الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وسيصفحون عن نقدهم فيما يمسُّ الأخلاق، كما يصفحون عن نقدهم فيما يمسُّ السياسة. فإن العفو فضيلة من هذه الفضائل الواسعة التي لا تحصر ولا تقصر ولا تتناول شيئًا دون شيء، ولا تتجاوز إثمًا دون إثم، وإنما هي ميَّالة بطبعها إلى التجاوز عن السيئات جميعًا"1.
وتتصل مهمة الإقناع بهذه الخصيصة التوجيهية في مقال طه حسين الذي يحرص على نقل الإيمان بأفكاره، ولذلك احتلَّ مقاله دورًا قياديًّا في توجيه الرأي العام المصري، فهو لا يكتفي بنقل الأفكار وتفسيرها، ولا ينقل إيمانه بأفكاره بمجرَّدَ حرارة العاطفة، ولكنه يؤثر ويدون لتعلقه "بحرارة الفكر". ذلك أن المقال الصحفي عند طه حسين لم يَعُدْ مجرَّد توجيه بلاغي كما كان في طور التكوين الصحفي، بل إنه على العكس من ذلك ينهج منهجًا خاصًّا في التحرير يقوم على الدليل والبرهان، ويعتمد على الحقائق والأرقام والبيانات والإحصاءات الدقيقة، وهذه هي وسائل الإقناع والتوجيه والإرشاد، وهي تعطيه من القوَّة والتأثير مالًا يمكن أن تحققه الألفاظ الضخمة الجوفاء.
1 المرجع نفسه.
2-
الوحدة العضوية في بنية المقال الرئيسي:
ونخلُص مما تَقَدَّمَ إلى أن بنية المقال في صحافة طه حسين "وحدة" مستقلة، فلم يكن مجرَّدَ سردٍ للحقائق، أو إتيان بالشواهد، أو إيرادٍ للأمثلة، ولكنه وسيلة للتعبير عن رأي من آراء طه حسين، أو مذهب من المذاهب التي يروّج لها في الاجتماع أو السياسة أو الفكر، ولذلك نجد طه حسين يبسط هذه الآراء والمذاهب، ويبسط الحقائق التي يوردها لقرائه، بحيث تدعم فكرة المقال وموضوعه وغايته التي تنصبُّ دائمًا حول غرض واحد.
وأغلب الظنِّ أن هذه "الوحدة" التي تربط بين أعضاء المقال الصحفي عند طه حسين، إنما ترتبط بما ذهب إليه من الدعوة للوحدة العضوية في تجديد الأدب، فلاحظنا فيما سقناه من نماذج، وما أطَّلَعْنَا عليه من التراث الصحفي لطه حسين، أنه يراعي النسب بين الأفكار والشواهد، وبين الشكل الخارجي للمقال أو البناء الفني، بحيث يخرج المقال الصحفي متكامل الأجزاء متناسق الشكل والمضمون.
وفي هذا الإطار الفني استطاع طه حسين أن يحقِّقَ شكلًا جديدًا للمقال الرئيسي في الصحافة المصرية، يقول من خلاله أفكارًا جديدة في السياسة
والاجتماع. فتوافر لمقاله التجديد والتحرُّر البياني، كما رأينا عند الحديث عن الأسلوب، على أن طه حسين قد استطاع كذلك أن يوفِّقَ بين الدوائر الثلاث المعروفة في المقال الرئيسي؛ سياسة الجريدة، وصياغة المقال، واهتمام القراء، فلم يعبِّرْ عن آرائه الذاتية كما عبَّر عنها في الأدب، بل إنه كان على وفاقٍ مع رأي الصحيفة والحزب الذي تمثِّلُه، بحيث يصعب الفصل بين رأي الصحيفة ورأي طه حسين؛ لأنه لم يكتب في صحيفة إلّا إذا كان على وفاقٍ معها، فكتب في "السياسة" حين كان على وفاق مع الأحرار الدستوريين، وكتب في "كوكب الشرق" حين اتفق مع حزب الوفد في مقاومة الحكومة الصدقية.
