المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ طه حسين كاتب المقال الرئيسي: - فن المقال الصحفي في أدب طه حسين

[عبد العزيز شرف]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة:

- ‌الفصل الأول: الدكتور طه حسين ومدرسة الجريدة

- ‌مدخل

- ‌بيئة المقال الصحفي في مصر

- ‌مدخل

- ‌ البيئة المصرية:

- ‌ الاتصال بالحضارة الأوربية:

- ‌ الحياة السياسية:

- ‌ الحياة الفكرية:

- ‌ الحياة الاجتماعية:

- ‌مدرسة الجريدة

- ‌مدخل

- ‌ مدرسة الجريدة وجيل طه حسين:

- ‌ طه حسين ولطفي السيد:

- ‌الفصل الثاني: طه حسين وبيئة المقال الصحفي في مصر

- ‌مدخل

- ‌ طه حسين والبيئة الأولى:

- ‌بيئة التكوين الصحفي:

- ‌ طه حسين والبيئة الثانية:

- ‌الفصل الثالث: طه حسين وبلاغة الاتصال بالجماهير

- ‌مدخل

- ‌عناصر الأصالة والتجديد:

- ‌بين التقليد والتجديد:

- ‌بلاغة المقال الصحفي:

- ‌بلاغة الاتصال بالجماهير في مقال طه حسين

- ‌مدخل

- ‌التبسيط والنمذجة الصحفية:

- ‌الأسلوب الواقعي:

- ‌الأسلوب الاستقصائي:

- ‌الأسلوب الاستقرائي:

- ‌الأسلوب الصحفي:

- ‌الفصل الرابع: أًساليب التحرير في مقال طه حسين

- ‌مدخل

- ‌الرؤيا الفنية في مقال طه حسين

- ‌أساليب التحرير في مقال طه حسين

- ‌مدخل

- ‌ المقال القصصي:

- ‌ المقال الوصفي والتقرير الصحفي:

- ‌ المقال الرمزي:

- ‌ الرسائل المقالية:

- ‌الفصل الخامس: طه حسين وفن العمود الصحفي

- ‌مدخل

- ‌فن العمود المتخصص:

- ‌فن العمود الصحفي

- ‌مدخل

- ‌خصائص العمود الصحفي:

- ‌مضمون العمود الصحفي:

- ‌تحرير العمود الصحفي:

- ‌فن العمود الرمزي:

- ‌الفصل السادس: فن اليوميات الصحفية في أدب طه حسين

- ‌مدخل

- ‌بين الذاتية والموضوعية:

- ‌فن المقال الاعترافي:

- ‌فن اليوميات الصحفية:

- ‌الفصل السابع: فن المقال الرئيسي الافتتاحي

- ‌مدخل

- ‌المقال الرئيسي الافتتاحي

- ‌مدخل

- ‌ خصائص المقال الرئيسي عند طه حسين:

- ‌ الوحدة العضوية في بنية المقال الرئيسي:

- ‌ طه حسين كاتب المقال الرئيسي:

- ‌الفصل الثامن: فن المقال النزالي

- ‌الفصل التاسع: فن المقال الكاريكاتيرى

- ‌الكاريكاتير الوظيفي في مقال طه حسين

- ‌طه حسين كاتب المقال الكاريكاتيري:

- ‌العناصر الفنية في المقال الكاريكاتيري

- ‌أولا: عنصر التجسيم للعيوب

- ‌ثانيًا: عنصر التوليد

- ‌ثالثًا: عنصر التشبيه أو التمثيل

- ‌رابعًا: عنصر التضاد

- ‌خامسًا: عنصر التندر:

- ‌الفصل العاشر: المقال التحليلي والتقويم الصحفي

- ‌مدخل

- ‌التحليل الصحفي

- ‌مدخل

- ‌أولًا: "توقيت" المقال التحليلي

- ‌ثانيًا: التعليق على الخبر بعد وقوعه

- ‌ثالثًا: التحليل الصحفي وحركة الأحداث

- ‌التقويم الصحفي

- ‌مدخل

- ‌أولًا: اعتماد التقويم الصحفي على الذوق أو العقل الذي يستخدمه استخدامًا جيدًا

- ‌ثانيًا: إن طه حسين كان شديد الحفل بالأسلوب والوضوح في التحليل والتقويم

- ‌ثالثًا: إتجاه طه حسين في مقاله التحليلي إلى ربط "حدث" التحليل الصحفي بدائرة اهتمامات القراء

- ‌مراجع البحث:

- ‌أولًا: المراجع العربية والمترجمة:

- ‌ثانيًا: الصحف والمجلات

- ‌ثالثًا: أهم المراجع الأجنبية

- ‌ملاحق البحث:

- ‌ملحق رقم "1":نقابة الصحفيين تنعي فقيد الأدب العربي:

- ‌من وثائق الجامعة ملحق رقم "2" كتاب طه حسين إلى رئيس الجامعة الأمير أحمد فؤاد بشأم التقدم للبعثة إلى أوروبا

- ‌ملحق رقم "3": كتاب طه حسين إلى رئيس الجامعة، بشأن ترشيحه للبعثة ألى أوربا

- ‌ملحق رقم "4": صورة كتاب الاستقالة الذي رفعه لطفي السيد إلى وزير المعارف العمومية، بعد إخراج طه حسين من الجامعة في عهد صدقي:

- ‌ملحق رقم "5": نموذج لفنِّ اليوميات الصحفية في مقال طه حسين

- ‌ملحق رقم "7": المقال الأول للدكتور طه حسين في صحيفة "كوكب الشرق" الوفدية

- ‌الفهرس:

- ‌المخطوطات

الفصل: ‌ طه حسين كاتب المقال الرئيسي:

2-

جماعة من المصريين في أبي جرج يظلمون، وتفرض عليهم ضرائب إضافية.

3-

مهازل الدقهلية وعبث الإدارة برجال التعليم الأولى، يريدون الطربوش ولهم في ذلك الحق كل الحق وتريدهم هي على العمامة، جورًا وبغيًا"1.

