الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثالثًا: عنصر التشبيه أو التمثيل
وهو العنصر الذي يستوحي فيه الكاتب خياله، ويستعين به في عملية "المسخ" المشار إليها، وكثيرًا ما يتوسَّل إلى ذلك بكلام القدماء، وأهاجي الشعراء، وحكايات العامة، أو نحو ذلك، وأكثر من ذلك أننا نجد في مقال طه حسين تحويلًا لهذا الكلام من معناه الأصلي الذي وضع له، إلى المعنى الجديد الذي أراده لمقاله الكاريكاتيري. ومن الأمثلة على ذلك أن طه حسين في سخريته من الوزارة الصدقية، استشهد بقول الشاعر القديم للحجاج1:
أسد عليَّ وفي الحروب نعامة
…
فتخاء تنفر من صفير الصافر
هلا برزت إلى غزالة في الوغى
…
بل كان قلبك في جناحي طائر
"نعم لم يرع هؤلاء الوزراء الذين أفشوا سرَّ محلهم، وأذاعوا حديث رئيسهم، بكرامة الوزارة وكرامة الدولة معًا، وليس لذلك كله مصدرًا إلّا أن هؤلاء الناس قد كُلِّفُوا من الأمر ما لا يطيقون، وحُمِّلُوا من مناصب الدولة ما لم يهيأوا له، ولا ينبغي أن يؤتمنوا عليه، فإن الوزير الذي يلم به من الأمور السياسية ما يكره، فلا يملك نفسه أن يذيعه، ويتحدث به إلى الناس، ويلم به من الأمور السياسية ما يحب فلا يملك نفسه أن يتحدث به ويذيعه، هذا الوزير خليق أن لا يظل في منصبه يومًا أو بعض يوم؛ لأنه قد أقام البرهان لا يصلح للوزارة، ولا ينبغي أن ينهض بأعباء الحياة العامة2".
على أن الاتجاه العام عند طه حسين في استخدام عنصر التشبيه والتمثيل، يتجه إلى استيحاء الواقع الملموس، والاعتماد على الشواهد العملية في الحياة السياسية والاجتماعية، ومن ذلك مقال يشبه فيه الوزراء بأنهم "غرابيل3.." كما جاء في عنوانه، يقول:
1 كوكب الشرق في أول مايو 1933.
2، 3 المرجع نفسه.
"هم إذن غرابيل لا ينبغي أن تلقى إليهم الأسرار، ولا ينبغي أن يؤتمنوا على الأحاديث، وإنما يجب أن يستأثر رئيس الوزراء من دونهم بأسرار الدولة وشئونها ذات الخطر، فهم قد أذاعوا -إن صحت أنباء الأهرام- أسرارًا أقل ما توصف به أنها مزرية بكرامة الدولة، غاضَّة من قدرها، تظهرها مضطربة جزعة، لما يذاع من الأنباء عن نقل المندوب السامي من مصر، أو رجوعه إليها، وإقامته فيها، وتظهرها فزعة هلعة، لما يقال من أن اللجنة الإنجليزية المصرية راضية عن النظام القائم، أو ساخطة عليه، مؤيدة للوزارة أو متنكرة لها، وليس من كرامة الوزارة بحالٍ من الأحوال في نفوس المصريين، سواء كانوا من أصدقائها، أو من خصومها، أن تظهر على الوزارة أعراض هذا الضعف المخجل، وهي التي تتحدث بالاستقلال، وتزعم أنها شديدة التعلق بأسبابه، غالية في الحرص لأعلى مظاهره وأشكاله، بل على حقائقه التي لا تقبل الشك ولا تحتمل النزاع1".