وتأسيسًا على هذا الفهم يمكن أن نتبين في "بنية" المقال الرئيسي عند طه حسين هذه العناصر:
أولًا: عنصر التقديم أو الفكرة المثيرة لاهتمام القارئ
ومن ذلك تقديمه لمقال بعنوان: "لعب"1 يقول:
"لعب مضحك لولا أن موضوعه التعليم!
ولعب مسلي لولا أن موضوعه الشباب!
لعب على كل حالٍ هذا التغيير الذي يصيب كليتين من كليات الجامعة، هما كلية الآداب والحقوق، بعد أن أصاب قانون الجامعة ولوائحها العامة. لعب على كل حال هذا النحو من التغيير والتبديل في برامج الدراسة ومناهجها، وفي نظم الدراسة وآمادها، دون أن يُتَاح لمنهجٍ أو برنامج أو نظام أمدٌ من المهلة ما يمكِّنُ من تجربته والحكم الصحيح عليه. ولكن ما الذي يمنع أن تُمَسَّ البرامج والمناهج والنظم والآماد، وقد غُيِّرَ القانون نفسه، وصدرت اللوائح العامة تصويرًا يلائم هذه المثل العليا، التي وضعتها الوزارة القائمة أمامها واتخذتها أصولًا للحكم! "2.
ويرتبط هذا العنصر ارتباطًا "عضويًّا" بعنوان المقال، الأمر الذي يؤكِّد ما ذهبنا إليه فيما يتعلق بالوحدة التي تربط بين أجزاء المقال، فالتقديم لا يمكن أن ينفصل عن عنوان المقال عند طه حسين بحالٍ من الأحوال، بل إن كليهما متمِّمٌ للآخر، ولعلَّ في ذلك ما يفسِّر إيثاره لاختيار كلمة واحدة يعنون بها المقال، وهي كلمة مشعَّة موحية بمضمونه، لا تنفصل عن مقدمته أو صلبه
1 كوكب الشرق في 22 مايو 1933.
2 كوكب الشرق في 22 مايو 1933.
أو خاتمته، ومن ذلك مقال بعنوان "شجاعة"1 "شجاعة" بارعة رائعة"، شجاعة فائقة رائعة، شجاعة سامقة ماحقة، هذه التي يُظْهِرُهَا بعض النواب من حين إلى حين! شجاعة لا أدري كيف يحتملها أصحابها، وكيف يثبتون لأثقالها الثقيلة، وأهوالها الهائلة، مع أنها مخيفة حقًّا، مروعة حقًّا؛ ومزعجة حقًّا للآمنين والخائفين على السواء!
"شجاعة نادرة باهرة هذه التي يتخذها بعض النواب إذا تحدَّثوا عن خصومهم أفرادًا وجماعات تحت قبة البرلمان، فهم يطلقون ألسنتهم في هؤلاء الخصوم بالحق والباطل، وبالخطأ والصواب، وبالجدِّ والهزل، لا يُقَدِّرون شيئًا، ولا يحسبون حسابًا؛ وإنما ينطلقون وكأنما خُلِّيَ بينهم وبين الحركة، فليس إلى تسكيتهم ولا تهدئتهم من سبيل"2 إلخ.
ويرتبط العنصر الثاني من عناصر تحرير المقال الرئيسي، ونعني: عنصر الحقائق والشواهد المؤيدة للفكرة، بعنصر التقديم ارتباطًا عضويًّا وثيقًا، ولكن هذه الوحدة "العضوية" في مقال طه حسين، لا تقوم على الترتيب الاحتمالي، بقدر ما تقوم على ترتيب المنهج الديكارتي في الاستقراء، والذي سبق أن تَبَيَّنَّاه في مقال طه حسين. ويقصد بالوحدة العضوية في مقال طه حسين، وحدة الموضوع، ووحدة الأفكار والآراء التي يثيرها الموضوع، وما يستلزم ذلك من ترتيب الشواهد المؤيدة لهذه الأفكار والآراء ترتيبًا استقرائيًّا به يَتَقَدَّمُ المقال شيئًا فشيئًا، حتى ينتهي إلى "خلاصة" تمثِّلُ العنصر الأخير من عناصر التحرير في مقال طه حسين، يستلزمها هذا الترتيب الاستقرائي للأفكار والشواهد والصور، بحيث تبدو عناصر المقال كالبنية الحيَّة، لكل جزء وظيفته فيها، ويؤدي بعضها إلى بعض عن طريق التسلسل في التفكير والمشاعر.
