الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثالثا: مؤثرات المقال
والمقالات تأسيسا على كل ما تقدم، واستنادا إليه، لا سيما ما يتصل بدورها ووظائفها والأهداف "النهاية" منها، المقالات هنا لا تعيش، ولا تبقى، ولا تنمو ولا تتطور، إنتاجا وتحريرا ونشرا وتسويقا، لا تفعل ذلك وحدها، أو وهي كالجزر الفكرية والصحفية المعزولة وإنما يعتبر "الواقع الفكري المقالي" في بلد من البلاد مرآة تعكس واقع هذا البلد نفسه بكل ما فيه ومن فيه، من اتجاهات وقضايا وعوامل تقدم أو تأخر، وشد أو إرخاء، وتنوير أو تعتيم، تماما كما تعتبر سطورها "ميدانا" أو "حلبة" ليس لتصارع الآراء والأفكار والمواقف والمشاعر والأحاسيس فقط، وإنما ميدانا للصراع من أجل "الوجود المقالي" أو قيام هذا الفن نفسه والمستوى الذي يكون عليه شدة أو ضعفا.
ومن هنا، فإن هناك عدة عوامل تتجمع في "سماء المقال" أو "على تربته" ليتأثر بها مقال أو آخر، ولتؤثر هي بدورها في "مجموع المقالات" التي تنشرها صحفها ومجلاتها، نعم إن "المناخ المقالي" يتأثر بدرجات ملحوظة، ويؤثر بدوره على واقعه، إنتاجا وتحريرا ونشرا وتسويقا بهذه المؤثرات أو العوامل كلها وبتفاعلها مع بعضها البعض واتصالها الدائم وارتباطها الوثيق أيضا، ذلك الذي يقرر في النهاية الصورة التي تكون عليها مقالات صحافتها.
أ- المؤثرات السياسية:
وهي عديدة، وتأثيرها بالغ، وتفاعلها مع "واقع" المقال شديد، كما أن العوامل الأخرى ترتبط بها أقوى ارتباط، بحيث تعكس -في النهاية- درجة هذا التأثير نفسه قوة أو ضعفا، أو تكون هي "المؤثر الأساسي" لا سيما بالنسبة لعد كبير من المقالات ذات الطابع السياسي، أو تلك التي يغلب عليها مضمونه، لا سيما المقالات "الافتتاحية، التفسير أو التعليق، الصحفي العام، المقال التحليلي.. إلخ" وليس معنى ذلك بالطبع أن أنواع المقالات الأخرى لا تتطرق إلى هذا الجانب السياسي، ولا تقتحم السياسة
1 محمد حسن عبد العزيز: "لغة الصحافة المعاصرة" ص12.
مضمونها وليس معناه أيضا أن هذه المؤثرات لا تصل "بمفعولها" حتى مقالات الأعمدة أو اليوميات الصحفية، فهذه وتلك تتأثر بها أيضا بدرجات متفاوتة، ولكن تأثيرها على المقالات الأولى يكون أكثر وضوحا وأشد وقعا، وعموما فإن المؤثرات كلها -السياسية- يمكن اختصارها في "الموقف من الديمقراطية" فبقدر اقتراب البلد الذي تصدر فيه الصحيفة أو المجلة التي تحمل هذه المقالات إلى الناس، بقدر اقترابه فكرا وحكما وسياسة وطابعا منها، أو بقدر ابتعاده عنها، يكون هذا "الواقع المقالي" منذ لحظة التفكير في كتابة مقال من المقالات، وحتى لحظات مبيعها وقراءتها، ومتابعة آثارها، وحيث يكون الكاتب أو المحرر مشدودا بفكره إلى مظاهر هذا "الموقف من الديمقراطية" الذي تقفه بلده ونظام الحكم فيه وحكومته وسلطاتهو وحيث يترتب على ذلك كله أكثر من أمر تتصل بهذه الأشياء أو العلامات جميعها:
- اتخاذ قرار بالكتابة أو الهرب و"التقاعس" عنها.
