الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أ-
طه حسين والبيئة الأولى:
بيئة التكوين الصحفي:
تتميز هذه البيئة الصحفية الأولى، بالحركة الوطنية قبل الحرب العالمية الأولى، حيث بلغ الإحساس الوطني فيها ذروته، وبدت اليقظة الوطنية في كمالها وتمام قوتها.
ويتَّصل طه حسين في هذه البيئة الأولى بحزب الأمة وجريدة "الجريدة"، ونرجِّحُ أن السبب الرئيسي في هذا الاتصال إنما يرجع إلى شخصية لطفي السيد مفكِّر الحزب ومدير "الجريدة"، كما تَقَدَّمَ، فهو الذي خرج بالجريدة من النطاق الحزبي الذي صدرت لتمثله2، لا سيما وأنها لا تمثِّل حزبًا فحسب، بل تمثل طبقة من الأمة لها مصالحها ولها أهدافها ولها خطتها التي تتحرى تحقيق هذه المصالح، وتنشد الوصول إلى هذه الأهداف. على أن الجريدة لم تلبث أن أصبحت مدرسة فكرية لها أفكارها ومُثُلُها التي تتحمَّسُ لها وتجمع من حولها الرواد والأنصار والمؤيدين على النحو الذي فصَّلْنَا فيه القول، ومن هنا يمكن القول أن ارتباط طه حسين برجال حزب الأمة لم يكن ارتباطًا بالحزب السياسي بقدر ما كان ارتباطًا بالمدرسة الفكرية التي خرج بها لطفي السيد عن نطاق الحزب.
ومن جهة أخرى، فإن طه حسين يميل بقوة إلى التيار الذي خلقه الأستاذ
1 المرجع نفسه.
2 تَكَوَّنَ حزب الأمة فعلًا بتكوين شركة الجريدة في 23 يوليو 1906، وإن لم يعلن رسميًّا إلا في 21 سبتمبر 1907، وبعده تكَوَّنَت الأحزاب المصرية الأخرى؛ الحزب الوطني الحر في مايو 1907، والحزب الوطني في أكتوبر، وحزب الإصلاح على المبادئ الدستورية في ديسمبر من نفس العام.
الإمام، والذي ذكره بكل إجلال في الجزء الثاني من الأيام وحده تسع عشرة مرة لم يرد اسمه في أيها مجردًا، كما كانت روح الإعجاب تشيع في كل إشاراته عنه في تلك المرحلة المبكرة وما بعدها، وكانت الأسباب النفسية قد تقطَّعت بين طه حسين وبين الأزهر حين استيأس من الأساتذة وساء ظنه بالشيوخ1، وأحسَّ أن الذين بكوا الشيخ صادقين، لم يكونوا من أصحاب العمائم، وإنما كانوا من أصحاب الطرابيش، فوجد في نفسه ميلًا إلى أن يقترب من أصحاب الطرابيش هؤلاء2، وهم الذين نسب إليهم أنهم من أتباع الشيخ محمد عبده، كما قال عنهم كرومر وغيره3، وإن كنا لا ننكر تأثير الأستاذ الإمام فإننا لا نبالغ فيه، وغاية ما نذهب إليه أن أفكار الأستاذ الإمام السياسية والإصلاحية قد وجدت صداها في نفوسهم، ذلك أنه كان رائد حركة الإصلاح الاجتماعي والديني4 بل والتفكير السياسي. وكان الإمام يميل إلى الاعتدال فوافق مشربه مشربهم، وخاصة حين نزع عن نفسه رداء السياسة إلى العلم والتثقيف وجعلهما وسيلة إلى تحقيق الغرض السياسي في النهاية5؛ فمهَّدَ بذلك للوطنية المعتدلة، والتفَّ حوله كثير من الوطنيين المعتدلين، واتفقت آراؤه مع آرائهم في أن الإصلاح الحقيقي الداخلي هو وسيلة الجلاء6، ولا ضير في الاستعانة بالإنجليز في ذلك7.