وتقوم هذه الوحدة في مقاله طه حسين على التفكير الإبداعي النابع من رؤياه الإبداعية في منهج المقال، وفي الأثر الإقناعي الذي يريد أن يُحْدثه في قرائه، وفي الأجزاء التي تندرج في أحداث هذا الأثر الوظيفي بصفة عامة، بحيث تتمشَّى مع بنية المقال بوصفها وحدة حية، ثم في الأفكار والآراء والشواهد التي يشتمل عليها كل جزء، بحيث يتحرَّك به المقال إلى الأمام لإحداث الأثر الوظيفي المقصود منها، عن طريق التتابع الاستقرائي، وتسلسل الشواهد أو الأفكار، ووحدة الطابع، والوقوف على المنهج على هذا النحو -الذي تَعَرَّفْنَا عليه عند الحديث عن الرؤيا الإبداعية في مقال طه حسين- يساعد على ابتكار الأفكار الجزئية والشواهد التي تساعد على توكيد الأثر الوظيفي المراد في
1 كوكب الشرق في 18 مايو 1933.
2 المرجع السابق.
المقال، ذلك أن أبعاد الرؤيا الإبداعية في مقال طه حسين، تظهر لنا أنه يدرك منهجه جملة وفي وضوح قبل الشروع في الكتابة والتحرير، وهو المنهج الذي يشبه ما قاله ابن طباطبا في وصف عملية الشعر على الطريقة العربية، إذ يقول:"فإذا أراد الشاعر بناء قصيدته مَحَّضَ المعنى الذي يريد بناء الشعر عليه في فكره نثرًا، وأعدَّ له ما يلبسه إياه من الألفاظ التي تطابقه، والقوافي التي توافقه، والوزن الذي يسلس له القول عليه. فإذا اتفق له بيت يشاكل المعنى الذي يرومه أثبته، وأعْمَلَ فكره في شغل القوافي بما تقتضيه من المعاني، على غير تنسيق للشعر وترتيب لفنون القول فيه، بل يلعق كل بيت يتفق له نظمه، على تفاوت ما بينه وبين ما قبله، فإذا أكملت له المعاني، وكثرت الأبيات، وفَّقَ بينها بأبيات تكون نظامًا لها، وسلكًا جامعًا لما تشتَّتَ منها.. ويسلك الشاعر منهاج أصحاب الرسائل في بلاغاتهم، وتصرفهم في مكاتباتهم، فإن للشعر فصولًا كفصول الرسائل"1، وإذا صحَّ هذا المنهج في الشعر فإنه من باب أولى يصدق على منهج تحرير المقال، وهو الأمر الذي يضمن للمقال وحدة محكمة بين عناصره، صادرة عن ناحية وحدة الموضوع ووحدة الفكرة، ووحدة الشواهد التي يتضمنها، ذلك أن المقال الصحفي ليس مجرَّدَ سرد للحقائق، ولكنه وسيلة وظيفية للتعبير عن الرأي أو المذهب، أي: أن الوحدة في المقال الصحفي تقضي بها طبيعة الموضوع ووحدة الأثر الوظيفي الناتج عنه، الأمر الذي يفرض معالجة تحريرية يظهر بها المقال كأن له وحدة مستقلة بذاتها، وتقتضي هذه الوحدة استيفاء كل شاهد من شواهد المقال، وكل فكرة من أفكاره في موضعها المحدَّد لها من بنيته، قبل الانتقال إلى الشاهد التالي أو الفكرة التالية؛ وهو الأمر الذي يتوفَّر في مقال طه حسين، لتمثُّله الترتيب الاستقرائي في بنية المقال، كما تَقَدَّمَ. ويتفق هذا الترتيب الاستقرائي لعناصر المقال الصحفي عند طه حسين، مع الترتيب الذي استقرأه الباحثون في الصحافة، كما يبين من النموذج التالي:
1 محمد بن أحمد بن طباطبا العلوي: عيار الشعر ص5-6.