ثم ينتقل من هذه المقدمة الإخبارية لمقاله، إلى مناقشة كل عنصر من عناصرها، من خلال إحصاءات شاملة لكل مسألة من هذه المسائل الثلاث، بحيث يتحقَّق القارئ أنه لم يغفل شيئًا، ويتدرَّج منها إلى "خلاصة المقال" التي تستطيع أن تحقِّقَ في هذه الفضائح التي تذاع، والتي لا بُدَّ من توضيح الحقيقة فيها، ليعلم المصريون إلى أين يذهبون، وليعلم الأجانب مع من يعيشون. أفتظن أن هذه الوزارة ستضطر إلى أن تترك مناصبها، لتخلفها وزارة أخرى أقدر منها على حماية مصالح الشعب، وصيانة كرامة البلاد، وإقناع العالم المتحضِّر بأن مصر ليست بلد الشر، ولا مستقَرَّ الفساد، وإنما هي بلد متحضر راقٍ كغيره من البلاد المتحضِّرَة الراقية، قد يأثم فيه الناس، ولكنهم لا يلبثون أن يلقوا الجزاء على ما اقترفوا من الآثام"2.

وبهذا المنهج في تحرير المقال الصحفي، تمكَّن طه حسين من تحقيق الوحدة بين دوائر المقال، الأمر الذي يسَّر لهذا المقال أن ينقُدَ ويوجِّه ويعارِض ويؤيد، ولذلك ازدهر هذا المقال الصحفي عند طه حسين في الاتجاه السياسي، الأمر الذي كان له أثره في تنمية الثقافة السياسية العامة للأمة بفضل وسيلة الاتصال الصحفي.

1 المرجع نفسه.

2 المرجع نفسه.

ص: 265

3-

‌ طه حسين كاتب المقال الرئيسي:

على أن طه حسين قد تمتَّع بجملة من الصفات أهَّلته لِأَنْ يستخدم هذا المنهج التحريري في المقال الرئيسي في الصحافة المصرية، منها:

أولًا: أن طه حسين -كما رأينا- قد تمتَّع بحاسَّة صحفية دقيقة يتذوَّقُ بها الأحداث الجارية في محيطه، والأحداث الجارية في خارج هذا المحيط، وقد غذَّت هذه الحاسة الصحفية مصادر ثقافته الواسعة التي تنوعت في ينابيعها، وتكوينه الصحفي في مدرسة الجريدة، واطِّلاعه الناقد على الصحف الفرنسية أو المعبِّرة بالفرنسية، ومتابعته للصحف المصرية والعربية، كما سبق

ص: 265

أن رأينا في شواهد مقاله، التي تشير إلى إلمامه الدقيق باتجاهات كل صحيفة يستشهد بما جاء فيها، بل إن الكثير من مقالات طه حسين، قد حرص على تفسير هذه الاتجاهات السياسية، ومن ذلك وصفه لـ"كاسترو" رئيس تحرير "الليبرتية" الموالية للوزارة النسيمية، بأنه "ذو الوطنية الزجاجية، ذو المصرية المتهمة. كاسترو المصري دون أن يتكلَّم لغة المصريين"1، ويضرب به المثل للصحفيين "الغرباء" الذين يستأجرهم "المصريون ليهينوا المصريين"2. ويصف هذه الصحيفة بأنها "يوحى إليها"3 من الوزارة الإدارية التي تنفق عليها لتنال "من الأحرار الدستوريين"4 وغيرهم، كما يكشف اتجاهات الصحف الوزارية الأخرى مثل صحيفة "الأفكار"5، التي يهبط إليها "الوحي من إحدى السماوات السياسية في مصر وهي كثيرة، بأن هناك خطة سياسية جديدة"6. ويصف صحيفة "الأفريكان ورلد"7 بضآلة القدر وصغر الشأن8، ويسخر مما كتبته "الأفريكان ورلد"9، ويتحدث عن رأيها في الوزارة الائتلافية على أنه حلمٌ من أحلام رئيس الوزراء، وأمنية من هذه الأماني التي تعبث برأس الرجل الضعيف، ولا سيما حين يستريح في ظل "الأهرام"؟! حيث تكثر الصور والأشباح التي تؤرِّق قومًا، وترسل الأحلام إلى آخرين! ولكن "السياسة" و"الأهرام" لم تسخرا مما كتبته "الأفريكان! "10. و"أما" السياسية " فالظاهر أنها خرصت على أن تعيد للناس ما لم يشك أحد فيه من الأحرار الدستوريين" يحرصون على أن "تجتمع كلمة المصريين على مقاومة الوزارة القائمة والذين يؤيدونها من الإنجليز"11.

وتبين هذه الحاسة الصحفية الدقيقة من استخدامه الاستقرائي للعناصر الإخبارية في شواهد مقاله الصحفي، ومن ذلك مقال في "حديث المساء" بعنوان:"موقعه"12، يشير فيه إلى ما نشرته الأهرام من أن "الحكومة دفعت إلى السودان ثلاثة أرباع المليون تعويضًا لمن سيصيبهم الضرر من إقامة الخزان قبل أن تصدر الميزانية، بل قبل أن يقرَّها البرلمان، ودون استئذان للبرلمان في دفع هذا المقدار الضخم من المال لحكومة السودان، فإن يكن هذا حقًّا فلا تفسير له إلّا إحدى اثنتين، فإما أن يكون البرلمان مستعدًا أحسن الاستعداد للنزول عن حقوقه الدستورية للحكومة اعترافًا بجميلها عنده وفضلها عليه.

1، 2 السياسة في أول ديسمبر 1922.

3، 4 السياسة في 9 يناير 1923.

5، 6 السياسة في أول يناير 1923.

7، 8، 9 كوكب الشرق في 3 أبريل 1933.

10، 11 المرجع نفسه.

12 كوكب الشرق في 22 مارس 1933.

ص: 266

وأنا أنكر هذا وأراه بعيدًا، لأن البرلمان حفيظ على الدستور لا ينزل عنه كله أو بعضه لإنسان كائنًا من كان، ومهما يكن له عليه من فضل أو جميل، وإما لأنَّ مرض رئيس الوزراء قد أعدى البرلمان بعض الشيء فأصابه هذا الفتور الشامل الذي يصيب المرضى والمعقدين، فتقصر ذاكرتهم ويقل حظهم من الملاحظة والمراقبة لما يجري حولهم من الحوادث، وما يثور بين أيديهم من المشكلات.. وأكبر الظن إن صحَّ هذا الخبر أن البرلمان لم يتعمَّد الإعراض عن هذا العمل الغريب من أعمال الحكومة، وإنما اضطره النسيان والضعف إلى هذا الإعراض والتقصير، فلعله ذاكر ما نسي، ومقبل على ما أعرض عنه، ومعنيٌّ بما فرض فيه، ومن المحقق الذي لا شك فيه أن مجلس النواب قد أقرَّ أمس قانونًا ينظِّمُ تعيين الأساتذة والمدرسين في الجامعة وتأديبهم، وأُقِرَّ هذا القانون في جلسة واحدة"1.

