المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌فن اليوميات الصحفية: - فن المقال الصحفي في أدب طه حسين

[عبد العزيز شرف]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة:

- ‌الفصل الأول: الدكتور طه حسين ومدرسة الجريدة

- ‌مدخل

- ‌بيئة المقال الصحفي في مصر

- ‌مدخل

- ‌ البيئة المصرية:

- ‌ الاتصال بالحضارة الأوربية:

- ‌ الحياة السياسية:

- ‌ الحياة الفكرية:

- ‌ الحياة الاجتماعية:

- ‌مدرسة الجريدة

- ‌مدخل

- ‌ مدرسة الجريدة وجيل طه حسين:

- ‌ طه حسين ولطفي السيد:

- ‌الفصل الثاني: طه حسين وبيئة المقال الصحفي في مصر

- ‌مدخل

- ‌ طه حسين والبيئة الأولى:

- ‌بيئة التكوين الصحفي:

- ‌ طه حسين والبيئة الثانية:

- ‌الفصل الثالث: طه حسين وبلاغة الاتصال بالجماهير

- ‌مدخل

- ‌عناصر الأصالة والتجديد:

- ‌بين التقليد والتجديد:

- ‌بلاغة المقال الصحفي:

- ‌بلاغة الاتصال بالجماهير في مقال طه حسين

- ‌مدخل

- ‌التبسيط والنمذجة الصحفية:

- ‌الأسلوب الواقعي:

- ‌الأسلوب الاستقصائي:

- ‌الأسلوب الاستقرائي:

- ‌الأسلوب الصحفي:

- ‌الفصل الرابع: أًساليب التحرير في مقال طه حسين

- ‌مدخل

- ‌الرؤيا الفنية في مقال طه حسين

- ‌أساليب التحرير في مقال طه حسين

- ‌مدخل

- ‌ المقال القصصي:

- ‌ المقال الوصفي والتقرير الصحفي:

- ‌ المقال الرمزي:

- ‌ الرسائل المقالية:

- ‌الفصل الخامس: طه حسين وفن العمود الصحفي

- ‌مدخل

- ‌فن العمود المتخصص:

- ‌فن العمود الصحفي

- ‌مدخل

- ‌خصائص العمود الصحفي:

- ‌مضمون العمود الصحفي:

- ‌تحرير العمود الصحفي:

- ‌فن العمود الرمزي:

- ‌الفصل السادس: فن اليوميات الصحفية في أدب طه حسين

- ‌مدخل

- ‌بين الذاتية والموضوعية:

- ‌فن المقال الاعترافي:

- ‌فن اليوميات الصحفية:

- ‌الفصل السابع: فن المقال الرئيسي الافتتاحي

- ‌مدخل

- ‌المقال الرئيسي الافتتاحي

- ‌مدخل

- ‌ خصائص المقال الرئيسي عند طه حسين:

- ‌ الوحدة العضوية في بنية المقال الرئيسي:

- ‌ طه حسين كاتب المقال الرئيسي:

- ‌الفصل الثامن: فن المقال النزالي

- ‌الفصل التاسع: فن المقال الكاريكاتيرى

- ‌الكاريكاتير الوظيفي في مقال طه حسين

- ‌طه حسين كاتب المقال الكاريكاتيري:

- ‌العناصر الفنية في المقال الكاريكاتيري

- ‌أولا: عنصر التجسيم للعيوب

- ‌ثانيًا: عنصر التوليد

- ‌ثالثًا: عنصر التشبيه أو التمثيل

- ‌رابعًا: عنصر التضاد

- ‌خامسًا: عنصر التندر:

- ‌الفصل العاشر: المقال التحليلي والتقويم الصحفي

- ‌مدخل

- ‌التحليل الصحفي

- ‌مدخل

- ‌أولًا: "توقيت" المقال التحليلي

- ‌ثانيًا: التعليق على الخبر بعد وقوعه

- ‌ثالثًا: التحليل الصحفي وحركة الأحداث

- ‌التقويم الصحفي

- ‌مدخل

- ‌أولًا: اعتماد التقويم الصحفي على الذوق أو العقل الذي يستخدمه استخدامًا جيدًا

- ‌ثانيًا: إن طه حسين كان شديد الحفل بالأسلوب والوضوح في التحليل والتقويم

- ‌ثالثًا: إتجاه طه حسين في مقاله التحليلي إلى ربط "حدث" التحليل الصحفي بدائرة اهتمامات القراء

- ‌مراجع البحث:

- ‌أولًا: المراجع العربية والمترجمة:

- ‌ثانيًا: الصحف والمجلات

- ‌ثالثًا: أهم المراجع الأجنبية

- ‌ملاحق البحث:

- ‌ملحق رقم "1":نقابة الصحفيين تنعي فقيد الأدب العربي:

- ‌من وثائق الجامعة ملحق رقم "2" كتاب طه حسين إلى رئيس الجامعة الأمير أحمد فؤاد بشأم التقدم للبعثة إلى أوروبا

- ‌ملحق رقم "3": كتاب طه حسين إلى رئيس الجامعة، بشأن ترشيحه للبعثة ألى أوربا

- ‌ملحق رقم "4": صورة كتاب الاستقالة الذي رفعه لطفي السيد إلى وزير المعارف العمومية، بعد إخراج طه حسين من الجامعة في عهد صدقي:

- ‌ملحق رقم "5": نموذج لفنِّ اليوميات الصحفية في مقال طه حسين

- ‌ملحق رقم "7": المقال الأول للدكتور طه حسين في صحيفة "كوكب الشرق" الوفدية

- ‌الفهرس:

- ‌المخطوطات

الفصل: ‌فن اليوميات الصحفية:

0‌

‌فن اليوميات الصحفية:

تقول "باترسون" في مقدمة كتابها عن فن المقال الصحفي: إن قراءة المذكرات واليوميات مفضلة؛ لأنها تدور حول قصص وأحداث تُعْتَبرُ أقرب إلى الواقع منها إلى أيِّ شيء آخر. وقد يعترف الكاتب بأخطائه وبإخفاقه في بعض مراحل حياته، ولكنه يعلل لهذا الإخفاق، فيكون الضعف البشري موضوعًا للمعالجة الفنية. وقد تتعرَّض اليوميات لبعض فئات المجتمع ولحالاتٍ غريبة من حالاته، أو بعض الأوضاع الشاذَّة، ولا شك أن ذلك يعود بالفائدة على القارئ، ويساعده في حياته الخاصة، وسلوكه مع الأفراد والجماعات؛ لأنه يقتدي غالبًا بكاتب هذا النوع من المقال في طريقة تغلُّبِه على الصعاب1.

ومن ثَمَّ كان المقال الاعترافي من أكثر المقالات الذاتية ملاءمة للصحافة، ذلك أن كاتب هذا النوع من المقال كثيرًا ما يكون شخصًا غير عاديٍّ في نظر القارئ، ولذلك يحقِّقُ هذا المقال وظائف كثيرة من وظائف الصحافة؛ منها: الإعلام، والترفيه والإمتاع، والتوجيه بطريقة غير مباشرة.

