسين وزوال المجتمع التقليدي".
1 مجلة الرسالة في 5 فبراير 1933.
2 الجهاد في 17 يناير 1933.
3 الجهاد في 30 يناير 1935، حديث الأربعاء جـ1 ص15. في د. عبد العزيز شرف: طه حسين وزوال المجتمع التقليدي، المقال الثقافي.
الأسلوب الواقعي:
وتأسيسًا على ما تَقَدَّمَ، فإن النمذجة الصحفية في مقال طه حسين تقوم على أسلوب واقعي يتصل بحياة المجتمع وأحداثه الخارجية، ذلك أن المقال الصحفي يفترض وجود رأيٍ عام يخاطبه ويتحدث إليه، فإذا كان المقال الأدبي يدخل في اعتباره عواطف الفرد ووجدانه، فإن المقال الصحفي يهتم بما يسمى "بالوجدان الجماعي".
وعلى ذلك، فإن بلاغة المقال الصحفي ترتبط بواقعية أسلوبه، وارتباطه دائمًا بالجو الاجتماعي، والظروف السياسية المحيطة به، حتى أننا لا نكاد نفهم هذه المقالات الصحفية في العصور المتقدمة دون الإحاطة التأمَّة بالبيئة الاجتماعية؛ وخصائص العصر الذي كُتِبَتْ فيه. ومن المعروف كذلك أن الآداب الخالدة، والمؤلفات الكبرى لا تَتَطَلَّبُ في دراستها مثل هذا العناء الذي تتطَلَّبُه القِطَع الأدبية التي يكتبها أدباء الطبقة الثانية؛ لأن الآداب العظمى الرفعية تتصل بعواطف الإنسان الثابتة، وترتبط بعلاقات بشرية خالدة، أما الصحافة فإنها تدور حول أمور اجتماعية ومناسبات معينة، لذلك كانت كتابات الطبقة الثانية في الأدب والصحافة أيضًا ذخيرة هامة للمؤرِّخ وعالم الاجتماع، تتفوق في قيمتها الاجتماعية ودلالتها التاريخية على الآداب الإنسانية الرفيعة التي يهتمُّ بها الأدباء والنقاد وعلماء الجمال.
وفي ضوء هذه الرؤيا، فإن المقال الصحفي في أدب طه حسين يشتق بلاغته من الواقع المحسوس، معتمدًا على قدرته في التحليل والتعليل، وحسن تذوّقه للحوادث الجارية، والأدلة التي يسوقها على صحة رأيه في مسألة من المسائل، من خلال الشواهد العملية والتقارير الرسمية وغير الرسمية، ومن ثَمَّ يشف مقاله عن عقلية عملية منظمة، تجمع بين العلم والأدب والصحافة جميعًا، فهو يعمد إلى الحوادث التي تصل إلى علمه، فيحللها تحليلًا عميقًا دقيقًا؛ متوسِّلًا بثقافته العريضة في تقويمها، وبأسلوبه الاستقصائي في حشد العدد المناسب من الحقائق والوقائع، ونُمَثِّلُ لذلك بمقالٍ جعل عنوانه:"حقائق"1 يقول فيه:
"ليست خيالًا ولا وهمًا، وليست ظنًّا ولا ترجيحًا؛ وإنما هي حقائق لا تقبل الشك ولا تحتمل النزاع، هذه التي رفعها صاحب السعادة أحمد عبد الوهاب باشا وكيل المالية، إلى رئيس الوزراء حين طلب إليه أن يدرس حالتنا المالية، ليتبين أيمكن أم لا يمكن البدء في تنفيذ هذا المشروع الذي اضطربت له البلاد، وما زالت تضطرب، لا أقول منذ عام، بل منذ زمن طويل، وهو مشروع جبل الأولياء"2.
ثم يشير إلى التقرير الذي نشرته "كوكب الشرق" متضمنًا هذه الحقائق التي يتناولها "بالتفسير والتحليل"3 ويقف عند "ملاحظات سياسية تثيرها قراءة هذا التقرير الذي كتبه عبد الوهاب باشا"4.. إلخ.
ومن ذلك يبين اعتماد طه حسين على الأسلوب الواقعي في مقاله الصحفي، وهو أسلوبٌ يتنكب طريق الأدب الذي يتسلق على كلام السابقين من مشاهير الشعر والحكمة، ذلك أن الصحافة فنٌّ واقعيٌّ لصيق الصلة بالأحداث الجارية، وليس معنى ذلك أن طه حسين قد أعرض إعراضًا تامًّا عن استخدام الأمثلة والشواهد المستقاة من ثقافته، بل معناه أنه كان مقلًا في ذلك إقلالًا يضع مقاله في دائرة الصحافة بمستواها العملي الواقعي، وهذا الاستخدام القليل، لم يكن استخدامًا لذاته، بقدر ما جاء استخدامًا وظيفيًّا يخدم الأسلوب الواقعي في الإقناع والتحليل والتوجيه، وفي هذا المستوى الوظيفي كان له من الاستشهاد بأقوال الساسة والفلاسفة والشعراء من العرب والأوربيين ما يحتاج إليه في أداء وظائف المقال، ومن ذلك استشهاده في مقالٍ بعنوان
1 كوكب الشرق في 9 مايو 1933.
2 المرجع نفسه.
3، 4 المرجع نفسه.
"ذيول"1 بعبارة من بيان الوفد، يسوقها في مقدمة المقال، ثم يُعَلِّقُ عليها في صلبه، ويقوِّمها في ضوء حركة الأحداث.
ومن ذلك أيضًا استشهاده بالفيلسوف الألماني "كانت" في مقال بعنوان: "دعابة"2، استشهادًا عمليًّا وظيفيًّا يخدم الفكرة السياسية في المقال.
