المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌فن العمود الرمزي: - فن المقال الصحفي في أدب طه حسين

[عبد العزيز شرف]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة:

- ‌الفصل الأول: الدكتور طه حسين ومدرسة الجريدة

- ‌مدخل

- ‌بيئة المقال الصحفي في مصر

- ‌مدخل

- ‌ البيئة المصرية:

- ‌ الاتصال بالحضارة الأوربية:

- ‌ الحياة السياسية:

- ‌ الحياة الفكرية:

- ‌ الحياة الاجتماعية:

- ‌مدرسة الجريدة

- ‌مدخل

- ‌ مدرسة الجريدة وجيل طه حسين:

- ‌ طه حسين ولطفي السيد:

- ‌الفصل الثاني: طه حسين وبيئة المقال الصحفي في مصر

- ‌مدخل

- ‌ طه حسين والبيئة الأولى:

- ‌بيئة التكوين الصحفي:

- ‌ طه حسين والبيئة الثانية:

- ‌الفصل الثالث: طه حسين وبلاغة الاتصال بالجماهير

- ‌مدخل

- ‌عناصر الأصالة والتجديد:

- ‌بين التقليد والتجديد:

- ‌بلاغة المقال الصحفي:

- ‌بلاغة الاتصال بالجماهير في مقال طه حسين

- ‌مدخل

- ‌التبسيط والنمذجة الصحفية:

- ‌الأسلوب الواقعي:

- ‌الأسلوب الاستقصائي:

- ‌الأسلوب الاستقرائي:

- ‌الأسلوب الصحفي:

- ‌الفصل الرابع: أًساليب التحرير في مقال طه حسين

- ‌مدخل

- ‌الرؤيا الفنية في مقال طه حسين

- ‌أساليب التحرير في مقال طه حسين

- ‌مدخل

- ‌ المقال القصصي:

- ‌ المقال الوصفي والتقرير الصحفي:

- ‌ المقال الرمزي:

- ‌ الرسائل المقالية:

- ‌الفصل الخامس: طه حسين وفن العمود الصحفي

- ‌مدخل

- ‌فن العمود المتخصص:

- ‌فن العمود الصحفي

- ‌مدخل

- ‌خصائص العمود الصحفي:

- ‌مضمون العمود الصحفي:

- ‌تحرير العمود الصحفي:

- ‌فن العمود الرمزي:

- ‌الفصل السادس: فن اليوميات الصحفية في أدب طه حسين

- ‌مدخل

- ‌بين الذاتية والموضوعية:

- ‌فن المقال الاعترافي:

- ‌فن اليوميات الصحفية:

- ‌الفصل السابع: فن المقال الرئيسي الافتتاحي

- ‌مدخل

- ‌المقال الرئيسي الافتتاحي

- ‌مدخل

- ‌ خصائص المقال الرئيسي عند طه حسين:

- ‌ الوحدة العضوية في بنية المقال الرئيسي:

- ‌ طه حسين كاتب المقال الرئيسي:

- ‌الفصل الثامن: فن المقال النزالي

- ‌الفصل التاسع: فن المقال الكاريكاتيرى

- ‌الكاريكاتير الوظيفي في مقال طه حسين

- ‌طه حسين كاتب المقال الكاريكاتيري:

- ‌العناصر الفنية في المقال الكاريكاتيري

- ‌أولا: عنصر التجسيم للعيوب

- ‌ثانيًا: عنصر التوليد

- ‌ثالثًا: عنصر التشبيه أو التمثيل

- ‌رابعًا: عنصر التضاد

- ‌خامسًا: عنصر التندر:

- ‌الفصل العاشر: المقال التحليلي والتقويم الصحفي

- ‌مدخل

- ‌التحليل الصحفي

- ‌مدخل

- ‌أولًا: "توقيت" المقال التحليلي

- ‌ثانيًا: التعليق على الخبر بعد وقوعه

- ‌ثالثًا: التحليل الصحفي وحركة الأحداث

- ‌التقويم الصحفي

- ‌مدخل

- ‌أولًا: اعتماد التقويم الصحفي على الذوق أو العقل الذي يستخدمه استخدامًا جيدًا

- ‌ثانيًا: إن طه حسين كان شديد الحفل بالأسلوب والوضوح في التحليل والتقويم

- ‌ثالثًا: إتجاه طه حسين في مقاله التحليلي إلى ربط "حدث" التحليل الصحفي بدائرة اهتمامات القراء

- ‌مراجع البحث:

- ‌أولًا: المراجع العربية والمترجمة:

- ‌ثانيًا: الصحف والمجلات

- ‌ثالثًا: أهم المراجع الأجنبية

- ‌ملاحق البحث:

- ‌ملحق رقم "1":نقابة الصحفيين تنعي فقيد الأدب العربي:

- ‌من وثائق الجامعة ملحق رقم "2" كتاب طه حسين إلى رئيس الجامعة الأمير أحمد فؤاد بشأم التقدم للبعثة إلى أوروبا

- ‌ملحق رقم "3": كتاب طه حسين إلى رئيس الجامعة، بشأن ترشيحه للبعثة ألى أوربا

- ‌ملحق رقم "4": صورة كتاب الاستقالة الذي رفعه لطفي السيد إلى وزير المعارف العمومية، بعد إخراج طه حسين من الجامعة في عهد صدقي:

- ‌ملحق رقم "5": نموذج لفنِّ اليوميات الصحفية في مقال طه حسين

- ‌ملحق رقم "7": المقال الأول للدكتور طه حسين في صحيفة "كوكب الشرق" الوفدية

- ‌الفهرس:

- ‌المخطوطات

الفصل: ‌فن العمود الرمزي:

‌فن العمود الرمزي:

ويبين مما تَقَدَّمَ أن هذا الفن المقالي -عند طه حسين- فن جديد قديم، على النحو الذي يبين من "العمود الرمزي"، والذي يجعل هذه العبارة "صادقة كل الصدق، ملائمة كل الملاءمة لحقائق التاريخ الأدبي العام من جهة، ولحقائق التاريخ الأدبي العربي من جهة أخرى"1.

