الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كما يقول أصحاب الاقتصاد"1. وهو لذلك يتصور مقاله شكلًا ومضمونًا قبل أن "يملأ ما بين الخطوط"2، لأن القارئ -في رؤياه- ليس "قابلًا فحسب، ولكنه قابلٌ من جهة، وفاعلٌ من جهة أخرى، أمره في ذلك كأمر الكاتب بالضبط؛ لأن الكاتب قابل "مستقبل" حين يتأثر بالعالم الخارجي، وفاعل "مرسل" حين يعيد إنشاء هذا العالم الخارجي. والقارئ متأثر حين يتلقَّى الرسم التخطيطي الذي دعاه الكاتب إلى النظر فيه، وهو منشئ حين يملأ ما بين الخطوط، ويتمِّمُ مما بدأ لكاتب من الرسم والإنشاء3"، والكاتب عند طه حسين لا ينشئ "أثرًا واحدًا حين يؤلِّفُ عملًا واحدًا، وإنما ينشئ آثارًا لا تحصى، أو قل: آثارًا بمقدار ما يُتَاحُ له من القراء"4. وإذن فأساليب التحرير في المقال "شركة بين الكاتب وقرائه5 تقوم على تعمُّد القراءة والفهم من قِبَلِ القارئ، وتعمد إذاعة هذه الأساليب من قِبَلِ الكاتب6.
وعلى ذلك فإن الرؤيا الإبداعية في مقال طه حسين لا تحدد موقفه من عصره ومن مؤلفاته ومقالاته فحسب، وإنما تكشف عن الجوانب الفنية في أساليب تحريره، وتشهد على الخصائص المطلوبة في الكاتب في النصف الأول من هذا القرن. الأمر الذي يتيح لنا التعرُّف على الرؤيا الفنية المتكاملة في مقال طه حسين، التي لا يمكن أن ينفصل فيها الكاتب عن إنتاجه.
1، 2، 3 ألوان ص281، 283.
4، 5، 6 المرجع السابق، ص284.
الرؤيا الفنية في مقال طه حسين
…
الرؤيا لفنية في مقال طه حسين:
وتأسيسًا على ما تَقَدَّمَ، فإن أساليب التحرير في مقال طه حسين تنبع من رؤياه الفنية، التي تحدد التنظيم الشكلي لأجزائه، وطبيعة كل جزء من هذه الأجزاء، والقواعد التي تحدد وتحكم العلاقة بينها، ذلك أن طبيعة طه حسين ومقوماته في الاتصال الصحفي، واتجاهاته نحو قرائه، كلها اهتمامات متشابكة متداخلة تضفي على أجزاء الرؤيا الفنية في مقاله قدرًا كبيرًا من التماسك والترابط.
ومن الطبيعي -إذن- أن تتجه هذه الريا الفنية عند طه حسين إلى خَلْقِ أساليب فنية جديدة في تحرير المقال، مما دفعه في كثير من الأحيان إلى الخروج على الأشكال المألوفة، وإلى توسيع الأبعاد الفنية للمقال إلى مستوى التنبؤ العام الشامل، في محاولة التوفيق بين هذه الرؤيا وبين الاستجابة لموضوعات الساعة والقضايا المباشرة، ولضرورات وسيلة الاتصال الصحفي بالجماهير.
ذلك أن هذه الرؤيا الفنية تخلق نموذجًا خاصًّا للعالم وللأشياء، وهذا النموذج في الاتصال الصحفي يجب ألا يكون بعيدًا عن الأصل والواقع الملموس، فالجتمع الحديث -كما يقول والتر لبمان1- لا يقع في مجال الرؤية المباشرة لأحد، كما أنه غير مفهوم على الدوام، وإذا فهمه فريق من الناس، فإنَّ فريقًا آخر لا يفهمه2، وهنا تحدد الرؤيا الفنية أساليب التحرير الصحفي في الشرح والتفسير والتكامل، من خلال معرفةٍ واعيةٍ بالقوانين الداخلية المنطقية الموضوعية التي تحكم فن التحرير الصحفي، وفي الوقت نفسه لا يتعارض هذا الفهم مع حرية الإبداع والتماس الأساليب الجديدة في التعبير الفني، وحق الكاتب في نقد الأخطاء المتصلة بالناس والمجتمع. وهنا تفتح أبواب التجديد أمام التجربة الاتصالية التي لا تنبع من مقدمات تعسفية مغرقة في الذاتية، فالشكل الفني ليس مجرد "تقنية"، أو قوقعة مغلقة على نفسها، ذلك أن التعبير عن المضمون يتمُّ من خلال الشكل وفي إطاره، وهنا يكون واجب الكاتب ابتداء أن يظاهر تقاليد فن القول في أمته، على نحو ما تبيَّنَ من عناصر الأصالة في مقال طه حسين.
