الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
4-
الرسائل المقالية:
يكشف هذا الفن المقالي في صحافة طه حسين عن عناصر أصيلة ومظاهر تجديدية في آنٍ معًا، فهو يلتقي مع الرسائل -المقالات في تراثنا العربي، كما يلتقي مع رسائل فولتير ومونتسكيو، كما سيجيء، ويلتقي مع فنِّ المقال بمفهومه الحديث، وفي تراثنا العربيِّ وجدنا شكل الرسائل يقترب بها من أن تكون مقالات، توشك أن تكون أحيانًا مقالات مطوَّلة تدرس أفكارًا طارئة أو دافعًا جديدًا، وهي أحيانًا مقالات موجزة توشك أن تكون معالجة آنية لحدث يومي طارئ1، وهي أحيانًا موضوعية، وأحيانًا ذاتية، بعضها يغلب عليه أن تكون الفكرة وحدها هي التي تتحكم فيه، وبعضها تتعاون فيه مقتضيات الفكرة وطرق الأداء لتصرفه على هذا النحو أو ذاك2. ومن ذلك ما نجده في رسائل الجاحظ التي تقترب أن تكون خطوة واسعة جدًّا على طريق المقال المعاصر، فيها الموضوع الذي يشغل الذهن أو الحادثة التي تملأ القلب، وفيها التفكير في هذا الموضوع، وفيها الخلاص من ذلك إلى التعبير عنه بنوعٍ من الأداء، يجمع بين عمق الفكر وجمال العرض، ويطول ذلك أو يقصر تبعًا لكثير من الظروف والمناسبات. ويتوسَّل طه حسين بهذا الفنِّ الأصيل في تراثنا العربي توسلًا وظيفيًّا هادفًا في أداء الفكرة السياسية أو الاجتماعية، التي تمثّل منطلق الرسالة المقالية وهدفها في صحافته. ذلك أن هذه الرسائل المقالية في صحافة طه حسين تضع الذيوع العريض الذي يتناول الكتلة الكبرى من الناس ويتصل بالجماهير، هدفًا رئيسيًّا لها، ومن هنا تكتسب عناصر الأصالة في مقال طه حسين وظائف صحفية حديثة، تصل بين صحافته وبين الذيوع في الحياة العملية، وتأخذ الرسائل الجاحظية في مقال طه حسين بعض صفات المقال الحديث: الوصول إلى أكثر مَنْ تستطيع أن تصل إليهم مِن الناس.
ونرى أن الرسائل الجاحظية من أنسب أساليب المقال في تراثنا لأداء هذه الوظائف الصحفية الحديثة، لما تمتاز به من اليسر والمرونة وسهولة اللفظ والموسيقى، الأمر الذي يظهر لنا في توسّل طه حسين بهذا الشكل المقالي في "مرآة الضمير الحديث" الكتاب الذي ضمَّ مقالاته الجاحظية، وقد صدر أولًا
1، 2 د. عبد العزيز شرف: فن المقال الصحفي، مرجع سبق.
بعنوان "نفوس البيع"1، عام 1949، ثم باسم "مرآة الضمير الحديث" بعد ذلك، في ظروف سياسية اقتضت التوسُّل بالرمز، على النحو المتقدِّم، لترمز إلى "مظاهر كنا نبغضها ولا نستطيع أن نتحدث عنها في صراحة أثناء تلك الأيام السود"2 التي انقطعت فيها الصلة بين النظام السياسي والشعب3، وشاع الملق السياسي، وانتشرت الرِّشْوَة في ظلِّ نظام أصاب طه حسين نفسه بالاضطهاد زمنًا طويلًا "لأنه يملأ الصحف حديثًا عن المعذَّبين في الأرض، فإذا أراد الصحفيون أن ينتخبوه نقيبًا تدخل الملك في الأمر، وأرسل إليه الوزير محمد هاشم يقصيه عن هذا المنصب الذي يتم الاختيار فيه بالانتخاب، تحاشيًا لغضبه من جهة، وإرضاء لرجله إدجار جلاد الذي كان يطمع في المنصب من جهة أخرى"4.