- اتخاذ القرار باختيار الموضوع الذي يتناوله الكاتب.
- اتخاذ القرار بالموقف الواجب، والأسلوب الصحيح للمعالجة.
- الوصول إلى النتيجة النهائية.
- متابعة "ردود أفعال" ما كتب، وأصداء ما قال واستقراء آثاره.
على أن أهم "مظاهر" هذه الديمقراطية التي تؤثر إيجابا أو سلبا على "الموقف المقالي" هذه الصور كلها دون أن يعني ذلك أنها يمكن أن تتجزأ، وإنما هي واحدة في ضمير الأمم والشعوب انطلاقا من قاعدتها الأساسية التي تقول بحكم الشعب نفسه، ولخيره في ظل الحرية والمساواة والحياة النيابية الصحيحة، إن أهم مظاهرها المؤثرة في الواقع المقالي هي:
- الحرية السياسية: وهي المظهر الأساسي أو الأصل والجوهر في قيام هذا النظام، وتعني هنا أن يكون الشعب هو مصدر السلطة وصاحب السيادة،. وأن تكون الحقوق السياسية متاحة ومقررة وواحدة بالنسبة لجميع المواطنين، كما يعني ذلك أيضا حرية تكوين الأحزاب وممارستها لنشاطها على قدم المساواة، إلى جانب كفالة حق العمل والمساواة في الحقوق الأساسية للجميع، بينما تكون الحكومة هي حكومة الأغلبية.
- الحرية الفردية: التي تشد أزر الأفراد وتجعلهم ينطلقون في مجالات العمل والإنتاج والبحث والاختراع والسياسة استنادا إلى إيمان السلطات بروح الفرد وكرامته وإدراكها لمكانته في المجتمع، واقتناعها الكامل بحقه في اتخاذ ما يراه صالحا له ولمجتمعه، وما يترتب على ذلك من حريته في الحركة والتعبير عن مصالحه.
- الحرية الصحفية: تلك التي يكون من أهم مظاهرها حرية الأفراد والأحزاب والمؤسسات في إصدار الصحف دون اعتراض من جانب السلطات، وحرية الكاتب في كتابة ما يريد من أفكار وطرح ما يشاء من آراء دون رقابة قبلية أو بعدية، وأن يكون ذلك حق لجميع الكتاب في الوطن الواحد الذي يستظلون بظله، أو -في أسلوب آخر- أنها حرية "جميع الصحفيين" دون تفضيل أو تمييز لكاتب على آخر بسبب انتمائه أو اتجاهه، كما أنها ليست بالطبع حرية رؤساء التحرير فقط، أو قادة التحرير دون غيرهم، كما يعني ذلك -عندنا- ألا يضار كاتب بسبب رأيه أو وجهة نظرة طالما أن الجميع يعملون بروح من الولاء للوطن والصالح العام وبدافع الرغبة في الإصلاح والتقدم والرفاهية المنشودة لشعب من الشعوب.
إن توفير هذا "المناخ الديمقراطي" يعني -بالضرورة- توافر "البيئة المقالية" الصالحة حيث يمكن للفكر المقالي الصحفي أن ينطلق بغير خوف أو قلق أو تردد، وبغير تهديد أو إرهاب، ومن هنا ومن خلال تلاحم هذا "الثلاثي الحر" أو "ثلاثي الحرية" يمكن أن تنطلق الأقلام، وأن تبرز المواهب الكتابية، وأن تنمو الملكات القادرة على الرؤية الصحيحة والصادقة والدقيقة لمشكلات المجتمع ولجوانب الصورة المختلفة، ومن كافة الزوايا والأبعاد.
