المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ثالثا: إتجاه طه حسين في مقاله التحليلي إلى ربط "حدث" التحليل الصحفي بدائرة اهتمامات القراء - فن المقال الصحفي في أدب طه حسين

[عبد العزيز شرف]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة:

- ‌الفصل الأول: الدكتور طه حسين ومدرسة الجريدة

- ‌مدخل

- ‌بيئة المقال الصحفي في مصر

- ‌مدخل

- ‌ البيئة المصرية:

- ‌ الاتصال بالحضارة الأوربية:

- ‌ الحياة السياسية:

- ‌ الحياة الفكرية:

- ‌ الحياة الاجتماعية:

- ‌مدرسة الجريدة

- ‌مدخل

- ‌ مدرسة الجريدة وجيل طه حسين:

- ‌ طه حسين ولطفي السيد:

- ‌الفصل الثاني: طه حسين وبيئة المقال الصحفي في مصر

- ‌مدخل

- ‌ طه حسين والبيئة الأولى:

- ‌بيئة التكوين الصحفي:

- ‌ طه حسين والبيئة الثانية:

- ‌الفصل الثالث: طه حسين وبلاغة الاتصال بالجماهير

- ‌مدخل

- ‌عناصر الأصالة والتجديد:

- ‌بين التقليد والتجديد:

- ‌بلاغة المقال الصحفي:

- ‌بلاغة الاتصال بالجماهير في مقال طه حسين

- ‌مدخل

- ‌التبسيط والنمذجة الصحفية:

- ‌الأسلوب الواقعي:

- ‌الأسلوب الاستقصائي:

- ‌الأسلوب الاستقرائي:

- ‌الأسلوب الصحفي:

- ‌الفصل الرابع: أًساليب التحرير في مقال طه حسين

- ‌مدخل

- ‌الرؤيا الفنية في مقال طه حسين

- ‌أساليب التحرير في مقال طه حسين

- ‌مدخل

- ‌ المقال القصصي:

- ‌ المقال الوصفي والتقرير الصحفي:

- ‌ المقال الرمزي:

- ‌ الرسائل المقالية:

- ‌الفصل الخامس: طه حسين وفن العمود الصحفي

- ‌مدخل

- ‌فن العمود المتخصص:

- ‌فن العمود الصحفي

- ‌مدخل

- ‌خصائص العمود الصحفي:

- ‌مضمون العمود الصحفي:

- ‌تحرير العمود الصحفي:

- ‌فن العمود الرمزي:

- ‌الفصل السادس: فن اليوميات الصحفية في أدب طه حسين

- ‌مدخل

- ‌بين الذاتية والموضوعية:

- ‌فن المقال الاعترافي:

- ‌فن اليوميات الصحفية:

- ‌الفصل السابع: فن المقال الرئيسي الافتتاحي

- ‌مدخل

- ‌المقال الرئيسي الافتتاحي

- ‌مدخل

- ‌ خصائص المقال الرئيسي عند طه حسين:

- ‌ الوحدة العضوية في بنية المقال الرئيسي:

- ‌ طه حسين كاتب المقال الرئيسي:

- ‌الفصل الثامن: فن المقال النزالي

- ‌الفصل التاسع: فن المقال الكاريكاتيرى

- ‌الكاريكاتير الوظيفي في مقال طه حسين

- ‌طه حسين كاتب المقال الكاريكاتيري:

- ‌العناصر الفنية في المقال الكاريكاتيري

- ‌أولا: عنصر التجسيم للعيوب

- ‌ثانيًا: عنصر التوليد

- ‌ثالثًا: عنصر التشبيه أو التمثيل

- ‌رابعًا: عنصر التضاد

- ‌خامسًا: عنصر التندر:

- ‌الفصل العاشر: المقال التحليلي والتقويم الصحفي

- ‌مدخل

- ‌التحليل الصحفي

- ‌مدخل

- ‌أولًا: "توقيت" المقال التحليلي

- ‌ثانيًا: التعليق على الخبر بعد وقوعه

- ‌ثالثًا: التحليل الصحفي وحركة الأحداث

- ‌التقويم الصحفي

- ‌مدخل

- ‌أولًا: اعتماد التقويم الصحفي على الذوق أو العقل الذي يستخدمه استخدامًا جيدًا

- ‌ثانيًا: إن طه حسين كان شديد الحفل بالأسلوب والوضوح في التحليل والتقويم

- ‌ثالثًا: إتجاه طه حسين في مقاله التحليلي إلى ربط "حدث" التحليل الصحفي بدائرة اهتمامات القراء

- ‌مراجع البحث:

- ‌أولًا: المراجع العربية والمترجمة:

- ‌ثانيًا: الصحف والمجلات

- ‌ثالثًا: أهم المراجع الأجنبية

- ‌ملاحق البحث:

- ‌ملحق رقم "1":نقابة الصحفيين تنعي فقيد الأدب العربي:

- ‌من وثائق الجامعة ملحق رقم "2" كتاب طه حسين إلى رئيس الجامعة الأمير أحمد فؤاد بشأم التقدم للبعثة إلى أوروبا

- ‌ملحق رقم "3": كتاب طه حسين إلى رئيس الجامعة، بشأن ترشيحه للبعثة ألى أوربا

- ‌ملحق رقم "4": صورة كتاب الاستقالة الذي رفعه لطفي السيد إلى وزير المعارف العمومية، بعد إخراج طه حسين من الجامعة في عهد صدقي:

- ‌ملحق رقم "5": نموذج لفنِّ اليوميات الصحفية في مقال طه حسين

- ‌ملحق رقم "7": المقال الأول للدكتور طه حسين في صحيفة "كوكب الشرق" الوفدية

- ‌الفهرس:

- ‌المخطوطات

الفصل: ‌ثالثا: إتجاه طه حسين في مقاله التحليلي إلى ربط "حدث" التحليل الصحفي بدائرة اهتمامات القراء

‌ثالثًا: إتجاه طه حسين في مقاله التحليلي إلى ربط "حدث" التحليل الصحفي بدائرة اهتمامات القراء

وذلك لما يتمتَّع به من حاسَّة اجتماعية مرهفة، وقدرة على الانغماس في المجتمع، وموهبة في الحديث والإيناس، ونحو ذلك من الخصال التي تمكِّنه من الوقوف على حقيقة الرأي العام.

ويرتبط هذا الاتجاه بقدراته التذوقية والتقويمية، ووضوح تفكيره وأسلوبه على النحو المتقدِّم، الأمر الذي يجعل المقال التحليلي عنده يتضمَّن ما فيه "النفع والغناء"1. ذلك أن الحاجة إلى الكتابة نفسها كما يحددها طه حسين تتلخَّص في أن "هناك حاجة إلى الكتابة تأتي من أن موضوعًا من الموضوعات مشكوك فيه، فلا بُدَّ من أن يثبت، أو غامض فلا بُدَّ من أن ينجلي، أو مجهول فلا بُدَّ من أن يُعْرَف، أو ضعيف فلا بُدَّ من أن يقوى، أو قوي فلا بُدَّ من أن يضعف. وهناك حاجة إلى الكتابة تأتي من أن قومًا لا بُدَّ من أن يكتبوا، وقومًا آخرين لا بُدَّ من أن ينشروا، وكثرة من الناس لا بُدَّ من أن تقرأ"2.

