الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
اليومية والمجلات اليسيرة والجمهور القارئ الضخم والمواصلات السريعة، وكل هذا سيعرض الأدب والأدباء -وقد أخذ يعرِّضُهم بالفعل- لمحنة قاسية، فسيلتجئ الراديو والصحف والمجلات إلى الأدباء، وسيتعجلهم في الإنتاج، وسيضطرهم إلى السرعة، وسيحول بينهم وبين الآناة التي تمكنهم من التجويد"1.
وتأسيسًا على هذا الفهم وجدنا فنَّ العمود الصحفي في مقال طه حسين يلائم بين هذا كله، فيؤثر الفن بالإنتاج الهادئ البطيء الذي يحتفل به ويفرغ لتجويده ويذيعه في الناس متى أراد، ويقدِّم إلى الجمهور من طريق الصحف فن العمود الذي مهما يكن من "يسره، فلن يكون من الرخص والابتذال بحيث يصبح خطرًا على الجمهور2 "لأنه يقوم على أداء وظائف اجتماعية، كانت هي الأصل في ابتداعه كما تَقَدَّمَ. ذلك أن المقال الصحفي في أدب طه حسين على إطلاقه يسعى إلى أن يكون "مرآة صافية رائعة لحياة الشعب، يرى فيها الشعب نفسه، فيحب منها ما يحب، ويبغض منها ما يبغض، ويدفعه حبه إلى التماس الكمال، ويدفعه بغضه إلى التماس الإصلاح"3.
1، 2 المرجع نفسه ص32.
3 المرجع نفسه ص32.
خصائص العمود الصحفي:
ومقال العمود حديث شخصي يومي أو أسبوعي "كما في حديث الأربعاء"، لكاتب معين يوقعه باسمه وتحت عنوان ثابت1 مثل:"حديث الأربعاء" في العمود الأسبوعي المتخصص، و"جنة الشوك" عند طه حسين، والعمود الصحفي عبارة عن فكرة أو رأي أو خاطر من الخواطر يَرِدُ على ذهن الكاتب، وكثيرًا ما كان هذا الرأي أو الخاطر يدور حول واقعة أو ظاهرة وقع عليها نظر المحرر في المحيط الذي يعيش فيه. ومعنى ذلك أن العمود الصحفي في بداية الأمر كاد لا يتعدَّى المحيط الاجتماعي2، على أننا نجد أن العمود الصحفي عند طه حسين يتجاوز المحيط الاجتماعي إلى المحيطين السياسي والثقافي كذلك، ذلك أن الغاية الأساسية من هذا الفن المقالي هي ربط القارئ بالكاتب وبالصحافة؛ لإرشاده وتسليته وتثقيفه بمادة خفيفة الظل، ويُعْتَبَرُ العمود رأيًا شخصيًّا وكتابته ذاتية. ولذلك نرى كاتب العمود يختلف أحيانًا في وجهة نظره عن سياسة الصحيفة في موضوع معين، ولا غبار عليه في إنتاج هذه الخطة.
غير أن بعض علماء الصحافة مثل "ليبلنج A. J. Liebling" يذهب إلى أن
1 د. عبد العزيز شرف: فن المقال الصحفي، مرجع سبق.
2 الدكتور عبد اللطيف حمزة: مرجع سبق ص233.
كاتب العمود لا يختلف عن كاتب المقال الافتتاحي؛ لأنه يعرض وجهة نظر الصحيفة لا وجهة نظره هو، على أن معظم الصحف ومنها صحف كبرى في العالم تؤثر إعطاء الكاتب حرية كافية للتعبير عن رأيه الشخصي في العمود الصحفي. ولكي يكون العمود الصحفي ناجحًا ومقروءًا، ينبغي ألا يهمل عاملًا هامًّا وهو اتصال الموضوع بالقارئ، من قرب أو بعد، فإن القارئ يشعر مباشرًا أو غير مباشر1.