ومن ذلك يبين الارتباط بين الرسائل المقالية، والمقال الرمزي من حيث الظرف الاضطراري إلى التوسُّل بالرمز، في التعبير عن المضمون السياسي والاجتماعي من خلال "رسائل تنسب إلى الجاحظ، وأراها محمولة عليه؛ لأن تكلُّف التقليد فيها ظاهر"5، وهو ليس تقليدًا في ذاته، وإنما يتوسَّل به في أداء وظائف المقال الصحفي الحديث من خلال هذا الشكل في الرمز والتلميح. على الرغم من إيهام "الرقيب" أن هذه الرسائل "للجاحظ وغير الجاحظ من كُتَّاب القرن الثالث والرابع للهجرة، ولم أكد أنظر فيه حتى بهرني وسحرني، وكرهت أن أوثر نفسي بقراءته، فجئت أظهرك عليه وأشكرك في الاستماع به"6.
ويشير أسلوب هذه الرسائل المقالية في صحافة طه حسين إلى الخصائص الجاحظية في الكتابة، والتي يمثِّلُها التحرير المقالي في صحافته، من أهمها: الإسهاب والاستطراد، واتساع العبارة، وجذب القارئ، وسحبه بلطف ومهارة، ثم هي مدرسة تُعْنَى كذلك بالتأليف بين الألفاظ بعضها وبعض من جهة، وبين المعاني بعضها وبعض من جهة ثانية7.
وتظهر هذه الخصائص في الرسائل المقالية عند طه حسين، من خلال استخدام وظيفي في التصوير والتعبير الواقعي البسيط، عن الواقع السياسي والاجتماعي في مصر وصف ملامسة وعيان، فلا تَحْلِيَة ولا تَعْرِية حتى تحاكي
1 ضمن مجموعة كتب للجميع.
2 المعذبون في الأرض ص12.
3 محمد زكي عبد القادر: محنة الدستور ص138.
4 أحمد بهاء الدين: فاروق ملكًا ص24.
5، 6 مرآة العصر الحديث ص1، 7.
7 الدكتور عبد اللطيف حمزة: مرجع سبق 187.
الأصل في كل شيء مع فضل من جمالٍ في الأسلوب والسياق، وهو يبدأ "رسالة الشكر والكفر"1 بالدعاء لمحمد بن عبد الملك الزيات"2 كما بدأ الجاحظ "رسالة التربيع والتدوير" بالدعاء لأحمد بن عبد الوهاب3، ثم يمضي في رسالته على النحو الذي يبدو في رسائل الجاحظ من السخرية والتحذير، من النظام السياسي في مصر، ومن ظاهرة "الرضاء السامي"4 التي ترتبط بالملك السابق، والتي أصاب منها طه حسين شرًّا كثيرًا5، كما يبين من "الشكر والكفر"، ومن ارتباط أحداث الرسائل ووقائعها التي قد تُعْرَف في الرمز، بسياق الحركة العامة للأحداث في مصر من حوله،
…
"قلت لصاحبي: أجاد أنت في إضافة هذا الكلام إلى الجاحظ؟ قال وهو يغرق في الضحك: ما أكثر ما أضاف الجاحظ إلى الناس ما لم يقولوا، فما يمنعني من أن أضيف إليه ما لم يقل..! "6.