ومن ذلك يبين أن صلب المقال يقوم على شواهد إخبارية، تُستَخْدَم استخدامًا استقرائيًّا من خلال حاسَّة صحفية دقيقة تتيح للكاتب أن ينفذ إلى مغزى الأخبار، وما يحمله الخبر من المعاني والتنبؤات، وتقوم هذه الحاسة الصحفية عند طه حسين، كما ذهب إلى ذلك في وصف الدكتور محمود عزمي2، على أن يكون الصحفي "من أعلم الناس بمصر، وبما يحدث فيها من الحوادث، ومن يضطرب فيها من الناس، وهو كذلك عالم حق العلم بطبيعة الحياة والأحياء في هذا البلد"3، فالصحفي لا يتصور "الأشياء من بعد، ولا ينتظر من الناس أكثر مما كان ينتظر منهم"4، وذلك أنه يجب أن يكون مقيمًا في قومه "يراهم كل يوم"، ويتحدث إليهم كل يوم، ويرى وقع الحوادث في نفوسهم، ويسمع تعبير ألسنتهم عن وقع هذه الحوادث، واضطراب أصواتهم بما تجد نفوسهم من لذَّةٍ وألم، ومن نعيم وبؤس، ومن سرور وحزن، ويحسُّ في أثناء هذا كله ما تخفيه الضمائر الخفية من رضى وسخط، ومن رجاء ويأس"5. والواقع أن هذه المكونات للحاسَّة الصحفية إنما تنبع من ذات طه حسين وصحافته، التي تقوم على هذه المقومات، وعلى هذه الحاسة الصحفية التي وصف بها صديقه، وهي الحاسة التي تكمن وراء نجاح المقال الرئيسي في صحافة طه حسين، وخاصة في المجال السياسي.

ثانيًا: أن طه حسين قد تمتَّع بحاسَّة تاريخية كذلك، استطاع عن طريقها ربط الماضي بالحاضر، والتكهن بالمستقبل، على أن هذه الحاسة تدعمها أيضًا ثقافة طه حسين التاريخية، التي تشكِّل عنصرًا هامًّا من عناصر ثقافته الصحفية، وإذا كانت معاهد الصحافة في العالم قد لاحظت أهمية هذا العنصر في ثقافة

1 المرجع نفسه.

2، 3، 4 كوكب الشرق في 18 مارس 1933.

5 المرجع نفسه.

ص: 267

الصحفي1، فإن التاريخ عند طه حسين أصبح "ينكر فلسفة التاريخ ويقنع بشيء واحد متواضع، ولكنه جليل الخطر، وهو الوصول إلى استكشاف الحقائق التي وقعت في الماضي استكشافًا علميًّا صحيحًا معتمدًا على البحث لا على الفلسفة، فهو كالكيمياء لا يزعم لنفسه القدرة على تحويل المعادن وإيجاد الذهب، وإنما يزعم لنفسه البحث عن الحقائق من حيث هي حقائق لا أكثر ولا أقل"2.

وتأسيسًا على هذا الفهم، فإن هذه الحاسَّة التاريخية عند طه حسين تتيح لنا "التنبؤ بما سيكون، ما دمنا قد استطعنا أن نعرف ما كان"3 ويذهب طه حسين من ذلك إلى أن "التاريخ فنٌّ يعين على استكشاف المستقبل بفضل ما يعلم من حقائق الماضي"4، ولكنه يذهب إلى أننا قد علمنا أشياء كثيرة، ولكن ليس من شكٍّ في أننا لم نؤت من العلم إلا قليلًا، وفي أن ما نجهله أكثر جدًّا مما نعلمه، وليس من شك كذلك في أننا قد حقَّقْنَا من الرقي شيئًا كثيرًا في حياتنا العاملة والعاقلة"5.

ومن ذلك يبنن أن الحاسَّة التاريخية في مقال طه حسين هي التي تمكِّنُه من ربط الماضي بالحاضر والتكهن بالمستقبل، أو كما يقول في مقال رئيسي بعنوان:"نذير"6.

"قليل من الناس يستطيع أن ينصرف عن حديث اليوم إلى حديث أمس، وقليل جدًّا من الناس يستطيع أن ينظر إلى أحداث اليوم، ويتبين منها أحداث غد. ذلك لأن الحوادث الحاضرة التي تحيط بنا تشغلنا عن الماضي، والمستقبل جميعًا، وتحدُّ أعمالنا وتفكيرنا، فإذا نحن مثلها موفقون في كل ما نأتي وما نقول. ولو قد أتيح لكثير من الناس أن يفكروا في أمس، لاعتبروا بما كان فيه، ولجنبوا أنفسهم شرًّا كثيرًا، ولو قد أتيح لكثير من الناس أن يتبينوا ما ستشكف عنه غدًا أحداث اليوم، لأعرضوا عن كثير من الأعمال ولجنَّبُوا أنفسهم آلامًا كثيرًا، وضروبًا من الخطأ"6 إلخ.

وقد ظهرت آثار هذه الحاسَّة التاريخية فيما كُتِبَ من مقالات صحفية، فهو يقول في المقال المتقدم:

"والظاهر أن الوزراء ورجال الحكم هم أشد الناس إعراضًا عن أمس،

1 الدكتور إبراهيم إمام: مرجع سبق ص213.

2، 3، 4 الدكتور طه حسين:"أدبنا العربي بين أمسه وغده"، مجلة الكاتب المصري أكتوبر 1945، مرجع سبق، ألوان ص17.

5 كوكب الشرق في 9 أبريل 1933.

6 كوكب الشرق في 9 أبريل 1933.

ص: 268

ونفورًا من غد! وهم لذلك أشد الناس تعرضًا للخطأ، وتورطًا في الشر والإثم! وكأن الوزارة كما صورتها جريدة الشعب منذ أيام في تشبيه بديع، خمر معتَّقة لا يكاد يذوقها شاربها حتى ينسى كل شيء! فتمحو من نفسه أمس وتلقي بينه وبين غد حجاجًا صفيقًا! "1.