وتأسيسًا على هذا الفهم يمكن أن نذهب إلى أن طه حسين من أوائل الكُتَّاب الصحفيين في مصر الذين تمثَّلوا هذه الخصائص العمودية في المقال، ذلك أن العمود الصحفي -كما يقول "لونٌ من ألوان القول لم يطرقه أدباؤنا المعاصرون؛ لأنهم لم يلتفتوا إليه، أو لأنهم لم يحفَلُوا به، مع أنه من أشد فنون القول ملاءمة لهذا العصر الذي نعيش فيه، فنحن نعيش في عصر انتقال كما يقال لنا منذ أخذنا نعرف الحياة، وعصور الانتقال تمتاز بما يكثر فيها من اضطراب الرأي واختلاط الأمر وانحراف السيرة الفردية والاجتماعية عن المألوف من مناهج الحياة. وهذا كله يدفع إلى النقد، ويحمل على العناية بإصلاح الفاسد وتقويم المعوج، والدلالة على الخير ليقصد إليه، وعلى الشر ليتنكب سبيله، وإظهار ما لا يحسن في صور قوية أخاذة، عميقة الأثر في النفوس، شديد الاستهواء للذوق، عظيمة الحظ من ملاءمة الطبع"2.
ومن ذلك يبين أن المقال العمودي عند طه حسين قد نشأ في الأصل من حاجة الاتصال بالواقع والتعبير عنه، فهو لم يرد إلى شيء إلّا إلى النقد الذي بالموضوع الذي يتصل به أكثر من الموضوع العام الذي لا يتصل بحياته اتصالًا، يسمونه بريقًا في هذه الأيام، والنقد الذي يوجَّه إلى ألوان من الحياة لا إلى أفراد بأعينهم من الناس. ومن المحقق أني لم أخترع هذا الكلام من لا شيء، ولم أشتق هذه الصور من الهواء، ولم ألتمسها في الصين ولا في اليابان ولا في بلاد الهند والسند، وإنما أنا أعيش في مصر، وأشارك المصريين في الحياة التي يحيونها، وآخذ بحظي مما في هذه الحياة مما يرضي وما يُسْخِطُ، وأنا بعد ذلك أعرف أقطارًا من الأرض سافرت إليها، أقمت فيها أو قرأت عنها في الكتب والأسفار، وأنا بعد هذا وذلك أعرف أجيالًا من الناس عشت بينهم، أو قرأت أخبارهم وعرفت آثارهم، فيما استطعت أن أظهر عليه من آثار الناس في الشرق والغرب، وفي الشمال والجنوب. ولست أزعم كأبي العلاء أني أعرف الناس جميعًا، وأني قد بلوت أجيال الناس جميعًا، فقد كان أبو العلاء غاليًا حين قال:
1 الدكتور إبراهيم إمام: نفس المرجع ص217.
2 جنة الشوك ص7، 18.
ما مر في هذه الدنيا بنو زمن
…
إلا وعندي من أنبائهم طرف
"وأنا واثق كلَّ الثقة بأن كثيرًا من أبناء الزمان قد مروا في هذه الدنيا وليس عندي من أنبائهم طرف طويل أو قصير، ولكني واثق بأني عرفت الناس، وبلوت أخبارهم وآثارهم إلى حَدٍّ ما، وتأثرت بما بلوت من ذلك، فسخطت حينًا ورضيت أحيانًا، وأظهرت ما وجدت من السُّخْطِ والرضا في صراحة تغنيني عن التلميح الغامض"1.
ولعل في هذه الرؤيا العملية للواقع عند طه حسين ما يجعلنا نذهب مع كُتَّاب العمود الصحفي2، إلى أن الصحيفة ليست انعكاسًا للواقع الاجتماعي فحسب، أو تسجيلًا لهذا الواقع، ولكنها كذلك جزء من تاريخ المجتمع، تقوم بدور القيادة في القضايا المهمة، وتعرض الأخطاء وتكشفها، سواء الأخطاء التي ارتكبها الحزب السياسي الذي تؤيده الصحيفة، أو الأخطاء التي ترتكبها السلطة السياسية أو الحكومية. ذلك أن المواطنين ينشدون من صحيفتهم أن تكون جريئة في نضالها من أجل الحق3. وتَتَحَدَّدُ وظيفة المقال العمودي في ضوء هذه الرؤيا الصحفية للقضايا الاجتماعية المختلفة، حين تذهب هذه الوظيفة بالعمود الصحفي إلى اتخاذ موقف محدد من هذه القضايا، يقوم على تفسير الكاتب وتحليله لها، ورأيه الذاتي أيضًا، كما يقوم على تقويمه للواقع وحكمه الخاصٍّ الذي يتميز بالصواب في التفسير، والاستقلال في التقويم. وإذا كُنَّا نفضل المقال الموقع على غير الموقع لافتقار الأخير إلى الطابع الذاتي، فإن القراء المعاصرين يرحبون بعودة الطابع الذاتي" إلى المقال العمودي4. والطريف أن المقال العمودي لم يقترن بهذا الطابع الشخصي الباتِّ إلّا بعد فترة متأخرة من تاريخه، وبطريق الصدفة تقريبًا؛ فقد استحدثه "فرانكلين ب". أدامس، عندما أدخل في عموده "برج القيادة" مذكرات من "مفكرة بيبي" إذ أخذ يوقع العمود بالأحرف "ف. ب أ"5. ومن الطبيعي جدًّا أن تعكس المفكرة الطابع الشخصي؛ لأنها تعالج ما يراه كاتبها، وما يفعله ويحس به ويفكر فيه6.
