الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فن المقال الاعترافي:
على أن أثر عناصر التجديد والتقليد في تعميق هذا الاتجاه انتقل بالمقالة الذاتية إلى فنٍّ مقاليٍّ جديد يخدم أغراض الاتصال الصحفي بالجماهير، ونعني فن اليوميات الصحفية، وفن المقال الاعترافي، الذي يجعل من مقالات "الأيام" وفصول "أديب" أساسًا لفنِّ اليوميات في الصحافة المصرية.
ويتميز المقال الاعترافي عند طه حسين بأنه جاء صورة نابضة بالحياة، زاخرة بالمعاني "رسمها كاتب قدير عرف بغزارة العاطفة وجمال التصوير وعذوبة العبارة"1، ذلك أن مقالات الأيام "فضلًا عن كونها صورة رائعة أيضًا لكِفَاح شابٍّ فقد البصر منذ الصغر، وناضل في حياته حتى أصبح ملء السمع وملء البصر2، صورة معبِّرَة عن المجتمع التقليدي في مصر بما فيه ومن عليه، في نهاية القرن الماضي وأوائل هذا القرن. من أجل هذا أقبل المصريون وقراء العربية إقبالًا منقطع النظير على قراءة هذه المقالات منذ نشرت تباعًا في مجلة الهلال عام 1926، ثم جمعت فيما بعد في كتاب، ثم تُرْجِمَ هذا الكتاب إلى عدد من اللغات الأجنبية، ولعل في ذلك ما يُفَسِّرُ ارتباط المقال الاعترافي الذي يصوِّرُ المجتمع التقليدي المصري، بتلك القضية الفكرية التي شغلت الصحافة المصرية، والتي كانت تهدف أساسًا إلى زوال المجتمع التقليدي، ونعني قضية "الشعر الجاهلي".
ولم يكن من قبيل المصادفة أن تُنْشَرَ فصول "الأيام" متتابعة في "الهلال" عام 1926، وكأنها استجابة نفسية شرطية للمحنة التي مَرَّ بها مؤلفها بسبب رأيه في انتحال الشعر الجاهلي3، وكأنها استجابة فكرية شرطية، كذلك تذهب إلى تصوير المجتمع الذي سبق كتابه في الشعر الجاهلي "إلى الدعوة لزواله، نفس الأمر الذي يفسِّرُ اقتران "أُدِيب" بمحنته الثانية، وفصله من الجامعة في فترة انتكاسة الدستور وحكم صدقي.
ويوضِّحُ هذا الاقتران بين "الأيام" و"أُدِيب"، الطريق بين المواجهة الصريحة للذات، وبين ما يفرضه الإطار الاجتماعي على التعبير من رمز أو ما يشبه الرمز4. كما يسجِّل لهذه المقالات الاعترافية وظيفتين أساسيتين:
أولاهما: أنها تعبير عن الذات في مرحلة التكوين وهي أهم مراحل العمر5.
وثانيهما: أنها تعبير عن موقف نفسي خاص6، وعن موقف فكري عامٍّ يرتبط بزوال المجتمع التقليدي، استتبعا بالضرورة تداعي صور الطفولة
1، 2 الدكتور عبد اللطيف حمزة: مرجع سبق ص185.
3 الدكتور عبد الحميد يونس: طه حسين الغائب وضمير المتكلم، مرجع سبق ص65، 66.
4، 5، 6 المرجع نفسه ص65، 66.
وبواكير الصبا وصور البيئة الريفية، فانتزعها من أعماق الذاكرة، وصوَّرَها بما يناسب الموقف النفسي والفكري، وهو الإكبار من شأن الفكر الإنساني، والإلحاح على حريته، والاستخفاف -بل الاستعلاء- على المحافظة والتقليدية والجمود.
ويذكر الدكتور عبد الحميد يونس1 في هذا الاقتران بين المقال الاعترافي ومحنة الشعر الجاهلي، حين طلب إلى الدكتور طه حسين أن يكتب بنفسه مقدِّمة خاصة للطبعة البارزة من الأيام، أنه وجده يسجِّل هذه الحقيقة، وهي أنه كان استجابة "للهموم الثقال" التي كان يحسُّ بها وقتذاك، إبَّان الاضطهاد الذي وقع عليه من أجل تحرير الفكر باصطناع الشك في الروايات القديمة التي جعلها المحافظون في مكان المسلمات والمقدَّسات والبديهيات.