وفي ذلك ما يفسِّر اقتراب طه حسين من رجال "حزب الأمام" كما يسميه بعض الباحثين8، إلى جانب ارتباطه بلطفي السيد والمدرسة الفكرية التي رادها، فلم يرتبط طه حسين إذن ارتباطًا سياسيًّا بالكيان الحزبي ومصالحه، ذلك أن طه حسين كما يقول -كان فقيرًا متوسط الحال في أسرته، فأتاح له هذا الاتصال بحزب الأمة أن يفكر في الفروق الحائلة بين الأغنياء والبائسين9، وكانت بيئة الجريدة أنسب البيئات الصحفية لذهنه المتفتح، الذي يضيق ببيئة العلماء في الأزهر10.
وفي بيئة الجريدة تَعَرَّفَ إلى كثيرين من الذين كانوا يلُمُّون بلطفي السيد من الشيوخ والشباب، واتصل برفاق له "أحباء عمل معهم فيما بعد، ولقي معهم خطوبًا أي خطوب، عرف عنده هيكل ومحمود عزمي والسيد كامل، وكامل
1، 2 الأيام جـ2 ص144، 145، 147.
3، 4 كرومر: تقرير 1906 ص16، تشارلس أدمس: مرجع سابق ص124.
5 الدكتور حسين فوزي النجار: نفس المرجع ص53، 56، أحمد أمين: زعماء الإصلاح ص235، 213 ألبرت حوراني: مرجع سابق ص208.
9، 10 الأيام جـ2 ص69-73، 145، 147.
البنداري وأترابًا لهم كثيرين، وعرف بفضله لونًا من المعرفة لم يكن يُقَدِّرُ أنه سيتاح له في يوم من الأيام. فقد لقي عنده ذات يوم تلك الفتاة التي كان الناس يتحدثون عنها فيكثرون الحديث، لا لأنها كانت جميلة فاتنة، ولا لأنها كانت جذَّابة خلَّابة، ولكن لأنها كانت طامحة ملِحَّةً في الطموح، ظفرت لأول مرة بالشهادة الثانوية، وكانت أول فتاة ظفرت بها؛ وهي نبوية موسى1.
ولم يلبث طه حسين أن شغل بهذه البيئة الجديدة، لقد كان يخلص لحياته فيها منذ قرأ لنفسه "أول مقال نشرته له الصحف، أرضاه ذلك عن نفسه وأطمعه في المزيد منه، فجعل يكتب في الجريدة رغبة في الكتابة أحيانًا، وتقربًا بها إلى مدير الجريدة أحيانًا أخرى، وجعل مدير الجريدة يرضى عن فصوله ويغريه بالكتابة ويحثُّه عليها حثًّا، ويعلمه القصد في اللفظ والأناء في التفكير"2.
ومن ذلك يتبين أن ارتباط طه حسين بصحيفة حزب الأمة، إنما يجيء من خلال التيار الفكري وليس من خلال التيار السياسي الحزبي، ذلك أنه ارتبط بمدرسة الجريدة واتجاهاتها الفكرية الداعية إلى تعقيل الحياة المصرية، وإلى التنوير والحرية، وتجديد شباب مصر بمقومات الحضارة الحديثة، ونجد عند دراسة مقالاته في "الجريدة" تعبيرًا عن اتجاهات التجديد التي ذهبت إليها مدرستها الفكرية، الأمر الذي يفتح أمامه أبواب التجديد على مصاريعها.
وفي حين تمثل الجريدة الجانب الفكري في تكوين طه حسين الصحفي، نجد إعجابه بشخصية مصطفى كامل الذي جعله أحد ثلاثة تدين مصر لهم بما أتيح لها من اليقظة؛ أولهم: الأستاذ الإمام الذي أحيا الحرية العقلية، والثاني: قاسم أمين الذي أحيا الحرية الاجتماعية، أما مصطفى كامل فهو الذي أذكى جذوة الحرية السياسية3، الأمر الذي يكشف عن اتجاه سياسي حماسي في بيئة التكوين الصحفي لطه حسين، متطرِّفٌ في عداوته للاحتلال.