مخطَّط يسحب اسكنر.
وتقوم هذه العناصر التي يتألَّفُ منها المقال الصحفي في أدب طه حسين على ما يسميه "ديكارت"1 بنظام الأسباب "الملائم، والذي يعني السير بالأفكار والشواهد بنظام، فيبدأ المقال بأبسط الموضوعات أو الشواهد، ويرتقي بالتدرُّج إلى معرفة أكثر الموضوعات تركيبًا، ولكنه يفرض "نظام الأسباب" الديكارتي حتى بين الموضوعات أو الشواهد التي لا تتتالى بالطبع، وهذا النظام هو الذي يحدِّدُ إطار الوحدة العضوية في المقال لتشمل البداية والتمهيد والصلب والخاتمة.
وللوحدة أثر في الشواهد والحقائق المؤيدة للفكرة، إذ تصبح كالبنية الحيَّة في تحرير المقال، وإذكاء الإقناع فيه. فهي تتعاون جميعًا لرسم الصورة العامة للمقال، وتقدمها فيه على حسب المنهج الاستقرائي عند طه حسين في الإقناع. ولنضرب مثلًا هنا بمقالٍ رئيسيٍّ في "حديث المساء" وعنوانه: "صراع
…
"2 وفيه يصوّر الصراع بين القومية المصرية والتسلُّط الأجنبي"3 في الثلاثينيات، فيبدأ مقدمة المقال بهذه الفقرة التي لا تنفصل عن العنوان:
بدأ منذ أسابيع -"أي الصراع"- ولسنا نعرف متى ينتهي ولا كيف
1 مقال في المنهج، طبعة مصر، ص17، سنة 1943.
Discours de la Methode.
2، 3 كوكب الشرق في 20 إبريل 1934.
ينتهي، وإن كُنَّا نعرف حقَّ المعرفة كيف نريد، وكيف ينبغي أن ينتهي. وهو هذا الصراع بين القومية المصرية، والتسلُّط الأجنبي. إن هذا الصراع قائم منذ أمد بعيد، ولكنه لم يأخذ شكله الحادَّ العنيف إلا في هذه الأيام، كما أنه لم يختر لنفسه ميدانًا معينًا مرسوم الحدود إلّا في هذه الأيام أيضًا"1.
ثم ينتقل إلى صلب المقال، فيصل بين التقديم وبين الشواهد:"ففي هذه الأيام ظهر الصراع بين القومية المصرية والتسلُّط الأجنبي حادًّا عنيفًا في المحاكم المختلطة، وهو قد اختار لنفسه إلى الآن ميدانين واضحين كل الوضوح، محددين كل التحديد؛ فأما أولهما: فرياسة الدوائر، وأما ثانيهما: فاصطناع اللغة العربية في كتابة الأحكام"2.
ومن ذلك يبين المنهج الاستقرائي في بنية المقال، فهو يقسِّم المشلكة إلى ميدانين واضحين، ويبدأ من "الكلي" إلى "الجزئي"، فالكلي في تقديم المقال هنا هو: الصراع بين القومية المصرية والتسلُّط الأجنبي، والجزئي: هو ما يتفرَّع عن تقسيم المشكلة من شواهد، يقوم فيها بإحصاءات شاملة وفقًا للمنهج الديكارتي، سواء في الفحص عن الحدود الوسطى، أو في استعراض عناصر المسألة؛ بحيث يتحقق أنه لم يغفل شيئًا. فالمنهج التحريري في مقال طه حسين إذن استنباطي استقرائي يضع المبادئ البسيطة الواضحة، ويتدرج منها إلى النتائج.