وفي هذه الأسباب ما يجعل المقال الاعترافي الذي شقَّ أرضه طه حسين من أهم مواد الصحافة الحديثة، التي تجذب إليها نظر القارئ؛ بحيث يمكن القول: إن طه حسين قد انتقل بالمقال الاعترافي من حَيِّزِ الأدب إلى حَيِّزِ الصحافة، متخذًا شكل "اليوميات" التي أصبحت مادةً لا غنى عنها في هذه الصحافة. والحق أن طه حسين، قد وضع بذور "اليوميات" في بيئة التكوين الصحفي، في المقالات التي نشرها في "السفور" في الفترة التي ساءت فيها حالة الجامعة ماليًّا وأعادته مع زملائه من أعضاء البعثة في أواخر عام 1915، ومكث في مصر ثلاثة أشهر، ظهر فيها ألمه لانقطاعه عن دراسته الجديدة، وانعكس ذلك في يومياته التي تضمَّنَت "حديث نفسه المر"2، وهي اليوميات التي تمثِّلُ نضوج اتجاهه الذاتي بعد تمرُّسِه على الكتابة في "الجريدة"، وحصوله على

1 الدكتور إبراهيم إمام: مرجع سبق ص319.

H. Patterson andd S. Hyde. Writing and Selling feature articles 1947.

2 ولدينا في الأدب الاعترافي عند الأستاذ أنيس منصور نموذج رفيع لهذا الفن، ولا سيما في كتبه "طلع البدر علينا، في صالون العقاد: كانت لنا أيام، قالوا، إلا قليلًا".

ص: 221

الدكتوراه في مصر، واحتكاكه بالحياة الفرنسية مباشرة لفترة وجيزة، فاتسمت هذه اليوميات بتفكيره في تلك الفترة، ونظرته إلى الحياة، ومن هذه اليوميات التي نُشِرَت في "السفور" نقدِّم النماذج التالية:

"5 نوفمبر 1915"

"تريدونني على أن أكتب أيها الأصدقاء، ولقد علمتم ما لي بالكتابة من طوق، ولا إلى الإجادة من سبيل، ماذا تريدون من رجل لم يكدْ يأنس إلى حياة النور والهدى حتى ردَّته الأقدار إلى حيث الظلمة الداجية والضلال المبين، ماذا عسى أن تصنع بذكائنا في بلد قانع كمصر، قد رضي أهله بالقليل في كل شيء، فحسبهم من العلم والأدب ومن الفلسفة والحكمة، ألفاظ يلوكونها وجُمَل يرددونها بين الشفاة.

"يا عجبًا كل العجب، يعود الناس إلى بلادهم بعد الغربة فرحين، ولقد عدت إلى مصر أسفًا محزونًا، ولقد أستحي أن أقول الحق فأعلن أني استقبلتها باكيًا..".

"14 نوفمبر 1915"

"ليس لي ماضٍ أنعم بذكره، ولا مستقبلٍ ألهو بالتفكير فيه، ولكن لي حاضرًا يهيج في قلبي ألوانًا من الحزن، ويغري بنفسي فنونًا من الأسى، ذلك الحاضر هو هذه الساعة، أذكر في هذه الساعة ثلاثة أيام، يوم ولدت، ويوم سافرت إلى أوروبا، وهذا اليوم"..

"في مثل هذا اليوم ولدت منذ ست وعشرين سنة، وفي مثل هذا اليوم سافرت إلى أوربا منذ سنة واحدة، وأنا الليلة في القاهرة، أرجو ألا يصبح عليّ الغد إلّا وقد رحلت إلى حيث لا يرجع طاعن ولا يرجى لمرتحل إياب. لا تصبح أيها الليل عن هذا الغد. تلك الأشهر التي أمضيتها في فرنسا هي التي جعلت ليوم ميلادي في نفسي قيمة ما، فقد رأيت قومًا ليس فيهم من لا يتخذ هذا اليوم لنفسه عيدًا.

"لم يجب الله دعائي فقد أشرقت عليَّ شمس يوم الأحد، ولو قد أشرقت عليَّ هذه الشمس في غير هذا البلد لكنت حريًا أن ألقى من أنواع البشر وألوان الابتهاج ما يَسُرُّ هذه النفس الحزينة، ويسلي عن هذا القلب الكئيب، ولكنها قد أشرقت عليَّ في مصر، فأقسم ما لقيت طول اليوم شيئًا يسر، ولقد لقيت كثيرًا مما يسوء، حيَّا الله وفاء فرنسا وبرها في هذين الشخصين يذكرانني من وراء

ص: 222

البحر، فلولا أني قرأت كتابيهما آخر هذا اليوم لأشفقت على نفسي أن أقضي صريع الأسى"1.

"14 نوفمبر 1915"

"في مثل هذا اليوم منذ سنة كاملة وصلت إلى مونبيلييه، بلد لم أعهده، ولم أكن أقدر أن أراه؛ على أني لم أكد أمضي فيها ساعات حتى احتجت إلى كتابٍ فذهبت إلى المكتبة، وأخذت ما أردت، ودفعت إلى البائعة نقدًا كان عليها أن ترد علي فضله، ولم يكن لديها هذا الفضل، فردَّت إليَّ ما دفعت إليها وهي تقول: ستؤدي إليَّ ذلك متى شئت، قلت: ولكنك لا تعرفينني يا سيدتي، ولم تريني قبل اليوم، فإني بمدينتك حديث العهد، قالت مستضحكة: لا عليك.

"ما أكثر ما زار الناس أوروبا، وما أكثر ما سعدوا بزيارتها وشَقُوا بفراقها، ولكن ما أسرع ما تَسَلَّوْا عنها وعادوا من حياتهم القديمة إلى ما كانوا فيه غير ضجرين، ولا والهين، ولكني أقسم ما تطاولت الأيام علي أوبتي إلّا أذكى تطاولها في نفسي اللوعة والحسرة، وضاعف في قلبي الهم والأسى.."إلخ.

وفي هذه اليوميات وغيرها نجد أن طه حسين يستخدم ضمير المتكلم الذي يتحول عنه في المقال الاعترافي في "الأيام" إلى ضمير الغائب؛ لأنه في المقال الاعترافي كان يواجه التقليديين بسبب الشعر الجاهلي، وكان من المنطقي أن تكون يومياته الأولى بداية لاستخدام ضمير المتكلم، ولكنه اضطر إلى استعمال ضمير الغائب للأسباب التي ترتبط بظروف كتابة مقالاته الاعترافية، كما تَقَدَّمَ، وهي الظروف التي توضح الطريق بين المواجهة الصحيحة للذات، وبين ما يفرضه الإطار الاجتماعي على التعبير من رمز أو ما يشبه الرمز.

على أن المواجهة الصريحة للذات في "اليوميات" الأولى بالسفور تُسْفِرُ عن سمة من سمات الأدب المصري في بيئة التكوين التي اتجهت إلى الرومانسية في كثير من الأحيان. ولكنها مع ذلك تنمُّ عن تفكير صاحبها ونظرته إلى بيئته

1 يصف الدكتور طه حسين هذه الفترة في مذكراته "الجزء الثالث من الأيام" وصفًا مسهبًا، مستخدمًا ضمير الغائب على عكس ما نجد في هذه اليوميات التي يستخدم فيها ضمير المتكلم مباشرة، يقول في صدد هذه اليومية:"وقد أقام صاحبنا في القاهرة قريبًا من ثلاثة أشهر، لا يعرف أنه شقي حياته كلها كما شقي فيها، ولا أنه سعد في حياته كلها كما سعد فيها، ولكن شقاءه كان طويلًا ملحًا، وسعادته كانت سريعة خاطفة. كان يشقى بالتبطُّل والفراغ والبؤس، وكان يسعد بذلك الصوت العذب الذي كان يناجيه بين حين وحين". إلخ. مذكرات طه حسين ص144-145.