على أن توزع طه حسين بين الاتجاهين الأساسيين في مرحلة التكوين يجعله كذلك لا ينتمي إلى الحزب الوطني انتماء سياسيًّا، ذلك أن هذا الحزب قد ظل متحفظًا في كثير من القضايا الفكرية الرئيسية، وقد اتخذ لنفسه هذا الطابع منذ زعيمه الأول مصطفى كامل4؛ فهو حزب يحترم الدين، ويدعو إلى التمسك بتعاليمه، ويرى في ذلك بحق ضمانًا لتماسك الأمة حفاظًا على قوتها المعنوية أمام المحتل5. ولذلك نجد تأثر طه حسين باتجاه الحزب الوطني المرتبط بالحرية السياسية: الجلاء والاستقلال التام، ولا يرتبط بالجانب
1، 2، 3 مذكرات طه حسين ص44، 35.
4، 5 الدكتور عبد اللطيف حمزة: أدب المقالة جـ 8 ص 239.
الفكري في هذا الاتجاه، وذلك ما نجده في القصائد المبكرة التي نشرها في صحف الحزب الوطني، ومنها قصيدة يهنئ فيها عبد العزيز جاويش بمناسبة خروجه من السجن سنة 1909:
ومطلعها:
"الآن حق لك الثناء
…
فلتحيى وليحيى اللواء
ولتحيى مصر وأهلها
…
شاء العدى أو لم يشاءوا
ومنها:
"إن كان ذكرك للجلا
…
ء بسوء فليكن الجلاء
أو كان صوت الشعب عن
…
دهمو هو الداء العياء
فليعل صوت الشعب ح
…
تى يرجعوا من حيث جاءوا1
ويكتب طه حسين في هذه البيئة الأولى قصائد كثيرة يدافع فيها عن الجلاء والاستقلال وبعض القضايا الوطنية، نشر معظمها في صحف الحزب الوطني، ومن نماذج تلك القصائد ما نشره في سنة 1909 تحت عنوان:"هم جائش"2 حينما عرضت حكومة بطرس غالي على مجلس الشورى مد امتياز قناة السويس، ومطلعها:
"تيمموا غير وادي النيل وانتجعوا
…
فليس في مصر للأطماع متسع
كفوا مطامعكم عنا، أليس لكم
…
مما جنيتم وما تجنونه شبع؟ "
وفي قصيدة أخرى يخاطب العام الهجري الجديد، يقول:
كن أنت بعد أخيك خير هلال
…
وأضئ لمصر سبيل الاستقلال3
ومن هذه النماذج يبين لنا تمثُّل طه حسين المبكر للاتجاهات السياسية التي كان يعبر عنها المقال الصحفي في "اللواء" و"مصر الفتاة" وغيرها من صحف الحزب الوطني، ولكن طه حسين مع ذلك ظل "محتفظًا بخلافاته الفكرية مع الحزب الوطني"4، ومن ذلك أنه حين يتناول موضوع المرأة وما تلاقيه من إهمال، يتبنَّى آراء قاسم أمين التي عنيت بها "الجريدة".
1 مصر الفتاة في 23 نوفمبر 1909، محمد سيد كيلاني: طه حسين الشاعر الكاتب ص21.
2 المرجع السابق ص22، مصر الفتاة في 5 نوفمبر 1909.
3 المرجع السابق ص2، مجلة الهداية ديسمبر 1910.
4 رجاء النقاش: مرجع سابق ص155.
الأمر الذي يشير إلى أن طه حسين في بيئة التكوين الصحفي كان موزَّعًا بين اتجاهين:
الأول: اتجاه فكري تقوده مدرسة الجريدة.
