الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
3-
المقال الرمزي:
يبين مما تَقَدَّمَ أن فنَّ المقال في صحافة طه حسين لم يكن بطيئًا في الاستجابة للتجديد، فتطوَّرَ في ألفاظه وأساليبه ومعانيه وموضوعاته، ونشأت فيه فنون لم تكن من قبل، وطوَّع اللغة العربية لهذه الفنون المقالية الجديدة التي ترتبط بدورها بأنحاءٍ من التصوُّر والتصوير لم تكن مألوفة من قبل.
وتأسيسًا على هذا الفهم، فإن المقال الرمزيَّ يُعَدُّ من هذه الفنون التي يطوِّع اللغة العربية من خلالها لأداء وظائف المقال الصحفي، على أن هذا الفن الرمزي يرتبط في صحافة طه حسين كذلك بفرض الرقابة على الإنتاج العقلي1، والتي لم تمنعه من ابتداع فنون مقالية جديدة تتوسَّلُ بالإيحاء والرمز أثناء الربع الثاني لهذا القرن2، لقهر "تلك الظروف"3 التي تَحُولُ بين الأقلام وبين الحرية في الصحف4، ومن هنا يبين اللجوء إلى "الرمز" عن قصد، بالقياس إلى طه حسين في بعض ما كان يكتب في الصحف، وفي بعض ما كان ينشئ من الكتب5، ليداور السياسة حتى يغلبها، ويقول للظالمين ما يريد أن يقول6.
فهذا الفن الرمزي في مقال طه حسين، فنٌّ وظيفيٌّ يقوم على أداء وظائف المقال في ظروف يَعِزُّ فيها التعبير الصريح، ولكنه مع ذلك يمتاز بخِفَّةِ الظل وسلاسة الأسلوب، كما يمزج التعبير بالتهكم والسخرية مع الحكم والأمثال المتداولة، والنكات اللاذعة، والاقتباسات الدالة، والنقد البَنَّاء، كما سنجد في مقالات "جنة الشوك" التي تقترب من "الأبيجراما"، وفي مقالات "جنة الحيوان" التي يتخذ الرمز فيها قالبًا قصصيًّا، ويتفقان في الوظيفة والغرض.
والرمز هنا يعني الإيحاء، والتعبير غير المباشر عن المواقف الاجتماعية والسياسية المستترة التي يَعِزُّ التعبير عنها في اللغة المباشرة بدلالاتها الوضعية، كنتيجة لفرض الرقابة على الإنتاج العقلي، ولكنه يقوم على الصلة بين الذات والأشياء؛ بحيث تتولَّد الآراء والاتجاهات عن طريق الإثارة النفسية، لا عن طريق التسمية والتصريح.
1 ألوان ص26.
2، 3، 4 من أدبنا المعاصر ص163.
5، 6 المرجع نفسه ص164.
ويقوم المقال الرمزي عند طه حسين على دعامة فلسفية تستند إليها الرمزية الأوربية، إلى جانب الدعامة الواقعية العملية، كما يبين من فلسفة "كانت" التي تفسح مجالًا لعالم الأفكار، وتصرِّحُ بتعذُّر معرفة العالم الخارجي عن غير طريق صوره المنعكسة فينا1. على أن الدعامة الواقعية في المقال الرمزي عند طه حسين تخرج به من نطاق الذاتية في الرمز إلى البحث عن العلل السياسية والاجتماعية المستعصية على الدلالة اللغوية المباشرة، فهو يَحْفَلُ بسواد الشعب والناس، وليس كالأدب الرمزي الذي يتوجَّه إلى الصفوة، ذلك أنه يحفل بإخضاع الواقع الملموس للفكر الفني قصدًا إلى السيطرة عليه عن وعيٍ، والتعبير عن مشكلات المجتمع؛ مستعينًا بثقافته القديمة والحديثة في تفكيره الفني، مستهدفًا خدمة التفكير الحر والديمقراطية، أي: في الدفاع عن الآراء المضادة لتلك التي يعتنقها بعض الحكام في مصر، في أسلوب رغم رمزيته، يتميز بالوضوح والإفهام والموسيقى دائمًا، فهو يتكون من جُمَلٍ قصيرة تحتوي على إشارات موحية إلى جانب معرفته العظيمة بكل صور الفن، وهذا هو السبب في أن المقال الرمزي يبدو كما لو كان اقتباسًا أو محاكاة معقودة لغرض وظيفي، كما سيجيء في "الرسائل الجاحظية".
