الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والأدباء للأدباء، ولكن ذلك شيء واختلاف الذوق شيء آخر، وهؤلاء كتاب أوربا وأدباؤها يتحدث بعضهم إلى بعض، ويتحدثون إلى جمهور الناس في الفرنسية أو الإنجليزية أو الألمانية، فلا يختلف الذوق الأدبي فيما يكتبون باختلاف القرَّاء، وإنما يؤثرون الوضوح والجلاء حينًا؛ فيطنبون ويسهبون ويصطنعون ألفاظًا ألفها الناس، ويؤثرون القصد والإيماء حينًا؛ فيوجزون ويتخيَّرون ألفاظًا منتقاة، والذوق هو الذوق، والكتابة هي الكتابة، وروح العصر الذي يعيشون فيه هو فيما يكتبون لنظرائهم، وفيما يكتبون لعامَّة الناس"1.
فالبلاغة الجديدة -إذن- في الاتصال بالجماهير عند طه حسين لا تتناول الألفاظ وحدها، وإنما تتناول الألفاظ والأساليب والمعاني و"فنون القول على اختلافهما. علينا أن نحتفظ بقواعد اللغة ونظمها العامة فلا نفسدها، ولكن علينا أن نخضع هذه اللغة لما نشعر ولما نجد، وأن نمنحها من المرونة ما يمكنها من أن تكون أداة صالحة لوصف ما نشعر وما نجد"2.
وتأسيسًا على هذا الفهم، فإننا نحاول فيما يلي إيجاز الخصائص والسمات العامة لهذه البلاغة الجديدة في مقال طه حسين:
1 السياسة في 13 يونيو 1923، المرجع السابق ص16.
2 السياسة في 27 يونيو 1923، المرجع السابق ص36.
التبسيط والنمذجة الصحفية:
والتبسيط سمة من أهم سمات الفنِّ الصحفيِّ الذي يعرض الأحداث والأفكار عرضًا يرتبط بظروف المرسل والمستقبل جميعًا1، ولذلك تسعى البلاغة الجديدة إلى النمذجة والتبسيط؛ لأن العقلية الجماهيرية تركن إلى الاستعانة بالرموز والأنماط والنماذج والتبسيط لتقوم مقام التجربة الفردية أو الجماعية2، ذلك أن قيود الاتصال الصحفي -كما يقول طه حسين- تقتضي "السرعة والنظام الدقيق، وتحتاج بعد هذا كله إلى أن تملأ الصحف الأنهار التي أخذت نفسها بأن تقدمها إلى قرَّائها في كل يوم أو في كل أسبوع"3، فإذا كان "الأديب يكتب للذين يسيغون الأدب ويقولونه ويجدون في قراءته لذَّةً ومتاعًا"4 فإن "الصحفي يكتب لكل قارئ، أو قل: يكتب لكل إنسان، فما أكثر ما يجلس الأميُّون إلى هذا القارئ أو ذاك ويستمعون لما يُتْلَى عليهم.
1، 2 الدكتور إبراهيم إمام: مرجع سبق ص45، 46، 47.
3، 4 من أدبنا المعاصر ص169.
وليس بُدٌّ للصحفي -كما يقول طه حسين أيضًا- أن يكتب لهؤلاء جميعًا كلامًا يفهمونه حين يقرأونه أو يسمعونه"1.
فالتبسيط والوضح إذن من مقومات الاتصال الصحفي الناجح بالجماهير عند طه حسين -ذلك أن الأصل في الكلام- أنه وسيلة "تتوسل بها إلى الإعراب عَمَّا تريد أن يفهمه غيرك فهمًا واضحًا جليًّا لا لبس فيه ولا غموض، والكلام كله يشترك في هذا الأصل سواء منه ما كان شعرًا وما كان نثرًا، 0وسواء منه ما تحدَّث إلى العقل وما تحدَّث إلى القلب والشعور، فإذا خرج الكلام عن أصل البيان والتبيين هذا، فكان فيه غموض أو التواء، فمصدر ذلك قصور في المتكَلِّم أو الكاتب أو قصور في السامع أو القارئ: قَصَّر ذاك فلم يحسن الإعراب عَمَّا يريد، أو عجز هذا فلم يحسن الفهم عما أُلقِيَ إليه، وقد يكون الغموض مقصودًا ويُتَعَمَّد الالتواء، ولكن هذا الكلام الغامض الملتوي واجد على كل حال من يقرؤه أو يسمعه فيفهمه فهمًا صحيحًا مستقيمًا"2.
