الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث السابع: اليوميات
مدخل
…
المبحث السابع: اليوميات
عندما تذكر كلمة "المقال الصحفي".. على اتساع معناه وتشعب أنواعه، يتبادر إلى الذهن أول ما يتبادر عدة أنواع بعينها من هذه المقالات في مقدمتها "المثال الصحفي العام، ويليه "المقال العمودي".. بينما تأتي "اليوميات" ثالثا.. أو ثالثة هذه الأنواع.. وبعدها تأتي أنواع المقالات الصحفية الأخرى1.
واليوميات أو "مقال اليوميات الصحفية" هو الصورة الثالثة، الظاهرة، والمسيطرة على صحافة اليوم.. بعد المقال العام، والمقال العمودي، بل إنها من أكثر مظاهر "المقالات الجديدة" منذ عرفت صحافة القرن التاسع عشر هذه المادة على المستوى الصحفي لا الأدبي، مرتبطة بخصائصها المميزة التي جعلت الفرق ظاهرا، والمسافة ملحوظة بينها وبين مقالات العصور الوسطى، أو تلك السابقة عليها.. وكان من أبرز هذه الخصائص:
- ظهور شخصية الكاتب.
- كثرة الموضوعات وتعددها وتفرعها واتساع دائرتها.
- ازدياد طولها.
- نظم نشرها.
1 على مدى أكثر من عام كننت أقوم -في بداية محاضرات فن المقالات- بمحاولة للتعرف على الأفكار القائمة في أذهان الطلاب والدارسين وأحيانا بعض الهواة عن
مفهومة القائم في أذهانهم، ولم تكن النتيجة تزيد كثيرا عن هذه التي نثبتها هنا، وبإضافة المقال الافتتاحي أحيانا ولذلك لزم التنويه.
وعندما واجهت هذه المقالات في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين الكثرة من المعالم الصحفية الجديدة بكل مطالب القراء، واختلاف نزعاتهم واتجاهاتهم وأذواقهم ومشاربهم، وبداية طابع السرعة الذي تسبب -بعد ذلك- في ظهور المقال العمودي.. عندما واجهت مقالات القرن التاسع عشر هذه الملامح المتعاقبة، والتي كانت تأخذ مكانها الذي يتضاعف باستمرار فوق صفحات الجرائد.. كان لا بد لها ولكتابها من مواكبة هذا التطور الحادث نفسه.
فالقارئ لم تعد تجذبه تلك الدراسات الطويلة والرسائل الجادة تماما والموضوعات العلمية الكاملة، أو تلك التي تتصف بالجفاف، والقراء أنفسهم قد تضاعفوا وأصبحت هناك طبقات جديدة عديدة منهم، ومدرسة الخبر والإيقاع السريع والأسلوب التلغرافي تزيد من سيطرتها على الصفحات، وتتأثر بها حتى أكثر الصحف جدية، أو تلك المحافظة والتقليدية.. وبين هذا وذاك، يدرك رجال الصحف من "العقلاء" أنه لا بد من تقديم غذاء الفكر والروح معا، أو في أسلوب آخر عمل نوع من التوازن المنشود بين المادة الإخبارية والمادة المقالية ولكنها -حتما- ليست أية مقالات، وحيث لا تقدم مقالات العصور الوسطى، أو القرن التاسع عشر نفسها ما يمكن أن يؤيد هذا التوازن أو يساعد على إحلاله، أو يدعم "فن المقال" في مواجهة فن الخبر.
أقول.. كان لا بد من نوع جديد من المقالات.. يرضي متطلبات الصحافة الجديدة فكرا وأسلوبا وموضوعا ويقع في صميم صحافة المقالة فنا وشكلا، ويطعم نفسه ببعض معالم مدرسة الخبر، أو فن الخبر، ثم -في النهاية- يتوجه بذلك كله إلى مجموع القراء الذي يحاول
أن يرضي كل أذواقهم، وأن يجذب إليه أكبر عدد ممكن منهم. ومن هنا ظهر فن اليوميات الصحفية.. بل وأطلق عليه أكثر من اسم بعضها تأخذ كثيرا
من هذه الخصائص التي تمثل بدورها مزيجا من شكل وأساليب بعض المقالات القديمة، وطابع وموضوع وأفكار وأساليب المقالات الحديثة نفسها.. ولعل أشهر هذه الأسماء "
العلمية" التي تطلق عليه هي:
- المقال المتعدد الفقرات.
- المقال الذاي المتنوع "مقال المنوعات الذاتي".
- مقال التجربة الخاصة.
- مقال الخواطر والتأملات.
وذلك فضلا عن الاسم الشهير الذي أصبح يعرف به وهو: "اليوميات الصحفية".