ص: 223

الأولى، وفي ذلك ما يجعلها نواة "لفن اليوميات الصحفية" التي يُعَبِّرُ فيها الكاتب عن وجهة نظره هو لا وجهة نظر صحيفته، كما تنمُّ عن أسلوب يقترب من أسلوب "مونتاني" الذي يقترب بدوره من أسلوب اليوميات الصحفية، وهكذا نجد أن ثَمَّةَ علاقة وثيقة بين فنون المقال منذ نشأتها الأدبية الأولى حتى تطوراتها الأخيرة في مقالات اليوميات الصحفية.

وإذا كان طه حسين يُسْرِفُ التواضع -بعد ذلك بنصف قرن تقريبًا1- حين يذكر في يومياته بجريدة "الجمهورية" أنه ليس "من كُتَّاب اليوميات"2 ويقول: "ولو حاولت كتابتها لم أبلغ منها شيئًا، ولكن أكتب الآن شيئًا يشبهها من بعيد3، فإن ذلك لا ينفي ريادته وصلاحية أسلوبه الاعترافي لهذا الفن المقالي، الذي يتخذ هذا العنوان الثابت "من بعيد" دائمًا، في "السياسة" و"الجمهورية" من بعد، ذلك أن هذه اليوميات تطوَّرت في مقاله، لتتناول "ملاحظات لم أر من إملائها بدًّا"4، وهذه الملاحظات هي التي تكوّن صلب اليوميات "ومنطلقها، في مناقشة ظواهر سياسية أو اجتماعية أو ثقافية داخل سياق حركة الأحداث، ومن هذه الظواهر في يومياته بجريدة الجمهورية ما "يتصل بالأدب، ليس من الخير إهمالها، بل من الواجب التنبيه إليها؛ لأن في إهمالها شيئًا من التشويه لحقائق الأدب وجماله أيضًا"7.

ومن ذلك يبين تميُّز "اليوميات" الصحفية، بتنوع موضوعاتها التي تصوِّر الحياة الإنسانية بخيرها وشرها، وتخلب العقل البشري والوجدان الإنساني، إلى جانب أنها قد تعالج السياسة والاقتصاد والشئون الاجتماعية والثقافية6. وهو لذلك يناقش في يومياته ظاهرة الشعر الحديث، وظاهرة تتعلق بضعف النقد الأدبي، وظاهرة أخرى تتعلق بالقصص الحديث، في مقال واحد، ومن خلال شواهد عملية من واقع الحياة الثقافية. كما يذهب في يومياته الأخرى إلى استقصاء ظواهر اجتماعية أو سياسية ترتبط في سياق واحد في إطار حركة الأحداث في المجتمع، يكتبها في أسلوب موثوق به، يعلِّلُ لهذه الظواهر، ويحللها ويستخلص الحلول والعلاج لها في نهاية اليوميات.

ويقترب فن اليوميات في مقال طه حسين، من هذا الفن عند

1، 2، 3 جريدة الجمهورية في 7 أبريل 1960.

4 المرجع نفسه.

5 المرجع نفسه.

6 الدكتور إبراهيم إمام: مرجع سبق ص220.

ص: 224

"أندرية جيد"1، من حيث ارتسام شخصيته فيها كأوضح ما يمكن أن تكون، ومن حيث تناولها في كثير من الأحيان لجوانب من حياته، كما رأينا في المقال الاعترافي، ومن حيث أن هذه اليوميات تبرأ من تزيين كاتبها لشخصه المعنوي أمام الناس "كما يزينون أشخاصهم المادية حين يلقونهم. يقتصدون في ذلك حينًا، ويسرفون في ذلك أحيانًا، ولكنهم يتكلَّفُون على كل حال، ويظهرون نفوسهم كاسية لا عارية"2 وهو لذلك يعرض في يومياته عن هذا الصنيع إعراضًا تامًّا، "لا غشَّ فيه ولا محاولة للغش"3 لا لأنه أراد أن يكون صريحًا صادقًا، بل لأنه لم يستطع إلّا أن يكون صريحًا صادقًا"4، وخصلة الصراحة والصدق هي المقوِّم الأول في فن اليوميات الصحفية عند طه حسين5.

على أن هذه الخصلة لم تقيد بشيء إلا بقيود الفن، كنتيجة لإذاعة هذه اليوميات في الناس، وما يقتضيه ذلك من ظروف النظام والعرف بعد ذلك، كما يبين من استخدام ضمير الغائب في فصول الأيام، ولكنها مع ذلك تظهر الكاتب كما هو؛ لأنه توسَّلَ بضمير الغائب في إلغاء هذه القيود نفسها، فأقام من نفسه رقيبًا يلاحظ أدق الملاحظة ما كان يجري به قلمه في هذه اليوميات، وينبهه في سرعة وقوة إلى ما قد يدفعه الفن إليه من التكلُّف أحيانًا، ومن التفكير في الناس وفي أنهم قد يقرأون ما يكتب، فيرده إلى السذاجة والطبع، ويجرده من التكلُّف والزينة، ويضطره إلى ما ينبغي له "حين يخلو إلى نفسه من إرسال المزاج على سجيته"6 كما فعل صديقه "جيد"، الذي تعوَّد مثله -من الناس، سخطهم وإنكارهم، ولذلك سقطت الفروق بين ما كان يكتب لنفسه، وما كان يكتب للناس، فجعل يكتب لتلك كما كان يكتب لأولئك، أو "جعل يكتب لأولئك كما يكتب لتلك. واستقام له طبعه الصادق الصريح في آثاره الخاصة والعامة"7.

ولم يتحرَّج طه حسين من نشر يومياته ومقالاته الاعترافية في الصحف والمجلات، كما لم يتحرَّج "جيد" من نشر بعض يومياته في "المجلة الفرنسية الجديدة، التي أنشأها مع جماعة من أصدقائه، ثم في أسفار صغار8، ثم لم يتحرَّج من نشرها كاملة في أجزاء، كما فعل طه حسين كذلك حين نشر فصوله الاعترافية في أجزاء، و"ما يدعوه إلى التحرُّجِ، وقد صارح الناس من أمره بالعظيم! فليصارحهم بما بقي من أمره، فلن يستطيعوا له ضرًّا، ولن يستطيعوا له نفعًا، وقد عوَّدَ نفسه الاستقلال التام؛ فهو لا ينتظر من الناس شيئًا، كما أنه لا يخاف منهم شيئًا"9.

1، 2، 3 مجلة الثقافة في 28 نوفمبر 1939، فصول ص140، 141.

4، 5 المرجع نفسه ص141، 142.

6 المرجع نفسه ص141، 142.

7، 8، 9 المرجع نفسه ص143.

ص: 225

وشخصية طه حسين في يومياته، كشخصية "جيد"؛ شخصية متمردة بأوسع معاني هذه الكلمة وأدقها، متمردة على العرف الأدبي وعلى القوانين التقليدية، وعلى النظام الاجتماعي، وعلى النظام السياسي"1 كما تَبَيَّنَ من دراسة مضمون مقاله فيما تَقَدَّمَ، فشخصيته متمردة على كل شيء "حتى على نفسها في أكثر الأحيان" وفي "كل إنسان حر، أو مؤمن بحريته، حظ من التمرُّدِ على هذا النظام أو ذاك، من نظم الحياة الاجتماعية. ولكنه يصانع ويداجي ويحتال ليلائم بين شخصيته وبين البيئة الاجتماعية التي يعش فيها"2. والناس قد عرفوا ذلك وأقروه وتواضعوا عليه، كما يذهب إلى ذلك طه حسين، ولكنه ينفرد في مواجهة هذا الاصطلاح العرفي بالملائمة بين بين تمرُّدِه الداخلي وسيرته الخارجية إن صحَّ هذا التعبير، يرى الرأي فيعلنه مهما تكن نتيجة ذلك، ويشتهي الشيء فيسعى إليه ويحققه مهما تكن نتيجة ذلك، ويحسُّ هذا الحس أو ذاك، ويشعر هذا الشعور أو ذاك، ويجد القدرة على تصوير حسه وشعوره فلا يتردد في تصوير حسه وشعوره، يقسو في هذا كله على الناس، ويقسو في هذا كله على نفسه، ولا يقبل "في هذه القسوة هوادة ولا موادعة"3.