غير أن مراعاة عناصر الأصالة تلك لا تعني التمسك بقوالب معينة في فن القول، أو التشبث بأهداف قوالب جامدة في كتابة النثر، ذلك أن مفردات المعاجم ذاتها تتغيَّر مدلولاتها كل عشر سنوات تقريبًا، وإن كان هذا لا يشوّه هيكل اللغة نفسها، ويحدد طه حسين موقفه من هذه المسألة بقوله3:
"وما أحب أن يظن القارئ أني أريد أن تكتب الصحف بلغة الحريري في مقاماته، فلست أبغض شيئًا كما أبغض لغة الحريري في تلك المقامات، ولا أريد أن تكتب الصحف بلغة الجاحظ وأمثاله من كُتَّابِنَا القدماء، فقد انقضى عصر أولئك الكُتَّابِ وأصبح مذهبهم في الكِتَابة لا يلائم العصر الذي نعيش فيه، ولا يلائم الصحف بنوع خاصٍّ، وإنما أريد أن تُكْتَبَ الصحف بلغة هذا العصر الحديث"4.
وعلى ذلك فإن فن المقال في أدب طه حسين يأتلف من عناصر الأصالة والتجديد جميعًا، ويؤلِّفُ بينها وبين طبيعة العصر الحديث ووسيلة الاتصال الصحفي بالجماهير، وأغراضه ومراميه ومستويات جماهيره، ومنازعه السياسية والاجتماعية والفلسفية والاقتصادية والعلمية والأدبية بمدلولها الحصري، حتى لا يتبقى باب من أبواب الإعلام والمعرفة والإنسانية إلّا وطرقه هذا المقال الصحفي،
1، 2 الدكتور إبراهيم إمام: مرجع سبق ص7، 11.
3، 4 جريدة الجمهورية في 20 أغسطس 1960.
وما يعنيه من التوصُّل إلى أوسع جمهور وبلوغ الاقتناع. وهو لذلك يحتفظ بأصوله التقليدية ولا يستعصي على التطور، مدركًا لقوانين التجديد، وتوطين فنون التعبير الحديثة وتطويرها عند العرب كما يفعل أصحابها من الغربيين1. فالرؤيا الفنية في مقاله طه حسين تشمل إحياء فنون مقالية في التراث القديم، مثل: الرسائل المقالية، وفن الهجاء الذي أتقنه الجاحظ وقصر فيه من جاء بعده من الكُتَّاب، فقد أصبح هذا الهجاء السياسي2 من أهم فنون المقال الصحفي -عند طه حسين، ونعني فن المقال النزالي. كما تشمل عناصر التحول والانتقال، كما يسميها "كونت"3، والتي تقتضي استحداث فنون تلائم العصر الحديث4، في الشكل والموضوع5 والتنوع والعمق6، كما تلائم وسيلة الاتصال الصحفي التي تَصِلُ الكاتب بكل قارئ أو "قل: بكل إنسان، وليس بد للصحفي من أن يكتب لهؤلاء جميعًا"7.
وتأسيسًا على هذا الفهم للرؤيا الفنية عند طه حسين، فإن فنون المقال في هذه الرؤيا، في حركة دائبة بها تتغير قليلًا في اعتبارتها الفنية، من طور إلى طور، في ظل الاستراتيجية القومية لديه، والاعتبارات الاجتماعية المرتبطة حتمًا بالأصول الفنية التي تقوم مقام الحجة والإقناع في المنطق، وتتحكم في وسائل التصوير والصياغة الجزئية في نطاق فن المقال.
على أن هذه الرؤيا الفنية، لا تفصل بين أجناس المقال الرئيسية الثلاثة: المقال الأدبي، والمقال العلمي، والمقال الصحفي، وإنما توظِّفُها جميعًا لأداء وظائف الفن الصحفي، وتقرِّبُ بين مستوياتها اللغوية لتحقيق التكامل الاجتماعي، كما تَقَدَّمَ، والتعبير عن أمور اجتماعية وأفكار عملية من خلال أدوات وظيفية اجتماعية وفرية تتقدَّم على أية ناحية أخرى؛ كالمتعة الفنية على سبيل المثال.