على أن هذه الاستجابة "للهموم الثِّقَال" ترتبط باستجابة أساسية في استراتيجية القومية، ونعني: نشر المعرفة، ونشر الضوء في مصر الحديثة، وهذه الاستجابة هي التي تَكْمُنُ وراء المقالات الاعترافية عند طه حسين، لتعرية ذاته، وإظهار نفسه وبيئته في ما لها وما عليها، وذلك لإشراك الآخرين في التجارب النفسية والفكرية التي عاناها، ومحاولة تجنيب أبناء مجتمعه الآلام التي عاناها بسبب الأوضاع الاجتماعية التقليدية الجامدة2. وهي أيضًا التي تَكْمُن وراء واقعية التصوير في مقالات الأيام، ذلك أنَّ طه حسين حين يذهب إلى تصوير هذا المجتمع التقليدي، كان عليه أن يصفَ المجتمع الريفي أصدق الوصف، وأدق ما يكون التصوير، حتَّى يمكن تشخيص علل الجمود في هذا المجتمع، فلم يتكلَّف في تزويق الحديث، ولم يجنح إلى اختراع الحوادث، ولم يرغب في إخفاء الحقائق عن عين القارئ.
ولذلك يذهب إلى التوسُّلِ بأسلوب اعترافيٍّ جديد يتيح له تقديم الشخصية، أو النموذج عندما يظهر على مسرح الأحداث لأول مرة3 كما تُقَدِّمُ الشخصية المسرحية نفسها بمنظرها الخارجي وأبرز سماته، ثم يتجاوزها إلى تفصيل دورها، أو رواية الحادثة التي تتطلَّب روايتها وجوده4. وهو أسلوب يتمتع بنوع من الحرية، أو قد يستساغ من التفكك في الحديث العام أو في الشخصيات الرئيسية، كما يذكر ويتذكر ما يشاء دون مراعاة ترتيب زمني أو معمار هندسي، كما يفعل الروائي حتى في أكثر أنواع الرواية
1 المرجع السابق ص66.
2 الدكتور علي سعد مرجع سبق ص35.
3 الدكتورة سهير القلماوي: "معه في أيامه" مجلة الثقافة، ديسمبر 1973.
4 المرجع نفسه ص21.
الحديثة، ثورة على الشكل والقواعد1، ذلك أن الاعتراف يتطلَّب حرية في عدد شخصياته وطريقة نمذجتهم، وفي تصوير الحالة النفسية والفكرية وقت كتابة المقال.
وبهذا الأسلوب صوَّر صاحب الأيام رحلة طويلة ومجاهدة عنيفة وبذلًا وتضيحات في سبيل أن ينقل الحياة الفكرية في وطنه من حالة الجمود والتقليد إلى الحياة النابضة النشطة، التي تبشِّرُ بمجتمع حديث، وكانت حياته كلها صيحات متلاحقة في سبيل أن تنطلق من الحدود ومن جمود المجتمع التقليدي إلى هذا الفضاء الرحب. ومنذ أول سطور الأيام نَحُسُّ هذه الرغبة العارمة في نفس الصبي وهو يبدأ حديثه عن "السياج" الذي كان يسدُّ عليه الأفق. كم ذا يرمز السياج -على حَدِّ تعبير الدكتورة سهير القلماوي2- إلى شعوره بالقيد والسجن، وكم ذا يثير صوت المنشد على الشاطئ الآخر من القناة من أحلام الانطلاق والحرية. أو القناة محاطة من يمين وشمال بما هو أكثر من السياج بحدودٍ معنوية أو إنسانية أو حيوانية "العدويين" وكلابهم، وسعيد وشرَّه وزوجه "كوابس" ذات الحزام أو الحلقة من ذهب في أنفها التي تؤذي الصبي وهي تقبله إذا زارت منزله3.