ومن أجل هذا قوبلت آراؤه التجديدية في الشعر الجاهلي وحديث الأربعاء وغيرها بالإنكار الشديد، وعابه التقليديون بالحق والباطل ولعلهم "عابوه بالباطل أكثر مما عابوه بالحق"4، كما تعرَّض "جيد" لمثل ذلك5، ويذكر طه حسين عن موقفه بإزاء هذا لإنكار6:"ولقد نشأنا نحاول الكتابة فقال الناس فينا ما نكره، وعابونا بكل ما يمكن أن يُعَابَ به الكاتب في أدبه وخلقه ونفسه، فلم يزدنا ذلك إلّا إقدامًا على العمل وجدًّا في التعلُّم والانتفاع بهجاء الهاجين وثناء المثنين، لم يبطرنا ثناء قط ولم يحزنَّا هجاء قط، وأعترف بل أشهد الله أني كنت أشد إقبالًا على الهجاء منِّي على الثناء"7.

ذلك أن تمرده صريح صادق، وأن هذا التمرد الصريح الصادق هو الذي يميزه من غيره من الأدباء والكُتَّاب والمفكرين بصفة عامة، ومن كُتَّاب "اليوميات" بصفة خاصة؛ ذلك أنها تصوِّر نشأته ناقدًا لتأثره وتأثيره، مسجلًا لما يأتيه من خارج ولما يصدر عنه، مبينًا ما في هذا وذاك من خير أو شَرٍّ8. محاولًا إصلاح ما يراه شرًّا، والاستزادة مما يراه خيرًا، محاسبًا نفسه حسابًا شديدًا على ما أخذ

1، 2 المرجع نفسه ص143.

3 المرجع نفسه ص143.

4، 5 المرجع نفسه ص143.

6 جريدة الجمهورية في 7 أبريل 1960.

7 المرجع نفسه.

8 مجلة الثقافة في 28 نوفمبر 1939، فصول ص145.

ص: 226

وما أعطى مراقبًا فنه مراقبة شديدة، ولذلك كان أقل الناس حظًّا من رضى النقاد وثنائهم عليه كما يقول، ولكن ذلك لم يغيِّر من سيرته مع نفسه ومع الناس، فمضى في طريقه كما مضى "جيد" قدمًا "حتى أغضب القراء غضبًا، وأكرههم على قراءته إكراهًا، وحملهم على الإعجاب بفنه حملًا، وأظهر للنقاد أن الأديب الممتاز يستطيع أن يفرض نفسه على قرائه، سواء رضي النقاد أم سخطوا"1.

ومن أجل ذلك ينتقل في اليوميات من استعمال ضمير الغائب إلى ضمير المتكلم مرَّةً أخرى، رغم أن هذه اليوميات تتضمَّن اعترافات بأمور يدرك إنكار "المثقفين" لها، ويعترف بها في صراحة صادقة، ومن ذلك، اليوميات التي يتمثَّل فيها عهد "الصبا" والإلمام به "بين حين وحين"2؛ لأنها -كما يقول- يتمثَّل فيها "حياة الكثرة المطلقة من المصريين، ويمتزج فيها بهذه الكثرة المطلقة، ويلغي فيها ما بينه وبين هذه الكثرة من الفروق، ويشعر فيها شعورًا قويًّا جدًّا بأنه واحد من هذه الملايين التي لا تحصى من المصريين منذ عرف المصريون أرض مصر وعاشوا"3. يقول طه حسين مستخدمًا ضمير المتكلم:

"هذا العهد الذي أحبه كلَّ الحب، وأبيح للمثقفين أن يسخروا مني لأني أحبه كل الحب، هو هذا الذي يتمثَّل حين يجتمع فريق من أهل القرى حول شيخ من مشايخ الطرق ليعقدوا مجلسًا من مجالس الذكر، وأنا أعرف ما يقول الذين ينكرون البدع، وأعرف أيضًا ما يقول الأوربيون عن مجالس الذكر، ولكن ماذا تريد؟ إني أحب هذه المجالس وأجد فيها نفسي الضائعة، وأتمثَّل فيها مصريتي القديمة والجديدة والمستقبلة، وأشعر فيها بهذا التضامن الذي أحب أن أجده دائمًا بين المصريين، ولا أكاد أصل إلى تلك الصحراء حتى أطلب إلى صاحبي أن يدعو لي مجلس الذكر، فيجتمع هؤلاء الفلاحون على ذكر الله كما تعودوا أن يذكروا، وعلى غناء المنشد في مدح النبي صلى الله عليه وسلم كما تعودوا أن يستمعوا له، وإذا أنا شديد الشوق إلى أن أنضمَّ إلى حلقتهم؛ فآتي ما يأتون من الحركات، وأنطق بما ينطقون به من الألفاظ، وأطرَبَ لما يطربون له من الغناء. قل ما شئت وتصوَّرْنِي كما أحببت، واحكم عليَّ بما تريد أن تحكم به، ولكني أحب حلقات الذكر وأطرب لإنشاد المنشدين وأجد في هذا الجو المصري الخالص لذَّة ومتاعًا وشعورًا بالمصرية الخالصة"4.

ومن ذلك يبين أن طه حسين -كاتب اليوميات ليس منطويًا على نفسه،

1 مجلة الثقافة في 28 نوفمبر 1939، فصول ص145.

2، 3 من لغْوِ الصيف إلى جَدِّ الشتاء ص89.

4 المرجع نفسه ص89.

ص: 227

بل يبدو من خلالها مبسط النفس Extorvert غير معقد، يرفع التكلُّف بينه وبين القارئ، ويعرض أفكاره في بساطة ويسر، لذلك يعالج في يومياته ظواهر تتسم بالطرافة، وإثارة اهتمام الناس كما يبين من حديثه عن "المنجمين"1، يقول:

"لا تعجب ولا يأخذك الدهش، فقد فكرت في المنجمين وأطلت التفكير، ألم تزعم لنا الصحف أن السلطان يطارد التنجيم والمنجمين في مصر؟ فما يمنعني أن أفكر في التنجيم والمنجمين وأنا أقرأ في الصحف الأوربية. إن التنجيم ينهض في أوربا بعد كبوته، ويستيقظ بعد نومه الطويل، ويستردُّ مكانته العليا في قصور الملوك ودواوين الوزراء، أستغفر الله، بل في ميادين القتال، بل في الجامعات أيضًا. فهذه صحيفة فرنسية -التوفيل ليترير- تحدِّثُنا بأن صاحب الجلالة جورج الملك الإمبراطور، قد عُنِيَ بالتنجيم وحديث المنجمين، فأبى أن يسافر ابنه إلى استراليا في يوم كان المنجمون يخافون منه الشر "احترقت فيه طيارة فرنسية كانت تحمل حاكم الهند الصينية العام2.

ثم يختم يومياته في مجلة "الثقافة"، والتي اتخذت عنوان:"أحاديث الأسبوع" بقوله الساخر: "ألسنا نرى أن التحدث إلى النفس في التنجيم والمنجمين خيرٌ من التحدُّث إليها في الأدب والأدباء"3.