ثم يذهب بعد ذلك إلى ربط ماضي مصر القريب بحاضرها، ليذكِّرَ الناس بالديمقراطية والدستور اللذين سلبهما صدقي ووزارته.

وقد تعرَّفْنَا فيما تَقَدَّمَ على استخدام التاريخ في مقال طه حسين استخدامًا وظيفيًّا، فهو لا يقف موقف الحكم على صحة القضايا التاريخية أو بطلانها، وإنما يتوسَّلُ بأحداث التاريخ ونتائجه في التوجيه الوظيفي للمقال، فهو يحب الديمقراطية ويؤيدها، وليس المهم عنده صورة الحكم، أو نظام السلطة، وإنما المهم أن يكون هناك تساوٍ وديمقراطية، يضرب لها مثلًا بما شاهده في مؤتمر بلجيكا من ديمقراطية ملكها وحب الشعب له:"لا رقي للشعوب ولا استقرار للعروش إلّا إذا كانت الديمقراطية الصحيحة الواسعة أساس الصلة بين الشعوب والعروش"2.

ولعل طه حسين يتفق في ذلك مع "تين"؛ فكلاهما يبحث عن حلٍّ للقضايا الاجتماعية من خلال نظرته للتاريخ ومراجعته للماضي، وكلاهما يريد تقدُّمَ وطنه وأمته، ويستمِدُّ من التاريخ توجيهًا للسمتقبل3. كما أنهما يتفقان في أن كلًا منهما يجمع من الأعمال قانونًا عامًّا، ويستخدم المنطق ولكن بأسلوبه وصوره4، ونجد آثار ذلك فيما كتبه طه حسين "من بعيد" في صحيفة "السياسة" اليومية، بعنوان: "مؤتمر العلوم التاريخية" يقدِّمُ فيه خلاصة ما دار في هذا المؤتمر، وكان قد قدَّمَ فيه "نصَّ معاهدة دفاعية هجومية" عقدت سنة 692هـ سنة 1292م بين الملك الأشرف خليل بن قلاوون وابن جايم الثاني ملك أراجون وأخويه وصهريه، وكلهم ملوك أسبانيا المسيحية، حاول في موضوعه أن يقوم بمهمتين؛ الأولى: تصحيح هذا النص وتقويم ما فيه من الاضطراب والتحريف، الثانية: إثبات أن هذا النص صحيح من الوجهة التاريخية، وأن هناك معاهدة عقدت حقًّا بين مصر وأسبانيا المسيحية في ذلك العصر5.

ويتضح الاستخدام الوظيفي للتاريخ في مقال طه حسين، من مقال بعنوان:

1 المرجع السابق.

2 السياسة في 27 أبريل 1923، من بعيد ص73.

3، 4 الأب كمال قلته: مرجع سبق ص131، 129.

5 المرجع السابق ص129، السياسة في 26 أبريل 1923.

ص: 269

"دائرة"1 يشير فيه إلى "الشعوب التي فتحت مصر وأخضعتها لسلطانها، وسلطت عليها شيئًا غير قليل من الظلم والجور، فلم تمح شخصيتها، ولم تلهها عن حقها واستقلالها "وقد ذكر" العرب بين هذه الشعوب"2 ولم يذكر الفتح العربي: "وأنا واثق بأن الفتح الإسلامي قد حمل إلى مصر خيرًا عظيمًا؛ لأنه حمل إليها الإسلام، ولكني واثق أيضًا بأن الحكم العربي في مصر لم يكن كله عدلًا وبرًّا، وإنما كثر فيه الجور والبغي على مصر، كما كَثُرَ على غيرها من البلاد الإسلامية بعد أن استحالت خلافة الخلفاء الراشدين إلى ملك قوامه البطش والقوة. وتاريخنا المصري حافل بظلم العُمَّال وبغي الولاة وارتفاع شكاة مصر إلى قصور الخلفاء من بني أمية وبني العباس؛ حيث كانت تهمل كثيرًا وتظفر بإنصاف الخلفاء أو محاولتهم للإنصاف أحيانًا. ولست أكتب هذه الكلمة لأفصِّل تاريخ الحكم العربي في مصر، إنما أريد أن أبيِّنَ لكم ولإخواننا العرب أني حين أشرت إلى العرب في ذلك المقال -"دائرة"- لم أرد غضًّا من أحد، ولا إساءة إلى أحد، وإنما أردت تقرير الحق في نفسه، والدفاع عن حق مصر الحديثة في الحرية والاستقلال"3.

ومن ذلك الرد الذي كتبه طه حسين على ما نُشِرَ في جريدة "فتى العرب"4 الدمشقية حول مقال "دائرة" يبين أن طه حسين يستخدم التاريخ استخدامًا وظيفيًّا، يتضح في هذا المقال من "الدفاع عن حق مصر الحديثة في الحرية والاستقلال". وليس الأمر كما صوَّره السوريون أمرًا "شعوبيًّا"، يهدف إلى الغضِّ من "القومية العربية"، فذهبوا تأسيسًا على تصورهم إلى "النذير بمقاطعة كتب طه حسين وتحريقها5، ذلك أن طه حسين يؤكد لهؤلاء ولغيرهم أنه ليس شعوبيًّا ولم يكن "في يوم من الأيام شعوبيًّا، وإنما أنا رجل عربي الهوى؛ إذا سألت عواطفي وميولي ومثلي العليا في الأدب، فإذا ذهبت مذهب العلم في البحث والدرس فأنا رجل حريص على الإنصاف الخالص أجدُّ فيه ما وجدت إلى الجَدِّ فيه سبيلًا، ولا أوثر أمة على أمة، ولا شعبًا على شعب؛ لأن العلم لا يبيح لأهله مثل هذا الإيثار. وإذا ذهبت مذهب المتحدثين في السياسة المصرية، فأنا مصريٌّ قبل كل شيء وبعد كل شيء، لا أعدل بمصر بلدًا، ولا أوثر على الشعب المصري شعبًا آخر مهما يكن"6.

وقد سبق أن تعرَّفْنَا على الاستخدام الوظيفي للتاريخ في شواهد المقال الصحفي عند طه حسين، ونكتفي في هذا الصدد بأن نشير إلى نماذج من مقالاته

1، 2 كوكب الشرق في 28 أغسطس 1932.

3 كوكب الشرق في 9 سبتمبر 1933.

4 كوكب الشرق في 9 سبتمبر 1933.

5، 6 المرجع نفسه.