وشعوره بظرفه البصري الخاصِّ مبثوث في الأجزاء الثلاثة من الأيام، شعور صاحَبَه ما صاحبته النفس، فلقد نشر "الأيام" في كتاب: الجزء الأول سنة 1929، والجزء الثاني سنة 1940، والجزء الثالث قبيل وفاته سنة 1972، وعلى مدى الأجزاء الثلاثة، يشعرنا بمعاناته لهذا الظرف البصري وما يستتبعه من ألم وشعور بالشيئية على اختلافٍ واضح في تعبيره عنه في كل فترة من فترات حياته4. فما يلبث أن يخف هذا الشعور بالشيئية في الجزء الثالث، فهو يتحدَّث عن شابٍّ وصل إلى فرنسا في بعثة دراسية بَدَّلَت حاله تبدلًا كبيرًا، وعرف طريقه إلى الحياة5. الأمر الذي يجعلنا نذهب إلى أن إحساسه بظَرْفِه البصري لم يعد بنفس الحِدَّةِ التي كان عليها حين صوَّر المجتمع التقليدي الذي تسبَّبَ في هذا الظَّرف، ذلك أن مقالات الجزء الثالث تصوّرُ انتصار الإنسان المصري على جمود المجتمع التقليدي، وتجاوز قيوده بالعلم والمعرفة.
ولقد فرض عليه هذا الظَّرف الخاصّ أن يرصد فنيًّا إيحاءات الصوت بالنسبة إليه، فلقد كان الصوت وسيلته إلى معرفة الشخص وحكمه عليه.
1، 2 المرجع نفسه ص21.
3، 4، 5 المرجع نفسه ص21-23.
"لا يكاد يمتدح أستاذًا إلّا امتدح صوته، ولا يكاد يذمُّ معلِّمًا إلّا ذمَّ صوته1، وعندما نتقدم في الأيام نرى إلى أي حَدٍّ اعتماده على الصوت في تلقي العالم الخارجي، يلوّن وصفه للناس وللأشياء وللحياة2. وفي أول سطور الأيام نراه يذكر كيف كان يشحذ حاسة السمع هذه، فهو "يمدُّ سمعه حتى يكاد يخترق الحائط"3 ليسمع المنشد بعد أن أُرْغِمَ على أن يكون شيئًا ملقى في البيت، وعندما كان ينصِتُ لأول مرة لشيخ أخيه وهو يلقي درسه يقول: "اجتمعت شخصية الصبي كلها حينئذ في أذنيه"4.
ومن أهم آثار هذا الظَّرْف البصري، ما يتعلق بتصحيح مفهوم اللغة تصحيحًا يخلِّصُها من ذلك التصور الخاطئ الذي يراها صورًا ورموزًا تقرأ بالعين فحسب، كنتيجةٍ لاعتماده على حاسَّةِ السمع5، كما تَقَدَّمَ، وهو الأثر الذي يجعل لغة الأيام لغة فصيحة موسيقية، رغم واقعية التصوير، ذلك أن هذه اللغة التي يجربها على ألسنة نماذجه لا يجد القارئ فيها شيئًا من الغضاضة أو التكلُّف الذي يقلل تقليلًا واضحًا من صفة الواقعية6، وهو الأمر الذي يرتبط بقدرته الفَذَّةِ على تطويع اللغة لمقتضيات الفن المقالي.
ويتوسَّلُ طه حسين باللغة الطَّيِّعة، والأسلوب الاعترافي الجديد، وواقعية التصوير توسُّلًا وظيفيًّا في مقاله، من خلال النمذجة الصحفية، التي تمتاز كذلك بالاهتمام البالغ بتصوير النفس الإنسانية في كل موقف من المواقف التي تعرض لنماذجه، ثم هو أبرع كاتب ييهئ الجو من الناحية النفسية لكي يتمكَّن قارؤه من أن يتابع القراءة، وهو يعتمد في كل ذلك على ما وهبه خالقه من عمق المشاعر، واتساع العواطف، ورحابة النفس، والقدرة على النمذجة الصحفية، كما يعتمد أخيرًا على قدرته على ما يُسَمَّى "بالتأمل الباطني"، حتى لكأنَّ نفسه الباطنة دنيا كبيرة، أو مسرح ضخم يستطيع أن يكون فيه مخرجًا لشتى الروايات التمثيلية الإنسانية الخالدة.