وفي ضوء هذا الفهم، تتنوع فنون المقال في صحافة طه حسين تنوعًا يرتبط برؤياه الفنية، وتوسله بالاتصال الصحفي بجماهير القراء، وهي الوسيلة التي بنت له "مجدًا وجعلته من قادة الرأي"8، الأمر الذي يذهب بفنونه المقالية إلى التنوع لتعرض "للأدب والنقد ولفنون الحياة على اختلافها"9، وهو التنوع الذي لا يقصد به إلى "فرد من الناس، ولا إلى جماعة محدودة منهم، وإنما ينشئه لبيئته التي يعيش فيها، ولهذه البيئة كلها"10، وهو واثق
1 من أدبنا المعاصر ص157.
2، 3، 4 ألوان ص17، 27، 20.
5، 6 المرجع السابق ص25، 26، 27.
7 من أدبنا المعاصر ص169.
8، 9، 10 خصام ونقد ص7، 6، 48.
بأن فنه سيفهم ويذاق1؛ لأنه يلائم ما كان" يملأ الدنيا حوله من الأحداث، وما كانت تدفع الدنيا إليه من تطور"2، ويلائم كذلك ضرورات "عصر السرعة"3 الذي يعدل وقتنا فيه "الأضعاف المضاعفة من وقت القدماء"4، وتزدحم فيه حاجتنا الكثيرة "وتختصم، وتتدافع ويصدم بعضها بعضًا، ويناقش بعضها بعضًا في كثير من الأحيان"5. وتوشك "ألا تترك لنا شيئًا من الوقت لنستأني بالتفكير أو سَمِّه شيئًا من الجهد لنتأنق في التعبير"6 كما يلائم في مقاله بين تحريره وضرورات الصحف التي "تقتضيها السرعة والدقة والنظام؛ فالكاتب رهن بكل هذه الضرورات"7.
ويذهب طه حسين إلى أن فن المقال الصحفي ليس "بالكلام السوقة الذي لا قيمة له، ولا هو بالأدب الرفيع الذي يكلِّفُ صاحبه الكَدَّ والجدَّ والعناء، وإنما هو فنٌّ وسط يحتلُّ منزلة بين المنزلتين، في أكثره من الأدب روح وفيه مع ذلك من اليسر والسهولة واللين والمؤاتاة ما يلائم السرعة والانتظام"8. ذلك أن "الحاجة والصحيفة والمطبعة اقتضت أن يكتب ويقدِّم وينشر في أوقات معينة، وفي موضوعات لعلها لم تكن تخطر للكاتب على بال، ولعل كثيرًا منها أن يكون قد فجأ الكاتب على غير توقُّعٍ له، ولعل بعضها أن تفرض الكتابة فيه على الكاتب فرضًا"9. ولكن أساليب التحرير في المقال الصحفي تهتم مع ذلك بالمضمون اهتمامًا وظيفيًّا، فهي ترمي إلى إيضاحه في يسر وجلاء، تعبر عَمَّا تريد في وضوح وبساطة وقوة".
وعلى ذلك فإن التمييز بين الأجناس المقالية لم يعد مجديًا أمام ضرورة وسيلة الاتصال الصحفي بالجماهير، ذلك أن الأدب نفسه قد اتسع ميدانه، وتنوعت مستويات الإبداع فيه، فكان منه أدب مسرح وأدب صحافة، وأدب إذاعة وسينما، ثم كان لكلٍّ من هذه الأنواع بلاغتها، وطرائق كتابتها، وموازين نقدها المتجددة.
وتأسيسًا على هذا الفهم، فإن الرؤيا الفنية في مقال طه حسين، ترتبط بنوع الوسيلة التي تحمل المقال إلى الجمهور، ثم بطبيعة مادته وصياغته؛ بحيث يمكن القول: إن هذه الرؤيا الفنية قد أحدثت تقاربًا فعليًّا بين الأجناس المقالية، وكادت تجعل منها جنسًا واحدًا يتنوع فنونه، التي تغدو جميعًا مقالات صحفية لما تمتاز به من عناصر "الحالية والحيوية والاستجابة لاهتمامات الجمهور، والصياغة القريبة إليهم.
1، 2، 3 المرجع السابق ص48، 76.
4، 5 المرجع السابق ص76.
6، 7، 8 المرجع السابق ص76، 78.
9 المرجع السابق ص79.