ومن ذلك تبين أهمية ربط كل تحليل أو تقويم صحفي بالجوانب المحلية التي تشغل القارئ، ومن هنا أيضًا كان علاج صحيفة لنبأٍ ما، يختلف عن علاج صحيفة أخرى لنفس النبأ حسب موقع الصحيفة، والمجتمع الذي تنتمي إليه. وتأسيسًا على ذلك، فإن طه حسين يذهب إلى إرضاء حاجات القارئ حتى لو كانت هذه الحاجة مجرَّد "حب الاستطلاع" أو "الفضول"3 كما يقول الصحفيون اليوم، وكما قال طه حسين: فإن "من يظن أن مثل هذه الكتابة فضولًا لا خير فيه"4 يخطئ "أشنع الخطأ"5، ذلك أن "مثل هذه الكتابة ليس فضولًا ولكنه تَرَفٌ، والترف الأدبي هو خير ما في الأدب من متاع"6.

وقد سبق من النماذج المقالية المتقدِّمة، أن تعرَّفْنَا على اتجاه طه حسين القوي نحو قرائه، كما تبين من دراسة الأسلوب أيضًا، أن هذا الاتجاه يتمثَّل في "الإيناس" وأسلوب المحادثة، وتبيَّن من دراسة المضمون اهتمام الكاتب بالقضايا التي تشغل أذهان القراء، ونكتفي في هذا الصدد بنموذج تبين فيه هذه الاتجاهات القوية نحو القراء ومشاركتهم في تحليل موضوع المقال. يقول طه حسين تحت عنوان:"سؤال"7:

1، 2 مجلة الهلال في أول يناير 1935.

3 جلال الدين الحمامصي، مرجع سبق ص265.

4، 5، 6 مجلة الهلال في أول يناير 1935.

7 كوكب الشرق في أغسطس 1933.

ص: 379

"لا يكاد يلقيه أحد على أحد؛ لأن جوابه مرسوم في القلوب، ماثل أمام العيون، يحسه الناس جميعًا، ويشعر به الناس جميعًا، لا يختلفون فيه إلّا أن يكونوا صحفيين تدفعهم الضرورات الصحفية إلى أن يكتبوا فصلًا من الفصول.

"وهذا السؤال متصل بالمندوب السامي الذي أٌقْصِيَ عن مصر منذ أيام: أَنَجَحَ هذا المندوب في مهمته التي أقام لها في مصر أعوامًا أربعة، أم قضى الله عليه بالفشل والإخفاق؟

"الق هذا السؤال على مَنْ شئت من المصريين، فسيجيبك في غير تردد ولا اضطراب إلّا أن يكون صحفيًّا تلزمه الضرورات أن يكتب فصلًا من الفصول، أو تضطره ظروفه السياسية الخاصة إلى أن يرى لنفسه رأيًا يؤمن به، وللناس رأيًا آخر يعيش منه، سيجيبك هذا المصري بأن المندوب السامي المنقول لم يظفر بقليل ولا كثير من النجاح.

"فنجاح المندوب السامي في مصر ينظر إليه فيما يظهر من وجهين اثنين لا ثالث لهما، أحدهما مصري والآخر إنجليزي، فهو ينجح عند المصريين إذا استطاع أن يزيل ما بين مصر وإنجلترا من أسباب الخلاف والخصومة، ويقرِّب بينهما من آماد هذا الخلاف وهذه الخصومة، فيقضي على ما يثور في نفوس المصريين من عواطف السخط على الإنجليز، والتنكر لهم وسوء الظن بهم، أو يخفف من هذه العواطف لما يثير في النفوس بسيرته من أن الإنجليز ليسوا من الظلم والعسف، وليسوا من الاعتداء والطغيان؛ بحيث كان الناس يظنون، وإنما السلم والصلات التي تقوم على المودة والاحترام لا على القوة والبأس، ولا على هم أنصار العدل والداعون إليه، وحماة الإنصاف والحريصون عليه، وأصحاب البطش والعدوان"1.

ويستمر في تحليل اتجهات الرأي العام المصري إزاء نبأ نقل المندوب السامي في مقابل تحليل اتجاهات رأي الإنجليز، لينتهي إلى دلالة تَنُمُّ عن قربه من الرأي العام المصري في ذلك الوقت:

"فلم يبلغ سوء ظن المصريين بالإنجليز في يوم من الأيام ما بلغه الآن، لا نستثني من ذلك إلا أيام الثورة حين كانت الدماء تسفك، والنفوس تزهق بأيدي الإنجليز"2.

على أن الاتجاه نحو القراء في المقال التحليلي عند طه حسين، يتميز بالتحليل

1، 2 كوب الشرق في 18 أغسطس 1933.

ص: 380

والتقويم من حيث إن هذا المقال يذهب إلى أن يكون "توقعيًّا" و"تفسيريًّا" و"تعبيريًّا" في معظم الأحوال.

والمقصود بالتحليل التوقعي: أن المقال ينظر إلى الأمام ليستكشف الدلالات المستقبلة، في ضوء الحركة العامَّة للأحداث، بحيث يوحي للقارئ بأنه ينطلق من "موضوع اليوم"1. أو "حديث المساء"، كما يحب طه حسين أن يكون عنوان مقاله الثابت.

والمقصود بالمقال التفسيري: أن التحليل يستقرئ الأنباء، "ويغوص في أعماقها"2 ليفسِّر المغزى أو الدلالة التي تكْمُن فيها.

إن المقال التحليل بصفة خاصة، والمقال الصحفي بصفة عامة في أدب طه حسين، يتجه إلى ذهن القارئ أكثر مما يتجه نحو عواطفه، ذلك أن هذا النمط المقالي يسعى أساسًا إلى إرضاء رغبة القارئ في الإعلام3، وتقتضي هذه الرغبة بالضرورة أن يكون المقال "تعبيريًّا" يساعد القارئ على التفكير الأكثر وضوحًا في المسائل والمشكلات التي تقع في نطاق اهتمامه العام4. وقد سبق أن تعرَّفْنَا على إغناء الأسلوب الاستقرائي لحاجات التميز والوضوح في مقال طه حسين، الأمر الذي يتيح لمقاله اتصالًا ناجحًا بجمهور قرائه، يستحوذ على اهتمامهم، ويثير لديهم الرغبة في التفكير، ويتيح لهم إمكانية ذلك.

وصفوة القول: إن الرؤيا المنهجية السليمة تتيح للمقال أن يتصل اتصالًا فعَّالًا بحوافز الاهتمام عند القراء. ذلك أن ترتيب الحقائق والوقائع والآراء والشواهد التي ينتظمها التحرير المقالي تنظِّمُ المادة المنتقاة تنظيمًا يؤكد النقاط التي يُعْنَى بها القارئ في حدود المقال الصحفي5 كما تبيَّن مما تَقَدَّمَ، ومن تنظيم المقال الرئيسي بصفة عامة.

ومن ذلك على سبيل التمثيل أن طه حسين حين يعالج موضوع "افتتاح البرلمان" في عام 1947، والذي سبق "عيد الجهاد وعيد الهجرة"6، ويعرض لخطبة "العرش التي ألقاها رئيس الوزراء في البرلمان"7، يربط ذلك كله بالجوانب المحلية التي كانت تشغل القراء المصريين في ذلك العام، ذلك أن المواطنين في "أثناء هذا كله كانوا يموتون مئات، ويمرضون مئات، يتخطَّفَهُم هذا الموت الطارئ، ويصرعهم هذا الموت الطارئ، ومن حولهم ألوف وألوف

1، 2، 3 Georgf fo mott and others، New Survey of Journalism، p. 289-290.

4 المرجع السابق.

5 M. Lyle Spencer: op. cit.، p. 91.

6، 7 البلاغ في 17 نوفمبر 1947.

ص: 381

يتخطَّفهم الموت العادي الذي لا يحمله الوباء، ويصرعهم المرض العادي الذي لا يحمله الوباء أيضًا. وفي أثناء هذا كذلك ملايين من المواطنين تنعم بالجهل الذي يحجب عنها حقائق الحياة، فلا ترى ما هي فيه، ولا توازن بين حياتها وحياة غيرها من أبناء الأوطان الأخرى

وكانت هذه الملايين في أثناء ذلك أيضًا تنعم بفقرها الذي يشغلها بالتماس القوت وإطعام العيال وكسوتهم، دون أن تجد ما تسعى إليه، ولكنه يشغلها على كل حال بذلك، عن التفكير في حياتها، والموازنة بينها وبين حياة غيرها من أبناء الأوطان الأخرى!