الثاني: اتجاه سياسي تقوده صحف الحزب الوطني في سبيل "الجلاء التام والاستقلال الكامل"؛ فالاتجاه الفكري عند مدرسة الجريدة أقرب لعقل طه حسين، وخاصَّةً بعد خروجه من الأزهر والتحاقه بالجامعة، وكان لطفي السيد يدعو إلى "التعقيل"، وفي ذلك ما جذب إليه الشباب من جيل طه حسين كمحمد حسين هيكل وعباس العقاد وغيرهم من الذين كانوا أقرب إلى الإيمان "بالعقل" منه إلى الإيمان "بالشعور"، فكانوا -كما يقول العقاد1- يقرأون مقالات اللواء فيحمدون له غيرته، ويعجبون بصدقه في جهاده، ولكنهم وجدوا أنفسهم أمام منهج من الكتابة والقول غير المنهج الذي يتلقون منه رسالة الفكر والعاطفة، وتستجيب إليه بديهتهم المتطلِّعة إلى الوعي والمعرفة، فإن ذلك الأسلوب "الخطابي الشعوري" الذي كان له أبلغ الأثر في جمهور صحف الحزب الوطني2، لم يكن هو الأسلوب المختار الذي عهده روَّاد التجديد فيما اطَّلَعوا عليه من كلام مقروءٍ أو كلام مسموع.
وعلى ذلك، فإن اتجاه طه حسين نحو الجريدة اتجاه فكري يتمثَّل دعوتها إلى التجديد والتعقيل، ويتخذ من معلمها لطفي السيد أستاذًا، يتنبأ لتلميذه بأن "سيكون موضعه من مصر موضع فولتير من فرنسا"3 الأمر الذي جعله يتطلَّع بعد تخرجه في الجامعة إلى فرنسا خاصة4، وأخذ في تعلُّم الفرنسية، وأخذت مناهج التفكير الأوربي بلُبِّه، ولذلك وجد مع أبناء المدرسة التجديدية من جيله في "الجريدة" مَحَطَّ آمالهم، سيما أن هذه الجريدة قد خرجت على "أعقل طراز بين الصحف الأوربية وبخاصة صحافة فرنسا التي كان معظم المتعلمين من رؤساء الحزب يتثقفون بثقافتها ويفضلون صحفها على صحف إنجلترا" دولة الاحتلال5، ويذكر العقاد6 أن رجال الحزب اختلفوا زمنًا على اختيار إحدى الصحيفتين الكبيرتين في باريس مثالًا لصحيفة الحزب اليومية، وهما "الطان" و"الجورنال"، أما "الطان" فكان المرجح لها عند العارفين بالشئون الصحفية أن ترجمة اسمها "الزمان" تجعلها أصلح للنداء عليها في اللغة العربية. ولكن "الطان" صحيفة شبيهة بالرسمية، وعلى صلة
1، 2 عباس محمود العقاد: رجال عرفتهم ص50.
3، 4، 5 مذكرات طه حسين ص38-73، 79.
6 عباس محمود العقاد: نفس المرجع ص276، 237.
بالدواوين العليا، فليس من الموافق لحزب يسمى بحزب الأمة ويتجنب الاتصال بقصر عابدين وقصر الدوبارة على السواء أن يتخذها مثالًا لصحيفته القومية، فانتهى الخلاف إلى اختيار "الجورنال" نموذجًا لصحيفتهم، و"الجريدة" هي ترجمة اسم "الجورنال"1.
وظهرت "الجريدة" على مثال "الجورنال" في الصبغة غير الرسمية، وفي نظام التحرير وترتيب الصفحات، وأظهر ما كان في هذا النظام فتح صفحات "الجريدة" للكتابة الأدبية بأقلام ناشئة الجيل الحديث، وربما أفسحت في صفحتها الأولى -إلى جانب المقال الافتتاحي- موضعًا بارزًا لقصيدة عاطفية، أو مقال طريف من مقالات الوصف والنقد اللغوي، وترددت على صفحاتها أسماء: محمد حسين هيكل ومصطفى عبد الرازق وطه حسين وعباس العقاد ومحمد السباعي وعبد الرحمن شكري والمازني والقاياتي وغيرهم كثيرون2.