وذلك إلى جانب النمذجة الكاريكاتيرية الساخرة للمجتمع التقليدي البغيض إلى فكره، وما هي "إلّا أيام حتى سَئِمَ لَقْبَ الشيخ، وكره أن يدعى به، وأحسَّ أن الحياة مملوءة بالظلم والكذب، أو أن الإنسان يظلمه حتى أبوه، وأن الأُبوَّةَ والأمومة لا تعصم الأب والأم من الكذب والعبث والخداع"7. والأخ الأزهري الأكبر منصرف عن الفتى إلى أصحابه وكتبه، لا يحسُّ آلامه حتى يدفعه دفعًا إلى أن يجهش بالبكاء، والآخر يكذب ويتنَكَّر ويستولي على
1، 2، 3، 4 المرجع نفسه ص23، الأيام جـ1 ص144.
5 الدكتور عبد الحميد يونس: مرجع سبق ص68.
6 الدكتور عبد اللطيف حمزة: مرجع سبق ص187.
7 الأيام جـ1 ص38.
ما كان الأب يرسله للفتى -أثناء بعثته- من مال قليل، وطلاب الأزهر وشيوخه جميعًا قد أصابتهم الآفات في نفوسهم أو عقولهم أو خلقهم. ولا يتعاطف طه حسين إلّا مع نوعَيْن من الشخصيات التي يرى فيها ثورة على المجتمع التقليدي، وهؤلاء هم الذين قُدِّرَ لهم أن يلعبوا أهم الأدوار في حياته العقلية والعامة، وأهمهم: الشيخ سيد المرصفي، ولطفي السيد، كما تَقَدَّمَ، أحدهما يذكِّرُه بأئمة البصرة والكوفة، والآخر يذكِّرُه بفلاسفة اليونان"1.
أما النوع الآخر فيتمثَّل في ضحايا المجتمع التقليدي الجامد المتخلِّف الذي أفقده بصره، فَقَدَ هو عينيه، وبسببه أيضًا "فقدت أخته الصغرى حياتها"2. كانت "خفيفة الروح، طلقة الوجه، فصيحة اللسان، عذبة الحديث، قوية الخيال". مرضت عِدَّةَ أيام دون أن يعنى بها أحد، "فيستطيع الشيخ أن يتلو القرآن، وتستطيع هذه الأم أن تتضرَّع، ومن غريب الأمر أن أحدًا من هؤلاء لم يفكِّرْ في الطبيب"3، وكأنما كان موت الأخ الشاب بعدها هو عقاب هذه الأسرة التي تنمذج لمجتمع التقليدي في "علمه الآثم"، وبموته الفاجع تغيَّرَت نفسية الفتى تغيرًا تامًّا، عرف الله حقًّا، وحرص على التقرُّب إليه، كما أظهر تعاطفه مع هذا الأخ وهذه الأخت احتجاجًا على هذا المجتمع الجامد الفقير الجاهل من الناحية الأخرى.
ويقوم بناء المقال الاعترافي عند طه حسين على الحرية في المزج بين الرواية والسيرة الذاتية والاستبطانية، ويبدو جانب الرواية، بمعنى تتابع الفصول حسب منطقٍ فنيٍّ لا يلتزم سرد الأحداث في تتابعها الزمني أو المكاني، بل حسب تتابعها في وعي الفتى كما تصل إليه، يبدو هذا الجانب واضحًا في فصول الجزء الأول، وتبدو حركة الجماعة وراءه راكدة ساكنة، وفي الجزء الثاني يزداد نصيب صفحات السيرة، وتخضع لنوع من التتابع الزمني، ويتضح هذا أكثر في الجزء الثالث حين تعنف الحركة ويسرع الإيقاع، ولا يعود الفتى -وقد أصبح شابًّا- يخلوا إلى نفسه كثيرًا، إنما عليه أن يلاحق مشكلات حياته هذه الجديدة. من الأزهر إلى الجامعة، ومن القاهرة إلى فرنسا، مرة بعد مرة، وعليه أن يحقِّقَ أن ما كان امتيازًا ممنوحًا له بحكم عاهته، يجب أن يتحوَّل إلى امتياز وتفوق4.
