الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
2-
المقال الوصفي والتقرير الصحفي:
نقرن بين المقال الوصفي والتقرير الصحفي عند طه حسين عن عمد؛ لأنه يُقَرِّبُ المسافة بين الأدب والصحافة، حيث يغدو هذا الفن المقالي متميزًا بالإيجاز في التعبير، والواقعية في التصوير، والحديث عن شخص بعينه، أو مكان بعينه، أو ظاهرة بعينها، على غير ما نجد في الوصف الأدبي الذي يقوم على نقل أحاسيس الكاتب وصورة الواقع كما تنعكس على مرآة نفسه، ومن ذلك ما نجد في مقالات أحمد أمين في "وحي البحر" و"بجوار شجرة ورد" و"مع الطير"1، وكما نجد عند ميخائيل نعيمة في "الصخور"2، وعند الرافعي في "الربيع"3، ذلك أن المقال الوصفي عند طه حسين يقرب أن يكون تقريرًا صحفيًّا لارتباطه بأغراض الصحافة ومراميها ومستويات جماهيرها، وهو لذلك يعتمد على الدقة التامة في وصف الواقع الملموس، وعلى إيراد الشواهد التي يشتقها من الحوادث التي يدركها، وعلى ربط هذه الشواهد كلها بحياة الأفراد في المجتمع. وقد تعرَّفْنَا على مظاهر من ذلك في أسلوب طه حسين ونمذجته الصحفية، التي تتيح له في المقال الوصفي خاصة أنه يتوسَّل بالكلمات والجمل في نمذجة المشاهد والحوادث والمعاني والآراء السياسية والذهنية على السواء، من خلال إحساسه الفني وليس بالخيال كما يذهب الوصف الأدبي، ذلك أن السليقة الفنية تتيح له أن ينمذج الواقع في نماذج حسية مجسمة، من خلال التشكيل العملي للرموز اللغوية، تشكيلًا تطبيقيًّا وظيفيًّا.
ومن ذلك التوسُّل بالمقال الوصفي في "التنوير" على النحو المتقدِّم في مقالات "من بعيد" التي نُشِرَت في "السياسة" قبل أن تجمع في كتاب، ومقالات "رحلة الربيع والصيف" قبل أن تجمع في كتابين أيضًا، وغيرها من المقالات التي تصوّر الغرض التنويري الواضح بعالم جديد، وتنمية التقمُّص الوجداني والتفتح السمح في نفض غبار التخلُّف، وتيسير السبل أمام التجديد والمعايير العصرية، ولذلك يستعين بسليقته الفنية في الوصف الصحفي، ويجمع
1 أحمد أمين: فيض الخاطر جـ2 ص، أو جـ3 ص259 وجـ4 ص6.
2 ميخائيل نعيمة: البيان ص173.
3 مصطفى صادق الرافعي: وحي القلم جـ1 ص12، الدكتور محمد يوسف نجم: مرجع سبق ص114.
الملاحظات ويقارن بينها، ويحاول أن ينقل المعاني الحقيقية التي تكمن وراء المحسوسات، ويتعزّى "بجمال الأدب والفن والموسيقى عن قبح السياسة والمنافع وغدر الغادرين ومكر الماكرين وخيانة الخائنين"1 ويسخر من موقف الاتجاه الفكري المحافظ من "الشعر الجاهلي" في سخطٍ هادئ، ونقمة رزينة تكمن وراء التنوير بالمعايير العصرية التي يستمدُّها من أسفاره عبر البحر2، وعبر الزمان أيضًا، فمقاله في زيارة "أثينا" يصف اختصار الزمان ليخلص للقيم الإيجابية في الماضي أو "لقطعة منه، ويمضي في المستقبل إلى غير غاية أو هدى، ويقف في الحاضر لا يعدوه إلى أمام ولا إلى وراء، ويجمع إن شاء بين هذا كله فيفرق نصه تفريقًا3، ولكنه مع ذلك يصور "نشأة العقل ونمو الفن وحياة الشعور ويقظة الضمير، ويرى طريق الحضارة والرقي ترسم للأجيال وتقام فيها الأعلام تدفع إليها الإنسانية دفعًا"4.