وكان "اللواء" لسان الحزب الوطني، و"المؤيد" لسان حزب الإصلاح على المبادئ الدستورية يتقبلان الكتابة بأقلام النشائين، ولكنهما يقصرانها على الناحية السياسية، ولا يرحبان بالكتابة الأدبية إلا إذا كانت بأقلام الشعراء والكتاب النابهين من طراز شوقي وحافظ ومطران والمويلحي والمنفلوطي وأمثالهم بين أدباء الجيل المتقدم، فاتجه الأدباء الناشئون إلى "الجريدة" ولاسيما الطلبة والموظفون؛ إذ كانت الكتابة في السياسة محظورة عليهم، وكانوا يكتبون فيها أحيانًا إلى الصحف عامة -ومنها الجريدة- بتوقيع مستعار3.
وكان شعار الجريدة الذي اختاره لطفي السيد من كلمات الفيلسوف الأندلسي ابن حزم يمثل نزوع جيل طه حسين من التجديديين إلى الجريدة؛ لأن هذا الجيل كان يعلم أن معارضيه بالرأي أضعاف مؤيديه: "مَنْ حقق النظر وراض نفس على السكون إلى الحقائق وإن آلمتها لأول صدمة، كان اغتباطه بذم الناس إياه أشد وأكبر من مدحهم إياه"، وهو يلخص لنا العلاقة النفسية بين هذه المدرسة وبين طه حسين الثائر على البيئة العلمية المحافظة في الأزهر، والذي فُصِلَ منه نتيجة تطرفه في الرأي الذي صدم هذه البيئة.
أما اتصال طه حسين بصحف الحزب الوطني بعد وفاة مصطفى كامل، فهو يرتبط بشخصية الشيخ عبد العزيز جاويش الذي أكثر الاختلاف إليه والاستماع له4، وكان الشيخ جاويش يتشبه بـ"جمال الدين الأفغاني"
1 عباس محمود العقاد: نفس المرجع: رجال عرفتهم ص50.
2، 3 المرجع السابق ص237.
4 مذكرات طه حسين ص18.
في حين يتشبه أقرانه على الأكثر بالأستاذ الإمام كالشيخ رشيد رضا؛ ومصطفى المراغي، وطنطاوي جوهري، وعبد الحميد الزهراوي ومحمد الخضري؛ ومحمد المهدي والنجار وغيرهم1. وفي ذلك ما يفسر إعجاب طه حسين بعنف الشيخ جاويش في السياسة والأزهر وشيوخه، وكان "يُحَبِّبُ العنف إلى الفتى ويرغِّبُه فيه، ويزيّن في قلبه الجهر بخصومة الشيوخ، والنعي عليهم في غير تَحَفُّظٍ ولا احتياط، فهو كان يرى أنهم آفة هذا الوطن يحولون بينه وبين التقدُّم، بما كانوا يلجون فيه من المحافظة، ويعينون عليه الظالمين بممالأتهم للخديوي، ومصانعتهم للإنجليز"2. وقد وجد هذا العنف من نفس طه حسين قبولًا واستجابة، فلم يكد يأخذ في الكتابة "حتى عُرِفَ بطول اللسان والإقدام على ألوانٍ من النقد، قَلَّمَا كان الشباب يقدمون عليها في تلك الأيام، ولكنه كان نقدًا محافظًا غاليًا في المحافظة، إلّا أن يعرض لشئون الأزهر، فهنالك كان يخرج حتى عن طَوْرِ الاعتدال ويغْلُو في العبث بالشيوخ، ويجد التشجيع على ذلك كل التشجيع من الشيخ عبد العزيز جاويش، وربما وجد منه إغراء بذلك وحثًّا عليه"3.