ومن الخصائص الجاحظية في رسائل طه حسين المقالية، كذلك ظاهر الاستطراد في أسلوبه، والعناية الظاهرة بجرس اللفظ، وموسيقى العبارة، وتقطيع الكلام قِطَعًا متوازنة، نستطيع أن نقف عند كل واحدة منها، فنحن عندما نقرأ مقالًا لطه حسين، أو نقرأ للجاحظ، لا نحسُّ عسرًا في فهمه بل نجد يسرًا ومرونة7؛ فالنثر عند طه حسين شأنه شأن نثر الجاحظ، لا يلذّ العقل وحده ولا الشعور وحده، ولكنه يلذُّ العقل والشعور والأذن أيضًا، لأنه قد نُظِّمَ تنظيمًا موسيقيًّا وأُلِّفَ تأليفًا خاصًّا له نسب خاصة، فهذه الجملة لها هذا المقدار من الطول، وهذه الجملة تناسب هذا الموضوع، وإذا قصرت هذه الجملة لاءمتها تلك الجملة، وإذا ضخمت ألفاظ هذه الجملة كانت الجملة التي تليها على حظٍّ من السهولة8. ومن ذلك ما جاء في "رسالة الأمر والنهي"9: "
…
وخشيت أن يتجاوز الديوان إلى مجالس الأشراف في قصورهم، والقوّاد في جنودهم، والعامة في أنديتهم ومجالسهم، فيتحدث الناس عنك بما لم يتحدثوا بمثله عن الوزراء من قبلك، وتقع في نفوسهم لك مهابة تقوم على الخوف والبغض، ولا تقوم على المحبة والتجلة، وشَرُّ ما يتعرض له أصحاب السلطان أن يهابهم الناس خوفًا ورهبًا، وخير ما يتاح لأصحاب السلطان أن يهابهم الناس
1، 2 مرآة الضمير الحديث ص7، 8، 9.
3 من حديث الشعر والنثر ص57.
4، 5 أحمد بهاء الدين، نفس المرجع ص24.
6 مرآة الضمير الحديث ص17.
7، 8 من حديث النثر والشعر ص63.
9 مرآة الضمير الحديث ص19، 24.
حبًّا وإكبارًا، وطمعًا فيما عندهم من الخير، ورغبة فيما يجدون عندهم من البر والمعروف"1.
ومن ذلك يبين ارتباط هذا الشكل الجاحظيّ بأحداث الواقع السياسي والاجتماعي في مصر، وما ألمَّ به من فساد وانتكاس للدستور.
"واعلم جُعِلْتُ فداك أن الزمان لا يثبت، وإنما هو مُنْطَلِقٌ دائمًا، وأن الأيام لا تستقر، وإنما هو نهار يتبعه نهار، والأحداث في أثناء ذلك تحدث، والخطوب في أثناء ذلك تلم، والنوائب في أثناء ذلك تنوب، والوزراء يولون ويعزلون، والحكام ينصَّبون ويُصْرَفون، والدنيا تُقْبِلُ وتُدْبِرُ، والحوادث تحلو وتَمُرُّ، والرجل اللبيب من اعتبر بهذا كله فلم يُسْرِفْ على نفسه، ولم يسرف على الناس، ولم يقدم بين يديه من العمل ما يسوءه في الدنيا ويجزيه في الآخرة"2.
وفي "رسالة الأمر والنهي" يتناول بالنقد اللاذع ما تعرضت له الحرية من رقابة صارمة، وقوانين كثيرة "تحمي الملك وتمنع التعرض له أو لحاشيته بأهون السوء"3.
يقول طه حسين: "وأنت بعد ذلك لا تستيطع أن تعقل الألسنة المنطلقة، ولا أن تحطِّم الأقلام المشرعة، ولا أن تمنع القلوب من الشعور، والعقول من التفكير، فدع الناس ومايشاءون أن يقولوا فيك من الخير والشر، ومن الحمد والذم، وانتفع بذلك كله في إصلاح نفسك، وفي تجنب ما يشينك إلى ما يزينك"4.
ونخلص من ذلك إلى أنه طه حسين، قد انتقل بالرسائل الجاحظية إلى متطلبات الذيوع والانتشار، موظفًا إياها لوظائف المقال الصحفي، في أسلوبٍ تحريري أقدر وأوسع للمعاني والمواقف الصحفية يتناولها من جميع وجوهها، دون أن يحول بينه وبين الاتجاه فيما يريد "شرط من الشروط التي كانت تقيد الشعراء. ونجد هذا واضحًا عندما نقرأ الرسائل الكثيرة التي صدرت عن كُتَّابِ القرن الثالث، وبنوع خاصٍّ عند الجاحظ"5.