ومن ذلك يبين أن الرمزية في مقال طه حسين ليست تشبيهًا حُذِفَ أحد طرفيه، كما فهم بعض أدبائنا2، ولكنها تعبيرات وصور جزئية تتعاون في بنية المقال لتَشِفَّ عن صورة مقالية لا يمكن التصريح عنها، تتعاون فيها الوسائل الفنية تعاونًا وظيفيًّا لأداء غرض المقال، وهو الأمر الذي يشير إليه طه حسين، حين يؤدي هذا الأسلوب الرمزي وظيفته الاتصالية بجمهور القراء، الذين يعتقدون أن كل كلمة فيه "ذات معنى ظاهر وباطن، وأن لها معنًى قريبًا يتخذ وسيلة إلى معنًى بعيد، وغاية يسيرة تُخْفِي وراءها غاية يسيرة"3. ذلك أن هؤلاء القراء كانوا على اتصال وثيق بالظروف التي أدت بالكاتب إلى التوسُّلِ بالرمز الذي يكاد أن يكون "لغة سرية" بين الكاتب وجماهير القراء، لا يفهمهما الرقيب الذي يعينه الساسة والحكام الذين أَدَّتْ سياستهم بالمصريين إلى "كثير من الشك وكثير من الخوف، وكثير من سوء الظن الذي أوشك أن يصبح أصلًا من أصول الحياة، وقاعدة من قواعد التعامل بين الناس"4.
ومن أجل ذلك، تغدو الدعابة والسخرية والفكاهة أدوات وظيفية لاذعة
1 الدكتور محمد غنيمي هلال: مرجع سابق ص373.
2 المرجع نفسه ص360.
3، 4 البلاغ في 15 مايو 1945، بين 78، 79.
قد "يضيق بها الكُتَّاب والقرَّاء في تلك الأيام"1، ولكنها تنتهي إلى غايتها حين يتمُّ توصيل الرمز بعد نشر المقالات الأولى منها، إلى أذهان الجماهير التي "تذهب فيه المذاهب، ويلتمس الناس له ألوان التأويل، ويتخذون منه ثوبًا يفصِّلُونه على قدر هذا أو ذاك من الذين ينهضون بالأعمال العامة، أو يشاركون فيها"2، ثم يمضي في إذاعة مقالاته الرمزية:"ويمضي الناس في التساؤل، ثم لا يقف الأمر عند التساؤل والإلحاح فيه، وإنما يختلف الناس فيما بينهم، ويغلون في الاختلاف، ويريد بعضهم أن يحتكم إليّ، ويجد عندي حلًّا لهذه الرموز، وتوضيحًا لهذه الألغاز، ويتصل بعضهم بي يسألني أن أريحه من هذا كله؛ فيكتب إليّ الرسائل ينبئني فيها بما يعلم من حياة فلان وفلان، ومن خِصَال فلان وفلان، ومما يُظْهِرُ فلان للناس ويُخْفِي عليهم، ويطلب إليَّ أن أصوِّرَ هذا في حديث من هذه الأحاديث التي تنشر في "البلاغ"3.