ومن ذلك يتضح أن المقال العمودي يتناول من حيث المضمون موادًّا
1 جنة الشوك ص7، 18.
2 دافد لورنس: "وجهة نظر كاتب عمود"، فن الصحافة تحرير "أدموند. كوبانتر" ص86.
3 المرجع نفسه.
4 فريرز بوند: مرجع سبق ص311.
5، 6 فريزر بوند: مرجع سبق ص311.
مختلفة، تجعل تصنيفها أمرًا من الصعوبة بمكان1. على أننا يمكن أن نميِّزَ في بعض المقالات العمودية لهجة فكاهية ساخرة، كما سيجيء في "جنة الشوك"، وبعضها يتَّسِم بلهجة جادة، والبعض الآخر يصور ضعف وقوة الانفعالات الإنسانية، كما سيبجيء في "جنة الحيوان"، ويغلب التعليق والتقويم في بعضها، والطرائف والأخبار في البعض الآخر.
وإذا كانت معرفة الكاتب لقرائه وبيئته، تتيح له أن يتكلَّم بلغة الشعب من حوله في مقاله العمودي، الأمر الذي يجعل من الطبيعي في المستقبل أن يتَّجِه المؤرخون إلى دراسة الشعوب من خلال المقالات العمودية وكُتَّابها، دراسة دقيقة7 تعطي مؤشرات هامة لدراسة حركة التاريخ الاجتماعي في مكان وزمان معينين، فإن طه حسين يصدر في عموده الصحفي عن رؤيا اجتماعية واضحة تجعله يؤكد أن "ما يقال في نقد الناس وحمدهم إنما هو أشبه بالمزايا، يرى الناس فيها أنفسهم، لأننا لا ننقد عفاريت الجن، ولا نحمد الملائكة الأبرار، وإنما ننقد ونحمد ما نرى وما نعلم من أعمال الناس وآثارهم"2.
على أن هذه الرؤيا الصحفية لمضمون المقال العمودي، هي التي تحدِّدُ بناءه وشكله التحريري، ذلك أن معظم المقالات العمودية إنما تصدر في تحريرها عن نموذج، أو عدة نمماذج تحددها الرؤيا الصحفية للكاتب، والتي تسهم في تكوينها مقوماته الخاصة ومصادر ثقافته المتنوعة3. وتأسيسًا على هذا الفهم فإن دراسة تحرير المقال العمودي عند طه حسين تشير إلى أنماط تحريرية جديدة في العمود الصحفي تصدر عن رؤياه الصحفية، ومقومات شخصيته، ومصادر ثقافته التي أسهمت في تكوين هذه الرؤيا، بحيث يمكن القول في نهاية الأمر أن العمود الصحفي في مقال طه حسين ثمرة من ثمار رؤياه الصحفية، وما تمتاز به من عناصر أصيلة، ومظاهر تجديدية، ولم ينشأ تقليدًا لفن مقالي حديث.
فإذا كان قد استقرَّ عندنا أن المقال الصحفي يقوم على محورين أساسيين: المضمون الصحفي من نحو، والشكل التحريري من نحوٍ آخر، فإن التطور الذي حكم محوري الأصالة والتجديد في مقال طه حسين، واتجه بهما إلى هنا وهناك، يرتبط بوسيلة الاتصال الصحفي بالجماهير، من خلال توازن ذكي، إلى أبعد الحدود آفاقًا وتجديدًا، فجاء المقال عنده ثمرة التعادلية بين عناصر الأصالة والتجديد جميعًا.
1 Olin Hinkle and John Henry; op. cit.، pp. 39-41.
2 جنة الشوك ص18.
3 Oline Hirtle John Henry.