"كان هذا كله يحدث في الصحف من يوم الأربعاء الثاني عشر من شهر نوفمبر، بينما كان رئيس الوزراء ينبئ البرلمان بما فعلت الحكومة وبما ستفعل، موفَّقَة في الماضي والمستقبل لإنقاذ الشعب من الموت والمرض، ومن الفقر والجهل، ولتمكين مصر الخالدة المجيدة من أن ترفع رأسها العظيم الكريم بين الأمم الراقية، التي لم تبلغ ما بلغت من المجد والفخار! "1.

ومن ذلك يبين أن طه حسين حين يركِّز على القضايا المحلية التي تشغل الرأي العام، ويستخدم السخرية المرة من السياسيين المحترفين، إنما يصل قراءه بالقضايا المصرية الجادة الملحة، مثيرًا كل عوامل إثارة حوافظ الاهتمام عند هؤلاء القراء، بهدف التغيير السياسي الذي يطمح إليه المقال، ولذلك يستهلُّ مقاله بقوله:

"لا يغضب المواطنون الأعزاء أن نشقَّ عليهم في القول، ونعنف بهم في الحديث، فقد يجب أن يقال الحق وإن لم يبلغ من نفوسهم موضع الرضا، وقد يجب أن يقال الحق وإن بلغ في نفوسهم موضع الغضب، وأثار في قلوبهم موجدة وغيظًا. والمواطنون الأعزَّاء قد تعوَّدوا أن يُكَالَ لهم المدح كيلًا، ويهال عليهم الثناء هيلًا، حتى رضوا عن أنفسهم أعظم الرضا، وسخطوا على غيرهم أشد السخط، وناموا ملء جفونهم والأحداث لا تنام، وعاشوا ساهين لاهين تتخطَّفهم النوائب وتعبث بهم الخطوب، فلا يغير ذلك من رأيهم في أنفسهم وحياتهم شيئًا؛ لأنهم قد ألفوا الرضا عن أنفسهم، والاطمئنان على حياتهم، فأصبح من أعسر العسر أن تخرجهم من هذا الرضا، أو تزعجهم عن هذا الاطمئنان.. ولا بُدَّ مع ذلك من أن يبصروا بحقائق الأمر، ومن أن يخرجوا من رضاهم، ويزعجوا عن اطمئنانهم، ويعلموا أنهم يعيشون أبغض العيش، ويحيون أبشع الحياة"2.

وهكذا تلتقي خيوط الرؤيا الصحفية لاهتمامات القرّاء، كما تلتقي بالتقويم السياسي أو الاجتماعي والثقافي، فإذا كانت "الحياة الأدبية في مصر

1 المرجع نفسه.

2 المرجع نفسه.

ص: 382

يشملها فتور مهلك"1، فإن الحياة السياسية والاجتماعية -كما يبين مما تقدَّم- يشملها فتور "مدن من الهلاك"2 ومواجهة الأمرين وإن تعددت في الأساليب، إلا أنها تلتقي في رؤيا صحفية شاملة تذهب إلى استخدام المقال الصحفي في إيقاظ القراء، كما ذهبت إلى استخدام المقال النقدي "إيقاظ النائمين بالعنف3، وهو لذلك قد يتوسَّل بالنزال أو الكاريكاتير أو التحليل الصحفي، تعمدًا لإيقاظ قوم نيام، قد طال عليهم النوم حتى كاد يشبه الموت"4. أو كما يلخص حالهم في المثل العربي القديم:"جوع وأحاديث"5 الذي اتخذه عنوانًا للمقال المتقدِّم، ويذهب إلى أنه "لم يوضع إلّا لهم، ولم يضرب إلّا فيهم، ولم يصوِّر إلا ما دأبوا عليه وتورطوا فيه، من كلام كثير لا يغني، وعمل قليل لا يفيد"6.

وصفوة القول: إن فن المقال الصحفي في أدب طه حسين بأساليب تحريره المتنوعة، يرتبط باستراتيجية قومية لا تفصل بين أساليب التحرير ومضمون المقال، من خلال نموذج اتصالي بالجماهير، يتمثَّل فيه مكانه من قيادة الفكر في تكوين الرأي العام المصري، الأمر الذي يوجِّه مقاله الصحفي إلى النهوض بمهام التوجيه والإرشاد والتقويم والتثقيف والتنشئة الاجتماعية، وهو لذلك يُعْنَى بالاجتماع والسياسة والاقتصاد عنايته بالفن والثقافة جميعًا، بحيث يمكن القول: إن طه حسين قد انتقل بالمقال الصحفي المصري من مرحلته اللغوية الأولى، إلى حيث أصبح يمثل العقل الذي يفسر ويوازن ويحلل ويشرح، ولم يعد ذلك اللسان المتبرع بالمدح أو الذمِّ وفقًا للأهواء دون ما ضابط. والواقع أن المقال الصحفي أخذ يقترب كثيرًا من الخبر والتحقيق الصحفي من حيث الموضوعية والدراسة، فهو عند طه حسين يشتق موضوعاته من الحياة الواقعة، وكذلك يشتق لغته من نفس تلك الحياة الواقعة، ويكتب باللغة التي يفهمها أكبر عدد ممكن من الشعب على اختلاف أذواقهم أو أفهامهم أو بيئاتهم وثقافاتهم، وهذه اللغة هي اللغة القومية في مستواها العملي وليست صورتها العامية، لأنها تمتاز بالبساطة والوضوح والإيناس واللطف والرشاقة، وتنأى ما أمكن عن صفات التعالي على القرَّاء، والتقَعُّر أو الغرابة في الأسلوب، والمبالغة في التعمق الذي لا تقبله طبيعة الصحف بحالٍ ما، على نحو ما تمثله البلاغة الجديدة في الاتصال بالجماهير.

1، 2، 3 مجلة الثقافة في 3 يناير 1939، فصول في الأدب والنقد ص11.

4 المرجع السابق ص10.

5، 6 البلاغ في 17 نوفمبر 1947، بين ص148.

ص: 383

ومن أجل ذلك وجدنا فنَّ المقال الصحفي في أدب طه حسين يقوم على الوضوح والدقة الاستقرائية والتشويق في صياغة المقال. الأمر الذي يجعله يقاوم إغراء الزوايا المحيطة بالنبأ أو الحدث، ليجيء مقاله مركَّز الفكرة، محدَّد الموضوع، واضح الهدف، بسيط التعبير، فينتقي من هذه الزوايا ما يخدم أهداف المقال، وما يرتبط ارتباطًا وثيقًا بقضيته، ونحن نعرف أن "الكاتب الذي حدَّدَ أهداف مقاله، ويتذكرها طوال تحريره، لن يستسلم لإغراء الهوامش، أو النقاط التي قد تذهب بالموضع بعيدًا عن قضيته الأساسية، والتي تكون في الغالب على حساب المراحل الأخرى في تحليل الموضوع وتحرير المقال، وهي مراحل قد تتساوى في الأهمية1". فوضوح الهدف على نحو ما تشير إليه دراسة الرؤيا الإبداعية في مقال طه حسين وتحديده يعصمان المقال من الاقتضاب المخلِّ، أو الغموض الذي يَضُرُّ بعملية الاتصاب بجمهور القارئين. ذلك أن المقال الأمثل هو الذي يعطي الحقائق في أسلوب بسيط ومباشر يؤثر الوضوح ويفضله في الاتصال بالقارئين2.