ثم يلاحظ أن الأمر ليس مقصورًا على مقالاته التي يذيعها، ولكنه يتجاوزه ويتجاوز مقالاته إلى قوم آخرين، ومقالات أخرى تنشر في الصحف اليومية والأسبوعية، وإلى قوم آخرين وأحاديث أخرى تجرى على ألسنتهم حين يلقى بهضهم بعضًا "فقد كتب فلان هذه الأسطر في هذه الصحيفة أو تلك، وهو قد أراد بها إلى هذا الغرض أو ذاك، وأراد بها أن يمسَّ فلانًا من قريبٍ أو بعيدٍ، ولمح بها إلى موقف فلان في السياسة، أو موقف فلان في الإدارة، أو موقف فلان في البيع والشراء، حتى استيقن الناس جميعًا أنهم لا يتبادلون الحديث بينهم إلا رمزًا، وأن الصراحة والوضوح والجلاء كلُّ هذه أمور قد بَعُدَ العهد بها حتى نُسِيَت أو كادت تُنْسَى"4.
على أن هذا اللجوء الاضطراري إلى الرمز، لم ينفصل عن أحوال الناس في حياتهم اليومية العادية، وإنما أصبح وسيلة يتوسَّل بها إلى النقد والتوجيه والإصلاح، في ظروفٍ لم تسمح بالصراحة في التعبير، وفي مقدمتها الأحكام العرفية التي اقتضتها الحرب العالمية الثانية، واستتبعت مراقبة الصحف5، وألقت في روع الناس جميعًا أن أمورهم لا تجري على ما تعودت أن تجري عليه قبل أن تُعْلَنَ الأحكام العرفية، وقبل أن تُفْرَضَ الرقابة على الألسنة والأقلام6، ولكن هذه الظروف التي استغلَّها السلطان في مصر، في أثنائها، وبعد انتهائها، وأدت إلى أن يفرض المصريون فيما بينهم وبين أنفسهم أن الرقابة قد
1 المرجع نفسه، ص79.
2 المرجع نفسه ص79، 80.
3 المرجع السابق ص79، 80.
4، 5، 6 المرجع نفسه ص80، 81.
شملت كل شيء1. لم يحل دون المقال الصحفي وبين أداء وظائف النقد والتوجيه والإصلاح حين أراد أن "يمسَّ الأمور العامة"2.
ومن ذلك يبين أن الرمز في مقال طه حسين قد أصبح وسيلة من وسائل "مراوغة الرقيب" إن جاز هذا التبعير، في موافاة القرَّاء بالحقائق الكاملة الصحيحة والصادقة عَمَّا جرى من أحداث. ذلك أن الرقابة على الرغم من أنها "تَحُدُّ من حرية الصحافة"3 فإن الفضل يرجع إليها في إنشاء هذا الفن الرمزي في المقال الصحفي، كما استحدثت صياغة خبرية رمزية. وكما أدَّى الاضطهاد الديني والسياسي إلى توسُّلِ الأدباء في عصور مختلفة بمذاهب شتَّى في مقاومته على أيِّ شكل من أشكاله، كما نجد في القصص على ألسنة الحيوان، في "كليلة ودمنة" لابن المقفع، وغيرها من صور النقد السياسي التي حفظها لنا التاريخ.
ويتوسَّل طه حسين في نقد الحكومة والمجتمع، بالأسلوب الرمزي في "جنة الحيوان" التي يحاسب فيها الحكام والمحكومين على السواء، ويوجِّهُ النقد والتوجيه والإصلاح في هذا الأسلوب، على الرغم من الظروف السياسية التي تَحُولُ دون النقد والتوجيه، مستعينًا بذكائه وأسلحته الفنية في الوصول إلى غرضه الصحفي، ذلك أن من حق الناس جميعًا، كما يقول طه حسين، أن "يضيقوا بالرقابة وبالأحكام العرفية؛ ولا سيما حين يتَّصِلُ الخضوع لها والاكتواء بنارها"4. ولذلك يواجه إلى ذلك "أشياء أخرى لعلها أن تكون أبعد من ذلك أثرًا في إشاعة القلق والريب"5، كنتيجة لخضوع المصريين، وما تقتضيه من هذه الأحاديث المتناقضة التي يكذِّبُ بعضها بعضًا، والتي تُذَاع في الراديو كل يوم، وما تقتضيه من هذه الإشارات الغامضة التي تُنْشَر في الصحف والمجلات حتى تَعَوَّدَ الناس أن يسمعوا النبأ فلا يصدقوه، أو أن يسمعوا النبأ فيستنطبوا منه غير ظاهره، وربما استنبطوا منه نقيضه، وحتى تَعَلَّمَ الناس أن يقرأوا بين السطور، وأن يسمعوا بين السطور، إن أمكن أن يسمع الناس بين السطور"6.