ص: 270

الصحفية التي يستخدم فيها التاريخ القريب والبعيد استخدامًا وظيفيًّا يقوم على حاسَّته التاريخية العلمية. ومن ذلك مقال بعنوان: "خاتمة"1، يتحدث فيه عن "عيد" من الأعياد التي مَرَّت بالمصريين أثناء فترة النكبة الدستورية فيذكر "عيدًا شُغِلَ فيه المصريون عن لذَّةِ الحياة وعن التحية والتهنئة.."؟

"كان ذلك قبل الحرب الكبرى حين شبَّت نار الحرب بين تركيا ودول البلقان، وحين دنت جيوش البلقانيين من قسطنطينية، وعرَّضت دار الخلافة للخطر، هناك شُغِلَ المصريون عن العيد، واتصلت نفوسهم بعاصمة الخلافة، يشفقون عليها، ويتمنَّون لها النجاة، وقد استجاب الله يومئذ لهذه النفوس، فلم تقتحم جيوش العدو خطوط المسلمين، وذاق المسلمون لذَّة الحياة فيما بقي من أيام العيد..!

"أما عيدنا هذا الذي نحن فيه فقد شُغِلَ المصريون عنه شغلًا متصلًا، ومع أن الصحف لم تنقطع بل أخذت تنقل إليهم الأنباء، وتذيع فيهم الأخبار، فقد ظلوا قلقين مضطربين، تترجع نفوسهم في السماء بين اليأس والرجاء، أيّ الخصمين ينتصر في هذه الحرب الضروس التي تشب نارها، ويتلظَّى أوارها حول سمنود..! أهو الجيش الظافر! أم هو الرئيس الزائر....؟ "2.

وفي مقال آخر يلجأ إلى التاريخ القريب يستدعيه في موضوعه، ليقرن بين أمرين متشابهين كما يبين من مقال بعنوان:"استجواب"3 حيث يبدؤ بقوله:

"أظنه الاستجواب الثاني في تاريخ مجلس النواب القائم، فأما الأول فكان حول الجامعة، وكان المجلس حريصًا كل الحرص على أن يتعجَّل اليوم الذي يعرض فيه؛ لأن حياة الدولة يومئذ كانت تتعرض لخطر شديد، وقد عرض هذا الاستجواب وخرجت منه الحكومة ظافرة، وخرج منها المجلس منتصرًا، وخرجت منه الدولة آمنة في حياتها مطمئنة على مستقبلها"4.

"أما الاستجواب الثاني: فهو هذا الذي تحدَّث المجلس أمس في تحديد موعده، وهو استجواب أقلَّ ما يوصف به أنه ضئيل الخطر، يدل على فراغ البال والعناية بصغائر الأمور، فهو يدور حول جبل الأولياء وأي شيء يكون جبل الأولياء"5.

1 كوكب الشرق في 8 أبريل 1913.

2 المرجع نفسه.

3 كوكب الشرق في 30 مارس 1933.

4، 5 المرجع نفسه.

ص: 271

ويخلص من هذين الاستجوابين: الماضي والحاضر، إلى أن "الأمور مرهونة بأوقاتها، وأن سقوط الوزارة قد يكون، ولكن في الوقت الموقوت، وهذا الوقت الموقوت قد يكون في يونيو، وقد يكون في يوليو، وقد يكون قبل ذلك، وقد يكون بعد ذلك، ولكنه لن يحين إلّا بعد أن يتمَّ التدبير والتقدير لإقامة الخزان. فليؤجل الاستجواب شهرًا، وليؤجل الاستجواب شهرين، ولينظر الاستجواب قبل الشهر أو قبل الشهرين، فلن تفيد مصر من تأجيله أو تعجيله شيئًا"1.

ثالثًا: أن طه حسين نتيجة لثقافته العريضة، والمتعمقة في بعض المجالات؛ كالأدب العربي والأدب الفرنسي والتاريخ والعلوم السياسية وغيرها، تمكن من الوقوف على المعلومات التي تمكِّنُه من الحكم الصائب والنظر الصادق، والتوجيه السليم.

ولعل في ذلك ما يفسِّرُ رؤياه للجامعة كبيئة لا يتكوّن فيها العالم وحده والعامل وحده، وإنما يتكون فيها الرجل المثقَّف المتحضِّر الذي لا يكفيه أن يكون مثقفًا، بل يعنيه أن يكون مصدرًا للثقافة، ولا يكفيه أن يكون متحضرًا، بل يعنيه يكون مصدرًا للحضارة2. وفي ضوء هذه الرؤيا يذهب إلى أن تقوم الجامعة بتهيئة فريق من الشباب وتثقيفهم في فروع من العلم على وجه يمكِّنُهم بعد الظفر بالدرجات الجامعية من أن ينهضوا ببعض التبعات في أنحاء مختلفة من الحياة "نهوض الرجل المستنير المهذب الذي يحسن فهم الأمور وتقديرها، ويحسن التعبير عَمَّا فهم، والتصوير لما قدر، ويتصرف بعد هذا كله فيما يعرض له من الأمر تصرُّف الرجل ناضج العقل، نافذ البصيرة، العالِمِ بما يأتي وما يدع. وأنحاء الحياة هذه التي يهيأ لها هذا الفريق من الشباب كثيرة مختلفة؛ فمنها ما يكون في دواوين الحكومة ومصالحها، ومنها ما يكون في الصحف السيارة على اختلاف أغراضها ومذاهبها3.

وتأسيسًا على هذا الفهم يذهب طه حسين إلى أن "حاجة الشباب الصحفي إلى الخلق المتين والثقافة العميقة الراقية أظهر من أن تحتاج إلى دليل"4، ولذلك يدعو في "مستقبل الثقافة" إلى إنشاء "مدرسة عملية للترجمة والتحرير والصحافة، يختلفون إليها متى بلغوا السنة الثالثة في كلية الآداب، ويدرسون فيها سنتين؛ بحيث إذا ظفروا بإجازتها مع الليسانس كانوا أهلًا للنهوض بأعمال الترجمة والتحرير والمشاركة في أعمال الصحافة"5، ويقترح طه حسين لهذه المدرسة تنظيمًا يسمح "للطلاب بأن يختلفوا إليها دون أن يجدوا

1 المرجع نفسه.

2، 3، 4 مستقبل الثقافة جـ2 ص443، 427، 429.

5 المرجع نفسه ص433.