وطه حسين لا يستخدم السليقة الفنية في هذا التصوير بهدف الفرار من الواقع، ولكنه يستخدمها في تصوير النموذج السياسي والاجتماعي المنشود، فهو يذكر في مقاله عن اليونان كيف "نظمت القوانين ما يكون من الصلات بين الحاكمين والمحكومين، وردَّت القوانين إلى الشعب أمور الشعب، وجعلت القوانين حكام الشعب خدمًا للشعب5".. إلخ. فهو يتمثل النموذج الذي يتغياه لمجتمعه، حين يستدعي سقراط ومحاوريه وأفلاطون ومناظريه وأرسطاطاليس وتلاميذه"6 ويبرأ إليهم "جميعًا من الشر والنكر والإثم"7 ويشهدهم جميعًا على أنه قد وفَّى "لمثلهم العليا"8.
ويختم هذا المقال بعودته إلى الواقع حين تدعوه زوجته قائلة: "فعد إلى القرن العشرين بعد المسيح، وأهبط معنا إلى حيث يعيش الناس في المدينة الحية، فقد يخيِّل إلي أنك أنسيت قهوة الضحى"9. وبهذا القول يتحدد الانتقال بالمقال الوصفي من ذاتية الأدب إلى موضوعية الفن الصحفي، حيث يذهب في مقالاته التالية إلى الاعتماد على وصف الواقع الملموس، وإيراد الشواهد المشتقة من هذا الواقع، يقول أولًا، في تحقيق ما سمع عن البلد الذي يصفه بما رأى كشاهد عيان، "فما أكثر ما قرأوا، وما أكثر ما سمعوا عن حياة اليونان في بلادهم! قوم يقولون أنها بلغت من البؤس أقصاه، وقوم يقولون إنها بلغت من النعيم أقصاه، وقوم يقولون إن اليونان كغيرهم من الناس قد
1، 2، 3 رحلة الربيع والصيف ص17، 5، 6، 7.
4 المرجع نفسه ص7، 8، 11.
5 المرجع نفسه ص7، 8، 11.
6، 7، 8، 9 المرجع نفسه ص11.
لعبت بهم تلك الآلهة العمياء التي تسمى المصادفة، فأعطت بغير حساب وحرمت بغير حساب"1.
ثم يطابق هذه الصورة بما عاين بنفسه:
"وقد بلغنا قهوة من قهوات "آثينا" فنقبل عليها مكدودين، ويتلقانا خادمها باسم الثغر مشرق الوجه يعرض علينا ما عنده في يونانية فصيحة، فإذا لم نفهم عنه عرض علينا ما عنده في فرنسية متعثرة، وإذا هو يعرض علينا غير ما تعرض القهوات على الناس في بلاد الترف والرخاء، وما نكاد نجلس إلى قهوتنا ونقبل على قليل من طعام حتى ننظر فإذا المعوزون والمعدمون يساقطون علينا من كل وجه ويأخذوننا من كل نحو، كلهم جائع يريد أن يُطْعَم، وكلهم محروم يريد أن يُعْطَى، وكلهم قد ظهر في وجهه البؤس وألحَّ عليه الضرر"2.