على أنَّ التبسيط والنمذجة الصحفية في مقال طه حسين، ترتبط بالفهم الوظيفي النابع من الاستراتيجية القومية لديه كذلك في التدعيم والتغيير. ذلك أن "لغة الصحف"3 في نموذجه الاتصالي -كما تَقَدَّمَ- لغة وظيفية "موجهة للشعب ومعلِّمَةٌ له في وقت واحد، فمنَ الحقِّ عليها أن تغري هذا الشعب بقراءة ما يرفعه شيئًا عن حياته اليومية، وعن أحاديثه التي يديرها أبناؤه بهذه اللغة العامية التي إن امتازت بشيء فهي لا تمتاز بالصفاء والنقاء"4، ذلك أن لغة الصحف -في إطارٍ من التعليم والتوجيه الوظيفي- عند طه حسين تقتضي مذهبًا في "الكتابة يلائم العصر الذي نعيش فيه، ويلائم الصحف بنوع خاص"5، ولذلك يذهب إلى أن "تُكْتَبَ الصحف بلغة هذا العصر الحديث، على أن تكون هذه اللغة صافية نقية مبرَّأة من هذا الابتذال الشائع الذي يفسد الذوق ويفسد رأي الشباب في لغتهم العربية"6، ذلك أن "الشباب يقرأون الصحف ويمعنون في قراءتها، ويتأثرون بما يقرأون فيها من ناحية اللغة ومن ناحية التفكير أيضًا، ويفسد عليهم ذلك تفكيرهم وتعبيرهم جميعًا"7.
1 من أدبنا المعاصر ص169.
2الدكتور طه حسين: فصول في الأدب والنقد ص158.
3، 4، 5 الدكتور طه حسين:"لغة الصحف" جريدة "الجمهورية" في 20 أغسطس 1960.
6، 7 المرجع نفسه.
وفي ضوء هذا الفهم الوظيفي، يذهب طه حسين إلى تيسير الكتابة والنحو تيسيرًا يفيد في الاستخدام العملي الوظيفي للغة العربية وألفاظها وتركيب جملها، وتأليف الكلام "على نحوٍ عمليٍّ منتجٍ"1، هو ألزم ما يكون في الاتصال الصحفي بالجماهير، الذي "يحقِّقُ لهم الصلة اليومية بينهم وبين الذين يشاركونهم في الوطن والمصالح، أو بينهم وبين الذين يشاركونهم في الحياة الإنسانية بوجه عام"2.
ومن ذلك يبين دور اللغة في التبسيط والنمذجة الصحفية في فنِّ المقال الصحفي، الدور الذي يقتضي توافر: الوضوح لقصد الإفهام، والقوة لقصد التأثير، والجمال لقصد الإمتاع في أسلوبه العام، فالتبسيط والوضوح ضمان من حيث الإفهام، وإفادة القراء ورفع مستواهم الثقافي. ولذلك يذهب طه حسين إلى مطابقة الأسلوب الصحفي لمقتضيات الاتصال بالجماهير مطابقة تقوم على الفهم عند القراءة أو السماع3، ولذلك يسخط على الكُتَّابِ المتكلفين -كما تَبَيَّنَ من معركته مع الرافعي- سخطًا شديدًا لما يتسمون به من غموضٍ مصدره الجهل أو الغفلة4، ذلك أن طه حسين في تحريرمقاله، كما يقول دائمًا "باحث يحاول أن يفهم، ويحاول أن يدعو غيره إلى الفهم والاستقصاء"5.