وتكشف "أحاديث الأسبوع" عن ارتباط فن اليوميات في مقال طه حسين بقسوته على نفسه في الفن، وقسوته على غيره، كما يبين من الأحكام الصارمة التي يدمغ بها أصدقاءه وأحبَّ الناس إليه؛ في فنهم وأخلاقهم وصورهم وأشكالهم، كما يدمغ بها خصومه وأبغض الناس إليه، ثم لا يتردد في إذاعتها، وأصدقاؤه وخصومه "أحياء، مكا أنه هو حي أيضًا، ومن الممكن، بل من المحقَّقِ أنهم سيقرءونه وسيلقونه، ولكن أيَّ بأس عليه وقد أخذ نفسه بالحرية والاستقلال، وبالصراحة والصدق؟ "4.

وفي "أحاديث الأسبوع" يتناول أكثر من ظاهرة، على النحو الذي تذهب إليه اليوميات الصحفية؛ ومن ذلك ما تناوله حول اجتماع الأدباء لإحياء "ذكر مختار" "وكان حديث الأدباء عن هذا الاجتماع طريفًا؛ لأنه لم يزد على أن ذكره وألَمَّ به دون يفسِّره أو يطلق عليه، وهل أحاديث غير الأدباء في مصر الآن خير من أحاديث الأدباء؟ فأنت تستطيع أن تلتمس النشاط عند أصحاب المال، أو عند غير أولئك وهؤلاء من طبقات الناس، فإن استطعت أن

1، 2، 3 من لغو الصيف ص106، 107.

4 مجلة الثقافة في 28 نوفمبر 1929.

ص: 228

تجد صورة من صوره فأنت منصف حين تلوم الأدباء على القصور وتصيبهم بالفتور"1.

أما الظاهرة الثانية في "أحاديث الأسبوع" فهي تتعلق "بحديث صحيفة اضطرها حكم القضاء إلى الصمت"2 و"تحدَّث الأدباء عن هذا الحدث الأدبي السياسي في السرِّ أو في الجهر، في النوم أو في اليقظة، في الحقيقة أو في الخيال، وتساءلوا ما باله لم ينطق الأدباء بشيء، فكان الجواب أن مصر الآن نائمة تستريح"3.

والظاهرة الثالثة في هذه اليوميات -تتعلق بتكريم العقاد4. وهكذا يتناول طه حسين ظواهر لا تنفصل عن سياق حركة الأحداث والحياة بوجه عام، ويتلمَّس من هذه الظواهر ما يرتبط باهتمامات القراء وقت كتابة اليوميات وإذاعتها في الصحف أو المجلات.

بل إن هذا الفن المقالي عند طه حسين يتناول من ظواهر الحياة المصرية ما يرتبط بحركة الأحداث راكدة أو متحركة، أو "من لَغْوِ الصيف إلى جَدِّ الشتاء"، وفي سخريته الجادة، فالصيف في يومياته "هو الفصل الذي يحسن فيه اللغو، وإن الشتاء هو الفصل الذي لا يحسن فيه إلا الجدُّ، ولا يمكن فيه إلا الجدّ"5، ويتناول في سخرية مرة "لغو المترفين" في الصيف، ويقابل هذا اللغو بجدٍّ آخر في الشتاء يرتبط برؤياه الاجتماعية:"جدٌّ خصبٌ حقًّا، جَدٌّ نافعٌ حقًّا، جدٌّ نعيش منه، ونلهو به" ولا يجني منه أصحابه إلا حياة كلها خشونه وشظف وحرمان، هو جدُّ هؤلاء الفلاحين الذين يعملون في الأرض، لا يحفلون بالبرد ولا يحفل بهم البرد، وفي الشتاء جدٌّ آخر، جَدٌّ يمزِّقُ القلوب، ويعذِّبُ النفوس، ويبعث اللوعة والأسى في أفئدة الذين يعرفون الرحمة واللين، ويذكرون حين يلهون أن في الأرض ليالي خير منها ظلمة القبور في الشتاء، هذا الجو المظلم القاتم المرهق المحرق الذي يصوره أجمل تصوير وأبلغه، تلك الأغنية المشهور؛ أغنية الإحسان التي ما استطعت أن أستقبل الشتاء منذ عرفها دون أن أسمعها مرة ومرة:

"هذا الشتاء يقبل، ومعه حاشتيه الحزينة، إن الأشقياء ليألمون كثيرًا في الشتاء، إن من الحق علينا أن نحميهم من هذا الشقاء، إن البرد الشديد في دورهم المقفرة! "6.

1، 2، 3 من لغو الصيف إلى جدِّ الشتاء ص106، 108.

4 المرجع نفسه.

5، 6 المرجع نفسه ص118، 128.

ص: 229

وفي هذه اليوميات، لم يعد أمام طه حسين مبَرِّرٌ لاستخدام ضمير الغائب، وهو لذلك يستخدم ضمير المتكلِّم في حديثه عن بعض ذكرياته التي تحدَّث عنها في الأيام من قبل، حين يتحدث عن ذكرياته في الأزهر مع صديقيه الزيات والزناتي في صراحة تامة1:

"هذه مصري التي كان الزيات يريدني على أن أصورها له في الصباح، وأقسم لو فعلت لنفر مني وهزأ بي وازوَرَّ عني ازورارًا، ولكني واثق الآن بأني حين أتحدث إليه عنها أثير في نفسه عواطف يحبها وأحلامًا يرضاها، وأبلغ من استحسانه ما أقصر عنه من غير شكٍّ لو أني صوَّرت له مصر في الصباح هذه التي تبتدئ من داري في الزمالك، وتنتهي عند "الكواكب" في عابدين"2.

كما نجد استخدام ضمير المتكلم أكثر صارحة وواقعية في يوميات طه حسين، حين يتحدث عن "أحاديث العيد"3، فهو لا يلتمس موضوعاته "في السماء حينًا، وفي السحاب حينًا، وبعيدًا عن حياته"4 ولكنه يتحدث إلى "نفسه وإلى أصدقائه في أيام العيد أحاديث مختلفة، منها الباسم ومنها العابس، فيها الجدّ وفيها الهزل"5 ومن ذلك قوله:

"ولكني كنت أحتفظ لنفسي بأشدّ هذه الأحاديث مرارة ولذعًا؛ لأني أعلم أن الناس يكرهون في أيام العيد وفي غير أيام العيد مرارة الحزن ولذع الألم، وأشهد لقد استقبلت يوم العيد بحزن عميق؛ لأني استعرضت صورًا تعودت أن أستعرضها كلما أقبلت الأعياد، وفكَّرت فيمن أزوره ويزورني، وفيمن أسعى إليه ويسعى إليّ، فإذا كثير من هذه الصور قد محي من صفحة الحياة، ولم يبق له إلا رسم في صفحة القلب، قوي عند قوم، ضعيف ضئيل عند قوم آخرين"6.

وقوله:

"بهذا وأمثاله كنت أتحدث إلى نفسي أيام العيد، فإذا سألتني عَمَّا كنت أتحدث فيه إلى الناس، وعَمَّا كان الناس يتحدثون فيه إليَّ حين كنا نلتقي، فيا للبؤس! ويا للفقر، ويا للشقاء! ويا لجدب الحياة وإفلاس الأحياء! كنا نتحدث عن الأزمة المالية، وكنا نتحدث عن السياسة، وكنا نتحدث عن غدو المندوب السامي مع الطير يوم العيد، وما يحيط بغدوِّه ذلك من أسرار وأخبار، ومن تأويل وتعليل، ثم كنا نتحدث عن بعض هذه الأشياء الممتازة التي ظفرت

1 المرجع نفسه ص128، 132.

2، 3 المرجع نفسه ص128، 132.