ومن هنا يقترب المقال الوصفي من التقرير الصحفي، ويستخدم الوصف الصحفي استخدام فنان مصور لما يدركه بالوصف الحسي، الذي يمزجه في أحيان كثيرة ببعض خواطره التي تختفي في ثياب العرض الاستقصائي الذي اتسم به أسلوب طه حسين، وقد أتاحت له هذه الميزة أن يلتقط بعض الصور الطريفة التي تختفي في ثياب العرض الاستقائي الذي اتسم به أسلوب طه حسين، وقد أتاحت له هذه الميزة أن يلتقط بعض الصور الطريفة التي يغذي بها مقاله، واتسم عرضه بالطرافة. ومن ذلك، ما يشير إلى مغزى هذه الصور الطريفة كذلك:
"وقد فاجأتنا في هذه المدينة، بل فاجأتنا قبل أن نهبط من السفينة ظاهرةٌ كنا نسمع عنها ولا نحققها، فالدرهم اليوناني قد أصبح وهمًا من الأوهام، ولا يكاد عقل يحقق منه صورة واضحة، ويكفي أن تعلم أن المليم المصري يعدل ثمانية وعشرين درهمًا يونانيًّا، وأن القرش المصري يعدل ثمانين ومائتي درهم يوناني، وأن الجنيه المصري يعدل ثمانية وعشرين ألف درهم يوناني، وإننا لم نقم عن قوتنا حتى طلب إلينا الخادم سبعة عشر ألف درهم ولم ننزل من سيارتنا حتى طلب إلينا السائق سبعين ألف درهم، واشترينا صحيفة ضئيلة نحيلة تصدر بالفرنسية فدفعنا ثمنها خمسمائة درهم، وعدنا إلى أماكننا من السفينة وقد أنفقنا في صباحنا بين هذه الألوف المؤلفة أقل من ثلاثة جنيهات"3.
1 المرجع نفسه ص14، 15.
2 المرجع نفسه ص14، 15.
3 المرجع نفسه ص16.
وهكذا يوظِّفُ طه حسين أدوات الوصف والتصوير في أسلوبه، لما يتمتع به من حِسٍّ عميق بمواقع الكلمات وجرسها ودلالاتها وإيحاءاتها في الوصف الصحفي، حين يقدِّمُ صورة مدروسة للواقع، كما فعل الجاحظ بالنسبة لعصره. فالمقال الوصفي في صحافة طه حسين يشرح ويفسر ويعلق، ويبين الأسباب النفسية، والعوامل الاجتماعية والخلقية والمادية، وتلك هي وظائف التقرير الصحفي1، والذي يتجاوز الوصف الأدبي إلى الدراسة الواعية الهادفة2. الأمر الذي يبين بوضوح تامٍّ في رسائل "من باريس" التي نُشِرَت في صحيفة "السياسة" عام 1923، حيث يتخذ المقال الوصفي شكلًا من أشكال التقرير الصحفي بمفهومه الحديث، من قيامه أساسًا على البحث عن الوقائع، وما يتبعها من قضايا، إلى جانب الطريقة الفنية في العرض الواقعي؟ فقد سافر طه حسين إلى باريس وبلجيكا ليشهد مؤتمر العلوم التاريخية في أبريل 1923، وينتهز هذه الفرصة ليوافي جريدته بتقارير صحفية تتخذ شكل "الرسائل من الخارج" تتضمَّن الوقائع ومقارنة الظروف في وطنه بالظروف في البلاد الأخرى، وهو لذلك "ينقِّبُ عن المعلومات التي يمكن أن تصنع التقارير الصحفية"3، ثم يُخْضِعُ هذه المعلومات والوقائع للوصف الصحفي، ليدعِّمَ تقريره، ذلك أن "الوقائع دائمًا أقوى من الأوصاف والنعوت البسيطة"، ولذلك يستهِلُّ رسالته الأولى "من باريس" والتي تحمل عنوان: "أسبوع بلجيكا - مؤتمر العلوم التاريخية"4 بقوله:
"كنا ألفًا أو نزيد على الألف، كلنا يُعْنَى بالتاريخ أو بعلم أو بفنٍّ من فنون هذه العلوم التي يحتاج إليها التاريخ. وقد اجتمعنا من أطراف الأرض على اختلاف أوطاننا ولغتانا ومناهجنا في الحياة، لا يجمع بيننا إلّا شيء واحد، هو أننا نشتغل بالتاريخ أو بفنٍّ يتصل بالتاريخ"5.