على أن هذا البناء الاعترافي الجديد، يتيح له، كما أتاح لروسُّو
1 الأيام جـ3 ص22.
2، 3 الأيام جـ1 ص123.
4 فاروق عبد القادر: "طه حسين والسيرة الذاتية والرواية" مجلة الطليعة، ديسمبر 1973.
"تبيان" ماهية الرجل الطبيعي للمجتمع الفاسد"1، على النحو الذي تصوره فصول "أُدِيب"، إلى جانب فصول "الأيام"، حيث يخلق كثيرًا من المبرِّرَات ليتسلَّلَ من وراء صاحبه في تبيان المجتمع التقليدي، بالخيال المنطق حينًا، وبالوسائل حينًا آخر، يقول طه حسين: "والغريب أنه كان يتحدث فيثير في نفسي مثل ما يثير في نفسه من الذكرى، ثم يتحدَّث عنِّي وعَمَّا أحبُّ، فكأنما أتحدث عن نفسي"2. ويبين تصوير طه حسين لموقفه من المجتمع التقليدي في نموذج "الأديب" الذي يكشف عن الصراع بين التقليد والتجديد في المجتمع المصري، ابن عمدة ميسور، أتمَّ تعليمه الثانوي، وعمل كاتبًا في إحدى الوزارات، ينفق نهاره في عمله، وليله في قراءة ما كان متاحًا من ألوان الثقافة آنذاك، ثم هو زوج سعيد بزوجته، مستقِرٌّ في بيته، ذلك على رابية فوق المدينة، لكنه "مضطرب ملتو، شديد الاضطراب والالتواء"3. يقول الأديب في رسالة إلى صاحبه:
"أشعر بأن نشأتي في مصر هي التي دفعتني إلى هذا كله دفعًا، وفرضت عليَّ هذا كله فرضًا، لأني لم أنشأ نشأة منظَّمة، ولم تسيطر على تربيتي وتعليمي أصول مستقيمة مقررة، وإنما كانت حياتي كلها مضطربة أشد الاضطراب، تدفعني إلى يمين وتدفعني إلى شمال، وتقف بي أحيانًا بين ذلك"4.
ومن ذلك يبين اضطراب النموذج بين مجتمعين: الأول تقليدي جامد، والآخر منطلق متحرر، يؤمن بالنظام والاضطراد، والعلم والفن والإنسانية. يقول "أديب" لصاحبه في إحدى رسائله:
"اذهب إلى الأهرام، فما أظن أنك ذهبت إليها قط، وانفذ إلى أعماق الهرم الكبير، فستضيق فيه بالحياة، وستضيق بك الحياة، وستحسُّ اختناقًا، وسيتصبب جسمك عرقًا، وسيخَيَّلُ إليك أنك تحمل ثقل هذا البناء العظيم، وأنه يكاد يهلكك، ثم اخرج من أعماق هذا الهرم واستقبل الهواء الطلق الخفيف، واعلم بعد ذلك أن الحياة في مصر هي الحياة في أعماق الهرم، وأن الحياة في باريس هي الحياة بعد أن تخرج من هذه الأعماق"5.
ونخلص من ذلك إلى أن المقال الاعترافي جاء ثمرةً من ثمار ارتباط الكاتب بالحياة الواقعة في مصر، وصدامه مع الاتجاه التقليدي الجامد، بحيث يمكن القول أن هذا الفن المقالي مراقبة ذاتية عبر المجتمع المصري، فليس المقال الاعترافي حكمًا تعليمية، ولكنَّه من الوجهة الصحفية تهيئة لفنٍّ مقالي جديد هو "فن اليوميات الصحفية" التي تهدف أساسًا إلى نقد القيم على صعيدين رئيسيين؛ الصعيد الاجتماعي، والصعيد الثقافي، من خلال أسلوبٍ يتَّسِمُ بالصدق أولًا، والنمذجة الصحفية والتصوير النفسي بعد ذلك.
1 جوستاف لانسون: مرجع سبق ص135.
2، 3، 4 أُدِيب ص30، 168-169.
5 المرجع نفسه ص151.