4، 5، 6 المرجع نفسه ص132.

ص: 230

بأحاديث الناس وشغل الصحف وعناية رجال الأمن. كنا نتحدث عن ذلك الخاتم، "الذي اضطرب له رجال الأمن، وعطلت له دار من دار التجارة، واتصل حوله تحقيق طويل دقيق، ولم تبح صحيفة مصرية عربية أو غير عربية لنفسها أن تعرض عنه أو تطوي أخباره عن قرائها، ثم أصبح الناس يوم العيد فإذا الصحف تنبئهم بأن سيدةً التقطته أمام مدرسة من المدارس، فظنته جوهرة من الزجاج ولم تعلم أنه حجر نفيس، وأن مدينة القاهرة مضطربة له أشد الاضطراب، وأن قيمته تربى على ألف من الجنيهات"1.

ثم ينتقل طه حسين إلى الحديث عن "خاتمه" الذي فُقِدَ، وذكرياته معه في التوقيع به على المستندات وغيرها، حديثًا يقرب المسافة بين يومياته، وبين فن المعالم الصحفية Features الذي يتوسَّل به في عرض هذه اليوميات، من حيث الاعتماد على الجانب الإنساني، بحيث لا نجد خطًّا فاصلًا تمامًا بين كلٍّ من فنون الصحافة الحديثة والفن الآخر، لتداخلها في بعضها البض كتداخل الألوان في قوس قزح.

ويبين هذا الأثر من عرض اليوميات في أسلوب قريب من أسلوب التناول القصصي، الذي يتوخَّى التأثير في نفس القارئ، كما يبين من استخدام الأساليب خفيفة الروح بما فيها من تشبيهات لطيفة وعبارات جذابة، وألوان ساخرة، وأساليب تتدفَّق بالحياة والحركة، يقول طه حسين في "أحاديث الأسبوع":

"وكنت أقول لأصدقدائي وهم يبتسمون ويضحكون ويفلسفون: على رسْلِكُم أيها السادة، فلو سألتم ذلك الخاتم أو هذا الدبوس عَمَّا يعرفان من التاريخ، ولو قد أراد الخاتم وأراد الدبوس أن يَقُصَّا عليكم بعض ما يعرفان لما ابتسمتم ولا ضحكتم ولا أغرقتم في الفلسفة هذا الإغراق. فليست قيمة الخاتم والدبوس في هذه الجنيهات التي تربى على الألف أو تبلغ المئات فحسب، ولكن قيمتها فيما يحملان من ذكرى، وما يصوران من حياة، وفي هذه الصلة التي تصل بينهما وبين القلوب والنفوس.

"قال صديق ماكر: فحدِّثْنَا إذن عن خاتمك الذي فقدته؛ فقد يظهر أنك فقدت خاتمًا أيضًا، وأن أمره قد ارتفع إلى الشرطة ثم هبط إلى الصحف ثم ذاع بين الناس.

قلت: وإنك لتتحدث عن هذا الخاتم هازلًا كأنما تغضُّ من أمره وتزدريه، فهل تعلم أني حزنت عليه حزنًا شديدًا؟ وهل تعلم أنه ليس أقل خطرًا ولعله0

1 المرجع نفسه ص136.

ص: 231

أعظم خطرًا عندي من ذلك الخاتم وهذا الدبوس؟ وهل تعلم أنه يمتاز من ذلك الخاتم وهذا الدبوس بأن له في الحياة المصرية العامة آثارًا باقية، به أصبح قوم دكاترة، وبه أدرك قوم آخرون إجازة الليسانس، وبه صُرِّف كثير من أمور الدولة، وقُضِيَ في مصالح كثير من الأساتذة والطلاب أعوامًا، فحدِّثْنِي أين يقع من هذا كله أثر ذلك الخاتم وهذا الدبوس في حياة المصريين؟ ومع ذلك فلم تبلغ قيمته ألفًا ولا مائة، ولا عشرة من الجنيهات أستغفر الله، بل لم تبلغ قيمته عشرة من القروش، وإنما كانت قيمته قرشًا ونصف قرش ليس غير، اتخذته حين كانت الأشياء رخيصة في ذلك الزمن الذي كنا نستطيع أن نبلغ فيه بالقرش كثيرًا من المآرب والحاجات، اتخذته في باب الخلق وأنا خارج ذات يوم من دار الكتب، وكنت في الرابعة والعشرين من العمر، وكنت أريد أن أسافر إلى أوربا، وأظهر لي هذا السفر أني شخص من الأشخاص، يجب أن أذكر مولدي، وأعرف سني، وأقدِّر ما آتي من الأعمال، في ذلك الوقت بحثت عن شهادة الميلاد وكانت ضائعة، فعرفت سني وكنت أجهلها، وفي ذلك الوقت قيل لي أنَّ من أتى عملًا أو قال قولًا وجب عليه أن يمضيه، فاتخذت هذا الخاتم؛ صنعه لي رجل كان يصنع الخواتم قريبًا من المحافظة، ثم عبر معي البحر، وصحبني في فرنسا طالبًا، وصحبني في الجامعة أستاذًا، عمل معي أعمال الدولة، وأمضى معي عن أمور الدولة، وكان صديقًا أمينًا، لست أدري كيف قبلت فراقه حينًا، وائتمنت عليه صاحبي حتى أقبل ذات يوم ينبئني أنه افتقده فلم يجده، هنالك ضقت به وضقت بالناس، وضقت بالحياة كلها وقتًا غير قصير، ثم زعم لي زاعم أن الأمر يجب أن يرفع إلى الشرطة فرفع إليها، وهبط إلى الصحف، ولكن الشرطة تلقَّت أمره باسمة، ولكن الصحف نشرت أمره مداعبة، ولكن الأصدقاء تحدثوا عنه مازحين، أفرأيت أن قيم الأشياء تختلف لا باختلاف آثارها ومكانتها، ولكن باختلاف أصحابها، فلو كنت رئيس الوزراء لما ابتسم الشرطي، ولما داعبت الصحف لأني فقدت خاتمًا، ولكني لست رئيس الوزراء، فيبتسم الشرطي، ولا يأتي حركة، وتداعب الصحف، وتمزح أنت ويمزح هؤلاء بهذا وأمثاله، كنا نتحدث أيام العيد"1.

ومن ذلك يبين أن مادة الطرائف في اليوميات الصحفية عند طه حسين، تمتاز بقوة تنبع من الرؤيا الصحفية في مقاله، ومن أجل ذلك وجدنا في هذا النموذج، كل كلمة من الكلمات، أو عبارة من العبارات قادرة على المشاركة في موضوع اليوميات، مضيفة إليه أثرًا من الآثار التي تضفي على هذا الفن المقالي مغزى ودلالة. كما نلاحظ من هذا النموذج أن طه حسين لا يقدم كل ما يعرفه عن تفاصيل الموضوع، بل يكتفي بالإشارة عن العبارة، بحيث تبدو اليوميات

1 المرجع السابق ص137، 138.

ص: 232

في مقاله، ضيافة لَبِقَة، تقدِّمُ إلى ضيوفها ما يشتهون فقط، ذلك أن طه حسين -كما يصف العقاد ثقافته اللاتينية1- يبدو في فن اليوميات متمتعًا بالأناقة الباريسية، وبالمهارة في تقديم معارفه إلى جماعة من جماعات الأندية، ذلك أن الأناقة واللباقة في اليوميات أداتان وظيفيتان تهدفان إلى التعرُّف على ما يحدث وما يقع من وراء الأستار2، وتجاوز الصور الخلابة التي يعطيها الأدباء لحياتهم فيما ينشئون3، ذلك أن السمة الفنية الخالصة هي أظهر ما يتصف به فنُّ اليوميات الصحفية المتمثِّل للثقافة الفرنسية عند طه حسين4.