ويحدد الهدف الذي يسعى إليه من وراء تقريره، بتحديد فوائد هذه المؤتمرات:
"كثيرة جدًّا الفوائد المختلفة التي تنتجها مثل هذه المؤتمرات، فلست أذكر الفوائد الأساسية التي يستفيدها علم التاريخ، وإنما أذكر فوائد أخرى غير هذه، ليس بينها وبين التاريخ صلة. فيكفي أن تكون فطنًا دقيق الملاحظة لتجد لذَّاتٍ متنوعة في ملاحظة هؤلاء الناس المختلفين في الوطن والجنس والطبيعة والمزاج
1، 2 الدكتور إبراهيم إمام: مرجع سبق ص142.
3 دافيد بوتر "ترجمة محمد مصطفى غنيم" مخبرو الصحف ص79، 80.
4 السياسية في 26 أبريل 1923.
5 المرجع نفسه.
وما لكلِّ واحد منهم من عادة أو خلق أو مزية أو نقيصة. والحق أني استفدت كثيرًا من الوجهة العلمية التاريخية، ولكني مع هذا ضحكت كثيرًا وسخطت كثيرًا؛ فقد كان حولي منهم من يبعث السخط. ولكني سأحدثك عن هذا كله في مقالٍ آخر"1.
ثم يقوم في مقال آخر بوظيفة المقرِّر الصحفي، حين لا يكتب في مكتبه أو في غرفة التحرير بالصحيفة كما يفعل كاتب المقال، وإنما يجمع الحقائق اللازمة لتقريره، ثم يمحِّصُها ويصنِّفُها قبل تحريره، فيقدِّم تقريرًا مفصَّلًا لأعمال كل لجنة من لجان المؤتمر "ليرى المشتغلون بالتاريخ في مصر كيف يتصور علماء أوروبا التاريخ، وكيف يقسمونه إلى أقسامه المختلفة"2 ويشفع هذا التقرير بملاحظاته، ليعصمه من جفاف مادته، بالقياس إلى القارئ، الذي يشعره بأنه "العين التي يبصر بها، والأذن التي يسمع بها، والحواس التي يحسُّ بها، وهو يعرف جيدًا أن عليه أن ينقل إلى القارئ جميع الأحساسيس فور شعوره بها وإدراكه لها"3، الأمر الذي يفسِّر اتخاذ شكل "الرسائل" المتتالية، يبعث بها "من باريس" متناولًا في كل رسالة وقائع التقرير أولًا بأول، من خلال الإجابة عن سؤالي "لماذا" و"كيف"، في إحاطة بالموضوع وتعمق في الملاحظة، ومع هذا ليس هناك -كما يقول "كارل وارين" خط واضح يفصل بين الموضوعات -الإنسانية والتقرير- فحدودها تختلط كما تختلط الألوان في قوس قزح4، بحيث يمكن القول أن الموضوعات أو الأعمدة الإنسانية ليست إلّا امتدادًا للتقرير الصحفي5.
ولذلك نجد طه حسين في رسائله من بلجيكا، لا يقتصر على مؤتمر العلوم التاريخية، وإنما ينقل إلى قرائه تقريرًا عن "عيد الملك"6 الذي أتيح له أن يشهده فور الاحتفال به، ويُشْفِعُه بخواطره وآرائه في واقع هذه البلاد:
"لا أذكر ما كان يضطرب في نفسي من خواطر الأسى والإعجاب، ومن عواطف الأسى والأمل أثناء الطريق بين باريس وبروكسل حين كنَّا نعبر هذه البلاد التي دمَّرتها الحرب تدميرًا، فلم تذر فيها شيئًا إلّا أتت عليه، والتي كان أهلها مشردين في أقطار فرنسا يتكلَّفون ألوان المشقَّة ويستجدون ضروب الإحسان ليستَقرّوا بعد تشريد، وليشبعوا بعد جوع. فأصبحت هذه البلاد ولما تمض على الحرب أعوام عامرة مزدهرة مستكملة أو آخذة في استكمال وسائل الحياة العاملة المنتجة الناعمة المترفة، كنت آمل آسى لقسوة الإنسان
1، 2 السياسة في 2 مايو 1923.