ومن ذلك يَبِينُ أن طه حسين كان موزَّعًا بين مذهبين من مذاهب الكتابة كما كان موزَّعًا بين هذين الحزبين الوطنيين في ذلك الوقت: "أحدهما: مذهب الاعتدال والقصد، ذلك الذي كان الأستاذ لطفي السيد يدعوه إليه ويزينه في قلبه، والآخر: مذهب الغُلُوِّ والإسراف، ذلك الذي كان الشيخ عبد العزيز جاويش يغريه به ويحرِّضه عليه تحريضًا، وكان الفتى يستجيب للمذهبين جميعًا. فإذا اقتصد في النقد نشر في الجريدة، وإذا غلا نشر في صحف الحزب الوطني"4.
ومن ذلك يبين أثر هذين المذهبين في بيئة التكوين الصحفي لمقال طه حسين، فإذا كان لطفي السيد تلميذ الأستاذ الإمام في القصد والاعتدال والعلم والتثقيف، وهو مذهب يرجع إلى تاريخ "الإقدام" في حياة الإمام؛ لأن نظرته إلى الغرض القريب لم تعجله عن النظر الطويل إلى الغرض البعيد الدائم وراء جميع الأغراض"5، فإن هذا الأثر يبين من اهتمام مقال طه حسين من بعد، بنشر المعرفة و"تعقيل" الحياة المصرية، والاهتمام بالتربية والتعليم، كما كان لقاؤه بالشيخ جاويش -المتشبه بجمال الدين- من الحوادث الهامة في تربية الصحفي الناشئ، وشحذ مواهبه في النزال على
1 عباس محمود العقاد: نفس المرجع ص180.
2، 3 مذكرات طه حسين ص18، 19.
4 المرجع السابق ص19.
5 عباس محمود العقاد: محمد عبده ص181.
الرغم من أن "طول اللسان هو الذي قطع الصلة قطعًا حاسمًا بين صاحبنا وبين الأزهر، ودفعه دفعًا إلى حياته التي أتيحت له، وعرضه لسخطٍ أي سخط، وحزنٍ أي حزن؛ وعناء أي عناء"1.
وعلى الشيخ جاويش يلقي طه حسين نصيبًا غير قليل من "ثِقَلِ تلك الفصول الطوال السمجة التي كتبها الفتى فشُغِلَ بها الأدباء والمثقفين حينًا، ثم لم ينقطع استخذاؤه لها وضيقه بها وخجله منها كلما ذكرت له، وكان موضوعها نقد "نظرات" المنفلوطي رحمه الله، وكان عنوانها "نظرات في النظرات". وما أسرع ما انزلق الفتى من هذا النقد السخيف إلى طول اللسان وشيء من الشتم لم تكن بينه وبين النقد صلة، ولم ينس الفتى مقالًا دفعه ذات مساء إلى الشيخ جاويش، فلم يكد يقرأ أوله حتى طَرِبَ له وأَبَى إلا أن يقرأه بصوته العذب على من يحضر مجلسه ذاك، وابتهج الفتى حين سمع الثناء وأحسَّ الإعجاب، واستيقن أنه أصبح كاتبًا ممتازًا، ثم لم يذكر بعد ذلك أول هذا المقال حتى طأطأ من رأسه ومن نفسه وسأل الله أن يتيح له التكفير عن ذنبه ذاك العظيم، وكان أول المقال:
"عم صباحًا أو مساء، واشرب هواء أو ماء، واستأجر من تشاء لما تشاء فقد وضح الحق وبرح الخفاء"2.
ويذكر طه حسين، فيما بعد، أن أحاديثه تلك عن المنفلوطي قد شغلت الناس حتى تحدَّثَ إليه فيها كل من كان يلقاه إلّا رجلًا واحدًا لم يشر إليها قط على كثرة ما كان يلقاه ويتحدث إليه، وهو مدير الجريدة لطفي السيد3، الذي لم يرض عن هذه الفصول4، ربما لما اتَّسمت به من عنفٍ لا يتفق مع مذهب القصد والاعتدال، سيما وأن طه حسين كان يعيب من المنفلوطي فقط "انه يخطئ في اللغة ويضع الألفاظ في غير مواضعها، يصطنع ألفاظًا لم تثبت في لسان العرب، ولا في القاموس المحيط"5، وربما لأن لطفي السيد كان من المرحبين بالظاهرة الأدبية التي تمثَّلت في فن المنفلوطي، أو في أسلوبه الإنشائي عند ظهورها في الصحافة، وبعد جمع المقالات في كتاب "النظرات" لأن المقالة الإنشائية كانت "قالبًا لفظيًّا" لا عنايةً فيه بالمعنى قبل المنفلوطي، وقبل المويلحي في فصول "عيسى بن هشام" على التخصيص، فكانت كتابة المنفلوطي على عهد "الجريدة" ظاهرة ملحوظة بين المنشئين6.