على أن الرسائل المقالية في صحافة طه حسين، تتمثَّل إلى جانب هذه الخصائص الجاحظية، خصائص أخرى مستفادة من ثقافته الأوربية، كما في "الرسائل الفارسية" لمونتسكيو، و"الرسائل الإنجليزية" لفولتير، وغيرها،
1، 2 مرآة الضمير الحديث ص19، 24.
3 أحمد بهاء الدين: مرجع سبق ص108.
4 مرآة الضمير الحديث ص26، 27.
5 من حديث الشعر والنثر ص56.
يتوسَّلُ بخصائصها مع الخصائص الجاحظية في النقد والتوجيه من خلال شكل الرسائل.
وقد ظهرت الرسائل الفارسية لمونتسكيو، في عصر يشبه عصر رسائل طه حسين في عصر الوصاية، ووسط فورة الأفكار والأهواء الخاصة1، ولذلك اتسمت بنقد النظم السياسية وتشخيص الداء، كما نجد في رسائل طه حسين التي "وقعت له ولم يعرف، على طول البحث، وشدة الاستقصاء كاتبها، ولا من كتب إليه"2. يتوسَّلُ فيها بالرمز الذي شاع بين الصحف المصرية جميعًا "وكان الملك يثور ويغضب بسببها، ومن حوله لا يدرون ما يصنعون، وأصدر أمره مرَّةً إلى فؤاد سراج الدين أن يصدر قانونًا يمنع نشر أيَّ خبر إلّا بذكر اسمه صراحة"3. ولذلك يقول طه حسين في رسالة بعنوان: "قلب مغلق"4.
"إنما أنت رجل محصَّن، لا يبلغه العدو ولا يصل إليه الصديق، وأكاد أعتقد أن ليس لك عدو ولا صديق. شُغِلْتَ بنفسك حتى يئس الناس منك، وأعرض الناس عنك، فلم يطمع فيك منهم طامع، ولو قد فعل لما نال منك شيئًا، ولم يعطف عليك منهم عاطف، ولو قد فَعَلَ لما نالك منه شيء، والناس مع ذلك لا يرون شيئًا من هذا الحصن المؤشب الذي حصَّنْتَ فيه نفسك، ولا من هذه الحُجُبِ الصِّفَاق التي قامت بينك وبينهم"5.
ويوظِّفُ هـ حسين رسائله الفنية في النقد الهجائي للنظام الاجتماعي والسياسي في مصر "1946-1949" كما فعل "مونتسكيو" في نقده الهجائي لفرنسا "1711-1720"6، بما في النظام المصري من إقطاع بغيض يجلس الملك على قمته7، يمتصُّ دماء أمة الفلاحين وعرقهم؛ يقول طه حسين:
"تسرع إليهم حين ينعمون لتشارك في نعيمهم، على أن ذلك حقٌّ لك لا ينبغي لأحد أن يَرُدَّكَ عنه أو يجادلك فيه، ولعلك تأخذ من هذا النعيم -إن أتيح- بحظٍّ أعظم من حظوظهم، ولعلك تنظر إليهم وهم يأخذون بحظوظهم المتواضعة الضئيلة، ساخطًا عليهم ضيقًا بهم مزدريًا لهم"8.
1 جوستاف لانسون "وترجمة الدكتور محمود قاسم": تاريخ الأدب الفرنسي جـ2 ص41، 43.
2 مرآة الضمير الحديث ص41.
3 أحمد بهاء الدين: مرجع سبق ص103.
4، 5 مرآة الضمير الحديث ص56، مجلة الهلال في فبراير 1947.
6 جوستاف لانسون: مرجع سبق ص43.