ثم يستشهد بقول الشاعر القديم للحجاج؛ بعد أن يقول: "إن كل مصري يستحي أن يعرف الأجانب الذين لا يقفون على دخائل الأمور، إن هذه الوزارة التي تذيق المصريين ألوان العذاب تخاف من الإنجليز إلى هذا الحد، وتجزع من سعي اللجنة الإنجليزية المصرية إلى هذا الحد، فهي تلقى المصريين بالشدة والعنف، وتلقى الإنجليز بالضراعة والخوف"2. ولعل في ذلك ما يفسر تمثله بقول الشاعر القديم، من خلال الشواهد العملية المستقاة من الواقع السياسي المعاش. ذلك أن القسم الأول من المقال يمثل حملة قوية يشنها طه حسين على الوزارة الصدقية، التي سارت في طريق الزيغ والضلال والاستبداد، ثم ينتقل في القسم الثاني إلى تفصيل ما أجمل في قسمه الأول، ويشرع بالرد على الشواهد المنسوبة إلى "الأهرام" في استطراد عُرِفَ به الجاحظ من قبل، ليشير بها إلى أن هذه الوزارة لا تتمالك نفسها، مشبهًا أعضاءها بأنهم "غرابيل" تظهر عليها "أعراض هذا الضعف المخجل" أمام الإنجليز، وهي التي في الجانب الآخر "تلقى المصريين بالشدة والعنف"، متوسِّلًا في هذا المقال باستعارات أضفت على الكاريكاتير بلاغة صحفية، وفيما عدا ذلك عدل طه حسين عن أسلوب المجاز إلى أسلوب الحقيقة تاركًا نفسه على سجيتها. وقد عمد تجاه "الخبر" الذي نشرته الأهرام إلى إسناده إليها ليكون في حِلٍّ من تبعته، فالعهدة على الراوي، والاعتماد على السند ظاهرة هامة تتمثَّل فيها أقوى سمات التحقق والتيقن التي أخذ بها العلماء المسلمون، وكان رجال الحديث أول من عمد إليها، ثم سرت إلى سائر أوجه المعرفة من تاريخ وأدب وشعر وسيرة.. فهذه الظاهرة الصحفية عند طه حسين أثر من آثار ثقافته العربية الإسلامية. الأمر الذي
1، 2 المرجع نفسه.
يوضح لنا طريقة طه حسين الصحفية المكينة عندما يعزو الخبر إلى رواته أولاً، وعندما يظهرنا على موضع الشك في بعض أولئك الرواة ثانيًا، حين يستهلُّ المقال بقوله:"هم وزراؤنا إن صحت أنباء الأهرام، والظاهر أنها صحيحة".
ومن نماذج هذا العنصر الكاريكاتيري كذلك مقال بعنوان: "طير
…
1" يقول فيه: "في جو مصر الآن طير تحلق حينًا وتقع حينًا آخر، وتتردد بين دواوين الوزراء، وإدارات بعض الصحف، وتلمّ بمجالس الناس في القاهرة والأقاليم، وليست هذه الطير جميلة الشكل، ولا رائقة المنظر؛ وليست هذه الطير خفيفة الحركة، ولا رشيقة في التحليق والوقوع، ولكنها قبيحة سمجة مخيفة ثقيلة الظل، عراض الأجنحة، وليست عذبة الصوت، ولا حلوة التغريد، ولا مسمعة للناس غناء البلابل، ولكنها بشعة الصوت، نابية اللحن، تصيح صياح البوم، وليست أسماؤها بالأسماء التي تدعو إلى التفاؤل وانتظار الخير، والابتسام للأمل، ولكنها أسماء تدعو إلى التشاؤم وتوقُع الشر، والتنكر للقنوط، فبعضها يسمى الكذب، وبعضها يسمى إفشاء السر، وبعضها يسمى سوء الظن، وهذه الطير تضطرب في جو مصر كله، فتفسده أشد الفساد، وهي تخفق بأجنحتها خفقًا عنيفًا يكاد يصم الأسماع، وهي تبعث من حين إلى حين صيحات منكرة تروع النفوس، وهي تنشر في الجو رائحة كريهة يتأذّى لها الزمن، وهي توشك أن تنتهي بالمصريين إذا لم تطرد عن وجوههم إلى شرٍّ كثير2! ".
ثم ينتقل بعد ذلك يقدم شواهد من الصحف، تمثل هذه الصورة الكاريكاتيرية التي قدَّمها في مدخل المقال، يقول3:
"صحيفة تذيع بين قرائها يوم الثلاثاء أن رئيس الوزراء تحدَّث في التليفون إلى وزير مصر المفوض في لندرة، ويسكت رئيس الوزراء على هذا النبأ، فإذا كان الغد تحدثت صحيفة أخرى بأن وزيرنا المفوض في لندرة أنبأ مكاتبها بأن قد كان بينه وبين رئيس الوزراء حديث في التليفون "ويسكت رئيس الورزاء على هذا النبأ الثاني أيامًا، وتتناول الصحف هذا النبأ بالتفسير والتعليق، ورئيس الوزراء صامت لا يتكلم، وساكن لا يتحرك، وفاتر لا يبدي قليلًا من نشاط، حتى إذا كان مساء أمس، زعم رئيس الوزراء للمقطم، أن هذا الحديث التليفوني لم يكن، فأين يكون الحق إذن؛ وأين يكون الباطل؟ وعند من نلتمس الصدق إذن؟ وعلى من نلقي تبعة الكذب4؟ ".
1، 2 كوكب الشرق في 2 مايو 1933.