إنها تلك البيئة التي لا تكتم أنفاس الكاتب، ولا تعمل على إخمادها أو تحاول بوسائلها المتعددة أن تخنق رأيه أو تغتال فكره، وبدلا من ذلك وكأسلوب واع بأهمية الصحافة عامة، والمقالات خاصة، وبطريقة "حضارية" و"ذكية" ومشرفة أيضا تمهد له السبيل إلى معرفة الحقائق والوقائع، وتقدم له المعلومات الصادقة والكاملة والدقيقة حتى يمكنه -وهو قادر على ذلك- أن يرى الحق حقا والصدق صدقا والباطل باطل والإثم إثما، وحيث يكون ذلك في صالح الديمقراطية نفسها، بل يكون في هذه الأقلام وفي هذا "الواقع المقالي الحر" الذي يسند فيه الكاتب ظهره إلى جدار الحرية القوي الصلد، يكون فيها تأييدا إيجابيا وفعالا للنظام نفسه، وحماية له ذاته
من كل أعدائه، وهم -حتما- أعداء الديمقراطية بكل ما تعنيه من قيم وما تسعى إليه من خير الوطن ورفاهيته، إذ ما أسهل أن يتسلل هؤلاء -أعداء الوطن والمواطن- في ظلال القيود وظلام القوانين المكبلة للحريات ووسط أغلال الكبت والتهديد ووأد الأقلام والأفكار واغتيال المشاعر.
وبالإضافة إلى هذه "العوامل" السياسية السابقة، تلك التي تدور حول "الحرية" كمؤثر أساسي وإيجابي، فإن هناك بعض المؤثرات أو العوامل السياسية الأخرى، التي تتدخل بشكل أو بآخر في تحديد هذا "الموقف المقالي" نفسه ومن أهمها، وباختصار شديد:
- حرص الشعب على ممارسة حقوقه الدستورية لا سيما حقه -المواطن- في الترشيح وإاعطاء صوته لمن يستحق.
- النظرة من جانب السلطات الأخرى التشريعية والتنفيذية والقضائية إلى الصحافة عامة كسلطة رابعة شعبية، ولها دور أساسي في الرقابة والنقد والتوجيه السليم والموضوعي، بما في ذلك احترام آراء وتوجيهات كتاب المقالات.
- عناية الكثرة من القراء بالإقبال على صحف الرأي بما في ذلك الاهتمام بقراءة المقالات ومتابعتها ومناقشتها والرد عليها، والأخذ بها في الأحوال التي تقتضي ذلك إلى غير ذلك كله مما يدخل في باب انتشار "الوعي السياسي" المؤثر تماما في هذا "الموقف المقالي" تفكيرا وتحريرا ونشرا وتأثيرا.
ب- المؤثرات الفكرية:
ولأن المقال هو جزء من "النشاط الفكري" أو "العقلي" لأمة من الأمم، كما أنه يمثل -بشكل أو بآخر- صورة من صور "الإبداع" عند شعب من الشعوب، فإن واقعه يتأثر كذلك بتلك العوامل المؤثرة في فكر الأمة، وإبداع الشعب، في مجموعها، ومن بينها على سبيل المثال لا الحصر، وبالإضافة إلى المؤثرات السابقة "السياسية".
1-
المستوى "الثقافي" و"الفكري" عامة للشعب الذي تصدر الصحف والمجلات تحمل هذه المقالات من أجله، ومؤشرات هذا المستوى، بدءا من نسبة أعداد الأميين" به إلى غير الأميين، ومرورا بأرقام توزيع وسائل الثقافة والأدب والإعلام المطبوعة، ومدى إقباله عليها وتفاعله مع كتاباتها عامة ومقالاتها خاصة، وحتى الانبهار
والاحتفاء والترحيب بالإصدارات الجديدة، وألوان الإنتاج الفكري المختلفة.
2-
انتشار "روح النقد" من أجل الأفضل والأحسن، وما يتصل بها أو ينبثق عنها من مظاهر "إيجابية" كانتشار المناقشات المتصلة بقضايا الفكر والثقافة، وحتى "المعارك الأدبية والفكرية" ومثل ذيوع "الجدل" بالحق، وليس بالباطل، دون أن يعني ذلك -بالطبع- تحولها إلى مناقشات "سوفسطائية" أو فلسفية عميقة، وإنما يكون الهدف الواضح أمامها هو صالح الفرد والمجموع والوطن كله والإنسانية جمعاء.