وتبين هذه السمة الفنية من الاستخدام الوظيفي للأسلوب القصصي وأسلوب الحوار في صياغة اليوميات الصحفية، وتبين كذلك من تقسيم هذه اليوميات إلى فقرات، كما تُقَسَّمُ القصة إلى فصول، بحيث لا تبدو أمام القارئ كأنها كتلة مصبوبة، أو مادة تملأ فراغًا في الصحيفة، ومن أجل ذلك وجدناه يتوسَّل بالطرائف الصحفية توسُّلًا وظيفيًّا، يعتمد الاعتماد كله على الواقع الملموس، شأنه في ذلك شأن الجاحظ الذي حفل أدبه بمادة النوادر والمُلَح. ولكنه يوظِّف هذه الطرائف وتلك النوادر لتزويد القارئ بما يُسَمَّى "الصور الخلفية" للحوادث، التي تُيَسِّرُ شرح الأسباب والنتائج والحقائق وما إلى ذلك.

ويتمثَّل في تحرير يومياته وظيفة الإمتاع والمؤانسة، برواية القريب والطريف والعجيب من القصص الواقعية والخيالية على السواء. وقد ورثت الصحافة هذه المهمة الخطيرة التي يرى "ماكدوجال Mac Dougal" أنها تخفِّفُ العبء عن النفوس والعقول، وتجعل الحياة محتملةً رغم ما فيها من متاعب، وهكذا تصبح هذه الوظيفة ذات أثر نفسي حميد. ذلك أن الإيقاع الإعلامي يسير على أساس فترات من الأخبار تمثِّلُ التوتر، يعقبها فترات من الترفيه تمثِّلُ الهدوء والاسترخاء، ولذلك وجدنا طه حسين يذهب إلى أن المادة المقالية التي تلائم فصل الصيف لا تستقيم مع الأحاديث عن الشعر القديم إلى شيء من الراحة والهدوء، والقدرة على التفكير المطمئن، وهذا الفراغ الفنّي الذي يتيح للذوق أن يستأنس ويتمهَّل ويسبغ الأشياء في غير جهد ولا مشقة، ولا تعرض لهذا العناء السريع الذي نتعرض له حين يسلط الجو علينا هذا الحر الشديد"5.

1 الجهاد في 17 يناير 1933، مرجع سبق.

2، 3 الدكتور طه حسين:"لاتينيون وسكسونيون"، مجلة الرسالة في 29 يناير 1933، مرجع سبق.

4 الرسالة في 5 فبراير 1933، مرجع سبق.

5 الجهاد في 17 يونيو 1935، بين بين ص20، 21، 22.

ص: 233

وتأسيسًا على هذا الفهم، يذهب طه حسين إلى أن الكُتَّاب إذا لم يكن لهم "بُدٌّ من الكتابة فيجب أن يرفقوا بقرائهم إذا كتبوا، وألا يتحدَّثوا إليهم من الموضوعات فيما يكلفهم جهدًا وشططًا. والكاتب مدين لقرائه بهذا الرفق، أو قُلْ: إن الكاتب مدين لنفسه بأن يرفق بقرائه إن كان حريصًا حقًّا على أن يقرأوه، راغبًا حقًّا في أن يتحدث إلى عقولهم اليقظة المفكِّرة، لا في أن يكون سبيلهم إلى الضجر والسأم أو إلى الفتور والنوم"1، ويذهب إلى أن الكُتَّاب الغربيين يقدرون هذا الطور من حياتهم وحياة قرائهم قدره، فهم "يرفقون بأنفسهم وبالقرَّاء إذا أقبل الصيف، وهم يتخفَّفُون من الموضوعات الضخمة الفخمة والمسائل المشكلة المعضلة التي يعرضون لها في غير الصيف من فصول السنة، وهم لا يعرضون من الأحاديث إلّا للسهل اليسير الذي لا يكلف المتحدث ولا السامع مشقَّة، ولا يكلفه جهد التروية والتفكير، وهم ينتهون بفضل هذا الرفق بأنفسهم وبالقراء إلى إنشاء أدب خاصٍّ يتناول موضوعات قَلَّمَا تُتَنَاول في غير فصل الصيف، ويتناولها في صور قريبة مواتية قَلَّمَا تظهر في الشتاء أو الربيع، وهذا الأدب الخاص الذي تمتلئ به الصحف الغربية في هذا الفصل من فصول السنة، يمكن أن نسميه أدب الصيف أو أدب الأجازة، أو أدب الراحة والاستجمام"2.

ومن ذلك يبين تمثُّل مقال طه حسين لوظيفة الإمتاع والمؤانسة كما تتمثَّلها الصحافة الأوربية، في تبديد كل آثار الضغط الإعلامي والتوتر العصبي، ولذلك يذهب طه حسين إلى أن هذه الوظيفة خليقة أن تلهم "الكاتب المجيد فصولًا خصبة قيّمة تثير في نفس القارئ كثيرًا من العواطف، وتدفعه إلى كثير من التفكير"3، وأن الموضوعات التي تثيرها -هذه الوظيفة- لا يمكن أن "يستنفد ما يقال عنها أو يكتب فيها، ودون أن يكرر الكُتَّاب ما يقولون أو يعيدوا ما يكتبون"4 ذلك أن "كلّ يوم يقبل إنما يحمل إلى الناس ذكريات لما مضى وآثارًا لما انقضى، فيها الرضى وفيها السخط، فيها اللذة وفيها الألم، ويحمل إليهم آمالًا فيما من الدهر كما يحمل إليهم خوفًا وإشفاقًا"5 ويذكر من ذلك أمر هذه الوظيفة فيما ينتجه الكُتَّاب الفرنسيون من فنونٍ في "تصوير هذا الفصل من الأدب الصيفي تلقاها في صحفهم على اختلافها،

1 الجهاد في 17 يونيو 1935، بين ص20، 21، 22.

2 المرجع نفسه ص23.

3، 4 بين بين ص23، 25.

5 بين بين ص23، 35.

ص: 234

تلقاها في صحفهم الهازلة كما تلقَّاها في صحفهم الجادة"1. ويذهب إلى أن الصحافة المصرية لم تتمثَّل هذه الوظيفة تمثلًا صحيحًا؛ لأن كُتَّابها "لا يرفقون بقرائهم، بل يكتبون في الصيف كما كانوا يكتبون في الشتاء، فإن أخذوا بحظٍّ من هذا الرفق امتنعوا عن الكتابة امتناعًا، وصدوا عنها صدودًا، وأراحوا أنفسهم من الكَدِّ واستمتعوا بفترة قصيرة من الهدوء الذي أُهِّلَ له. ولكن الصحف لا بُدَّ من أن تظهر ولا بُدَّ من أن تظهر ممتلئة الأنهار. وهنا يلقى أصحاب الصحف من صناعتهم الجهد كل الجهد، ويلقى القراء من صحفهم العناء؛ أولئك يريدون أن يملأوا الصحف فلا يجدوا ما يملأونها به، وهؤلاء يريدون أن يقرأوا فلا يجدوا ما يقرأون، وكذلك يصبح الصيف فصل الكساد الأدبي"2.