3 الدكتور عبد اللطيف حمزة: مرجع سبق ص311.
4، 5 كارل وارين "وترجمة عبد الحميد سرايا": كيف تصبح صحفيًّا ص135.
6 السياسة في 27 أبريل 1923.
على الإنسان وكنت أعجب بقدرة الإنسان على إصلاح ما أفسدت يد الإنسان".
فالمقال الوصفي إذن -عند طه حسين- نواة لفن التقرير الصحفي، من حيث أنه فن "التنوير والتثقيف بأسلوب جديد يصل إلى كافّة الأفهام، وهو فن يختلف عن فن الكتاب العادي؛ لأنه ينطوي على تحرير صحفي، وفنٍّ تصويري، وتجسيد للمعاني، وتبسيط الحقائق، مع تيسير الفهم لكافة المستويات الثقافية"1. ولذلك يذهب طه حسين إلى التوسُّل بفن الرسائل التقريرية، كما تبيَّن في رسائل "من باريس"، وكما يتوسَّل بفن الحديث الصحفي، في إطار الواقع العملي، والتعبير عنه باصطلاحات مبسَّطة مع الابتعاد عن الاصطلاحات العملية والفنية المجردة.
ويبين اهتمام طه حسين بفنِّ الحديث الصحفي ومكانه من رؤياه الصحفية في مقالٍ نقله في "الكاتب المصري" لـ "إميل لدفيج"2، الكاتب الألماني الشهير، نشره في "ريفي دي باري" عدد ديسمبر 1946 عن فن الأحاديث الصحفية، ويذهب من عرضه إلى أن هذا الفن من أمتع الوسائل الصحفية، وأنه ليس مجرد نقل حديث كما قيل حرفيًّا، بل إنه يحتاج إلى فن وأسلوب أكثر مما يعتقد القارئ3. الأمر الذي يميز هذا الفن التحريري في صحافة طه حسين، كما يبين من الحديث الذي اشترك مع مصطفى عبد الرازق في إجرائه مع "تاجور" ونشرته السياسية الأسبوعية بعنوان: "ساعة مع تاجور"4، وهو من هذه الناحية فن جديد، يشترك في إجرائه كاتبان، بحيث يمكن أن نسميه "حديثًا حواريًّا" يمتاز بخصائص مسرحية أشار إليها "لودفيج" في فن الحديث5، حيث يبين أن الحديث الحواري جاء مدروسًا، تظهر فيها خصائص "تاجور"، وتكشف الأسئلة عن جذب اهتمامه، بحيث يتخطَّى الحديث مرحلة "السؤال والجواب"، إلى أن يكون طريقة جديدة في الحديث تكشف عن حالة المتحدث العقلية عند الإفضاء.
فيذهب طه حسين ومصطفى عبد الرازق في إجراء حديثهما مع "تاجور" عند زيارته لمصر، إلى التوسل بالملاحظة والقدرة على الوصف والتصوير وإدارة الحوار، بحيث تغني المقدمة التصويرية للحديث عن "الصور الفوتوغرافية" التي أشار إليها "لودفيح".
1 الدكتور إبراهيم إمام: مرجع سبق ص24.
2، 3 مجلة الكاتب المصري فبراير 1947.
4 السياسة الأسبوعية في 4 ديسمبر 1926.
5 الكاتب المصري فبراير 1947.
"بلغ بنا المصعد الطابق الثالث من فندق شبرد فأخذنا عن اليمين، ثم ذهبنا في مجازٍ طويل انتهى بنا إلى باب وراءه تاجور.