ذلك أن هذا الفن -كما يقول طه حسين- كغيره من فنون القول قد نشأ منظومًا لا منثورًا4، فهو من نشأته الأولى في الأدب اليوناني مذهبٌ من مذاهب الشعر ولونٌ من ألوانه، نشأ يسيرًا ضئيلًا، ثم أخذ أمره يعظُم شيئًا فشيئًا، حتى سيطر أو كاد يسيطر على الأدب اليوناني في الإسكندرية، وغيرها من الحواضر اليونانية، في العصر الذي تلا فتوح الإسكندرية. وقد نشأ كذلك في الأدب اللاتيني ضئيلًا يسيرًا، حتى إذا اتصل اللاتينيون بالأدب اليوناني عامَّةً وبالأدب الإسكندري خاصة، ترجموا ثم قلدوا ثم برعوا، حتى أصبح هذا الفن من فنون الشعر اللاتيني ممتازًا أشدَّ الامتياز وأعظمه في القرنين الأول والثاني للمسيح، أي: في العصر المجيد من عصور الإمبراطورية الرومانية4.

ويتوسَّلُ طه حسين بهذا الفن في عموده الرمزي النثري "جنة الشوك"، وهو الفن الذي سماه اليونانيون واللاتينيون "أبيجراما" أي: نقشًا، واشتقوا هذا الاسم اشتقاقًا يسيرًا قريبًا من أن هذا الفن قد نشأ منقوشًا على الأحجار، فقد كان القدماء ينقشون على قبور الموتى وفي معابد الآلهة وعلى التماثيل والآنية والأداة، البيت أو الأبيات من الشعر، يؤدون فيها غرضًا قريبًا أول الأمر، ثم أخذ هذا الفن يعظم ويتعقَّد أمره، حتى نأى عن الأحجار، واستطاع أن يعيش في الذاكرة، وعلى أطراف الألسنة، ثم استطاع أن يعيش على أسلات الأقلام وفي بطون الكتب والدواوين. وقد أطلق اليونانيون واللاتينيون كلمة "أبيجراما" أول الأمر على هذا الشعر القصير الذي كان يُنْقَشُ على الأحجار، ثم على كل شعر قصير، ثم على الشعر القصير الذي كانت تصوّر فيه عاطفة من عواطف الحب، أو نزعة من نزعات الموج، أو نزعة من نزعات الهجاء، ثم

1، 2، 3 جنة الشوك ص9.

4 المرجع نفسه 9.

ص: 198

غلب الهجاء على هذا الفن، ولا سيما عند الإسكندريين وشعراء روما، وإن لم يخلص من الغزل والمدح. فلما كان العصر الحديث لم يعد الشعراء الأوربيون يطلقون هذا الاسم على الشعر القصير الذي يُقْصَدُ به إلى النقد والهجاء1.

ذلك هو الأصل الأوربي القديم في مقال طه حسين، أما الأصل العربي القديم، فلم يكد يعرفه الأدب الجاهلي، أو نحن لا نعرف من الأدب الجاهلي ما يمكِّنُنَا من أن نقطع بأن الشعراء الجاهليين قد حاولوه أو قصدوا إليه2. ولم يعرفه الأدب الإسلامي "وقد يُرْوَى شيء منه بين الفرزدق وعبد الله بن الزبير مثلًا"3، وأكبر الظن أن الشعراء الإسلاميين لم يعرفوه؛ لأنهم لم يرثوه عن الفحول الجاهليين، ولأنهم لم يشهدوا حياة متحضرة مترفة كالتي عرفها شعراء الإسكندرية وشعراء روما، وإنما عرفوا حياة قد اتصلت بالحضارة، ولكنها لم تبرأ من البداوة، وقد حفظت تراثًا قديمًا ضخمًا، ومَذْهَبًا في الشعر في أناة ومهل لا تمتاز بالقصر ولا بالاختصار4. فلما كان العصر الثاني من عصور الحضارة الإسلامية أزهر في العراق هذا الأدب العباسي الجديد، وظهر هذا الفن في الأدب العربي قويًّا خصبًا مختلفًا ألوانه في البصرة والكوفة وبغداد5. ولكن حياته لم تطل، وإنما اقتضت ظروف السياسة والأدب أن يعدل الشعراء والفحول عنه عدولًا يوشك أن يكون تامًّا، وأن يستخفي به بعض الشعراء وبعض الكتاب، بل بعض الذين لا تعرف لهم سابقة في الشعر ولا في النثر6.