ص: 272

في ذلك مشقَّةً تصرفهم عن الدرس العلمي"1، ويقضي هذا التنظيم بأن تتألف من ثلاثة أقسام2:

"القسم الأول: يتمرن الطلاب فيه على التحرير العربي، الذي يحتاج إليه في المصالح والدواوين، وفيه يدرسون اللغة العربية درسًا عمليًّا، ويدرسون اللغتين الإنجليزية والفرنسية درسًا عمليًّا أيضًا، يمكنهم من التخاطب والقراءة والإنشاء، ويدرسون ما لا بُدَّ من درسه من نظم الإدارة وإجراءاتها المختلفة، ثم يتثقَّفون ثقافة حسنة في تاريخ النظم الإدارية والدستورية، وفي تاريخ العلاقات السياسية الخارجية.

"والقسم الثاني: يتمرَّن الطلاب فيه على الترجمة من الإنجليزية والفرنسية إلى العربية، ومن العربية إلى هاتين اللغتين، ويتثقَّفُون فيه الثقافة التي أشار إليها في القسم الأول.

"وأما القسم الثالث: فيتمرَّن الطلاب فيه على أعمال الصحافة المختلفة؛ من تحرير وإدارة واستخبار وتوزيع، وذلك إلى تثقُّفِهم في المواد المشار إليها آنفًا، وتمرنهم على اللغتين الأجنبيتين إحداهما أو كلتيهما"3.

ويشير طه حسين في هذا الاتجاه، إلى أن فرنسا قد أخذت بمثل هذا الجمع بين الثقافة والتمرين بالقياس إلى مدرسة العلوم السياسية4. ويؤيد هذا الاتجاه بالنسبة للتأهيل الصحفي، تأسيسًا على فهمه لثقافة المشتغلين بالصحافة، وما يجب أن تكون عليه. على أن الدعوة إلى التأهيل الصحفي في مصر ترجع إلى ما نشره الدكتور محمود عزمي في "السياسة" سنة 1923، يدعو فيها هذه الدعوة، ولكنَّ هذه الدعوة بقيت سرًّا مكتومًا إلى أن كانت سنة 1932، وكان عميد كلية الآداب هو الدكتور طه حسين، وتداول مع زملائه ومنهم الدكتور هيكل، بالفكرة التي نادى بها محمود عزمي سنة 1923، واتفق الرجلان. وكان أن كتب هيكل في اليوم الثاني مقالًا طويلًا يدعو فيه إلى وجوب إنشاء مثل هذا المعهد لتهيئة بيئة صحفية صالحة للمستقبل5، وأخذت جريدة السياسة في تأييد هذه الدعوة، والمطالبة بتحقيقها، وهي الدعوة التي لم تبدأ خطواتها التنفيذية إلّا في سنة 1939 6.

ومن ذلك يبين أن ثقافة طه حسين لم تنعكس على مقاله الصحفي فحسب،

1، 2 المرجع نفسه.

3، 4 المرجع السابق ص435، 436، 515.

5، 6 عبد العزيز شرف: مرجع سبق ص374.

ص: 273

ولكنها تجاوزت ذلك إلى تأهيل أجيال من الصحفيين يكون في مقدورها القيام بأعمال هذه الوسيلة الجماهيرية، التي يعتبرها أداة "لتثقيف الشعب وتهذيبه وتصفية ذوقه وتنقية طبعه، وتحقيق الصلة بين طبقاته، وتحقيق الصلة بينه وبين غيره من الشعوب"1.

ونكتفي في هذا الصدد بأن نشير إلى نماذج من المقال الصحفي في أدب طه حسين، تكشف عن أثر ثقافته في توجيه مقاله توجيهًا وظيفيًّا. ومن هذه النماذج مقال بعنوان:"إذلال"2 يتحدث فيه عن "محنة العقل في الجامعة، هذه التي تريد أن تقصي عن مجالس الكليات كما أقصت عن مجلس الجامعة طائفة من الأساتذة المساعدين، هم الذين قامت عليهم الجامعة، سيصبحون منذ اليوم، وليس لهم إلّا إلقاء الدروس، وسيقضي فيهم الأجانب وكبار الموظفين وهم صاغرون! "3.

ويستخدم في هذا الموضوع، الذي تدور فكرته حول محنة العقل4، شواهد تثبت أن "السياسة مصدر هذه المحنة"5 مستقاة من ثقافته، ومن هذه الشواهد قوله:

"ومن قبل ذلك أُذِلَّ العقل في روسيا، فشُرِّدَ العلماء والكُتَّاب، وأُذيقوا ألوان الذل والعذاب، ولم تزل بهم سياسة البلاشفة حتى أخضعتهم لسلطانها، واضطرتهم إلى أن يكونوا لها أعوانًا وأبواقًا"6، ثم يقول بعد تفصيل ذلك في روسيا وألمانيا وإيطاليا7:

"ولا بُدَّ لمصر من أن يمتحن فيها العقل كما يمتحن في هذه البلاد الأوربية الراقية، ولا بُدَّ للسياسة من أن تذل العقل في مصر، كما أذلَّت العقل في ألمانيا، وكما أذلَّته في روسيا، وكما أذلَّته في إيطاليا، لأن مصدر طغيان السياسة واحد في هذه البلاد كلها، مهما تختلف صوره وأشكاله، هو سخط على الديمقراطية، وإنكار لها، وتَبَرُّمٌ بها، ومحاولة لتطهير الشعوب منها. قوم يريدون أن يبسطوا سلطان العمال على غيرهم من الطبقات، فيحقِّقُون طغيان العمال، وقوم يريدون أن يحاربوا الشيوعية ويمكنوا الطبقات الوسطى من القضاء عليها، فيحققون طغيان هذه الطبقات، وقوم لا يجدون أمامهم شيئًا، لا يطمعون في التسلط، ولا يجدون أمامهم طبقات وسطى تحتاج إلى أن تقاوم وتدافع عن نفسها، ولكنهم يجدون أنفسهم وأطماعهم وأهواءهم وشهواتهم وإيمانهم لأنفسهم بالعصمة، فيريدون أن يخضعوا لأنفسهم أمة كاملة، وشعبًا بأسره، وأولئك

1 المرجع نفسه ص435، 436، 55.

2، 3، 4 كوكب الشرق 19 مايو 1933.

5، 6، 7 المرجع نفسه.