وهو الأمر الذي يرتبط بالرؤيا الإبداعية في مقال طه حسين كما تَقَدَّم، حيث تنبع بنية المقال وأسلوب تحريره من رؤيا تحرص على الوضوح والتميز، في نسق استقرائي يحتفظ باهتمام القراء، ويفجر رغبتهم في المعرفة، ويضعهم في حالة "ترقب" مستمر لما يجيء "من بعد"، كما يفعل الكاتب القصصي، ويمكن أن نتصور هذا النسق الاستقرائي في نمطين من الأنماط التي يتألَّف منها المقال الصحفي، في أدب طه حسين:

1 M. Lyl Spencer، op. cit.، p. 93.

2 George Fox Matt and others، op. cit.، p. 241.

ص: 384

الصفحة بها رسوم

1-

النمط الأول:

"أ" شواهد مستقاة من الأنباء والاحداث والوقائع تتعلق بالنبأ الجديد.

"ب" استخلاص دلالات جديدة للنبأ عن طريق مواجهته بحالات خبرية مقابلة.

2-

النمط الثاني:

"أ" نبأ جديد محدد، أو حدث معين، أو شاهد موضح.

"ب" استقراء للنبأ الجديد أو الافتراض الناشئ عنه من خلال حالات خبرية سابقة أو ملازمة أو متصلة الوجود ومقابلتها بالنبأ الجديد المحدد في قمة الهرم "أ".

ص: 385

ويبين من هذين النمطين بنية المقال الصحفي أن الكاتب قد يتوسّل بالهرم المقلوب أو بالهرم المعتدل في بنية المقال، على أن النمطين يتوسَّلان بأدوات التحليل الاستقرائي في تحرير المقال الصحفي بصفة عامة.

ويمكن أن نستخلص سمات هذا التحليل في بناء مقال طه حسين فيما يلي:

أولًا: الاهتمام بمحور المقال

ومقدمته، ومدخله التمهيدي، ومظاهر هذا الاهتمام في مقال طه حسين تتلخَّص فيما يلي:

1-

العناية بعنوان المقال:

يتميِّز عنوان المقال الصحفي عند طه حسين بأنه عنوان "إعلامي" يشير إلى مضمون المقال، وأغلب الظن أن طه حسين قبل أن يشرع في إملاء المقال يكون قد تصوَّر عنوانه ومدخله وشواهده وخلاصته، ولذلك وجدنا هذا العنوان يرتبط ارتباطًا عضويًّا بمقدمة المقال، ومحوره وخلاصته، رغم أن هذا العنوان في كثير من الأحوال لا يتجاوز الكلمة الواحدة، ولذلك فإن قدرة طه حسين في انتقاء هذه الكلمة المعبِّرة الإعلامية ميزةٌ يمتاز بها بين الكثيرين من معاصريه، كما أن اتجاه العنوان إلى هذا التركيز الإعلامي يوحي بأن صلة القرَّاء بالكاتب كانت قد تمكَّنَت وتوثَّقت عراها، بحيث يخيل إلينا أن القارئ حين يقرأ عنوان المقال عند طه حسين يجد نفسه مشوقًا إلى معرفة الدلالات التي تكثفها هذه الكلمة الواحدة، التي تجمع في حروفها الدلالة العامة التي استخلصها من شواهده وأخباره واستقرائه، ونجد من ذلك على سبيل التمثيل للارتباط العضوي بين العنوان ومحور المقال ومقدمته، هذا العنوان:

"مفاوضات1":

"ليس موضوعها استقلال مصر، فقد انقضى ولو إلى حينٍ ذلك العهد الذي كانت تُعنى فيه الوزارات، أو تستطيع فيه الوزارات أن تُعنى بالمفاوضة في استقلال مصر، وأصبحنا والحمد لله في عهد سعيد تُشْغَل الوزارات فيه عن الاستقلال بما هو أجلّ من الاستقلال خطرًا، وأبلغ من الاستقلال تأثيرًا في حياة مصر، فإذا أتيح لها أن تفكر في الاستقلال واستكماله، فإنما تفكِّر في ذلك لتدخله في بيان من هذه البيانات التي تذاع يوم تؤلف الوزارات2".

وهكذا يبين من الضمير في كلمة "موضوعها" أن الضمير عائد على عنوان

1، 2 كوكب الشرق في 19 أكتوبر 1933.

ص: 386

المقال، أي: "مفاوضات بحيث لا يمكن الاستمرار في قراءة المقال دون التفكير في عنوانه، الذي يواصل الكاتب مدخله التمهيدي في إزالة ملابسات الدلالة لهذا اللفظ الذي ينتقيه، ليستخدمه بعد ذلك استخدامًا نزاليًّا، يصور انشغال الحكومة عن القضايا الأساسية التي يمكن أن يدل عليها عنوان المقال إلى قضايا يسلي هَمَّ المحزون.

"فقد علمت الآن أنها "أي: المفاوضات" هذه التي تجري بين الوزارة، أو بين عضوين من أعضاء الوزارة، وبين حزب الشعب، ولهذه المفاوضات خصائص تمتاز بها من جميع المفاوضات التي سبقتها، ومن جميع المفاوضات التي قد تلحقها.

"ومصدر هذه الخصائص إنما هو الظروف التي أسقطت وزيرًا وأقامت مكانه وزيرًا آخر، وأحدثت في حزب الشعب اضطرابًا أقلَّ ما يوصف به أنه يسلي هم المحزون.

ومن ذلك يبين أن طه حسين يستخدم العنوان استخدامًا وظيفيًّا لخدمة وظائف المقال والدلالة عليها، ففي المثَلِ المتقدِّم تعرَّفْنَا على غرض نزالي، ذهب العنوان إلى تحقيقه، الأمر الذي يجعل للعنوان عند طه حسين شخصية متميزة، يوفر لها الكاتب عدة خصائص في مقدمتها: تركيز عبارات العنوان بحيث يجرده من جميع الألفاظ التي يمكن الاستغناء عنها؛ وقد رأينا كيف أن هذا التركيز يصل بالعنوان في كثير من الأحيان إلى كلمة واحدة؛ ومن العناوين التي اتخذت كلمة واحدة1.

- خلاف2.

- أزمة3.

- معضلة4.

- ثورة5.

1 من كُتَّابِنَا الكبار الذين تأثَّروا بمدرسة طه حسين في هذا النمط المقالي الأديب الكبير ثروت أباظة.

2 كوكب الشرق في 21 مارس 1933.

3 كوكب الشرق في 14 أبريل 1933.

4 كوكب الشرق في 21 أبريل 1933.

5 كوكب الشرق في 23 مايو 1933.

ص: 387

كما نجد في بعض العناوين النزالية استخدام فعل الأمر في التعبير عن العنوان، والحكمة في ذلك هي أن يستميل القارئ ويشعره بأنه يعيش في جوِّ الموضوع الذي يتحدث عنه المقال، ومن ذلك:

- تعالوا فانظروا بمن ابتلاني؟

الوزارة الإدارية1

أو استخدام الفعل المضارع في التعبير عن العنوان لنفس الغرض، مثل:

- الناس يتحدثون: الوفد والوزارة2.

كما يستخدم علامات التعجب لتوحي بالسخرية أو التعجب في خدمة أغراض النزل:

- الوزارة تعمل! 3.

ومن خصائص العنوان في مقاله طه حسين كذلك حرصه الشديد على أن تكون ألفاظه ملائمة بقدر المستطاع لغرضه وللطراز الذي جُمِعَ به، ومن ذلك:

- بين العروبة.. والفرعونية4.

والغرض من ذلك هو تركيز عبارات العنوان، وتوفير الحيز الذي يمكن استغلاله في تحليل دلالات الموضوع، التي توحي إليها الكلمة المركزة أكثر من غيرها.