ثم كانت عصور الضعف الأدبي، فذهب هذا الفن من فنون القول فيما ذهب، واستوقفت في عصرنا الحديث حياة تقليدية عُنِيَ فيها أدباؤنا بعمود الشعر، ولم يخالفوا عن سنة الفحول من الجاهليين والإسلاميين والمحدثين، فلم يحفلوا بهذا الفن الذي لم يزدهر في تاريخ الشعر العربي إلّا وقتًا قصيرًا. فقُلِّدَ الشعراء الأوربيون في هذا الفن كما قُلِّدُوا في غيره من الفنون، ثم ابتكروا فيه كما ابتكروا في غيره من الفنون، حتى أغنوا آدابهم منه بألوان رائعة. ولكن النهضة الشعرية التي دُفِعَ الأوربيون إليها منذ آواخر القرن الثامن عشر صرفتهم عنه إلى مذاهب أخر من الشعر صرفًا يكاد يكون تامًّا7.

ومن ذلك يبين أن العمود الرمزي في مقاله طه حسين يقوم على هذه

1، 2، 3 ص12، 9، 10.

4 المرجع نفسه ص1.

5، 6 نفسه ص10.

7 المرجع نفسه ص10.

ص: 199

الأصول، في تعبير نثريٍّ قصير، يتفق ومقتضيات الفن الصحفي الحديث؛ فالقصر إذن خصلة مقومة لهذا الفن المقالي، على النحو الذي تقوم عليه "الأبيجراما" في شكلها الشعري، وهذا الخصلة عند طه حسين -كذلك- من عناصر الأصالة في الحياة العربية، ذلك أن "الإيجاز هو الذي غلب في بداية الحركة الإسلامية جانب العمل على جانب القول"1. وهذا الإيجاز بالقياس إلى الفن الصحفي الحديث أمر جوهري، ذلك أن العمود الصحفي لا يتَّسِعُ لأكثر من الكلام عن فكرة واحدة، أو خاطر واحد، بحكم ظروف العصر من جهة، وظروف الصحيفة من جهة أخرى، التي لا تُخَصِّصُ إلّا حيزًا صغيرًا للعمود2، الأمر الذي يقتضي الإيجاز في التعبير، وعدم الجنوح إلى الإسهاب بحالٍ ما3.

ومن أجل ذلك وجدنا العمود الصحفي في "جنة الشوك" لا يتجاوز خمسة عشر سطرًا بحدٍّ أقصى، على نحو ما تمتاز به"الأبيجراما"، إلى جانب التركيز على فكرة واحدة. ومن ذلك مقال بعنوان:"حرية"4.

"قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: "ألم تر إلى فلان وُلِدَ حرًّا وشبَّ حرًّا، وشاخ حرًّا، فلما دنا من الهرم آثر الرقَّ فيما بقي له من الأيام على الحرية التي صحبها في أكثر العمر؟!.

"قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: أضعفته السن فلم يستطع أن يحتمل الشيخوخة والحرية معًا، وأنت تعلم أن الحرية تحمل الأحرار أعباء ثقالًا"5.

ومن ذلك يبين الإيجاز البليغ المطابق لمقتضى الحال، وتكثيف الرأي السياسي في ألفاظ قليلة، في مواجهة النظام السياسي الذي يحظر التعبير المقالي المباشر الصريح، الأمر الذي ذهب بمقاله الرمزي إلى وضع المعاني الكثيرة في ألفاظ أقلّ منها، على نحو ما يسميه البلاغيون "إيجاز القصر"6 أو الإيجاز البلاغي الذي لا يُقَدَّرُ فيه محذوف، لأن الأقدار تتفاوت فيه، ليسهل إفلات العمود الصحفي من قلم الرقيب في فترات المحَنِ السياسية التي مرت بها مصر.

ويوظِّفُ طه حسين هذه الأغراض البلاغية في عموده الرمزي الذي

1 الدكتور شكري فيصل، مرجع سبق ص755.

2، 3 الدكتور عبد اللطيف حمزة: مرجع سبق ص241.

4، 5 جنة الشوك ص25.

6 يحيى بن حمزة بن علي بن إبراهيم العلوي اليمني: كتاب الطراز المتضمن لأسرار البلاغة وعلوم حقائق الإعجاز، مطبعة المقتطف سنة 1914، جـ2 ص119.

ص: 200

يمتاز بخفَّةِ الظل وسلاسة الأسلوب، كما يمزج التعبير بالتهكُّم والسخرية مع الحكم والأمثال المتداولة، والنكات اللاذعة والاقتباسات الدالة والنقد البنَّاء، ومن ذلك1:

"قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: إني أقرأ في شعر "كاتول" اللاتيني: "ألا تعمل خيرًا، ولا تنتظر شكرًا. فقد عمَّ الجحود وأصبح الإحسان هباء، ماذا أقول! بل أصبح ثقلًا ومصدرًا للضغينة. لقد بلوت هذه التجربة المرة حين رأيت أشد الناس حقدًا عليّ وبغضًا لي مَنْ كان يراني منذ حين مصدر نعمته وحاميه الوحيد".

"قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: لم تتغير أخلاق الناس منذ قال شاعرك اللاتيني هذا الشعر، ولكنه صاحب عاجلة لم يكن ينتظر من الآجلة شيئًا، أما نحن فقد أدبنا الله أدبًا آخر، واقرأ إن شئت قوله عز وجل:{فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} .