3، 4 المرجع نفسه.
ويواصل في القسم الثاني من المقال تقديم شواهده، مع إسنادها إلى رواتها من الصحف أو المسئولين من خلال طريقته الصحفية:
"زعمت المقطم أن ناحية مسئولة في مصر تحدَّثت إلى زوير مصر في لندرة بالتليفون، وزعمت البلاغ أن وزير مصر المفوَّض في لندرة أنبأ مكابتها بأن هذا الحديث قد كان، وزعم رئيس الوزراء بعد أيام أن هذا الحديث لم يكن، فهناك طائر قبيح الشكل، بشع المنظر، فج الصوت، يتردد بين إدارة المقطم، وإدارة البلاغ، والمفوضية المصرية في لندرة، ومكتب رئيس الوزراء، واسم هذا الطائر قبيح لا يدل على صدق ولا نصح ولا حب للحق. وهو لا يدري أين يقع من هذه الأماكن التي يتردد بينها، وهو لا يهدأ ولا يستريح حتى يعرف له مستقَرًّا يستقر فيه، ووكرًا يؤي إليه، وهو سيفسد الجو بصيحاته المنكرة، وريحه المؤذية، حتى يصرف عن هذا الجو، ويُرَدَّ إلى وكره بعيدًا عن الأسماع والأحياء وإلا نعرف
…
"! 1.
ثم ينتقل إلى تصوير الطائر الآخر، والذي يظهر في مقاله: "قبيح الشكل، بشع المنظر، لا يدل اسمه على الصدق والنصح وحب الحق، وهو يتردد بين الأهرام ومكتب رئيس الوزراء، وهو لا يدري أين يستقر، وسيظل مفسدًا للجو، مؤذيًا حتى يُرَدَّ إلى وكر يستخفي فيه.
"وهناك طائر آخر ليس أقل من هذا الطائر شرًّا ولا نكرًا، ولا يدل اسمه على أمانة في الحديث، ولا على حفظ للغيب، ولا على كتمان للسرِّ، وهو يتردد بين مكاتب الوزراء لا يدري إلى أيها يأوي، ولا على أيها يقع، وسيظل مفسدًا للجو مؤذيًا للنفوس، حتى يصرف شره عن الناس. ثم هناك طائر آخر مروع مخيف، ليس بشعًا كل البشاعة، ولا قبيحًا كل القبح، ولكنه مزاج من الأمرين، فيه استنكار الشر، واستبشاع الكذب، وإفشاء الأسرار، وفيه التماس الخير، واستقصاء الحق، والحرص على الأمانة، وحفظ الغيب، وهذا الطائر كان يقظًا كالنائم، نشيطًا كالهادئ، متحركًا كالساكن، فلمَّا صاحت تلك الطير المنكرة صيحتها المتصلة، اندفع من البقعة والنشاط في شيء عظيم، فهو يطير في كل جو، ويقف عند كل مجلس، ويسمع لكل حديث، ويتلقط كل نبأ، ويأبى على الناس أن يطمئنوا أويستريحوا، حتى يعلموا أيهما قال الحق في أمر الحديث التليفوني، أهو رئيس الوزراء؟ فيجب إذن أن يسأل وزير مصر في لندرة، كيف قال عن رئيس الوزراء غير الحق، وكيف تحدَّث بما لم يكن؟!
أهو وزير مصر في نلدرة؟ فيجب إذن أن يسأل رئيس الوزراء كيف استباح لنفسه أن يكذِّب وزيرًا يمثل كرامة مصر وجلالها في بلد أجنبي هو
إنجلترا، وعند قوم من الأجانب هم الإنجليز؟! أم هي الصحف قد قالت على الرجلين جميعًا ما لم يفعلا؟ ".. إلى أن يقول:
"لا يريد هذا الطائر الذي يُسَمَّى سوء الظن أن يستريح، ولا أن يريح الناس حتى يتبين ويتبينوا معه وجه الحق في هذه القصة، ثم لا يريد هذا الطائر أن يستريح، ولا أن يريح الناس، حتى يتبين ويتبينوا معه وجه الحق ساطعًا وضَّاءًا جليًّا، فيما كان بين الأهرام ورئيس الوزراء، أو قل: فيما كان بين رئيس الوزراء وزملائه، فإن سكون الوزارة على تحدي الأهرام، وسكوت صحف الوزارة على هذا التحدي، وإغراق الوزارة وصحفها في صمت عميق بعد ما نشره مندوب الأهرام صباح أمس، دليل واضح على أن الرجل لم يخترع، ولم يبتكر، وإنما حدَّث فتحدث، وأتى بشيء فأذاعه بين قرائه، وأكبر الظن أن الذين تحدثوا إليه قد أرادوه على أن يذيع هذا الحديث، ليؤكدوا للناس أن ليس على الوزارة من بأس ولا خوف.