7 أحمد بهاء الدين: مرجع سبق ص48.
8 مرآة الضمير الحديث ص59، 65.
إلى أن يقول: "صدقني إنَّ من الخير الكثير لك ولغيرك أن تصدع قلبك قبل أن تصدعه الأحداث، وأن تفتح قلبك قبل أن تفتحه الخطوب، وأن تُشْعِرَ من حولك من الناس بأنك تجد بعض ما يجدون، وتعتقد مثل ما يعتقدون. إنك مثلهم قد خُلِقْتَ من تراب وستعود إلى التراب، وإن الذين يستوون قبل أن يدخلوا الحياة، ويستوون بعد أن يخرجوا من الحياة، ليسوا في حاجة إلى أن يتمايز بعضهم من بعض، ويبغي بعضهم على بعض، في هذه الطريق القصيرة التي يسلكونها بين المهود واللحود"1.
ومن ذلك يبين أن الرسائل المقالية في صحافة طه حسين ليست موجَّهة لشخص بعينه، بقدر ما هي موجَّهة إلى نماذج بعينها في النظام السياسي والاجتماعي، وهي رسائل قاسية وجريئة، تمامًا كما كانت رسائل مونتسكيو2، في مهاجمة رجال السياسة والحاشية وهو يهاجم الملك، حين يبين لنا كيف تتدهور الملكية بحيث نتلمس "روح القوانين" تعلن عن نفسها في رسائل طه حسين، ونذكر من هذه الرسائل رسالة بعنوان:"مصر بين النعيم والجحيم"3، وأخرى بعنوان:"ويل الشجي من الخلي"4، حيث يتوسَّل بضرب الأمثلة المضادة لتدعيم روح مقاله، وبالسخرية لشحذها، وبالإيقاع المعبر الفني، ومزج هذه الأمور بالنقد الذكي الذي يجعل رسائله المقالية في خطورة "رسائل فولتير"5 التي "أحرقت واضطر صاحبها إلى الفرار إلى اللورين"6.
ويختص طه حسين: "فولتير" و"ديدور" بالحب والإكبار، ويذكر أنهما أثَّرَا في تفكيره تأثرًا كبيرًا، ومَلَكَا عليه حياته العقلية وقتًا ما7، ولذلك نجد في رسائله المقالية، كذلك التوسُّل بالقالب القصصي في الرسالة توسلًا وظيفيًّا "فمن الطبيعي أن يكون الأشخاص الذين تجري على أيديهم أحداث هذا القصص رسائل لا غايات"8. ومن أجل ذلك يغدو الأشخاص في رسائل طه حسين نماذج رمزية يوجه إليها الأغراض التي يسعى إليها، والآراء التي كان يريد أن يثبتها أو أن ينفيها، ومن أجل ذلك أيضًا وجدنا في عناوين رسائله تفسيرًا للنمذجة الرمزية، مثل:
1 المرجع نفسه ص65.
2 جوستاف لانسون: مرجع سبق ص43، 44.
3، 4 مجلة الهلال في ديسمبر 1947، مرأة الضمير الحديث ص104-223.
5، 6 جوستاف لانسون: مرجع سبق ص51، 73
7 ألوان ص76، 78.
8 ألوان ص76، 78.
- قلب مغلق1.
-صرعى2.
- نفوس للبيع3.
- مصر بين النعيم والجحيم4.
- الحرية أولًا5.
- لا ونعم6.
- صحائح الأنباء7.