"تَقَدَّمَ الأديب المهذَّب مسيو سوارس، فدقَّ برفقٍ مرتين، وفتح الباب غير منتظر إذنًا، ودخلنا على أثره معه. الحجرة في زاوية بحرية غريبة، يقع الباب في الناحية الشرقية منها، فإذا دخلت وجدت سريرًا وأثاث مضجع متوسط التنجيد، ووجدت قبالتك ركنًا ممهدًا فيه عن اليمين منضدة فوقها طاقة من ورد حمراء، وعن اليساء مكتب صغير ألقيت تحته جرائد إنجليزية منشورة، ومن فوقه كتب وأدوات كتابة ومحظفة من الجلد ومصباح كهربائي وإناء فيه أزهار بيضاء.
"بين الرياحين والأوراق، في ذلك الركن الشبيه بالمحراب استوى الشاعر الفيلسوف على كرسي غير عالٍ في ثوبه البرتقالي الفضفاض، وهو حاسر الرأس وقد خلع نعليه"1. ثم تكشف المقدمة سمات "تاجو" وخصائصه كما تَبينُ على وجهه:
"تاجور ذو وجه مستطيل سمح الملامح، يكلله شعر مسترسل موفور قد فرقه في سواد الرأس فانسدل على الأذنين، منتهيًا في شبه تجعد، يؤلف من تلك المنصل البيضاء هالة مشرقة"2
…
إلخ.
ثم تكشف إدارة "الحديث الحواري" عن طريقة جديدة، لا تجعل منه مجرد نقل حديث كما جاء حرفيًّا، وإنما تميزه بالفن والأسلوب الدرامي.
"قال أحدنا: إن مما يُؤسَفُ له أن زيارة الشاعر الحكيم لمصر قصيرة لا تسمح له بأن يزور جامعتها المصرية الناشئة، وجامعتها الأزهرية العتيقة، ويتحدث إلى رجال هاتين الجامعتين:
"قال تاجور: كم كنت أحب ذلك وأرغب فيه، ولا سيما بعدما لاحظته من أنَّ في مصر ثقافة راقية جعلت شعبها الإسلامي بمعزل مما يظهر عند الشعوب الإسلامية الهندية من الإسراف في الاستمساك بالقديم، والاستعصاء على حركة التجديد، وما يستتبع ذلك من الآثار
…
إلخ" وينتهي الحديث بخاتمة تنويرية، توحي للقارئ بأنها نتيجة لازمة لمقدمات لحديث وتشابك الحوار.
"وكان الشيخ قد أصابه الجهد لأنه من أولئك الذين إذا تكلموا وضعوا أنفسهم كلها فيما يقولون. فكرهنا أن نشقَّ عليه وكرهنا أن نستأثر به دون
1، 2 السياسية الأسبوعية في 4 ديسمبر 1926.
من كان ينتظر من الزائرين فنهضنا مقدِّمين إليه أطيب التحيات وأصدق الأماني"1.