ونخلص من ذلك إلى أن عنوان المقال عند طه حسين يشير إلى الارتباط العضوي بين العنوان وموضوع المقال الذي يعبِّرُ عنه، بل إن هذا الارتباط في كثير من الأحيان ارتباط لفظي، كما تبين من استخدام الضمير في النموذج المتقدِّم، وكما يبين من الارتباط بين هذا العنوان ومقدمة الموضوع.

- تجربة 5

"ليس في نجاحها "أي: التجربة" شك ولا ريب، فيجب أن تستغلَّ، وأن تستغل إلى أقصاها! وهي هذه التجربة التي عمد إليها رئيس الوزراء ليتبيَّن ويتبيَّن الذين يؤيدونه، أيمكن أن تجري الأمور في مصر على وجه من الوجوه دون أن تكون فيها وزارة قائمة! ".. إلخ.

1 السياسة في أول ديسمبر 1922.

2 السياسة في 19 يناير.

3 السياسة في 29 ديسمبر 1922.

4 الجمهورية في 2 ديسمبر 1961.

5 كوكب الشرق في 14 مايو 1933.

ص: 388

كما أن عنوان المقال عند طه حسين يشير صراحةً إلى قدرته على سبر الأسرار اللغوية العربية واستخدامها بما يخدم أغراض المقال، ويؤدي وظائف العنوان، ومن ذلك ما يشير إلى حصيلته اللغوية واستخدام أسرارها استخدامًا وظيفيًّا هذا العنوان:

"رمتني بدائها وانسلت1.

ويرتبط هذا العنوان كذلك بمقدمة المقال ارتباطًا عضويًّا، يقول:

والتي رمتني بِدَائِهَا هي إذاعة دمشق والطائفة الطاغية الباغية التي تدير أمرها، وتوجه أحاديثها، وتفرض عليها في كل لحظة أن تغيّر حقائق الأشياء، وأن تتكلف الكذب على السوريين وغير السوريين في غير تحفُّظٍ ولا تحرُّج ولا استحياء. وداؤها الذي رمتني به هو أني لم أكتب المقال الذي نشرته الجمهورية صباح السبت الماضي من تلقاء نفسي، ولا من وحي ضميري، ولا من تفكير عقلي، وإنما أُمْلِيَ عليّ ذلك المقال فحفظته عن ظهر قلب، وأمليته كما تلقيته، وأرسلته إلى الجمهورية فنشرته كما تلقته مني2".. إلخ.

"جوع وأحاديث3".

كما يستخدم كلمة "بطر..! 4" عنوان المقال يردُّ فيه على مزاعم الانفصال السوري عن الوحدة. ويستخدم كلمتي: "التبعة الكبرى5" عنوانًا لمقال يحمِّل المتمردين في سوريا تبعات الانفصال كما تقدم، وما ترتَّب عنها من تحرُّش إسرائل، وتحويل مجرى الأردن.

كما يستخدم عنوان: "السياسة السلبية6" للدلالة على سياسة الوزارة النسيمية.

وكما أفاد أسلوب طه حسين من ثقافته الأوربية إلى جانب الثقافة العربية، فأضفى عليه مزاجًا خاصًّا؛ فيه من لغة العرب البيان والإشراق واللمح، وفيه من الفرنسية الوضوح والإبانة والدقة، يمكن القول كذلك أن عنوان مقاله قد أفاد من هذا المزاج ومن هذه السمات.

1 الجمهورية في 14 أكتوبر 1961.

2 الجمهورية في 14 أكتوبر 1961.

3 البلاغ في 17 نوفمبر 1947.

4 الجمهورية في 21 أكتوبر 1961.

5 الجمهورية في 18 أكتوبر 1961.

6 السياسة في ديسمبر 1922.

ص: 389

ولذلك نجده في بعض الأحيان يستعير "عنوانًا" من كاتب فرنسي معروف، جعله عنوانًا لمقال له في صحيفة فرنسية1، كما نجد في عنوان:

- "رسل البغضاء2".

الذي استعاره من صيحفة "الفيجارو". وهذا المقال يصور أروع تصوير وأبرعه نفوس المحافظين من أنصار الاستعمار، وعقولهم وضمائرهم وقلوبهم أيضًا3.

وإذا كان المازني قد أخذ على أسلوب طه حسين كثرة العطف حيث لا مقتضى هناك للكثرة، وكثرة التكرار للألفاظ، والترديد للعبارات، فقد رأينا أن هذا التكرار محمود صحفيًّا؛ لأنه يؤدي وظائف صحفية، وهو الأمر الذي يمتاز به مقال طه حسين في استخدام "العطف" كذلك في عنوان المقال، كان يكتب عنوانًا يقول:

- "والآن

5".

- "ثم

6".

وفي هذا المقال تبدأ المقدمة بقوله: "نعم ثم، كلمة تتردد في جميع الأفواه، وتنفتح عنها جميع الشفاه، وتضطرب في كل قلب، وترتسم في كل عقل، وتفرض نفسها على كل ضمير، منذ ختم صدقي باشا، أو ختمت أعمال صدقي باشا، أو ختمت الظروف القاهرة لصدقي باشا حياته اليائسة "مساء الخميس". ومن ذلك يبين كيف منح طه حسين لهذا اللفظ مدلولًا سياسيًّا.

ويتسم عنوان المقال عند طه حسين كذلك بحاسَّته المتميزة في بناء الجملة التي يشتمل عليها العنوان أو انتقاء الألفاظ بحيث لا تحتمل غموضًا أو إبهامًا، ومن ذلك:

- "وقوف وصمت7"

- "وزارة بلا برنامج8"

- "إن الله مع الصابرين.. أهذا هو برنامج 10 الوزارة؟ "

- "حديث وتصحيح، أو تورط كامسترو9"

1، 2، 3 الجمهورية في 2 سبتمبر 1960.

4 المازني، مرجع سبق.

5 كوكب الشرق في 6 سبتمبر 1933.

6 كوكب الشرق في 23 سبتمبر 1933.

7 السياسة في 28 نوفمبر 1922.

8 السياسة في 3 ديسمبر 1922.

9 السياسة في 4 ديسمبر 1922.

10 السياسة في 8 ديسمبر 1922.

ص: 390

- "سياسة المعاذير1"

- "البرنامج المرن - لوزان2"

- "بم يخفق البرق3"

- "خوف ومكر4"

- "الوحي مشفق5"

- "لا تفروا!! 6"

- "إذن فقد استقالوا7"

- "تكلّم نسيم! 8"

وكثيرًا ما يكون للعنوان في مقال طه حسين بحد ذاته قيمة حقيقة في التحرير؛ إذ يمكنه أن يعبر عن الرأي الوارد في المقال الصحفي بأكلمه، أو يمهِّد الطريق إليه. على أنه يقتصر في بعض الأحيان الأخرى على أن يكون مجرد دافع أو حافز للانتباه.

ومن ذلك يبين أن العنوان عند طه حسين؛ سواء أكان جملة أم كلمة واحدة فأكثر، يعتبر وحدة لغوية قائمة بذاتها، ولكنه لا يتعارض مع مبدأ تجريد العبارة أو الجملة أو الوحدات اللغوية التي يتألف منها العنوان من جميع الألفاظ التي يمكن الاتسغناء عنها، بحيث يجيء العنوان في نهاية الأمر مرتبطًا بمضمون المقال ارتباطًا عضويًّا، موحيًا بما فيه.

2-

التقديم للمقال بالدلالة العامة المستخلصة في التمهيد لمحور الموضع:

كما يبين من النمط الأول في بناء المقال، والذي يتخذ شكل الهرم المقلوب المستَخْدَم في القصة الخبرية، بمعنى: أن الكاتب يأتي بالفكرة الرئيسية، أو الدلالة العامة المستخلَصَة من استقرائه في صدر المقال، ثم ينتقل بعد ذلك إلى مقابلة

1 السياسة في 11 ديسمبر 1922.