- ولقد أسفر ذلك الوضع العجيب، وفي واقع الأمر عن عدة نتائج كان من بينها:
- أن محرر هذا النوع من المقالات قد أصبح يقف موقفا صعبا وذلك مثل الكثرة من محرري المقالات.
- فهو مطالب -من جهة- بأن يجمع على النحو السابق بين الشكل والأسلوب والموضوع القديم والجديد معا، في إطار مقال واحد.
- وهو مطالب أيضا بأن يبذل جهدا مضاعفا من أجل اجتذاب اهتمامات القراء التي أصبحت تجذبها بالدرجة الأولى وانعكاسا للأوضاع الراهنة القلقة.. المقالات السياسية والعسكرية وغيرها.
وقد عبر عن ذلك كاتب بقوله: "فقد توارت المقالة الشخصية أو الذاتية في الظل؛ لأن اهتمام القراء في العالم كله أصبح منصبا على القضايا الاقتصادية والاجتماعية والسياسية العامة التي تؤثر بدورها على حياتهم الخاصة ومستقبل أبنائهم، ولم يعد لديهم الوقت في هذا العصر الصاخب اللاهث لكي يشاركوا كاتب المقالة تأملاته المتأنية التي تثيرها انفعالاته الذاتية"1.
- ولكن الواقع نفسه يقول إن هذا الذي يحمل بذور الخطر كان يحمل أيضا بذور القوة والمنعة لهذه المقالات وكتابها.. ولكن كيف؟
أن الكثرة من القراء قليلة الصبر، قلقة، وأن العصر نفسه الذي يحمل الضجيج والتلوث وصخب المشكلات السياسية، والاقتصادية، الذي يكاد يصم الآذان ويطحن أحشاء الناس والذي جعلهم يبذلون اهتمامهم بالمقالات التي تتناول ذلك كله، وتحاول أن تقدم حلولا لها جعلهم في نفس الوقت يحاولون الهرب من كل ذلك، أو يهربون فعلا لكي يلتقط كل منهم أنفاسه مع مقالة عمود، أو مقالة من هذا النوع الذي يعيش فيه مع
1 نبيل راغب: "دليل الناقد الأدبي" ص193.
فكر الكاتب وخواطره وحتى أحلامه أيضا، فتكون هذه كلها "راحة" له، وشعبا -بكسر الشين- يستظل بظله وفي مغانيه، وينسى فيه همومه ومطالبه الملحة، وعجزه عن تحقيقها، تماما كما يفعل مع تحقيق صحفي من تحقيقات الرحلات أو التحقيقات العامة المشوقة، أو مع قصة من قصص الخيال أو الخيال العلمي وهكذا.. وقد زاد من ذلك الإحساس ومن "هروب" القراء من مقالات السياسة والمشكلات وضجرهم بها، وضيقهم أيضا ومن ثم انصرافهم عنها إلى غيرها خاصة مقالات الأعمدة واليوميات أن كتاب السياسة والاقتصاد في العالم العربي عامة يواجهون ضغوطا شديدة، ومناخا غير مشجع وظروفا لا تمكنهم من النجاح، أو تقديم الحلول النافعة فعلا، فإن وجدوا، وإن قدموا فإنهم يصرخون في واد، أو ينفخون في "القربة المقطعة"1 أو يؤذنون في "مالطة" ومن هنا قل وجود الكاتب السياسي، بل وجد من يكتب في السياسة؛ لأنه عليه -بحكم وظيفته- أن يكتب.. ومن هنا أيضا هرب بعض هؤلاء إلى مثل هذه المقالات.. إلى حيث يجدون أنفسهم وذواتهم، ويجدهم القراء أيضا.
- ولكن ذلك كله، قد ألقى على كتاب مقالات الأعمدة واليوميات مسئولية مضاعفة، بل وألقى على كاهل الصحف والمجلات نفسها بمثل هذه المسئولية، بحثا عن المحرر النابه المثقف الموهوب صاحب القلم المتميز من بين أبنائها من الذين يمكنهم تحرير هذا النوع من أنواع المقالات -اليوميات- وعندما لم تجده بحثت عنه ضمن كبار الأدباء والمثقفين ومشاهير الفنانين ورجال الجامعات وقامت بـ"توظيفهم" ضمن أفراد أسرة تحريرها، أو رتبت ونظمت قيامهم بهذا العمل من خارج أسرتها..
وخذ عندك -مثلا- هذه الأسماء التي قامت بكتابة "يوميات الأخبار" في وقت من الأوقات:
"عباس محمود العقاد، توفيق الحكيم، د. طه حسين، سلامة موسى، محمد ذكي عبد القادر، د. سعيد عبده، إبراهيم المصري، أحمد بهاء الدين، كمل الشناوي
…
إلخ".
1 وهو اسم الكتاب الذي أصدره معبرا عن هذا المعنى ضمن ما يعبر عنه من معان كثيرة الأستاذ "جلال الدين الحمامصي".