وتقوم هذه النمذجة الرمزية -في الرسائل المقالية- على نماذج لأشخاص من الواقع المصري الذي يراه كل إنسان، ويستطيع أن يلاحظه عن قرب، وأن يتناوله بالنقد والتحليل والتعليل، ولعل من الخصال التي يتفق فيها طه حسين مع فولتير8، هذه البراعة في الأخذ من الحياة الواقعة ما يحتاج إليه، ويضيف إليها ما يحتاج إليه أيضًا، ويرتِّبُ هذا كله كما يريد، ويقدِّمُ لنا منه مزاجًا رائعًا نعجب به أشد الإعجاب لا ننكر منه شيئًا؛ لأن إنكارنا يؤثر في الفكرة الساسية التي أراد أن يعرضها علينا، والتي تعلن عن نفسها في "صحائح الأنباء"، ولتشير إلى "روح القوانين" المصرية، وتتنبأ بسقوط الملكية، ذلك أن الشعب المصري ينظر فيرى "الفساد يحيط بمرافقه كلها، ويتغلغل فيها كلها، ويَحُولُ بينه وبين أن تنتج له بعض ما كان ينتظر منها، فضلًا عن أن تخرجه من الضعف إلى القوة، ومن الانحطاط إلى الرقي، ومن الظلمة إلى النور"9، ولكنَّ هذا الشعب "ما زال مستيقنًا أن من حقه أن يبسط أمله إلى أبعد الآمال والغايات، وأن ينشئ أبناءه على هذه الحياة الواثقة بحاضرها، المطمئنة إلى مستقبلها"10، ثم يكشف عن روح رسائله في هذا التحذير:
-"وأنا بعد هذا كله، أضنُّ بالوزراء والنوَّاب على أن تدفعهم الأثرة إلى أن يقولوا كما قال قوم من قبلهم، فهلكوا وأهلكوا: لنعش نحن وليأت من بعدنا الطوفان"11.
1 مجلة الهلال، فبراير 1947، مرأة الضمير الحديث ص55.
2 مجلة الهلال، أبريل 1947، المرجع السابق ص78.
3 مجلة الهلال في مايو 1947، المرجع السابق ص86.
4 مجلة الهلال في ديسمبر 1947، المرجع السابق ص104.
5 مجلة الهلال في يناير 1948، المرجع السابق ص113.
6، 7 مرآة الضمير الحديث ص113، 142.
8 ألوان ص78.
9، 10، 11 البلاغ في 11 مايو 1948، بين ص102، 103.
ونخلص من ذلك جميعًا إلى أن الرسائل المقالية، شأنها شأن أساليب التحرير في مقاله، ترفدها عناصر أصالة، ومظاهر تجديد في تيار وظيفيٍّ عام، يميز فنَّ المقال في صحافة طه حسين عن صحافة الإنشاء والخطابية، وينبع من رؤيا صحفية عملية تزخر بالأفكار وتحويل المقالات السياسية إلى نوع من التوعية العلمية الاجتماعية، التي تستند إلى الاستقراء والتحليل "لصحائح الأنباء" بتعبير أبي العلاء، مهما تكن الأحداث والخطوب والظروف. ذلك أن طه حسين، شأنه في ذلك شأن فولتير "صحفي عبقري" كما يصفه "لانسون"1 من حيث التأثير في الرأي العام، وتوجيهه إلى جميع النتائج التي تقتضيها الاستراتيجية القومية، متوسلًا بفنون مقالية جديدة يعرض فيها أفكاره، ويصوغها على نحوٍ ييسر الاتصال بالجماهير، تمتاز بالسخرية الهادفة التي تنبع من العقل، على نحو ما نجد في الرسائل المقالية، وفي المقال الرمزي خاصة، ذلك أن إشعار النماذج -كما يقول فولتير2- بالنقص في التفكير عن طريق السخرية والمسخ يصلح من أنفسها، وهذه الطريقة التي تتبع في تقدير الأشياء بالعقل لا بالعاطفة "طريقة فرنسية إلى أكبر حد"3، تمثِّلُ مظهرًا من مظاهر التأثُّر في صحافة طه حسين، التي تتمثَّل كذلك وضوح الأسلوب ونقاءه وسلامته ووظيفيته الهادفة في نهاية الأمر.
1 جوستاف لانسون: مرجع سبق ص79، 81.
2، 3 جوستاف لانسون: مرجع سبق ص79، 81.