ولتحقيق هذه الوظيفة، يتوسَّلُ طه حسين بالتبسيط والنمذجة الصحفية كما تَقَدَّمَ، وتقوم هذه النمذجة على انتزاع بعض الصفات وتحريرها من سباقها العام، ثم إبرازاها وإلقاء الضوء عليها6 من خلال الحركة والتفصيل والتنغيم والمقابلة والتضاد، وتلاحظ في هذا الصدد أن طه حسين يبدأ مقاله في معظم الأحيان بتعريف الموضوع في بيئته وزمانه، ثم يعرُج على تخطيط كامل لملابساته، ولا يلبث أن يعرض لكل احتمالات الصعوبة في تحديد بعض النماذج، ثم يتلوها ببيان كامل لكافَّة الجزئيات المنتزعة، والمناسبات التي لا يحسن إغفالها، وكأنما يتصوَّر النماذج في تجسيمها المساحي دفعة واحدة، وسنجد هذه السمات تصل إلى درجة التصوير الكاريكاتيري، كما سيجيء عند الحديث عن المقال الكاريكاتيري، حين يتوسَّلُ بالمبالغة والسخرية والأطراف في النمذجة الكاريكاتيرية، كما في "نموذج""سيدنا" في "الأيام"، ونموذج المندوب السامي البريطاني الذي اختارته بريطانيا ليخلف "السير برسي لورين"
1 المرجع السابق.
2 من مقدمة الدكتور طه حسين لكتاب "هذه صحافتنا بين الأمس واليوم" للأستاذ جلال الدين الحمامصي.
3 من أدبنا المعاصر ص 169.
4 حديث الأربعاء جـ3 ص101-123.
5 المرجع نفسه ص20.
6 الدكتور إبراهيم إمام: مرجع سبق ص47.
فهو: "طويل القامة، يرتفع في الجو مترين، ثقيل الحجم، يزن قنطارين، صلب العظام، قوي العضل. مهيء بهذا كله فيما تقول بعض الصحف الإنجليزية للقاء المعضلات، واجتياز العقبات، وتذليل المصاعب والخروج من الخطوب"1، ثم يقابل بين هذه الصورة "التي لا تخلو من قوة وطرافة، وبين ما تنتظر أو ما تريد أن يأتيه المندوب السامي الجديد من العمل السياسي في مصر"2.
ويخلص من هذه المقابلة إلى نمذجة المقاومة المصرية في الشعب المصري الذي "جرَّبَ الطوال والقصار، والخفاف والثقال من المندوبين الساميين"3، ولكن "عنف العنيف لم يخف هذا الشعب، ولم يصرفه عن حقه، ولين اللين لم يخدع هذا الشعب، ولم يلهه عن حقِّه، وإنما ثبت الشعب للرجلين جميعًا؛ أو للرجال جميعًا، ومضى الشعب يطالب باستقلاله لا يضعف عن المطالبة"4.
كما يصوِّرُ نموذجًا نضاليًّا لمصر "الكلمة في حياة الأمم والأجيال منذ عشرات القرون قبل أن يعرف غيرها من الشعوب معنى كلمة الأمم والأجيال، بل قبل أن يعرف التاريخ غيرها من الشعوب بزمن طويل"5، وأهل"مصر الآن كما كانوا من قبل يعرفون معنى الحرية والاستقلال، ويقدِّرون قيمة العزة والكرامة، ويحرصون أشدَّ الحرص على أن يكونوا أحرارًا مستقلين، ويجدّون أشد الجدِّ في أن يكونوا أعزة كرامًا"6.