ثم يمتاز هذا الإيجاز في العمود الصحفي عند طه حسين بما يمتاز به. "الأبيجراما" من التأنُّقِ في اختيار الألفاظ بحيث ترتفع عن الألفاظ المبتذلة، دون أن تبلغ رصانة اللفظ الذي يَقْصِدُ إليه الشعراء الفحول في القصائد الكبرى، وإنما هو شيء بين ذلك لا يبتذل حتى يفهمه الناس جميعًا فتزهد فيه الخاصة، ولا يرتفع حتى لا يفهمه إلّا المثقفون الممتازون والذين يألفون لغة الفحول من الشعراء2.

على أن هذه السمة في العمود الصحفي عند طه حسين لا تصدُر عن نفس المصدر الذي صدرت عنه "الأبيجراما" التي نشأت في حياة ناعمة مترفة في القصور3. ذلك أنها ترتبط عند طه حسين برؤياه اللغوية في الاتصال بالجماهير من جهة، وبالظروف السياسية التي تحجب التعبير المباشر من جهة أخرى، وكان عليه أن يتَّخِذَ مواقف محددة من هذه الظروف التي أحاطت بالمجتمع المصري، فتوسَّلَ بالرمز كما تَقَدَّمَ.

كما أن العمود الصحفي عند طه حسين يمتاز بخصلة ثالثة تتصل بالمعنى، وهي أن يكون المعنى أثرًا من آثار العقل والإرادة والقلب جميعًا4، وهو يتَّفِقُ في هذه الخصلة كذلك مع "الأبيجراما" من حيث أنها ليست شعرًا عاطفيًّا يصدر عن القلب، أو يفيض به الطبع، وليس هو شعرًا يصنعه العقل وحده، وإنما هو مزاج من ذلك يسيطر الذوق عليه قبل كل شيء5. آثر العقل فيه -كما يذهب إلى ذلك طه حسين6- أنه نَقْدٌ لاذعٌ أو هجاءٌ ممض،

1، 2، 3 جنة الشوك ص69، 13، 14.

4، 5، 6 المرجع نفسه ص14، 15.

ص: 201

أو تصوير دقيق لشيء يُكْرَه أو يُحَبُّ. وهذا كله يحتاج إلى بحث وتفكر وإلى رؤية وتأمُّل، ولا يأتي مستجيبًا لعاطفة من العواطف أو هوى من الأهواء. وأثر الإرادة فيه أنه لا يأتي عفو الخاطر ولا فيض القريحة1، وإنما يقصد الكاتب العمودي إلى عمله وإنشائه، ويستعد لتجويده والتأنق فيه2. وأثر القلب فيه -كما يقول طه حسين كذلك- أنه يفيض عليه شيئًا من حرارته وحياته، ويجري فيه روحًا من قوته التي يجدها عندما يُقْبِلُ على الخير، أو عندما يَنْفِرُ من الشرِّ، عندما يرضى، وعندما يسخط3.

فالمعنى في العمود الصحفي -عند طه حسين- يتعاون القلب والإرادة والعقل والذوق على إنشائه، ونماذج هذا التعاون الصحيح في "جنة الشوك" عديدة، نذكر منها مقالًا بعنوان "ذاكرة"4.

"قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: ما أرى ذاكرة الشعوب إلّا كهذه اللوحات السود التي توضع للطلاب والتلاميذ في غرفات الدرس وحجراته، يثبت عليها هذا الأستاذ ما يمحوه ذاك، وهي قابلة للمحو والإثبات، لا تستبقي شيئًا ولا تمتنع على شيء.

"قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: هذا حق، ولكن وراء هذه اللوحات السود في ضمائر الشعوب، لوحات أخرى ناصعة تحفظ ما يسجِّل التاريخ من أعمال الناس، ومن وراء هذه وتلك كتابٌ لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، ثم يُسْأَلُ أصحابها عنها يوم لا تنفع خُلَّةٌ ولا شفاعة، فأضعف الناس عقلًا، وأوهنهم عزمًا، وأكلُّهم حدًّا، هو الذي لا يحفل إلّا بلوحاتك السود. والرجل الماهر الأثر ذو القلب الذكي والبصيرة النافذة، هو الذي يَحْفَلُ بما وراءها من هذه اللوحات الناصعة التي يكتب فيها التاريخ. والرجل كل الرجل هو الذي يمتاز بالضمير الحي والقلب النقي، والنفس الزكية، فلا يحفل بهذه ولا تلك، وإنما يحفل بهذا الكتاب الذي تحصي الحفظة فيه على الناس أعمالهم، لتعرض عليهم بين يدي الله في يوم مقداره خمسون ألف سنة مما يقدرون"5.

ثم يمتاز العمود الصحفي عند طه حسين بخصلةٍ أخرى يصوِّرها2 على أن المقطوعة منه أشبه شيء بالنصل المرهف الرقيق ذي الطرف الضئيل الحادِّ، قد رُكِّبَ في سهمٍ رشيق خفيف لا يكاد ينزع عن القوس حتى يبلغ الرمية، ثم ينفذ منها في خِفَّةٍ وسرعة ورشاقة لا تكاد تُحَسُّ.

ومن هنا امتاز هذا الفن المقالي بالسطر الأخير أو السطرين الأخيرين من

1، 2، 3 المرجع نفسه ص14، 15.

4 المرجع السابق ص32، 15.

5، 6 المرجع نفسه ص32، 5.