وإذا كنا قد وجدنا عباس العقاد أول من يجري حديثًا صحفيًّا مع وزير مصري في حديثه مع سعد زغلول، وفتح بذلك صفحة جديدة في تاريخ الصحافة المصرية2. فإننا نلاحظ أيضًا أن زملاءه في المدرسة التجديدية، قد استخدموا هذا الفن استخدامًا عارضًا في سيرتهم الصحفية، بما يخدم فن المقال بالدرجة الأولى، كما وجدنا عند الدكتور حسين هيكل3 الذي اعتمد في تحرير الحديث على "أقوال مأخوذة من المتحدث بأسلوبه، مع بعض فقرات محدودة عن موضوع الحديث". وكما نجد عند طه حسين، حين يضطر إلى إجراء الحديث لجمع الحقائق اللازمة لتحرير المقال، أو لتدعيم حملته الصحفية على نحوٍ ما يبين من مقال:"في وزارة المعارف - عند الوزير"4 ضمن حملته في إصلاح التعليم، يقول طه حسين:
"نعم. لم أكد استقر عند وزير المعارف حتى قال: سأفتتح لك الحديث، وسأفتتحه بالمسألة التي تعنيني بنوع خاص وأظنها تعنيك بنوعٍ خاصٍّ أيضًا، وهي مسألة الجامعة"5 على أن هذا الاستخدام العارض عند طه حسين، استخدام وظيفي، يخدم أغراض المقال ووظائفه، كما يضيف إلى مقوماته سمات فنية، مثل: إجراء الحوار والتصوير الواقعي، والبساطة التي يكشف عنها حديثه الصحفي، وسنجد هذه المقومات أوضح ما تكون في "فن العمود الصحفي"، حين يتحوَّل المقال إلى "حديث" بين "الطالب الفتى" و"أستاذه الشيخ"، وهي أمور تشير إلى وحدة الفنون المقالية في صحافة طه حسين، والتي تكتسب مقوماتها من مقومات الاتصال الصحفي بالجماهير.
ونحاول في إيجازٍ شديد أن نستخلص الخصائص التي تميز بها التقرير الصحفي عند طه حسين:
أ- العناية بالعنوان:
وعناية طه حسين بالعنوان يتوسَّل بها في التصوير الواقعي لمضمون التقرير، كبديل للصور الفوتوغرافية، ولذلك يمتاز العنوان بالتبعير الوصفي المناسب لجو التقرير، ومن ذلك في رسائله الصحفية:
1 السياسة الأسبوعية في 4 ديسمبر 1926.
2، 3 أجرى العقاد حديثه مع سعد زغلول صباح الخميس الحادي والعشرين من مايو 1908، ونشره في صحيفة "الدستور"، عبد العزيز شرف: عباس العقاد بين الصحافة والأدب" ص73، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة.
4، 5 السياسة في 5 نوفمبر 1923.
من باريس
أسبوع في بلجيكا
مؤتمر العلوم التاريخية1
ثم يضيف إلى هذا العنوان الرئيسي عناوين تتضمَّن عناصر التقرير، في مكانها قبل المدخل:
"ألقاب الملوك - زيارة القصر الملكي - تحيات صاحبي الجلالة - القصر الملكي والعلم"2.
ومن ذلك في الحديث الصحفي.
"ساعة مع تاجور"3.
"في وزارة المعارف - عند الوزير"4.
ب- الاهتمام بمدخل التقرير:
ويرتبط هذا الاهتمام بالأسلوب الاستقصائي الاستقرائي عند طه حسين، ليلقي به ضوءًا على موضوعه، ويثير اهتمام القارئ، ويحفِّزه على القراءة، ويحافظ على هذا الاهتمام بالموضوع، وإقناع القارئ بأنَّ الموضوع متصل بحياته على نحوٍ من الأنحاء، ولذلك قد يستهلُّ التقرير بتوجيه التحية للقارئ، كما نجد في "من باريس"5 "تحية طيبة زكية إليك أيها القارئ الكريم من كاتب حُرِمَ التحدث إليك حينًا، وكثيرًا ما نازعته نفسه إلى هذا التحدث فلم يجد إليه سبيلًا"6
…
إلخ.
جـ- تميُّز طه حسين بطريقته في تصوير الوقائع والحقائق والمعلومات:
وهي ميزة ترتبط بأسلوبه الاستقرائي، وقدرته على النمذجة التصويرية، والتي ذهبت به إلى التوسل بالقالب الوصفي في استقراء المعلومات والوقائع لينقل القارئ إليه، ويجعله يشاهد ويشارك، كما يبين من تصويره لكنوز الأقصر7، ويرتبط بهذه الميزة كذلك:
1، 2 السياسة في 7 مايو 1923.