2 السياسة في 12 ديسمبر 1922.

3 السياسة في أول يناير 1923.

4 السياسة في 9 يناير 1933.

5 السياسة في 11 فبراير 1923.

6 السياسة في 11 فبراير 1923.

7 السياسة في 11 فبراير 1923.

8 السياسة في 27 مايو 1923.

ص: 391

الحدث الجديد بحالات خبرية سابقة أو ملازمة أو متصلة الوجود على النحو المتقدِّم، وفي هذا النمط المقالي عند طه حسين يبين الأثر الصحفي المستفاد من قالب القصة الخبرية، على أننا نرجِّح أن اتجاهه إلى هذا النمط إنما هو أثر من آثار الأسلوب الاستقرائي الديكارتي في التحليل، وفي هذا النمط المقالي نجد أن صدر المقال يشتمل على أهم النقط الرئيسية المستخلصة من الدلالة الجديدة لموضوع المقال، كما أن هذه الدلالة الجديدة ترتبط ارتباطًا عضويًّا بعنوان المقال كما تَقَدَّمَ، ومن ذلك أيضًا مقال بعنوان:

- "مضاربة

1" يقول في مقدمته:

"يظهر أنها قوام سياستنا الرسمية في هذه الأيام، ليست مقصورة على القطن، وإنما تتجاوزه إلى غيره من المصالح العامة التي تعنى بها الوزارة، أو تشتغل بها الأحزاب المؤتلفة حول الحكم. فلم يكن صدقي باشا إلّا مضاربًا حين أنذر بالاستقالة من الحكم، وحين أقدم عليها. كان يرجو أن يربح فلم يظفر إلا بالخزان، ولم يكن صدقي باشا إلّا مضاربًا حين فَصَلَ من الحزب مَنْ فصل؛ ثم سحب قراره سحبًا، وارتاح لعودة المفصولين، وطلب إلى حزبه أن يرتاح.

"ولم يكن رئيس الوزراء إلا مضاربًا حين استقال من حزب الشعب، كان يقدِّر أنه سيضعف حزب الشعب أو سيضعف خصمه صدقي باشا رئيس حزب الشعب، فلم يبلغ مما كان يقدر شيئًا، لأن حزب الشعب لم يكن قويًّا فيضعف، ولأن صدقي باشا لم يستمد قوته في يوم من الأيام من حزب الشعب2".

وهكذا ينتقل من الدلالة العامة المستخلصة من الأحداث، إلى مناقشة الأحداث الملازمة والمتصلة الوجود بالحالة السياسية، والتي يستخلص منها هذه الدلالة التي طرحها في مقدمة المقال، ذلك أن "كل شيء يأتيه هؤلاء الناس الآن مضاربة تقوم على حب الخطر والمجازفة، وعلى اللعب بما في اليد من الورق، فقد يربح اللاعب، وقد يخسر، وما دام الربح ممكنًا فلا ينبغي التقصير في طلبه والسعي إليه3".

"ثم يختم المقال بنتيجةٍ تتفق مع الدلالة التي استخلصها في مقدمة المقال:

1، 2 كوكب الشرق في 14 نوفمبر 1933.

3 المرجع نفسه.

ص: 392

"ما أعرف أن مصر احتاجت في يوم من الأيام إلى أن يطهر جوها السياسي كما تحتاج إلى ذلك في هذه الأيام1".

3-

أما النمط الثاني في بنية المقال الصحفي عند طه حسين فهو نمط الهرم المعتدل:

ذلك أن الفكرة النهائية أو الخلاصة أو الدلالة العامة المستخلصة تأتي في النهاية، وأما الشواهد والحالات الخبرية فتكون قبل ذلك، على أن قمَّة هذا الهرم تبدأ بحدث محَدَّد أو مثال معين؛ أو شاهد موضح، تتم مقابلته في صلب المقال بحالات خبرية سابقة أو ملازمة أو متصلة الوجود، من خلال الأسلوب الاستقرائي في العرض والتحليل والمقابلة، حتى ينتهي المقال عند قاعدة الهرم المعتدل بالدلالة الجديدة المستخلصة من هذا الاستقراء، داخل سياق حركة الأحداث، كما سبق أن عرضنا لنماذج من هذا النمط عند الحديث عن المقال التحليل.

ونكتفي في هذا الصدد بنموذج واحد من مقالات طه حسين التي توسَّلت بهذا النمط في بنية المقال، ونعني مقال: "غموض

2"، والذي يبدؤه بحدث محدد يصدر به مقدمة المقال:

"كان الناس يتهامسون في الأسبوع الماضي بأن شيئًا جديدًا قد طرأ في مسألة الدَّيْنِ وأداء فوائده ذهبًا أو ورقًا؟ وكانوا يتهامسون بألوان من الأحاديث في تفسير هذا الشيء الطارئ، وأشرنا نحن إلى هذا كله حين أخذنا الوزارة القائمة بالمواقف المريبة التي تقفها بإزاء المفاوضات والامتيازات والدَّيْن. ولم نرد أن نبسط القول، فقد زعموا أن من الحق على الصحف إذا عرضت لبعض المسائل السياسية الخارجية أن تصطنع الدقة وتحرص على الاحتياط، وألا تقول كل ما تعلم حتى لا تخرج الذين يشتغلون بهذه السياسة الخارجية، ولا تثير من المشكلات ما لا خير في أن يثار، لذلك لمَّحنا ولم نصرِّح، وأجملنا ولم نفصِّل، وقدرنا أن في هذا التلميح ما يكفي.

"ولكن يظهر أن الأهرام تريد أن تخطو خطوة أوسع من خطوتنا نحن، فهي تلمِّح أيضًا ولكن تلميحها أقرب إلى التصريح، وهي تجمل ولكن إجمالها أدنى إلى التفصيل، وهي تحدثنا صباح اليوم بأن مسألة الدَّيْنِ قد طرأ عليها تعقيد

1 المرجع نفسه.

2 كوكب الشرق في 12 أبريل 1933.

ص: 393

سياسي له قيمته وخطره، فالظاهر أن المندوب السامي قد ذهب إلى لندرة ليقنع حكومته بمعونة مصر في أن تدفع ذهبًا".

ومن ذلك يبين أن صدر المقال يركِّز على حدث سياسي معين، يتخذ منه موضوع مقاله الصحفي، ثم يناقشه على النحو الذي تحدثنا عنه فيما تقدَّم، مناقشة استقرائية يخلص منها إلى دلالة عامة في خلاصة المقال، وبوسعنا أن نسمي صدر المقال تأسيسًا على ذلك "بوحدة الإعلام" في بنية المقال الصحفي.

ثانيًا: التعريف بالموضوع

ويمثّل هذا الجزء من المقال الصحفي العروة الوثقى التي يصل بها طه حسين مقدمة الموضوع بصلبه، والتمهيد لقارئه، حتى يستمرَّ في قراءة التفاصيل التي تؤيد فكرة الموضوع بعد ذلك، والآراء التي يوحي بها النبأ الأساسي، وفي بعض الأحيان يشرح المقال الصحفي الأسباب التي تولدت عنها هذه الآراء. وبوسعنا أن نسمي هذا الجزء بوحدة "رد الفعل" في المقال الصحفي التي تمهد للوحدة الثالثة، وهي الوحدة المحورية أو "وحدة المناقشة".