ص: 202

العمود، فهما يقومان منه مقام الطرف الضئيل النحيل الرشيق من نصل السهم. فإذا كان المقال مثلوم الحدِّ كليلًا لا يقطَعُ إلا بعد جَهْدٍ، ولا ينْفُذُ إلا بعد مشقة، فليس من هذا الفن في شيء1. وفي أدبنا العربي صور شعرية تحقق هذه الخصال في شعر بشَّار وحمَّاد ومطيع وأصحابهم في البصرة والكوفة وبغداد2. وفي عمود طه حسين صور مقالية تحقِّقُ هذه الخصال، منها3:

"قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: ألم تر إلى فلان يطالب بالجلاء السريع -متى وضعت الحرب أوزارها- إلى أوربا!

"قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: إلى أن يلي الحكم أو يشارك فيه"4.

ونماذج هذه الخصال المرهفة الرقيقة في عمود طه حسين عديدة تزدحم بها مقالات "جنة الشوك"، متميزة بالخِفَّةِ والحِدَّةِ، نذكر منها أيضًا5:

"قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: ما بال فلان يرى آراء المسرفين من أهل الشمال، ويسير مسيرة المسرفين من أهل اليمين؟

"قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: لأنه له عقل الحر وأخلاق العبيد"6.

ومن ذلك تبين السخرية الوظيفية التي تخضع للعقل والإرادة والذوق جميعًا، في عمود طه حسين، متميزة بالقصر والخِفَّةِ والحِدَّةِ، ليكون العمود الصحفي سريع الانتقال، يسير الفهم، كثير الدوران على ألسنة الناس، يسير الاستجابة إذا دعاه المتحدِّثُ في بعض الحديث، أو الكاتب في بعض ما يكتب، أو المحاضر في بعض ما يحاضر، ثم ليكون مجتذبًا للقارئين بما فيه من عناصر الخِفَّةِ والحِدَّةِ والمفاجأة، ثم ليكون بالغ الأثر آخر الأمر في نفوس الأفراد والجماعات، يدفعهم إلى ما يريد أن يدفعهم إليه من الخير، ويردَّهم عَمَّا يريد أن يردهم عنه من الشر "في غير مشقة ظاهرة أو جهد عنيف"7.

على أن هذه الخصائص في عمود طه حسين، تجعل من المقال الصحفي فنًّا تطبيقيًّا وليس فنًّا تجريديًّا، لأنه لا يُقْصَدُ لذاته، وإنما يهدِفُ إلى تحقيق غايات معينة، ويؤدي وظائف محددة8. ومن أجل ذلك تتعاون فيه الإرادة والعقل والذوق والقلب تعاونًا صحيحًا9، لأداء وظائف التوجيه والنقد

1، 2، 3 المرجع نفسه ص15، 40.

4، 5، 6 المرجع نفسه ص40، 26.

7 المرجع نفسه ص16.

8 الدكتور إبراهيم إمام: مرجع سبق ص57.

9 جنة الشوك ص 15.

ص: 203

والإرشاد والتقويم والإقناع، ولنقل الإيمان بأفكار الكاتب، وهذا الإيمان لا يمكن أن ينتقل بمجرد حرارة العاطفة، ولكنه يؤثر ويدوم إذا ما تعلق بحرارة الفكر1.

ومن أجل ذلك وجدنا طه حسين يتوسَّلُ بفنٍّ من فنون النقد اللاذع والهجاء المرِّ الذي يُشَبِّهُهُ "بالسهام التي لا تنزع عن القوس إلّا أصمت وأردت من تصيب"2. ولكن هذا النقد اللاذع لا يقصد لذاته كما تذهب إلى ذلك "الأبيجراما"، ولكنه نقد وظيفي يوجَّه إلى "ألوان من الحياة لا إلى أفراد بأعينهم من الناس"3، فقد انقضى عصر الهجاء منذ زمن طويل4، ولكنه يرتبط بالواقع المصري الذي يشتق منه صور المقال ويشارك المصريين في هذا الواقع، ويأخذ بحظه مما في حياتهم "مما يُرْضِي وما يُسْخِطُ"5.

وفي ضوء هذه الرؤية الوظيفية، فإن النقد اللاذع في عمود طه حسين ليس فيه أية مسحة من التسامح مع النماذج الركيكة؛ لأن هذا النقد يُرْجِعُ الفعل الإنساني إلى العقل، وعندما ترتكب هذه النماذج حماقة أو ظلمًا، بل جريمة، فذلك لأنها تفكر تفكيرًا خاطئًا على نحو ما يذهب إليه فولتير6. ولذلك يذهب النقد اللاذع في العمود الصحفي عند طه حسين إلى إشعار نماذجه بالنقص في التفكير عن طريق السخرية والمسخ، حتى تُصْلِحَ من نفسها، وتُقَوِّمَ اعوجاجها من نفسها، وهي سخرية تقوم على الإرادة والعقل، ولذلك فإننا حين نحاول تحليل هذه السخرية الوظيفية الهادفة في عمود طه حسين نلاحظ أنها ذات طابع رياضي صارم، متفقًا في ذلك مع فولتير، فهي تنحصر بصفة خاصة في عمليتين:

أولًا: إرجاع المجهول إلى المعلوم.

ثانيًا: البرهنة بطريقة التفنيد.

ومن "جنة الشوك"، نجد هذا المقال بعنوان "فيض"7، تتمثَّل فيه الخصائص الوظيفية العقلية في سخرية طه حسين.

"قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: فَسِّرْ لي قول القائل: فاض الإناء".

1 الدكتور إبراهيم إمام: نفس المرجع ص57.

2، 3، 4 جنة الشوك ص17.

5 المرجع السابق ص17، 18.

6 جوستاف لانسون: مرجع سبق ص81.