ويتوسَّلُ طه حسين في نمذجته الصحفية بما يسميه المرحوم سيد قطب "الاستعراض التصويري"7، حيث يستخدم الكلمات والجمل في تصوير المناظر والحوادث والمعاني، والخطرات النفسية والآراء السياسية والالتفاتات الذهنية على السواء، وتلك ميزته "الكبرى كصاحب شخصية أدبية وصاحب مذهب فني كذلك"8. على أن هذه الميزة في المقال الصحفي تُسْتَخْدَمُ استخدامًا وظيفيًّا في النمذجة الصحفية لأسباب خارجية أهمها التبسيط للجماهير9، ولذلك يتوسَّل في هذه النمذجة بالإحساس الفني وليس بالخيال، كما في النمذجة الأدبية، كما نجد في نمذجته لمقاومة الشعب المصري للمحنة الدستورية والسياسية في إطارٍ من سياق حركة الأحداث10، ومن ذلك قوله عن سخرية المصريين11:
1، 2، 3 كوكب الشرق في 20 أغسطس 1933.
4 المرجع نفسه.
5، 6 كوكب الشرق في 14 سبتمبر 1933.
7، 8 سيد قطب: كتب وشخصيات ص110، 111.
9 الدكتور إبراهيم إمام: مرجع سبق ص46.
10، 11 كوكب الشرق في 25 مارس 1933.
"ما أكثر ما عني الشعراء وأصحاب الفن بابتسامات الأفراد هذه، فأبدعوا وأجادوا وأظهروا للناس آيات فنية خالدة، وما أخلقهم أن ينظروا إلى ابتسامات أخرى ساخرة، هي أروع من تلك الابتسامات وأجمل، وهي أشد منها وقعًا في القلوب وأبعد منها أثرًا في النفوس؛ لأنها ابتسامات تترجم عن سخرية الشعوب من قوة الأقوياء وازدراء الأمم لسلطان المتجبرين، في هذه الابتسامات الشعبية جمال الصبر والجلد، وجمال العزة والشمم، وجمال الثقة والأمل، ومنها فوق هذا كله وبعد هذا كله جمال التضامن الصادق1.
فهذه الصورة التي يتوسَّل في تصويرها بإحساسه الفني لا تنفصل عن الواقع الملموس لحركة الأحداث: "ما أجمل هذه الابتسامات وقد ارتسمت على ثغر مصر منذ نهض رئيس الوزراء بأعباء الحكم، فما زالت مرتسمة على هذا الثغر لم تفارقه ولم تتحوَّل عنه، ولم يشبها عبوس، ولم يغيِّر من صفائها وجمالها تقطب ولا شحوب. لقد نظرت مصر إلى صدقي باشا حين ألَّفَ وزارته ففهمت ما كان يريد، فابتسمت له مشفقة عليه تعظه وتحذره، ولكنه أخطأ فهم هذه الابتسامة.. إلخ"2.
ويتوسَّلُ طه حسين بالنمذجة الصحفية في مقاله كذلك لترجمة المصطلحات الجامدة المجردة المعقدة إلى مصطلحات الواقع العملي النابض بالحياة، شأنه في ذلك شأن الكُتَّابِ الذين عالجوا الكثير من المدارس الفنية والفلسفية والعلمية الحديثة رغم صعوبتها بمصطلحات الفنِّ الصحفي فأمكن نشرها بين الجماهير3. ذلك أن طه حسين يتوسَّلُ بالنمذجة من أجل التبسيط، لتوصيل هذه المعلومات إلى الجمهور بطريقة مفهومة مستساغة، كما نجد في تبسيطة لفلسفة ديكارت4 وأدب فاليري5 وفولتير6 والأدب الفرنسي الحديث7 والفلسفة الوضعية8، وكما نجد في نموذجه للعدل الاجتماعي ومكانه بين الاشتراكية والرأسمالية9، والالتزام عند سارتر10، و"الأدب المظلم"11.. إلخ. ولعلَّنَا نستطيع أن نذهب تأسيسًا على هذا الفهم
1 كوكب الشرق في 25 مارس 1933.
2 المرجع نفسه.
3 الدكتور إبراهيم إمام: مرجع سبق ص11.
4، 5 الكاتب المصري في أكتوبر 1945.
6 الكاتب المصري في ديسمبر 1945.
7 الكاتب المصري في أبريل 1946.
8، 9 الكاتب المصري في مايو 1946.
10 الكاتب المصري في أغسطس 1946.
11 الكاتب المصري في مارس 1947.