ومن أجل ذلك، يذهب المقال الرمزي إلى مواجهة خطوب ثِقَالٍ في حياة المصريين العامة والخاصة7، كأهوال الحرب، ومصاعب الحياة الاقتصادية، والتغييرات السياسية، والبؤس والحرمان اللذين ينتهيان إلى الجوع والشقاء
1، 2 المرجع السابق ص81.
3 فيل أولت "ترجمة أحمد قاسم جودة" وراء الأخبار ليلًا ونهارًا ص 158.
4، 5 بين بين، ص81، 82، 83، مرجع سابق.
6، 7 المرجع السابق ص83.
في بعض الطبقات "كل ذلك خليق أن يعقد منافع الناس أشد التعقيد، وأن يقوي الأثرة في نفوس الأفراد والجماعات، وأن يضطر كل واحد من أفرادهم، وكل جماعة من جماعاتهم، إلى الاحتياط للنفس، والاستكثار من الخير، والاستعداد للمستقبل، والتَّحَفُّظ من الطوارئ، والتخلص من المشكلات، والنفوذ من الخطوب"1. ويعالج المقال الرمزي ما ينتج عن ذلك من أسباب "تشل الضمير المصري في هذه الأيام وتوشك أن تدفعه إلى خطر عظيم"2.
ويشخص المقال الرمزي في صحافة طه حسين، إلى جانب ما تَقَدَّمَ "ظاهرة خطيرة مؤلمة حقًّا، وهي أن رأي الناس قد ساء في الناس، فلا تكاد تذكر رجلًا حائر الضمير حتى يحسُّ كثير من الناس أنه المعني بهذا الضمير الحائر3، ومصدر ذلك في مقال طه حسين أنَّ النماذج التي يصورها للضمائر القلقة الحائرة تجد ذلك فيما بينها وبين نفسها في شيء من الحيرة4.
فلا يكاد يعرض في "جنة الحيوان" صورة الرجل الذي يشبه "الثعبان"5، أو الذي يشبه "الثعلب"6، أو يشبه "ما شاء الله من هذا الحيوان المقيم في حديقة الحيوان حتى يحسّ كثير من الناس أنه هو المعني بهذه الصورة، المراد بهذا الاسم"7.
فالثعلب -في المقال الرمزي، ثمرة من ثمار الصراع الحزبي، ونشأة "الفرص الكثيرة التي ينتهزها الأذكياء ليستفيدوا من صراع الأحزاب، ونَظَرَ الثعلب ذات يوم فإذا الحياة المصرية كلها تلقي في نفسه أنه قد خُلِقَ للفوز، وأن الفوز قد خُلِقَ له؛ لأن الحياة المصرية لم تكن في وقت من الأوقات ملائمة لخفة الثعالب ورشاقتها وذكائها ونَهَمِهَا منها في هذه الآيام. وما ينبغي لمن يريد الفوز في هذه العواصف العاصفة، وفي هذه المصالح المشتبكة، والخصومات المتصلة، والمنافع المعَقَّدَة، إلا أن يكون فطنًا، وصاحبنا أخف من النسيم، ماكرًا، وصاحبنا أمكر من المرأة صامتًا، وصاحبنا أشد صمتًا من الصخرة الصماء"8
…
إلخ.
ويتوسَّل طه حسين في نمذجة "الثعبان" بالتسمية القديمة له "الشجاع"9 التي لا تدل "على الرجل الذي يصبر نفسه على المكروه ويجشمها
1 المرجع نفسه.
2 المرجع السابق ص83.
3 المرجع نفسه ص83.
4 المرجع نفسه ص83.