7 جنة الشوك ص24.

ص: 204

"قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: هذا مجازٌ يا بُنَيَّ في كل أمر تَجَاوَزَ حدَّه حتى أصبح لا يُطاق، ألم تسمع قول الشاعر:

شكوت وما الشكوى لمثلي عادة

ولكن كفيض النفس عند امتناعها

قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: فإني أعرف أوعية لا تمتلئ، وآنية لا تفيض.

قال الأستاذ الشيخ مبتسمًا: وما ذاك؟

قال الطالب الفتى: خزائن الأغنياء التي مهما يُصَبُّ فيها من المال فهي ناقصة، وجَهَنَّمُ التي يُقَالُ لها: هل امتلأت؟ فتقول: هل من مزيد؟ وعقول العلماء التي لا تبلغ حظًّا من المعرفة إلّا طمِعَت في أكثر منه.

"قال الأستاذ الشيخ ضاحكًا: لقد أصبحت حكيمًا منذ اليوم، ولكن تعلَّم أن إناء واحدًا قد يفيض، فيصبح مضربًا للأمثال، ومصدرًا للعِبَرِ، وبعد الأثر في حياة الأجيال، ألا تذكر سيل العرم!! "1.

ولكن في حين أن الرياضي يحوِّلُ صيغة الرياضة أمام عيوننا، ويقودنا إلى النتيجة التي يريدها بسلسلة متتابعة من القضايا التي تظل بديهية على الدوام، نجد طه حسين يحذف القضايا المتوسطة، ويستعيض عن القضية التي لم يقم البرهان على صدقها بالحقيقة التي تتضمنها "صحائح الأنباء"، وعن القضية التي لم يبرهن على فسادها بالتناقض المنطقيّ الذي كانت تخفيه: غير أن هذه الاستعاضات الفورية للمعاني، وهذه الطريقة غير المتوقَّعة في إرجاع القضايا إلى حقائق بديهية، وإلى ضروب من التناقض تثير عقل القارئ الذي يذهب إلى أن الآراء العسيرة قد أصبحت حقائق بديهية يسيرة. وهذا مصدر الوظيفية الهادفة في مقال طه حسين، فقد استطاع أن يتجاوز الرمز في تحقيق وظائف المقال بصفات الوضوح، والسرعة التي يتميز بها أسلوبه في النقد اللاذع، فكل قصة أو حدث أو نادرة أو نبأ أو استشهاد بالشعر يشبه أن يكون تجربة حضرت تحضيرًا جيدًا، تؤدي إلى مضمون المقال، أو الخطأ الذي يكْمُن في أحد الآراء المجردة، ويؤلِّفُ العمود الصحفي عند طه حسين بين الحوادث الصغيرة الدالة بحيث تبرز منها الفكرة العامة بوضوح تام، ولعل مصدر ذلك أن العمود الصحفي في مقاله مؤلف بدقة رياضية من حيث الخطة والأسلوب، تتعاون فيه الإرادة والعقل والذوق والقلب جميعًا، في تصوير: "مرايا يمكن أن يرى الناس فيها أنفسهم، وليس عليهم ولا عليّ من ذلك بأس، فما أكثر ما نرى

1 جنة الشوك ص24.

ص: 205

أنفسنا في كثير من آداب القدماء والمحدثين مهما تكن اللغات والعصور والظروف والبيئات التي تنشأ فيها هذه الآداب"1.

ومن ذلك يبين أن الناحية الفنية في العمود الصحفي ناحية تطبيقية، وليست جماليةً تُقْصَدُ لذاتها بحالٍ من الأحوال، ذلك أن العمود الصحفي قد نشأ عند طه حسين -كما تَقَدَّمَ- ليواجه الضغوط التي تعرَّضت لها الصحافة المصرية نتيجةً لظروفها السياسية والداخلية، التي اضطرت الكُتَّابَ إلى العدول عن الصراحة إلى فنونٍ من التعريض والتلميح2، يتوسَّلُ بها في أداء وظائف المقال الصحفي الذي لم يَعُدْ قادرًا على النفاذ بها من سلطان الرقيب.

ذلك أن العمود الصحفي عند طه حسين، إنما نشأ ليصوِّرَ نوعًا من أنواع حياة مجتمعه"3، وهو لذلك لا يتجه إلى الطوائف المثقفة وحدها، ولكنه يرتبط بسيادة الشعب المصري وحقَّه في أن يأخذ أفراده على اختلافهم بما يُتَاحُ لهم من حَظِّ المعرفة والثقافة4. وهو لذلك يصوِّرُ حقائق الحياة الواقعية، ويوجهها إلى ما ينبغي أن تتجه إليه، "ويبصِّرَ الناس بما يضرهم ليجتنبوه، وبما ينقصهم ليسعوا إليه"5. وبذلك يتخذ هذا الفن المقالي مكانه من أدب طه حسين في تحقيق الثورة العقلية التي تسبق ثورة السياسة، ودفع الناس إليها6.