1، 2، 3 مذكرات طه حسين ص20، 37.
4 المرجع السابق ص38.
5 المرجع السابق ص 38.
6 عباس محمود العقاد: رجال عرفتهم ص246.
ومهما يكن من شيء، فقد أصبح طه حسين كاتبًا في الصحف بفضل هذين الرجلين:
لطفي السيد والشيخ جاويش1، وأصبح كاتبًا لشيء آخر، وهو أنه أثناء الأعوام العشرة الأولى من كتابته في الصحف لم يكتب إلا حبًّا للكتابة ورغبة فيها لم يكسب بها "درهمًا ولا مليمًا"2.
ولم يقف فضل الشيخ جاويش عند تعريف طه حسين إلى جماهير الناس ووقفه بين أيديهم منشدًا للشعر، كما كان يفعل الشعراء المعروفون وحافظ منهم، خاصة في بعض المناسبات العامة، وإنما "علَّمه الكتابة والتحرير في المجلات، فقد أنشأ مجلة "الهداية"، وطلب إلى الفتى أن يشارك في تحريرها ثم ترك له أو كاد الإشراف على هذا التحرير، وكان له الفضل كل الفضل فيما تعلَّمَ الفتى من إعداد الصحف وتنسيق ما ينشر فيها من فصول، ولم تخل "الهداية" من جدال عنيف دُفِعَ إليه الفتى دفعًا، وكان خصمه الشيخ رشيد رضا، وقد أسرف الفتى على نفسه وعلى الشيخ رشيد في ذلك الجدال"3.
ومن هذا النقد الذاتي لموقفه من بيئة التكوين، نجد أن طه حسين قد آثر خُطَّةَ لطفي السيد في الفكر والقصد، وهي الخطة التي تتضح من انضمامه لأسرة "السفور" التي تتألف من تلاميذ "الجريدة" بعد توقفها عن الصدور في الحرب الأولى، واستحال العمل الصحفي في ظل الأحكام العرفية، وقد ترك احتجابها في نفوسهم من الألم ما دفعهم إلى مواصلة رسالة التجديد في "السفور". يقول مصطفى عبد الرازق:
"استبشرنا بها راية يلتفُّ حولها الجوهر المصفَّى من شبابنا، وتسير في ظلها دعوة الحرية والتقدُّم بين جاه العلم والعقل وجاه العصبية.. كانت الجريدة قد تَفَرَّقَ عنها أصحابُها غافلين لاهين بمظاهر ألقابهم وأموالهم.. إن المرزوئين في الجريدة هم أهل الجد من فتياتها الذين كانت لهم صحيفة الأعيان مظهرًا لمذاهبهم الحرة وأفكارهم الجديدة، ولن يعدموا بإذن الله وسيلةً لنشر دعوتهم الصالحة في جرائد، إن كانت صغيرة ضعيفة فستمدها قوة الحق فتكبر وتقوى، أما بعد فإننا في هَمٍّ من موت الجريدة يشغلنا اليوم عن التقدير لجريمة من أماتوها وعاشوا بعدها".
وقد جاءت "السفور" امتدادًا للجريدة في اتجاهاتها التجديدية، ذلك أن "للسفور معنًى أشمل مما يتبادر إلى الذهن عند سماع هذه الكلمة"4.
1، 2، 3 مذكرات طه حسين ص38.