وفي المقال المتقدِّم، يتدرج في استقصاء شواهده، ثم يتدرج في تصوير الصراع بين القومية المصرية والتسلُّط الأجنبي، من خلال الشواهد والحقائق التي تؤيد فكرته الكلية التي طرحها في مقدمة المقال، يقول طه حسين في صلب المقال:
"أما في الميدان الأول: فكان من حق القومية المصرية أن تنتهي إلى ما تريد في غير جدال ولا حوار، وفي غير أخذٍ ولا رَدٍّ طويلين، فليس هناك موانع من نصِّ القانون تحول بين القضاة المصريين وبين رئاسة الدوائر حين تتاح لهم هذه الرياسة، ولكن القومية المصرية مع ذلك لم تظفر بشيء إلى الآن، والله يعلم متى تظفر بما ينبغي لها من الفوز. والغريب أن امتناع الفوز عليها لم يأت من ضعف القضاة المصريين في الاستمساك بها، ولا من ظهور هؤلاء القضاة، ولكن ذلك جاء من أن الوزارة التي كان يجب أن تحمي ظهر هؤلاء القضاة قد انكشفت وأسلمت، ولم تستطع أن تَثْبُتَ في موقفها، ولا أن تحتفظ بحقها، بل لم
1 كوكب الشرق في 20 أبريل 1934.
2 المرجع نفسه.
تستطيع أن تنظم انكشافها تنظيمًا ملائمًا للحق والكرامة، فقد كان وزير الحقانية يؤيد القضاة كل التأييد، يعلن ذلك في مجلس النواب، ويؤكد ذلك في مجلس الوزراء، ويكتب في ذلك إلى رئيس محكمة الاستئناف، فما هي إلّا أن يردَّ عليه الرئيس ردَّه القاسي المعروف حتى يكشف عنه زملاؤه، ثم ينكشف هو عن القضاة، وإذا الناس يشيعون هم بالاستقالة، وإذا رئيس الوزراء يكذب هذه الإشاعة، وإذا هو يهيئ رده على رئيس الاستئناف، ثم ينتظر بهذا الرد أيامًا، ثم يقال: إن هذا الردَّ مُحِّصَ تمحيصًا، ونُقِّحَ تنقيحًا، وإذا قضية المعاشات تؤجَّل أشهرًا طوالًا، وتنقل إلى دائرة أخرى، ثم يرسل الوزير رده بعد الأناة والانتظار، ثم تَتَقَدَّمُ الوزارة إلى مجلس الشيوخ، فيعلن رئيس الوزراء أن المسألة ستحل بالمفاوضات، أي: كما رأت الجمعية العمومية لمحكمة الاستئناف المختلطة.. إلخ"1.
ويخلص من استعراض هذه الشواهد وفق "نظام الأسباب"، بالنسبة للميدان الأول من ميادين الصراع بين القومية المصرية والتسلط الأجنبي، إلى نتيجة طبيعية لتسلسل الشواهد التي ساقها المقال، يقول:
"لم تظفر القومية المصرية إذن بشيء في هذا الميدان، لا لأن القضاة قصَّروا، ولا لأنَّ الأمة قصرت، ولا لأن الصحف قصَّرت، بل لأن الوزارة آثرت أن تتراجع، وأن تختار أيسر الأمرين، وأقلهما كلفة، وأبعدهما من الجهد والعناء، وأضمنهما للراحة والسلام وطول البقاء"2.