وعلى ذلك فإن التوسُّلَ بالرمز كضرورة صحفية في العمود الصحفيّ إنما يداور السلطان ويحتاط من شره، ويستخفي بكثير من آراء الكاتب في التلميح والإشارة واصطناع المجاز7، ليؤدي الوظائف الصحفية الهادفة في مقاومة "النظام الملكي المستأثر بالأمر من دون الشعب8، والساسة المحترفين كذلك، ومقاومة تعقيد آخر "كان يؤثر في حياتنا العقلية حتى أثناء مقاومتنا له تأثيرًا بعيد المدى، وهو تقعيد الاحتلال الأجنبي الذي كان يتغلغل في أعماق حياتنا المادية والسياسية، ويتدخَّلُ في كثير من مواقفنا، ويؤثر بذلك في مصالح الأفراد والجماعات، ويحالف النظام الملكي حينًا فيثقل علينا الهول، ويخالفه حينًا آخر فيأخذنا الشرُّ من جميع أقطارنا، ونضطر إلى كثير من المصانعة والموادعة، ونلاين حينًا ونخاشن حينًا آخر، ويشقى بتفرُّقِ الأهواء واختلاف

1 جنة الشوك ص18.

2 المعذَّبون في الأرض.

3، 4، 5 خصام ونقد ص45، 46، 54.

6 المرجع السابق ص58، 160.

7، 8 المرجع السابق ص58، 160.

ص: 206

الميول والنزعات من حولنا. ونجد العناء كلَّ العناء في التماس ما نلتمس لأنفسنا من طريق التفكير والتعبير"1.

فالتوسُّل بالشكل "الأبيجرامي" في العمود الصحفي -عند طه حسين- ليس غاية في ذاته، ولكنه توسُّلٌ وظيفي في مقاومة السلطان والاحتلال و"النظام الاقتصادي البغيض الذي شقيت به الأجيال"2 المصرية، والتي قسَّمَت "الشعب إلى الأغنياء المترفين الذين ينفقون بغير حساب فيما لا يغني عنهم ولا عن غيرهم شيئًا، والفقراء المعدَمِين الذين يشقون بغير حساب؛ لأنهم لا يجدون ما يقيم الأود أو يرضي حاجة الإنسان الذي يستطيع أن يكون إنسانًا"3. وعلى ذلك فإن النقد اللاذع والهجاء والسخرية في هذا العمود الصحفي أدوات وظيفية لترشيد الحياة المصرية4، وإلى هذه الوظيفية الهادفة يشير مقال بعنوان: "وصول"5:

"لم يكن شيئًا ثم ارتقى حتى أصبح شيئًا مذكورًا، وقد سلك في تصعيده من الحضيض إلى القمَّة طريقًا وَعِرَةً ملتوية، يغمرها ضوء الشمس المشرقة المحرقة أحيانًا، وتنظر إليها الشمس من وراء نقاب من السحاب أحيانًا أخرى، ويحجبها ظلام قاتم فاحم في كثير من أجزائها. فلما ارتقى إلى القمة واطمأنَّ إلى مكانه منها، نسي ماضيه كلَّه، وأعرض عن المستقبل كلِّه، وعاش ليومه الذي هو فيه. نسي الماضي فلم يتعظ، وأعرض عن المستقبل فلم يتحفظ، ومضى مع هواه طاغيًا باغيًا، حتى أخاف الناس من نفسه، وأخاف نفسه من الحب لقوم يبغضهم أشد البغض، وإذا الناس من حوله مضطرون إلى أن يظهروا له حبًّا ملهكًا، ويضمروا له بغضًا مهلكًا، وإذا الأسباب بينه وبين الناس ترث، حتى أن أيسر الأمر لينتهي بها إلى الانقطاع.

"قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: لقد سمعت منك ولكني لم أفهم عنك، وإنك لتحدثني بالألغاز منذ حين، فماذا تعني؟ وإلام تريد! ".

"قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: إن حبَّ الاستطلاع إن نفعَ في بعض الوقت فقد يَضُرُّ في بعضه الآخر، وما عليك أن تفهم شيئًا وتغيب عنك أشياء! إنما هي مرايا تنصب للناس، فلينظر فيها من يشاء وليعرض عنها من يشاء، وربما كان الإعراض عنها خيرًا من النظر فيها، فقد ينظر فيها من

1، 2، 3 المرجع السابق ص163.

4، 5 جنة الشوك ص17، 26.

ص: 207

يحب الاستطلاع مثلك فيسوءه ما يرى؛ لأنه يرى نفسه"1.

فهذا الفن المقالي الجديد في صحافتنا العربية، إذن، مظهر من مظاهر الحياة الواقعة في مصر وما ألَمَّ بها من خطوبٍ يقتضيها "الاتصال بالسلطان والاشتراك في الحياة العامة"2، كما أنه مظهر من مظاهر الاتصال الوثيق بين فنون القول وحياة الشعب الذي أصبح في عصرنا "كل شيء، فعني به الأدباء والكُتَّابُ، ولم يحتج إلى أدبٍ شعبيٍّ خاصٍّ"3. وهو لذلك "ينطق بلسانه ويصوِّرُ آلامه وآماله"4، ولم يعد الكاتب في برج عاجيٍّ يعتزل الشعب، وإنما يصبح سيفًا في يده يسلِّطُه على رقاب الخارجين عليه.

قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: وثب فلان أمس من أقصى اليمين إلى أقصى الشمال.

قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: يئس من رضا الحكام فابتغى رضا الشعب.

قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: ألم يكن لا معنى لليأس مع الحياة، ولا معنى للحياة مع اليأس!

قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: فإن مدت له أسباب الحياة، ودعاه الأمل إلى يمين، فوثبة أخرى ترده من رضا الحكام إلى ما يريد، ما دام الإنسان قادرًا على أن يذهب ويجيء، فلا جناح عليه في أن يذهب ويجيء.

قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: والمبدأ؟

قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: المبدأ وسيلة لا غاية"5!

على أن هذا الفن الجديد في مقال طه حسين، يمتاز كذلك بطواعية اللغة العربية لا في المفردات فحسب، وإنما في التراكيب وصوَر الأداء جميعًا.

ذلك أن التوسُّل بشكل "الأبيجراما"، لا ينقل هذا الشكل الشعري نقلًا، وإنما يتمثَّلُ خصائصه في استحداث فن مقالي نثري جديد يختلف أداء ومضمونًا، كما يمتاز يوظيفيته الهادفة، ومن حيث الشكل فقد عَرِفْنَا المقالة منذ أواخر القرن الماضي، وعرفنا أنواعها المختلفة، وفنونها المتباينة، ومحاولاتها الناجحة لتصوير ما نحتاج إلى أن يصوَّر لنا من ضروب الحياة التي نحياها،

1 جنة الشوك ص17، 26.

2 ألوان ص199، 205، 204.

3، 4 ألوان ص199، 205، 204.

5 جنة الشوك ص41، 8.

ص: 208

ناقدة مرة ومقرظة مرة أخرى، معلِّمَة مرةً معنيةً بالإمتاع الفني مرةً أخرى، متناولة للسياسة على اختلاف ألوانها، وللحياة الاجتماعية على تباين أشكالها، وللحياة العقلية على تنوُّعِ فروعها1. ولكن توسُّلِ طه حسين بفنون الشعر وتمثُّلِها في فنون النثر وإعادة خلقها خلقًا مقاليًّا جديدًا، يشير إلى تطويع اللغة العربية لفنون القول القديمة والحديثة، ذلك أن هذه اللغة ملك له "يطوعها لما يريد من أغراض الحياة الحديثة التي يحياها الناس"2.

ولعلَّ في منافسته للشعراء وابتداع فنون جديدة من خلال النثر المقالي، ما يشير إلى أن تخليه عن قرض الشعر بعد مرحلة التكوين، إنما جاء أمرًا مقصودًا ليجدِّدَ عمود الشعر العربي المحافظ، كما تقدَّم، وليحقق ثورته على أساليب القدماء في التعبير الشعري والنثري، لا يُلْزِمُ نفسه أن ينظم الشعر كما كان ينظمه الجاهليون والإسلاميون والمحدَثُون من شعراء العصر العباسي أو من شعراء الأندلس، ولا يأخذ نفسه بأن يكتب كما كان يكتب ابن المقفع والجاحظ وغيرهما من الكُتَّابِ القدماء، وإنما يصطنع من الأساليب ما يلائم ذوقه وعقله الحديث من جهةٍ، وما يلائم حاجات عصره وما تثير هذه الحاجات في نفسه من العواطف والخواطر والآراء3. وجاء مقاله الصحفي بفنونه التحريرية المختلفة محققًا للصلة بين القديم والجديد، ملائمًا بين ما كان وما هو كائن4، محاولًا "أن يلائم بين هذا كله، وبين ما سيكون في مستقبل الأيام5". ذلك أن "الأمة الحية هي التي تساير الزمن وتتأثر الأحداث تأثُّر مَنْ ينتفع بها، ولا يفنى فيها، وأن تتطوَّر حسب ما تمليه الظروف6.

وتأسيسًا على هذا الفهم، جاء فن العمود الصحفي في مقال طه حسين توطينًا لفنٍّ قوليٍّ في اللغة العربية، وتأصيلًا له فيها، وإسهامًا في تنميتها وتطويرها، ذلك أن الرؤيا الإبداعية في مقال طه حسين تقوم على شيئين اثنين، أحدهما ما يُرْسَى من رأي، أو يَجِدُّ من عاطفة وشعور7. والآخر امتحان قدرة اللغة العربية على أن تقبل فنونًا من القول لم يطرقها القدماء، وامتحان قدرته هو على أن يكون الصلة بين اللغة العربية وبين هذه الفنون والآداب8.

وعن هذه الرؤيا الإبداعية يصدر العمود الصحفي في امتحان طه حسين

1 جنة الشوك ص8.

2 من أدبنا المعاصر ص156.

2، 4، 5 المرجع نفسه ص156.

6 المرجع نفسه ص157.

7، 8 جنة الشوك ص20، 21.

ص: 209

للغته ونفسه وذوق قرائه1، والذي أذاع مقطوعات منه في"الأهرام"، فرضي الناس "وسخطوا وأثنوا وعابوا"2، ولكنه يمضي في تجربته المقالية الجديدة التي أثمرت مائة ونصف مائة من هذه المقطوعات نشرت في "جنة الشوك" في الأربعينيات، أضاف إليها ما يقارب هذا القدر بعد توليه رئاسة تحرير جريدة "الجمهورية" في "الستينيات"، ولعل في ذلك ما يجلعنا نذهب إلى أن العمود الصحفي قد نجح في تصوير شخصية طه حسين وأفكاره وتأمُّلاته، تأسيسًا على أن كاتب العمود يعتبر القراء بمثابة أصدقاء حين يفضي إليهم بكلِّ ما يخطر على باله، أو يجيش في صدره من أفكار دون تكلُّف، على النحو الذي تصوِّره صلة الصداقة الرمزية بين "الطالب الفتى" و"أستاذه الشيخ".

1 جنة الشوك ص20، 21.

2 المرجع نفسه ص21.

ص: 210