ويذهب طه حسين إلى علاج هذا الكساد عن طريق تمثُّلِ وظيفة الإمتاع على النحو الأمثل، عن طريق الاجتهاد في تغيير الأحاديث التي تعين الناس على استقبال الحياة واحتمالها ومعاشرتها "كما يفعل غيرنا من الناس"3. غير أن وظيفة الإمتاع والمؤانسة لا تتجاوز حدودها "فيصبح ضررها أكبر من نفعها"، ذلك أن وظيفية المقال الصحفي عند طه حسين تتصف بالتوازن والاتزان، فلا تسرف في الجدِّ إلى حَدِّ العبوس، ولا تتطَّرف في الترفيه إلى حَدِّ العبث، وإنما تسد الحاجات الإنسانية بما فيها من جوانب جادة وأخرى ضاحكة، ولذلك وجدنا اليوميات الصحفية تمثل الانتقال دائمًا "من لغو الصيف إلى جد الشتاء".

وفي ضوء هذه الرؤيا الوظيفية لليوميات الصحفية، يذهب طه حسين إلى ابتداع أساليب جديدة في تحقيق الوظائف الجادة والضاحكة، ومن هذه الأساليب التوسُّل باليوميات في النقد والتقويم، من خلال تصوير نموذج من نماذج الحياة السياسية أو الاجتماعية العامة، يسجِّل "يوميات" تصور سلوكه من خلال خواطره وأفعاله، وتكشف عن جوانب الضعف في هذا النموذج، عن طريق الاعتراف الوظيفي الذي لا يأخذ من الخيال الأدبي سوى ابتداع القالب والأسلوب. ويبقى بعد ذلك متَّصِلًا بالواقع مستمدًا منه موضوعه، فينكر ما شاء من الأوضاع الغريبة في المجتمع أو في نظام الحكم، ويفلت في الوقت نفسه من سلطان الرقيب، ونذكر من ذلك ما نشره في "أحاديث الأسبوع":

1، 2، 3 المرجع السابق ص28، 31.

ص: 235

القرين: من يوميات وزير قديم 1

"5 مايو سنة....".

"لم أر قط أعجب مما رأيت اليوم، ولن أمضي في تسجيل الأحداث السياسية والإدارية والأعمال اليومية الخاصَّة التي تعوَّدت أن أسجلها في هذا الدفتر قبل أن أقصَّ هذا الحادث الغريب الذي شهدته أو الذي حدث لي في مكتبي صباح اليوم.

"لم أكن نائمًا وما أعرف أن الوزراء تعودوا النوم في مكاتبهم، وما أعرف أني تلقيت النوم، أو أن النوم تلقاني إلّا حين آوي إلى مضجعي بعد أن ينتصف الليل. وقد أشهد مجلس الوزراء متعبًا مكدودًا، وأضيق بما يُقَال فيه أحيانًا من أحاديث لا تغني، وبما يُعْرَض فيه من شئون لا تعني وزارتي ولا تعني السياسة العامة، فأرسل نفسي في ألوانٍ من التفكير ليس بينها وبين مجلس الوزراء صلة. وقد أكون متعبًا فلا أستطيع التفكير، وإنما أظلُّ حاضرًا كالغائب وغائبًا كالحاضر، أسمع وأرى ولا ألقى إلى شيء مما أسمع وأرى بالًا، وأنا على هذا كله يَقِظٌ أشد اليقظة، متنبه أشد التنبيه، أرى بعض الزملاء وقد أخذ رأسه يخفق من النعاس، وأسمع بعض الزملاء وقد أخذ يَغُطُ لأنه أغرق في نوم عميق، وقد أعبث بهذا وألفت الزملاء في شيء من المكر إلى ذلك.. والمهم أني لم أتعلق على نفسي ولم يتعلق عليّ أحد بنومة في مجلس الوزراء"2 إلخ.

ويستمر المقال في تسجيل اعتراف الوزير القديم، وكشف "القرين" لنقائصه وعيوبه، في أسلوب يشعر القارئ معه أنه يقرأ "يوميات" كتبها الوزير فعلًا نفسه، ولم يزد طه حسين على أن سجلها وأذاعها بين الناس، وتلك قدرة من قدرات طه حسين في أداء وظائف مقاله الصحفي على النحو الذي ينشده من وراء هذا النموذج.

ومن أجل هذا تغدو "اليوميات الصحفية" في مقال طه حسين أقرب بأنواع فنه الصحفي إلى محيط الأدب، من حيث القيم الفنية التي يمتاز بها، مثل عمق التفكير، وغزارة الشعور، وجمال التعبير، والقدرة على التأمُّل في سلوك الأفراد والجماعات، ولكنَّها تمتاز عن المقال الأدبي بأنها تقصد الذيوع والانتشار في الاتصال بالجماهير، ولذلك تتعرَّض لبعض طبقات المجتمع، ولحالات غريبة من حالاته وأوضاع شاذة من أوضاعه قد تعود بالفائدة على القارئ.

1 من لغو الصيف إلى جَدِّ الشتاء ص129.

2 من لغو الصيف إلى جَدِّ الشتاء ص139.

ص: 236

وإذا كانت الطريقة الجاحظية في الكتابة بخصائصها المعروفة من حيث الإسهاب والاستطراد واتساع العبارة وجذب القارئ وسحبه بلطف ومهارة، والقدرة على أن تؤدي أضخم المعاني بأيسر الألفاظ، والعناية بالجرس الموسيقي للفظ وموسيقى العبارة، أنسب الخصائص في تحرير "اليوميات الصحفية"1، فإن هذه الطريقة من أهم خصائص الأسلوب التحريري في مقال طه حسين بصفة عامة، وفي فن اليوميات بصفة خاصة، وقد تعرَّفْنَا على نمط مقالي خاصّ يتمثَّل الرسائل الجاحظية في صحافة طه حسين، على أن هذه الخصائص في يومياته ترتبط بنقل الأدب العربي من "أرستقراطيته في العصور الوسطى إلى ديمقراطيته عن طريق الصحافة بالمعنى الصحيح لهذه الكلمة"2. كما ترتبط بتفهُّم النفس البشرية من حيث هي، وتعكس في الوقت ذاته صورة للمجتمع الذي أحاط بالكاتب الصحفي في فترة من فترات الحياة. الأمر الذي يبين من تنوّع موضوعاتها في تصوير الحياة الإنسانية بخيرها وشرها، ومخاطبة العقل البشري والوجدان الإنساني، إلى جانب الرؤيا الوظيفية الواضحة التي تجعل محور اليوميات الصحفية دائمًا الانتقال "من لغو الصيف إلى جدِّ الشتاء"، فتعالج السياسة والاقتصاد والشئون الاجتماعية.

وما أقرب أسلوب اليوميات الصحفية عند طه حسين من أسلوب مقالات مونتاني الذاتية الأولى التي ظهرت مع عصر النهضة الأوربية، لتميزه بالأصالة والتأثُّر بأعمال الكُتَّاب العربي القدامى وخاصة الجاحظ، في موسيقاه الخاصة، واعتماده على الترادف والتكرار وتمسُّكه باستخدام المفعول المطلق وبالحال، إلى جانب سهولة أسلوبه في التعبير والواقعية في التصوير "والإيناس في إجراء الحديث، حتى ليشعر القارئ لمقالات طه حسين أنه إنما يجلس إلى صديق من أصدقائه، ويستمع إلى بعض إخوانه يدور معه حيث يدور، ويدخل معه في شجون من الحديث لا يحبُّ أن يصل إلى نهايتها"، وهكذا نجد أن ثمة علاقة وثيقة بين فنون المقال منذ نشأتها الأدبية الأولى حتى تطوراتها الأخيرة في مقالات "اليوميات الصحفية".

1 الدكتور إبراهيم إمام: مرجع سبق ص219.

2 الدكتور عبد اللطيف حمزة: مرجع سبق ص192، 193.

ص: 237