3 السياسة الأسبوعية في 4 ديسمبر 1926.
4 السياسة في 5 نوفمبر 1923.
5، 6 السياسة في 6 أبريل 1923.
7 السياسة في 14 ديسمبر 1922.
د- العناية باستقراء الشواهد والأمثلة:
وهو في هذه العناية يراعي التناسب بين أجزاء التقرير، كصفة مستمَدَّة من أسلوبه الاستقرائي، الأمر الذي يجعله يقلل ما أمكنه ذلك من الآراء التي قد توحي للقارئ بالتحيز الحزبي، ولذلك كثيرًا ما يتوسَّل بالأحاديث يجريها مع المسئولين ليمثِّلَ بها على صحة استقرائه، ومن ذلك في "كنوز الأقصر"1، اعتماده في التعريف بقيمة هذه المستكشفات على إجراء حديث مع "الأستاذ المسيو" لاكو" فأجاب بأنها أساسية في تاريخ مصر القديمة، أساسية في الحياة الفنية لمصر القديمة"2
…
إلخ.
ثم إن الاستقراء الصحفي في تقرير طه حسين ترفده ثقافة عميقة، مستمَدَّة من علم النفس والأخلاق والاجتماع، حيث "راض نفسه على كثير من العناء في قراءة هذه الدراسات حتى استقامت له"3، وهي الثقافة التي تثري التقرير، وتوضح غرضه الذي كُتِبَ من أجله أولًا، وتحتفظ بالقراء الذين يحرصون على قراءته.
هـ- الاهتمام بخاتمة التقرير:
ويرتبط هذا الاهتمام بالرؤية الفنية في مقال طه حسين، والتي تشمل الخطة التي يرسمها، وتصورها جملة، ولذلك تتسم خاتمة التقرير بتلخيص الحقائق الأساسية لموضوعه، وخلاصة استقراء هذه الحقائق التي قد تُسْفِرُ عن حلول للمشكلة الأساسية في التقرير. كما نجد في تصوره لعلاج مشكلة كنوز الأقصر4، وفي تقاريره الأخرى، "من بعيد"5، تأتي نتيجة الاستقراء التقريري نتيجة منطقية لمقدمات واقعية تقوم على الوقائع والشواهد والحقائق بعد ذلك.
ونخلص مما تَقَدَّمَ إلى أن التقرير الصحفي عند طه حسين يتوسَّلُ بأسلوب استقرائي تصويري، في خلق إحساس واقعي ينقله بأمانة وموضوعية موظِّفًا "الصور العقلية" إلى جانب "الصور الحسية" في "قدرة فائقة على
1، 2 السياسة في 14 ديسمبر 1922.
3 خصام ونقد ص103.
4 السياسة في 18 ديسمبر 1922.
5 الجمهورية في 8 يوليو 1960.
تصوير الحقائق لتبدو كأنها الحقيقة ماثلة"1، ويستطيع قارئ تقاريره أن يرى بين سطوره وكلماته صورًا تكاد تكون ناطقة2، كما أنه لم يكتف بالوصف والتسجيل، متجاوزًا ذلك إلى التحليل والاستقراء، كما نجد في مقالاته التي يقف فيها على الحدود الفرنسية الألمانية، وأثر الحروب بينهما3، حيث تبين قدرته على إدراك دقيق للأشياء غاية الدقة، وقوة ذهنية خارقة على تحليل ما يصل إلى الذهن تحليلًا مفصَّلًا، وردَّه إلى أبسط أجزائه وأدقها، وعلى انتزاع صور واقعية، سواء في ذلك ما يصل إلى ذهنه من ثقافته، ومن معاني الأشياء وصور الحوادث والموجودات الواقعية.
1، 2 من محاضرة للدكتور محمد كامل حسين عن مقالات "في الصيف" كوكب الشرق في 14 أغسطس 1933".
3 رحلة الربيع والصيف ص189، 192.