ص: 274

وهؤلاء يخشون العقل فيحاربونه! ويحتاجون إلى العقل فيتملقونه! وأولئك وهؤلاء يتخذون وسائل القوة المادية العنيفة بإذلال العقل وإخضاعه لما يريدون! "1.

وينتقل من تصويره لمحنة العقل في أوربا ليتحدث عن موضوعه الأساسي في مصر: "يجب أن يكون لمصر حظّها من فتنة العقل واضطهاده، فمصر جزء من أوربا، ويجب أن تأخذ بحظٍّ من كل ما يقع في أوربا!.

"ظهرت الثورة الديمقراطية في أوربا، فثار بها بعضنا في مصر، ظهرت بدعة الدكتاتورية في أوربا فشغف بها بعضنا في مصر! ظهر إذلال العقل في أوربا، فجدت فيه حكومتنا في مصر! وهل يقع في الجامعة المصرية الآن إلّا هذا، إنما حياة الحكومة والجامعة حرب متصلة بين السياسة والعقل، قد انتصرت فيها السياسة على العقل انتصارًا مؤزَّرًا لا يعزى الناس عنه إلّا أنه موقوت يزول بزوال مصدره، وهو الوزارة القائمة"2 إلخ.

وهكذا يبين أثر ثقافة طه حسين في التوجيه الوظيفي للثقافة في المقال الصحفي، الأمر الذي يتيح له الحكم الصائب، والنظر الصادق والتوجيه السليم.

ومن هذه النماذج أيضًا، مقال بعنوان:"البرنامج المرن - لوزان"3 يستشهد فيه بفيلسوف من فلاسفة اليونان "ولعله أرخميدس- وكان يبحث عن نظرية من نظريات العلم. لا أذكر ما هي، وقد طال بحثه واشتد جهده، وتكلَّف عناءً كثيرًا، وإنه لفي الحمام ذات يوم أو ذات ليلة، ذات صباح أو ذات مساء، لا ينبؤنا بذلك التاريخ، إذ أُلْهِمَ الحلّ أو ظفر به، فأخذ يصيح "وجدت! وجدت! " "Evoraka! Evoraka! " هل فهمت الآن؟ " وهو يتمثَّل بهذا المثل تمثلًا وظيفيًّا في المقال، حيث يقابل بين هذا المثل بسياسة الوزارة التي "ما زالت تبحث عن حل لمشكلة لوزان"4.

وقد يستدعي من ثقافته الأدبية بيتًا من الشعر الفرنسي أو العربي يستخدمه في المقال كذلك استخدامًا وظيفيًّا، كما فعل في مقاله له عن عيد الجهاد الوطني، وارتداد بعض رجال ثورة 1919 عن ثوريتهم:"وما رأيك في وزير من أبناء الثورة يشترك في إعلان الحرب على يوم الثورة5، في فترة الانتكاسة الدستورية، فيستدعي لهذا الوزير بيتًا "لشاعر فرنسيٍّ حديث يسأل نفسه هذا السؤال:

1، 2 المرجع نفسه.

3، 4 السياسة في 12 ديسمبر 1922.

5 كوكب الشرق في 13 نوفمبر 1933.

ص: 275

- "ماذا صنعت، قل لي ماذا صنعت، بأيام الشباب"1.

ومثل ذلك الاستشهاد الوظيفي، استشهاده ببيتين من الشعر العربي القديم، يتمثَّل بهما في تصوير "موقف الحكومة بإزاء المفاوضة مع الإنجليز"2 و"موقف الحكومة بإزاء مسألة الدين"3 وغيرها من المسائل التي "يخوض فيها الناس من المصريين والأجانب، فتثير في نفوسهم شكوكًا وريبًا، وتخلق جوًّا رديئًا قوامه سوء الظن وفساد الرأي وضعف التعاون، الذي يجب أن يكون بين الذين يعيشون على ضفاف النيل من المصريين والأجانب جميعًا، وكلٌّ يرتاب لصاحبه، وكلٌّ يخاف من صاحبه، وكلٌّ يصدق فيه قول الشاعر القديم:

فإما أن تكون أخي بحق

فأعرف منك غثي عن سميني

وإلا فاضطرحني واتخذني

عدوًّا أجتويك وتجتويني4

ومن ذلك يبين أن طه حسين من بين قادة الفكر ورجال القلم، قد أفاد من ثقافته العريضة والعميقة في بعض مواضعها على نحو ما نعلم عن ثقافته في مقاله الصحفي، وهو الأمر الذي جعلنا نذهب عند الحديث عن أسلوبه إلى أنه أسلوب ثقافي.

رابعًا: وهو خلاصة ما تَقَدَّم من الصفات، أن طه حسين كاتب المقال الصحفي، نتيجة لمقومات شخصيته التي حاولنا التعرُّف عليها في القسم الأول؛ قد تمتَّع بحاسَّة اجتماعية مرهفة، وقدرة على الانغماس في المجتمع والاتصال بالجماهير، وموهبة في الحديث والإيناس، ونحو ذلك من الخصال التي تمكِّنُه من الوقوف على حقيقة الرأي العام، ذلك أن طه حسين -كما يقول خليل ثابت صاحب "المقطم"5 قد طابقت براعة الكاتب فيه براعة المحدث، وكان أسلوب طه حسين الكتابي أسلوب الحديث، ومن خصائص هذا الأسلوب أن يمضي فيه صاحبه عفو الخاطر الدافق، سهلًا لين المراس مسرعًا مستهلًّا، مستوقفًا مستفهمًا حازمًا، ساخرًا جادًّا قافزًا مستطردًا مرددًا معيدًا، همه الأول أن يظل ظافرًا بانتباه القارئ، فلا يدع إذنه تفرغ من نبرة الصوت وتسكاب الكلام"6.

وعند طه حسين نجد أن هذه الحاسة قد نمت وتطوَّرت معه منذ اتصاله بالصحف، في الجريدة واللواء، والسفور، بل إنه تولى في مرحلة التكوين

1 المرجع نفسه.

2، 3، 4 كوكب الشرق في 28 مارس 1933.

5، 6 عبد العزيز شرف: طه حسين وزوال المجتمع التقليدي: مرجع سبق.