"يظهر إذن أن الأهرام قد خرجت من هذه المعركة ظافرة صادقة، لا إثم عليها ولا تثريب، فيريد هذا الطائر أن يتبين، وأن يتبين الناس معه، أيهم قال غير الحق؟ ".
ثم يختم المقال بعد هذا التصوير الذي يعلِّقُ من خلاله على شواهد سياسية من الواقع الملموس، فيكمل ما بدأ به في مستهله من بحث "طائره" الأخير عن العلم والتثبت، وكأن هذا "الطائر" الأخير، ينتقل بالقارئ إلى نقد المتن بعد نقد السند، فهو هنا يرجع إلى عقله، ويحاكم الأمر من جميع وجوهه: الوزراء، رئيس الوزراء، الصحف. واقفًا تجاه حكاية الطير "موقف الباحث المتشكك، إذ أن رواية الخبر شيء، وتصديقه شيء آخر، وهذا الشك وتقليب أوجه الرأي عند طه حسين من سمات الاستقراء الديكارتي في مقاله، وقد تجلَّت لنا شخصية طه حسين الفكرية فيما أبداه من بوادر الشك تجاه ما تناوله مقاله من خلال عرض كاريكاتيري ينتهي إلى هذه الخاتمة:
"أرأيت إلى هذا الجو المنكر الذي نعيش فيه؟! أرأيت إلى هذه البيئة الخانقة التي نضطرب فيها؟ أرأيت إلى الصدق والكذب كيف يختلطان؟ أرأيت إلى الحق والباطل كيف يشتبهان؟ أرأيت إلى الأمانة والخيانة كيف تلتبسان؟ أرأيت إلى الريبة تصبح قاعدة من قواعد السياسة، وأصلًا من أصول العلاقة بين الحاكم والمحكوم؟ أرأيت إلى هذا كله؟ فكرت في هذا كله؟ أقدَّرت أثر هذا كله في حب الناس للوزارة، وثقتهم بها، واطمئنانهم إليها، أقدرت أثر هذا كله في أخلاق الناس حين يتصل بعضهم ببعض، وحين يتحدث بعضهم إلى بعض، وحين يأتمن بعضهم بعضًا على الأسرار؟ ألست توافقني على أن هذه
البشعة المنكرة، التي تضطرب في جو مصر الآن، فتملأه فسادًا وشرًّا، خليقة أن ترد عن هذا الجو، ليعود إليه شيء من الخير والصلاح!
"بلى، إنك لترى هذا الرأي كما أراه، وإنك لتحرص على أن يصفو الجو كما أحرص على ذلك، لتستقيم السياسة، وتصلح الأخلاق، ولكن مَنْ الذي يستطيع أن يذود هذه الطير المسفدة عن جو مصر؟ أحد رجلين: رئيس الوزراة حين يستقبل، أو النائب العام حين يأمر بالتحقيق"1.
ومن نماذج عنصر التشبيه والتمثيل أيضًا، مقال يشبِّهُ فيه اضطراب الجو الوزاري بالكهرباء، فيقول في مقال بعنوان:"كهرباء"2:
"لم تنتشر في الجو الوزاري كما انتشرت في هذه الأيام، فأصدقاء الوزارة وأولياؤهم يظلمون أنفسهم ويعيشون بعقولهم، إذ زعموا أن جوَّ الوزارة هادئ لا اضطراب فيه، صافٍ لا يشوبه كَدَر، وهم يظلمون أنفسهم، ويعيشون بعقولهم، إذا لم يعترفوا بأن الوزارة قد ضاقت بها السبل، وأخذت من كل مكان، وفسد الجو الذي تعيش فيه، وهي محصورة من كل ناحية، قد اضطرت إلى أن تقف موقف الدفاع، وموقف الدفاع الذي يستميت صاحبه ويستيأس، حتى لا يتحرَّج من الميل إلى الاستعانة بالعزائم والطلاسم والرُّقَى، وزيارة الأضرحة، والتصريح على قبور الأولياء"3.
وفي هذا النموذج الأخير نجد أنفسنا بإزاء كاريكاتير قلمي يقوم على الربط بين الصورتين اللفظية والمحسوسة أو الملموسة. وهذا النمط الكاريكاتيري يقودنا إلى العنصر الرابع.
1 المرجع السابق.
2، 3 كوكب الشرق في 11 مايو 1933.