ويتوسَّل طه حسين في بناء هذه الوحدة: وحدة رد الفعل، بوسيلتين:

1-

وسيلة الضرب المتكرر على وتَرِ الاهتمام عن طريق التعبير المتنوع غير الممل:

وقد سبق أن تعرَّفْنَا على خاصية التكرار في أسلوب طه حسين، واستخدامها استخدامًا وظيفيًّا يخدم وظائف المقال الصحفي، على أن من مظاهر هذا الاستخدام الوظيفي كذلك أن وحدة رد الفعل في مقاله، تتجه في معظم الأحوال إلى التأكيد من خلال أسلوب مشوِّق على الفكرة المحورية التي يهتم بها المقال، ومن أمثلة ذلك التكرار الوظيفي في مقال بعنوان:"أزمة2" بقوله:

"ليست هي الأزمة الاقتصادية، فالناس جميعًا يلقون من شرِّها ونكرها ما يطاق وما لا يطاق، والناس جميعًا يتحدثون عنها بالمعقول وغير المعقول، والناس جميعًا يتمنَّون لها حلًّا، ويعجزون عن هذا الحل، لأن الذين إليهم الأمر لا يعملون ولا يخلون بين غيرهم وبين العمل.

"وليست هي الأزمة الوزارية، فقد فتح باب هذه الأزمة مرات ثم أغلق، وانتهى الأمر إلى ما عرفت من ترقيع إِثْرَ ترقيع. وما زال باب الأزمة الوزارية مغلقًا منذ الترقيع الأخير، وإن كانت الحوادث والأحداث تقرع هذا الباب منذ

1 كوكب الشرق في 12 أبريل 1933.

2 كوكب الشرق في 14 أبريل 1933.

ص: 394

حين مُلِحَّةً عنيفةً، وتوشك أن تنتهي إلى فتحه؛ لأن الشاعر القديم لم يكذب حين قال:

أخلق لذي الصبر أن يحظى بحاجته

ومدمن القرع للأبواب أن يلجأ

"والحوادث والأحداث محتاجة إلى أزمة وزارية ملحة فيها، وهي ظافرة بها من غير شك، ولعل ظفرها أن يكون قريبًا، أقرب مما يظن المسلطون على مصر في هذه الأيام. فلا أريد إذن أن أتحدث إليك عن الأزمة الاقتصادية، ولا عن الأزمة الوزارية، لأني لا أريد أن أحزنك، ولأني لا أريد أن أعلِّلُكَ بالأماني والآمال، وإنما أريد أن أحدثك عن الأزمة البرلمانية، لأني أريد أن ألهيك بعض التلهية، وأسليك بعض التسلية، وأصرفك بعض الوقت عَمَّا أنت فيه من التفكير في السياسة والاقتصاد1"

إلخ.

2-

وسيلة التناقض، وعرض وجهة النظر المضادة أو المتناقضة، أو رأي مؤيد لهذه الوجهة المضادة: والاستيثاق من أضعف الجوانب في هذه الوجهة، ثم ما يلبث طه حسين أن يأخذ بتلابيب هذا الجانب ويظل في تحليله، ومجاراة منطقة في اشتقاق النتائج حتى يظهر كل ما يحمله هذا العنصر من الضعف من الحاجة إلى التقويم، ومن ذلك في "حديث المساء" مقال بعنوان: "جهاد

2" يقول فيه:

"جهاد علمائنا في سبيل الله معروف، وذَوْدُ علمائنا عن حقِّ الله معروف، وبلاء علمائنا في ذات الله لا غبار عليه؛ وآية ذلك أن كلمة الإسلام هي العليا، لا في مصر وحدها، ولا في الشرق الإسلامي وحده، بل في البلاد التي تسود فيها الديانات الأخرى أيضًا.

"لا يستطيع أحد أن يعرض للإسلام بسوء، فهو إن قال في الإسلام ما لا يحب المسلمون نهض له علماء الإسلام من أهل الأزهر، فما زالوا به يحاجونه ويجادلونه ويناضلونه، حتى يلزموه الحجة، ويفحموه ويضطروه إلى الإذعان وإلقاء السلاح. ومن عَرَّضَ للإسلام بعمل قليل أو كثير ينافي أصوله، أو يناقض قواعده، نهض له العلماء من أهل الأزهر، فردوه ردًّا، وصدوه صدًّا، واستعدوا عليه سلطان الدولة، وأجلبوا عليه خيل الدولة ورجلها، حتى يتوب ويثوب، أو ينزل به ما هو أهلٌ له من العقاب"3. ويستمر بهذا المنطق الساخر في تبيان تناقض مواقف رجال الأزهر مع الرسالة التي ينبغي أن يقوموا بها في أثناء الوزارة الصدقية:

1 المرجع السابق.

2 كوكب الشرق في 30 مايو 1933.

3 كوكب الشرق في 30 مايو 1933.

ص: 395

"أنظر إليهم وقد اجتمع مجلس الشيوخ أمس، فكان مما نظر فيه أمرًا من الأمور، للدين فيه حكم قاطع ورأي ساطع، ومذهب واضح لا سبيل إلى النزاع فيه، وكان القانون الذي عُرِضَ على مجلس الشيوخ أمس؛ يريد أن ينحرف بعض الشيء عن حكم الدين، ويميل إلى أن يَزْوَّرَّ بعض الشيء عن حجة الصواب، فلما عُرِفَ أمرُ هذا القانون بين علماء الإسلام، قاضوا به، وتنكَّروا له، واجتمعوا أفواجًا يزورون شيخهم الأكبر، ملحين عليه أن يجرد عزمه، وينضي همه، ويذهب إلى مجلس الشيوخ حتى إذا عرض هذا القانون، أرسل على الشيوخ والوزراء من لسانه الغضِّ، وبيانه العذب، صواعق النذير والتحذير، حتى يسترد الوزراء قانونهم، أو يرفضه الشيوخ. وكانت أفواج العلماء قد كلفت نفسها هذا العناء في غير غناء، فما كان الشيخ أيده الله في حاجة إلى التنبيه، وما كان الشيخ أيده الله في حاجة إلى التذكير، وهل ينفق الشيخ بياض يومه وسواد ليله إلا ساهرًا ناظرًا، ومراقبًا محاسبًا يبحث شكوك الشاكين، وريب المرتابين، وكيد الكائدين، ومكر الماكرين، فيردَّ سهام هؤلاء جميعًا في نحورهم؛ ويحمي الإسلام من شرورهم! فكان أعزَّه الله وأصلح باله، لا يستقبل وفدًا من وفود العلماء، ولا يلقى فوجًا من أفواجهم إلا قال: "بارك الله فيكم، لقد نبهتم غير غافل، وأيقظتم غير نائم، فارجعوا مأجورين مشكورين موفورين!! "1. ثم ينتقل من هذا العرض لوجهة النظر الأخرى إلى تبيان المفارقة بين العناصر المتباعدة في الواقع، على النحو الذي ذهب إليه في المقال الكاريكاتيري:

"حتى إذا كان مساء أمس، أقبل الشيخ ومن حوله زملاؤه العلماء الذين يشتركون في أعمال مجلس الشيوخ، وفي وجوههم سماحة الإيمان، وعلى وجوههم شدة الغضب للحقِّ، فلما دخلوا المجلس نظر إليهم الأعضاء من غير العلماء، امتلأت قلوبهم حبًّا ورعبًا! ثم عُرِضَ القانون، فما هي إلّا أن يهمَّ الشيخ بالكلام، حتى ينهض وزير الحقانية مضطربًا حيران، كأنما أخذه دوار، فيعلن في صوت متهدِّج من الخوف، أنه يرى على وجه الشيخ وأصحابه أبقاهم الله ذخرًا للإسلام، وعزًّا للمسلمين، إنكارًا لهذا القانون، فهو يسترده معتذرًا من تقديمه، واعدًا أن لا يعود إلى مثله، مستعطفًا للشيخ وأصحابه، فيغضي الشيخ في تواضع وعزة ورضى ويصفق الأعضاء، ويكفي الله المؤمنين القتال، فلا نزال ولا نضال، بل انتقال إلى جدول الأعمال!!.