5، 6 جنة الحيوان ص29، 68.
7 بين بين ص83.
8، 9 جنة الحيوان ص34، 45، 69.
الهول في سبيل ما يتمُّ مروءته"1، وإنما تدل على "الحيَّة التي تستخفي في جحرها لا تكاد تظهر منها إلا رأسها الدقيق، وتظل على حالها هذه مستخفية مطرقة، حتى إذا مكَّنَتها الفرصة ووجدت مساغًا لنا بينها لم تضيعها، وإنما عَضَّتْ فصمَّمَت كما يقول الشاعر، وبلغت من عضتها وتصميمها ما تريد"2.
ويفصح المقال عن هذا المرز في نهايته حين يقول:
…
ولكن عهد مصر بالشجعان الإنسية قريب فيما يظهر، وهو على قربه خصب بعيد الأثر، فقد كثرت شجعان الناس في مصر منذ اضطربت السياسة وتلاحقت الخطوب ومكر بعض الناس ببعض وكَادَ بعضُ النَّاس لبعض، وتوشك مصر أن تُعْرَف بشجعان "الناس" كما عُرِفَت بشجعات الحيَّات3.
ومن ذلك يبين وضوح الرمز في النمذجة المقالية، الأمر الذي يجعل من العسير "إقناع القراء بأن الكاتب إن عرض صورة بعينها فهو لم يُرِدْ شخصًا بعينه، ولعله يكون قد كوَّن صورته هذه من أشخاص كثيرين يأخذ من أخلاق كلِّ واحد منهم طرفًا، ثم يضيف هذه الأطراف بعضها إلى بعض فينشيء منها صورة قد تعجب أو لا تعجب، ولكنها لا تخلو من عبرة وموعظة. ولعلها أن تحمل الناس على أن يصلحوا من أمورها ويخفوا من شرورهم"4.
فالنمذجة الرمزية تقوم على الوظيفية الهادفة والوضوح والتبسيط، فمن "وجد في نفسه شيئًا من أخلاق الثعبان أصلحه وأخفاه؛ فكف شرَّه عن الناس قليلًا أو كثيرًا"5 وقُلْ مثل ذلك فيمن "يجد في نفسه شيئًا من خصال الثعلب، أو من خصال العقرب، أو من خصال الذباب. والله قد خلق الأشياء كلها لتكون موضعًا للعظة، ومصدرًا للعبرة، ووسيلة إلى اكتشاف الحق والخير والجمال وليدل عليها، وليستكشف الباطل والشر والقبح ويرغب عنها. فليكتب الكُتَّاب، وليقرأ القراء، وليسأل السائلون، وليجب المجيبون، فليس بشيء من هذا كله بأس"6. وإنما يجب أن يتعاون المصريون جميعًا، في مقال طه حسين، على علاج واستئصال "هذا القلق الذي شمل الضمير المصري، والذي يوشك أن يدفعه إلى أكثر من السؤال والجواب"7.
ونخلص من ذلك إلى أن الرؤيا الوظيفية في مقال طه حسين، هي التي تجعل هذا الأسلوب الرمزي في التحرير، أسلوبًا من أساليب المقال الصحفي، يقوم على الاتصال الوثيق بالقراء ومشكلاتهم وحياتهم الواقعة، في أسلوب
1 جنة الحيوان.
2، 3 المرجع نفسه ص69، 74.
4، 5 بين بين ص85.
6، 7 بين بين ص85.
يتوسَّل بالنمذجة الرمزية، نحاول أن نستخلص عناصرها في إيجاز شديد:
أ- اعتماد النمذجة الرمزية على الحركة والتفصيل والتنغيم والمقابلة والتضاد، اعتمادًا وظيفيًّا هادفًا، كما نجد في نموذج "الثعلب" قوله:
"إن الأحزاب المصرية كلها عنه راضية، وبه معجبة، وإليه محتاجة، ولكنه فَقَدَ من خصال الثعلب خصلة واحدة، هي التي حملتك يا سيدتي على أن تضحي منه حين رأيته يقبل كأنه البرمة الضخمة، وحين رأيته يجلس فينهال كما ينهال الكثيب. ذلك أن الأيام أحبته حبًّا شديدًا، فأخذت لا يمر يوم منها إلا خلع عليه قميصًا من الشحم قد فُصِّلَ على قَدِّه تفصيلًا"5.