"زعموا أن الفيلسوف الألماني العظيم "كنت" كان عَوَّدَ نفسه أن يخرج للرياضة كل يوم في ساعة معينة، لا يتقدَّمُ عنها ولا يتأخَّر، وكان أهل مدينته قد تعودوا منه ذلك، ولما رأوه ذات يوم قد قَدِمَ موعد خروجه للرياضة دهشوا واستيقنوا أن حدثًا خطيرًا قد ألمَّ بأهل الأرض، أو بنجوم السماء، ولم تمض أيام حتى عَرِفَ أهل المدينة أن الأمر قد كان كما قد رأوا، وأن اليوم الذي اضطرب فيه نظام الفيلسوف هو اليوم الذي شبَّت نار الثورة الفرنسية، واحتلَّ فيه الفرنسيون حصن الاستبداد والظلم الذي كان يقوم في باريس وهو الباستيل. وقد لاحظنا أمس خروج "الأهرام" عن طورها المألوف وخطتها المرسومة فيما بينها وبين الحكومة من صلة قوامها المودة والعطف، دون الخصومة والمعارضة، وقلنا كما قال مواطنوا الفيلسوف الألماني: "لأمر ما قدم الفيلسوف ساعة خروجه"! إلخ، ثم ينتقل إلى مناقشة الشواهد العملية المشتقة من حركة الأحداث، والتي أدَّت إلى خروج "الأهرام" عن طورها، و"اختارت من سهامها أمضاها وأنفذها وأكثرها سُمًّا، ثم رمت بها في صدر صديقتها الوزارة"3.
ومن ذلك يبين أن الأسلوب الواقعي في مقاله طه حسين يستدعي المثل أو العبارة أو الكلم المأثور أو الآية من القرآن، ويتمثَّلُها تمثلًا جديدًا، بحيث نلاحظ في كثير من الأحيان أن جملة طه حسين رغم واقعيتها قد تأخذ شظيةً من بيت شعري، أو كلمة مأثورة قديمة، ولكنها تضفي عليها من رؤياه، كما نجد في المقال المتقدِّم قوله:"ثم نثرت كنانتها بين يديها كما يقول الحجاج"4. ومن ذلك أيضًا تمثُّل الأسلوب القرآني في مقالٍ سياسي بعنوان: "تحقيق"5، حين يقول: "أيقظ أصحاب الكهف بعد أن لبثوا في كهفهم ثلثمائة سنين، وازدادوا تسعًا، وهو يوقظ اليوم بعض النواب، بعد أن ناموا دهرًا طويلًا تميل الأرض من تحتهم، وتضطرب السماء من فوقهم، ويموج الناس من حولهم، وهو لا يرون، ولا يسمعون أو لا يأتون عمل الذين يرون أو يسمعون"6.
1 كوكب الشرق في 6 أكتوبر 1933.
2 كوكب الشرق في 16 مارس 1933.
3، 4 المرجع نفسه.
5، 6 كوكب الشرق في 21 مارس 1934.
كما يتمثَّل بآياتٍ من القرآن تمثلًا صريحًا يرتبط بالسياق العام للموقف الذي يكتب فيه المقال، كما نجد في مقاله عن ذكري سعد زغلول:"لحظة"1، حين يستهلَّه بهذه الآية:
"أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ " صدق الله العظيم.
والموقف العام لهذا التمثل يبين من قوله بعد هذه الآية:
"فلما بلغ القارئ هذا الموضع من آيات الذكر الحكيم أمسك عن القراءة، وأذَّنَ مؤذِّنٌ في الناس أن الزمان قد استدار كهيئته حين أسلم سعد روحه إلى بارئه، فانضمَّت ألوفٌ جالسة إلى ألوف كانت واقفة، وقاموا جميعًا خاشعين قد اطمأنت قلوبهم بذكر الله، الذي كانت تُتْلَى عليهم آياتُه، وامتلأت نفوسهم بذكر سعد الذي اجتمعوا ليفوا له ببعض ما له عليهم من حق"2.
وهكذا لا ينفصل الأسلوب الثقافي في مقال طه حسين عن الأسلوب الواقعي؛ بحيث يرتبطان بعضهما البعض ارتباطًا لا ينفصم.. "وسياق الموقف لا غنى عنه لفهم الألفاظ" كما يقول مالينوفسكي، ذلك أن هذا الارتباط في نهاية الأمر ارتباط وظيفي، يوظِّفُ الأسلوب الثقافي للأسلوب الواقعي، ويوظِّفُ الأسلوبين بهدف النمذجة الصحفية، كما نجد في انتقاده للسياسة التعليمية في وزارة المعارف3:
"يقول المثل لا تجني من الشوك العنب، ولست أريد أن وزارة المعارف كلها شوك، ولكني أريد أن وزارة المعارف إن أرادت أن تصل بالتعليم إلى الخير، فمن الواجب عليها قبل كل شيء أن تضع من النظم وتؤلف من الإدرارات ما من شأنه أن يصلح التعليم.. إلخ"4. فالأسلوب الواقعي إذن في مقال طه حسين، فضلًا عن كونه أسلوبًا صحفيًّا، مصدر من مصادر البلاغة والقوة في هذا الأسلوب، لاعتماده على الواقع أساسًا في التعبير والتفكير، وصياغة الأحداث، والنظر إليها من ناحية دلالتها العملية وتفسيرها الاجتماعي، الأمر الذي يجعل المقال الصحفي في أدب طه حسين عملي التعبير، واقعي الاتجاه.
1، 2 كوكب الشرق في 24 أغسطس 1933.
3، 4 السياسة في 31 ديسمبر 1923.