"كذلك تحدَّثت شهر زاد، ولكن الصباح لم يلبث أن لاح، فسكت عن الكلام المباح! وخرج الناس من بيوتهم مع الشمس، فاشتروا ما تعودوا أن يشتروه من الصحف، وقرأوا أخبار مجلس الشيوخ، فقرأوا شرًّا، ورأوا نكرًا،

1 المرجع نفسه.

ص: 396

ووجدوا في الأهرام خلافًا لما تحدثت به شهر زاد! وجدوا أن الشيخ الأكبر أعزَّه الله وأبقاه تخلَّف عن المجلس مساء أمس، وأن الناس فسَّروا تخلفه بأنه أراد ألا يشترك في إقرار هذا القانون، ووجدوا في الأهرام أن تفسير الناس لغيبة الشيخ لم يكن فيما يظهر خطأ، فقد أيده خروج عالمين من علماء الدين، أحدهما مفتي الديار المصرية، من المجلس حين عُرِضَ هذا القانون، وأيده عالم ثالث من علماء الدين، وهو من كبار العلماء لم يخرج، ولكنه أعلن أنه لا يوافق على القانون.

"أما الأعضاء الآخرون من غير العلماء، فقد وافقوا على هذا القانون بالإجماع، وأما وزير الحقَّانية فقد خرج ظافرًا بقانونه الذي أقرَّه المجلسان، كذلك قالت الأهرام صباح اليوم، أما الشعب فسكت عن غيبة الشيخ الأكبر، وعن خروج المفتي الأكبر وصاحبه، وذكرت مخالفة الشيخ الذي لم يغب ولم ينسحب.

"وقرأ الناس هذا كله، فحاروا وداروا، أيصدقون شهرزاد؟ وإذن فيجب أن تُحَاكَمَ الأهرام؛ لأنها أهانت علماء الإسلام، وأضافت إلى شيوخ الدولة ووزرائها ما لم يفعلوا ولم يقولوا؟ أم يصدقون الأهرام؟ وإذن فيجب أن تحاكم شهرزاد؛ لأنها تخيِّلُ للناس غير الحق، وتصوِّر لهم أن علماءهم ورجال دينهم يؤدون واجبهم للدين على أحسن وجه، ويؤدون واجبهم للرأي على أحسن وجه، ولا ينسحبون، وإنما يحضرون ثم ينكرون ثم يظفرون، كذلك تصوِّر شهرزاد للمسلمين أمر علماء المسلمين، فتملأ قلوبهم ثقة وأملًا واطمئنانًا، حتى إذا أصبح الصباح، وأضاء بنوره ولاح، جاءت الأهرام بغير هذا الكلام، فخابت الآمال، وساءت الحال، وتبدَّل الناس من ثقتهم شكًّا، ومن طمأنينتهم خوفًا، ومن أملهم يأسًا!.

"يجب أن تحاكم شهرزاد، ولكن أين شهرزاد؟ إنها تضرب في البلاد، ولعلها الآن في بغداد، أو في إرم ذات العماد، تلك التي شادتها عاد! "1.

ثم ينتقل بعد ذلك إلى مناقشة القانون "الذي غاب له شيخ، وانسحب له شيخان، وأبى أن يوافق عليه شيخ رابع"2.

ومن نماذج استخدام التضاد أو المفارقة في المقال الصحفي، مقال بعنوان:"خلاف"3 يقول فيه:

"نعم خلاف في ظل الائتلاف، وشِقَاقٌ تحت جناح الوفاق، وخصام في

1، 2 المرجع نفسه.

3 كوكب الشرق في 21 مارس 1933.

ص: 397

أحضان السلام، ولم لا؟ وأين وجدت الأخوة الذين لا يختلفون، ومتى رأيت الأشقاء الذين لا يختصمون، وإنما الحياة سبيل إلى اتفاق الرأي حينًا، واختلافه أحيانًا، ولا سيما حين تكثر المغريات، وحين تتيح الحظوظ للأصدقاء الأصفياء أن يقوى بعضهم، ويضعف بعضهم الآن، وأن يعز منهم فريق، وأن تمتلئ أيدي جماعة منهم بالخير، وتصفر أيدي جماعة أخرى من كل شيء، والأحزاب المؤتلفة في الحكم إنما تتألَّف من أفراد؛ فيهم فضائل الناس ونقائصهم، فهم يتفقون على المصالح العامة التي لا تضر أشخاصهم، وهم يختلفون عند المصالح الخاصة التي يمكن أن يفيدوا منها مالًا وجاهًا قليلًا أو كثيرًا.."1.

ثالثًا: الوحدة المحورية - وحدة المناقشة

وهي التي تمثِّل صلب المقال الصحفي، حيث تقوم على استقراء الشواهد والأحداث الخبرية، ومقابلتها بالفِكَرِ المحورية المستقاة من النبأ الجديد، بهدف استخلاص دلالات جديدة منها، ويتوسَّل طه حسين في بناء هذه الوحدة المحورية بوسيلتين هما:

1-

استخدام الأمثلة والشواهد، وقد عرضنا لهذه الوسيلة عند الحديث عن المقال الرئيسي.

2-

استخدام المقارنة أو المقابلة بهدف استخلاص دلالات جديدة في ضوء الحركة العامة للأحداث من خلال أسلوب استقرائي في التحليل، كما سبق تفصيل ذلك عند الحديث عن المقال التحليلي.

رابعًا: الدلالة أو الخلاصة

وهذه هي الوحدة الأخيرة في بنية المقال، ويتوصَّل الكاتب إلى استخلاصها عن طريق:

1-

المقارنة أو المقابلة بالأحداث الخبرية المماثلة.

2-

المقابلة بالأحداث الخبرية الأخرى التي قد تكون متماثلة أو غير متماثلة، ولكن هذه المقابلة تتم في إطار الحركة العامة للأحداث.

ونخلص مما تقدَّمَ إلى أن المقال الصحفي عند طه حسين بأشكاله المتنوعة، والتي عرضنا لها في هذا البحث، يتسم في تحريره بطابع الأسلوب الاستقرائي، الذي يتوسَّلُ به طه حسين في أداء الوظائف الصحفية للمقال، واستثارة الاهتمام بالأفكار التي يتضمَّنُها موضوعه وأسلوبه في عرض تلك الأفكار، فهو يستخدم لغة صحفية تتسم بالوضوح والتميز، ويتوخَّى بلهجة المرجع الثقة، وبذلك يعمل على التخفيف من رد الفعل الناجم عن التسرع،

1 المرجع نفسه.

ص: 398

واللامبالاة أحيانًا، لأن الأسلوب الاستقرائي ييسر سلامة التحليل وصحته، كما يحمل أسلوبه الخاص بمقتطفات مناسبة في مطالعاته، يتمثَّلها في أسلوبه؛ بحيث ترتبط بالبنية العامة للمقال ارتباطًا وثيقًا، ويتصوَّر بنية مقاله في ذهنه قبل الشروع في إملائه، وغالبًا تأتي البنية على شكل قطعة من النثر الحديث، تَتَّسِمُ بالرشاقة والحيوية والمتانة والمعرفة والأصالة.

والواقع أن الأشكال المتنوعة للمقال الصحفي في أدب طه حسين قد نبعت وتشكَّلت من تصور طه حسين لوظائف المقال الصحفي: تفسير الأنباء، وتوجيه الرأي العام، والقيام بالحملات النزالية لمساندة القضايا الخيرة كما رآها، في ضوء الاستراتيجية القومية، وما تتضمنه من وسائل وغايات.

ص: 399