ثم ينتقل من هذه الخلاصة، إلى القسم الثاني من "المشكلة"، مرتقيًا بمقاله تدريجيًّا إلى معرفة أكثر الموضوعات تركيبًا، من خلال نظام الأسباب الذي يصل بين أجزاء المقال: "وأما في الميدان الثاني فمن حق القومية المصرية أيضًا أن تنتهي إلى ما تريد من غير حوار ولا جدال، ومن غير أخذ ولا رَدٍّ، وأكبر الظن أنها ستنتهي إلى ما تريد، لا لأن الوزارة ستثبت في الذَّوْد عنها أكثر مما ثبتت في الميدان الأول، بل لأنها ليست في حاجة إلى أن تؤيدها الوزارة، وإنما هي في حاجة إلى أن يؤيدها القضاة المصريون، ولم يعرف أحد عن القضاة المصريين إلى الآن أنهم بخلوا على قوميتهم بالنصر والتأييد مهما تكن الظروف. ذلك أن القوانين صريحة في أن لغة القومية المصرية إحدى اللغات الرسمية للمحاكم المختلطة، وقد أراد أحد المستشارين المصريين الأستاذ عبد السلام ذهني بك أن ينفِّذَ نص القانون، فكتب أحكامًا باللغة العربية، وليست هناك قوة تستطيع أن تحوِّلَ الأستاذ المستشار وزملاءه عن رأيهم إلّا أن تكون هناك قوة تستطيع أن تلقي القانون أو أن تغيِّرَه، أو أن تحمل القضاة على ألّا ينفذوه كاملًا.
1، 2 كوكب الشرق في 20 أبريل 1934.
"وإذن القومية المصرية ظافرة من غير شك في هذا الميدان إلّا أن تتكشَّف الأيام والحوادث عن بعض وأن تتكشَّف عنه في هذه الظروف البديعة من الأعاجيب
…
إلخ".
وينتهي من تسلسل هذه الشواهد إلى سَوْقِ رأيه في هذه المسألة:
"على أننا نعتقد أن الصِّرَاع بين اللغة العربية واللغات الأجنبية في المحاكم المختلطة لا ينبغي أن ينتهي عند هذا الحدّ، بل ينبغي أن يتَّسِعَ ميدانه، ويخيل إلينا أن المستشارين ليسوا إلا قادة في هذا الصراع، ولا بُدَّ من أن يتبعهم غيرهم، أن تكون اللغة العربية أداة عملية لا لكتابة الأحكام فحسب، بل المرافعات أيضًا يجب أن يخاصم المحامون المصريون والشرقيون باللغة العربية، ويجب أن تخاصم النيابة باللغة العربية أيضًا. ثم لا ينبغي أن يكون هذا مقصورًا على محكمة الاستئناف، بل يتجاوزها إلى المحاكم الابتدائية، فيجب أن تُكْتَب أحكام، وأن تكون مرافعات باللغة العربية فيها. وما دام القانون الذي لا سبيل إلى الخروج عليه يقرُّ اللغة العربية على ما يُرَاد لها من الحقِّ، فنحن واثقون بأن رجال القضاء والنيابة والمحاماة من المصريين والشرقيين لن يبلخوا على لغتهم بهذا الحق، ولن يقصروا في الذود عنه حتى تفرض هذه اللغة على المحاكم المختلطة فرضًا"1.
هذا، وقد يستهل المقال بعنصر "الشواهد" المشتقة من الواقع والمعتمدة على الأخبار والماجريات، والتقارير الإخبارية، وفي هذا النَّمَط من أنماط التحرير في مقال طه حسين، نجد توجيهًا للمقال الافتتاحي في الصحافة المصرية الحديثة، إلى أن يصبح إخباريًّا في جوهره، بمعنى أنَّ ما فيه من رأي ومن توجيه ومن ترفيه يعتمد على الأخبار وتفسيرها واستغلالها في تأييد رأي سياسي أو آخر". على أن هذا النمط الإخباري في تحرير المقال الصحفي عند طه حسين يرتبط ارتباطًا وثيقًا كذلك بقواعد المنهج الديكارتي، الذي يعتمد على تقسيم المشكلة ما وسعه التقسيم طلبًا للوضوح، ولذلك يضع المبادئ البسيطة الواضحة التي يشتقها من التقارير الإخبارية، ويتدرَّج منها إلى النتائج. ويبين هذا النمط الإخباري في مقال طه حسين، من مقال في "حديث المساء" بعنوان: "فضائح"2، حيث تتخذ المقدمة النمط الخبري التالي:
1-
مقاول أنشأ لبلدية الإسكندرية جزءًا من شارع الكورنيش.
1 المرجع السابق.
2 كوكب الشرق في 29 أكتوبر 1933.