4 السفور في 21 مايو 1915.
ويمتد هذا المعنى إلى كشف النقاب عن المجتمع التقليدي "فنحن أمة محجبة على حقيقتها، لا تتفق مع ما فُطِرَت عليه في شيء"1.
وفي "السفور" يختم طه حسين مرحلة التكوين الصحفي التي بدأها في سنة 1908، موزِّعًا جهوده بين الأزهر والجامعة المصرية، بين الجريدة وصحف الحزب الوطني، حتى انتهت تلك المرحلة بحصوله على الدكتوراه في الآداب سنة 1914، وسفره إلى فرنسا، ويحدد موقفه من بيئة التكوين الصحفي حين يؤثر امتداد الجريدة في "السفور"، ويستمر مع تلاميذ الجريدة في أداء رسالتها التجديدية، في فترة وهنت فيها الحياة الأدبية والصحفية وهي فترة الحرب2، ولذلك جعلوا من أنفسهم كما يقول محرر السفور -عبد الحميد حمدي3- "جيل التضحية" الذي "يحتاج إلى شجاعة، وأسمى أنواعها الشجاعة الأدبية؛ لأن التضحية بالنفس هينة، وإذا كان لا بُدَّ من جيلٍ يضحي بنفسه لمصلحة بلاده، سواءً اليوم أو غدًا فهل يرضى جيلنا هذا أن يسميه التاريخ في الغد جيل التضحية"4.
ونخلص مما تَقَدَّمَ إلى أن الدكتور طه حسين قد تمثَّل بيئة التكوين الصحفي في مقاله، كما تمثَّل تياري القديم والحديث في ثقافته، وأخذ مزاجه المصري من الثقافة الأجنبية ما يلائمه، وعدَّلَ فيه وأضاف إليه، وهو الأمر الذي تبين آثاره في مقاله بعد عودته من فرنسا، ومشاركته في الخدمة العامة من طريق الكلمة، والمقال الصحفي خاصة، وتكون السياسة المصرية والحياة المصرية قد انتقلت إلى طور جديد بعد ثورة 1919، وتمثل لنا المقال الصحفي فنًّا أصيلًا في مزاج جيله له في أبدنا تقاليد مكينة، كما تبين من دراستنا لمصادرها في القديم والحديث، وهي المصادر التي كانت بيئة التكوين الصحفي مهيأة لتمثلها نتيجةً لإحياء القديم، كما يحدث في النهضات القومية، ولتعقيل الحياة المصرية، والتوفق بين الثقافتين، الأمر الذي نجد آثاره في اتجاهات المقال الصحفي عند طه حسين، والتي تَنُمُّ عن تمثله للحيوات القومية والسياسية والاجتماعية والفكرية، وللثقافة الفرنسية في نهاية الأمر.
ومن آثار ذلك في بيئة التكوين الصحفي اتجاه طه حسين في اتجاهاتها سياسيًّا واجتماعيًّا وأدبيًّا ولغويًّا، وهي اتجاهات تنمُّ عن تمثُّل مصادر الثقافة، والاتجاه القوي نحو التجديد، فلم يعد أسلوبه يميل إلى الغريب أو المحسنات كأثرٍ للبيئة السلفية في مقالاته الأولى، ولكنه اتجه بأسلوبه إلى السلاسة والسهولة، وهما الصفتان اللتان أصبحتا من مميزات أسلوبه في الصحافة والأدب من بعد، ورسم لمقاله غاية تتمثَّل في "إثارة التفكير لدى القراء"4 ودعوتهم إلى "قراءة ما يكتب5، وهو الأمر الذي ظلَّ من لوازم مقالاته الصحفية من بعد، وغدت أكثر حجية ومنطقية كنتيجة مستفادة من دراساته العربية والأوربية.
1 السفور في 21 مايو 1915.
2 هاملتون جب: مرجع سابق ص349.
3 السفور في 31 أغسطس 1917.
4، 5 الجريدة في 28 أكتوبر 1910.