ومن ذلك يبين أن هذه الأدوات تخدم الكاريكاتير الوظيفي في السخرية المرة، فالثياب "الشحمية أخذت تتراكم وتتراكب حتى مدته إلى يمين وإلى شمال، وزادته بسطة في الجسم من خلف ومن أمام"1 كما تبين وظيفة التنقيم والحركة والتفصيل في الكاريكاتير في قوله: "أقبل فحيَّا، ثم تَقَدَّمَ يسعى حتى إذا بلغ مكانه جلس وكأنه الكثيب المنهال"2. على أن النماذج البشرية في "جنة الحيوان" رغم غرابة رموزها، تبدو مألوفة في وقت الاضطراب السياسي والاجتماعي، كما تَقَدَّمَ، لأنها "غلطة من غلطات الطبيعة، وفلتة من فلتات الدهر، ووهمٌ من أوهام الظروف"3.
ب- استخدام الجمل القصيرة السهلة الموقعة استخدامًا وظيفيًّا في النمذجة الرمزية، كما يبين من هذا الحوار الذي استهلَّ به مقال "الغانيات"4.
- "من أين أقبلت يا ابنتي!
- من حيث لا تبلغ الظنون..
- ماذا تريدين يا ابنتي؟
- أريد ما لا تقدرون..
- كيف تقولين يا ابنتي.
- أقول ما لا تصدقون!
-أسرفت في الرمز يا ابنتي.
- بل ما لكم كيف تحكمون5! "
1 جنة الحيوان ص35، 29، 35.
2، 3 جنة الحيوان ص35، 29، 30.
3، 4، 5 المرجع نفسه ص75، 77، 97.
جـ- استخدام القالب القصصي للمقال استخدامًا وظيفيًّا في تصوير النماذج الصحفية، وتحقيق أغراض "النقد في سرعة وخِفَّةٍ ودقة وإيجاز"1. كما يتيح له هذا القالب تبسيط الرمز وتوضيحه، على النحو الذي يبين من المقال المتقدم، حين "ترفع الفتاة كتفيها، وتبتسم عن ثغرٍ جميل وتقول ساخرة: تريد أن تعرف اسمي فاسمي هو "العدالة الاجتماعية"2 على نحو ما نعرف في "لحظة التنوير" في القالب القصصي القصير.
ونخلص مما تَقَدَّمَ إلى أن هذا المقال الرمزي في صحافة طه حسين ثمرة من ثمار صحافته، يتمثَّل عناصر الأصالة والتجديد، تمثلًا وظيفيًّا في النقد والتوجيه، ذلك أن.. الله لم يخلق الأشياء عبثًا، وإنما جعل فيها لنا منافع، ودعانا إلى أن نعتَبِرَ بكل ما خُلِقَ من الحي والميت، وأن نلتمس فيه الموعظة التي تبصِّرُ القلوب، والحكمة التي تهدي العقول"3 ومن ذلك تبينُ الرؤيا الوظيفية الهادفة وراء المقال الرمزي في صحافة طه حسين، والذى تُشْتَقُ موضعاته من حياة المجتمع، يفسرها ويعلق عليها ويناقشها من خلال النمذجة الرمزية، بحيث يكشف هذا الفن المقالي عند طه حسين عن تقدير للحاجة النفسية والاجتماعية والسياسية عند قرائه وجمهور مجتمعه، تقديرًا يشعرها بضرورة التركيز عليها، من خلال علم ودراية واسعتين بالناس وبالحياة وبالمشاكل التي تعرض لهم في وقت من الأوقات.
1 جنة الشوك ص8.
2 جنة الحيوان ص103. 96.
3 المرجع نفسه ص96، 103.