ص: 276

الصحفي سكرتارية تحرير مجلة "الهداية" مع الشيخ عبد العزيز جاويش، وقد أشار إلى ما أفاده من معرفة أدوار الصحيفة، كما تَقَدَّمَ، وتظهر هذه الإفادة فيما بعد حين يتولَّى رئاسة تحرير صحيفة كبيرة مثل "كوكب الشرق" اليومية، وحين يتولَّى كتابة المقال الرئيسي في صحيفة "السياسة" اليومية، إلى جانب عمله كمحرر "أدبي" للصحيفة؛ بحيث يمكن تشبيه خلاصة هذه الحواس الصحفية عند طه حسين بقوله عن الصحافة أنها "نار مضطرمة لا يَقْدِرُ على أن يُصْلَى بها إلّا الذين يهيئون لها أنفسهم ويسلكون إليها سبيلها، ويعرفون كيف يصلونها دون أن تحرقهم أو تحيلهم رمادًا، لا يغنون عن أنفسهم ولا عن غيرهم شيئًا. فليست الصحافة من اليسر بحيث يظن الشباب الطامحون إليها المتهافتون عليها، وإنما هي فن من أعسر الفنون الذي ينبغي أن يتهيأ له الآخذون فيه كأحسن ما يكون التهيؤ. والشباب الذي يريد أن يكون صحفيًّا لن يكفيه أن يقرأ الصحف، ويحاول تقليد ما ينشر فيها، ولن يكفيه أن يسمع ما يلقى من الدروس الكثيرة القيمة في معهد الصحافة أو في قسم الصحافة كما يقال الآن، بل يجب أن يتعلم هذا الفن في موطنه، ويبدأ من حيث يجب الابتداء، فيختلف إلى دار صحيفة من الصحف بالضبط كما يختلف إلى معهد الصحافة أو قسمها، ويقضي في هذه الدار بياض يومه أو سواد ليله أو كليهما أحيانًا، لا ليسمع فحسب، ولا ليكتب، ولكن ليرى آخر الأمر هذا الجهد الطويل والعناء الثقيل والصبر على المكاره التي لا يطيق أكثرها إلا الأقوياء المصممون"1. فالصحافة عند طه حسين "علم وعمل، وهي علم بالحياة أولًا وبحقائقها ودقائقها وأسرارها ومشكلاتها، وتهيؤ لاستقبال الأحداث وتعمقها وفق أسبابها ونتائجها"2. وقد تعرَّفنا فيما تقدَّم على فهم طه حسين للجمهور، ولطبيعة الاتصال الصحفي، وعلى مهارته الاتصالية، وهي أمور تكفل له في النهاية هذا التفوق في تحرير المقال الصحفي. كما تعرَّفْنَا على مكانه من الهيئة الاجتماعي والثقافية، وهو المكان الذي أسهم في هذا التفوق في التحرير الصحفي، نتيجة تأثيرها على سلوكه الاتصالي، وأسلوبه في الاتصال بالجماهير.

ومن مظاهر ذلك التأثير في مقاله طه حسين، قوله: إن "للظروف السياسية ذوقًا كثيرًا جدًّا، دقيقًا جدًّا، شديد الحسِّ، شديد التأثر، شديد التفكير في غده، شديد الملاحظة لما قد يقال"3. ولكن هذا الذوق السياسي "دقيق حسَّاس فيما يمسّ الوزارة ورئيسها، وفيما يمسّ البرلمان وأعضاءه، ولكن أحدًا لا يشعر بدقته ولا يحسّه فيما يتصل بحياة هذا الشعب نفسه، فلم يسأل أحد عن

1، 2 من مقدمة الدكتورة طه حسين لكتاب الأستاذ جلال الدين الحمامصي "هذه هي صحافتنا بين الأمس واليوم" ص م، ن.

3 كوكب الشرق في 7 مايو 1933.

ص: 277

آلام هذا الشعب متى تنتهي"1. ومن ذلك يبين أثر مكان طه حسين من الهيئة الاجتماعية، وهو المكان الذي ذهب به إلى الوقوف في صفوف الجماهير العريضة، على نحو ما فصلناه فيما تَقَدَّمَ.

وتبين قدرة طه حسين على الانغماس في المجتمع من استقصائه لمظاهر سخط الناس في مصر على الحياة السياسية أثناء المحنة الدستورية، وهو يستقصي هذه المظاهر عند كل القاطنين مصر "مهما تكن الظروف، ومهما تكن البيئات، ومهما يكن المسئولون"2، كما يستقصيها عند المصريين "على اختلاف طبقاتهم وتباين منازلهم، وتفاوت حظوظهم من الثقافة والتعليم"3. ثم يستقصي هذه المظاهر عند الأجانب: "ستسمع منهم جوابًا يشبه جواب المصريين، فهم غير راضين، وهم غير مطمئنين، ومع ذلك فقد كانوا يعلنون الرضى منذ حين"4، ولكنهم "برغم هذا ليسوا راضين الآن، ولا مطمئنين، وإنما هم ساخطون أشد السخط، قلقون أعظم القلق، لماذا؟ لأن المصريين أنفسهم ساخطون قلقون، لأن الحياة كلها في مصر ساخطة قلقة مضطربة، ولأن الأجنبيّ لا يستطيع أن يرضى ولا أن يطمئن إلّا إذا رضي من حوله واطمأنَّّ الناس الذين يعيش معهم، ويعاملهم في كل يوم، ولأن سوء الظن بالأجنبي قد وجد السبل إلى نفوس المصريين لما ظهر من إسراف الرجال الرسميين في هذا العهد في إرضائهم ومحاباتهم وإيثارهم بالخير والبر دون أبناء الوطن. وإذا وصل سوء الظن بالأجانب في قلوب المواطنين فلا بُدَّ من أن يصل إلى قلوب الأجانب أنفسهم، ولا بُدَّ أن تقوم الصلات بين الوطنيين والأجانب على الشك والريبة، وعلى الحذر والاحتياط، وعلى الخوف وانتظار المكروه، وليس هذا كله مما يُقِرُّ الرضى في القلوب ويذود السخط عن النفوس"5 إلخ.

ومن هذا الأسلوب الاستقصائي يبين أنه أسلوب في استقراء الرأي العام، يقوم على حاسة اجتماعية مرهفة، وقدرة على الانغماس في المجتمع بالغة، وموهبة في الاتصال بالجماهير. وهي أمور تجعل من فن "المقال الرئيسي" عند طه حسين مقالًا صحفيًّا في مكان الريادة من تاريخ الصحافة المصرية الحديثة.

1 المرجع نفسه.

2، 3، 4 كوكب الشرق في 17 أبريل 1934.

5 المرجع نفسه.

ص: 278