3-
تشجيع السلطات القائمة لألوان الإنتاج الأدبي والعلمي والإعلامي، وعملها على إزالة المعوقات التي تعترض طريقه، وتحطيم القيود التي تقف في مواجهته لا سيما ما يتصل منها بمشكلات النشر وتوفير الورق وتوزيع الكتاب والصحيفة خارجيا، واستيراد الكتب والصحف والمجلات الأجنبية وتخفيف قيود الرقابة والجمارك عليها وعلى مستلزمات إنتاجها.
4-
اهتمام البيت والمدرسة بتشجيع الأبناء والتلاميذ على القراءة المفيدة والمثمرة وتنمية عاداتها الصحيحة بشقيها "الميكانيكي" أو "الفسيولوجي" الذي يتركز في الإقبال على المادة المطبوعة والشغف بها والاستجابة لها، ثم بشقها العملي الذي يعني التعرف على معاني الكلمات والتفكير في مدلولاتها، والوصول إلى نتائج تتلاءم والمرحلة إلى يمر خلالها الابن والتلميذ، وحيث يشب مرتبطا بهذه العادة مقبلا عليها مما يدفعه إلى المزيد من طلب العلم والثقافة في بطون الكتب وعلى صفحات الجرائد والمجلات.
إننا -في هذه النقطة بالذات- نرى ارتباطا قويا بين القراءة والتعود عليها، وبين استقلال الفكر والرأي، وحيث يضع القدر الكبير من الثقافة الإنسان عند بداية الطريق نحو حرية التفكير، ولعل ذلك ليس ببعيد عن أقوال الرئيس الأمريكي "توماس جيفرسون" في أكثر من مجال ومن هذه الأقوال مثلا:
"أن من يقرأ هو الحر بعينه، ذلك لأن القراءة تطرد الجهل والخرافة، وهما من ألد الأعداء للحرية".
"حيثما كانت الصحافة حرة، وكل إنسان قادرا على القراءة فكل شيء في أمان".
ومن حق القارئ هنا أن يسأل، ولكن ماذا عن المعلومات التي تصل له عن طريق
"الكلمة المسموعة والمرئية" وحيث نكرر هنا أن سيطرة الكلمة المطبوعة ما تزال هي الأقوى، وأن سلطانها ما يزال هو الأشد، وأن تأثيرها على عقول الناس -خاصة من طبقة القراء الأكثر وعيا واستعدادا للتقدم- يكون أبرز من تأثير غيرها.
ويكفي -قبل ذلك كله- أن الحق تبارك وتعالى قد أمر أمره الإلهي "اقرأ" كأقوى دليل على أهمية الكلمة المقروءة بما تتضمنه من دلائل حق وعلامات صدق تبرز دور القراءة على حياة الإنسان ووجوده كله1.
5-
اهتمام الحكومة بإنشاء "أجهزة الثقافة" خاصة "المكتبات العامة" والخاصة ومكتبات المرافق والمدارس والجامعات والمساجد، بما في ذلك توفير الكتاب الجيد الجذاب بنوعية ورقه الطيبة وطباعته المتميزة، وتقديم العون والدعم المادي في سبيل ذلك، ويتصل بذلك أيضا تشجيع الدول على تنظيم معارض الكتاب والمؤتمرات العلمية والثقافية وإقامة الأندية والروابط والجمعيات الأدبية والثقافية، إلى جانب أندية القراءة والاستماع وحيث ينبغي أن يسير ذلك جنبا إلى جنب وفي خط متواز مع اهتمامها برغيف الخبز وصحة الإنسان، وتوفير الدواء والكساء.
إن مثل هذا الاهتمام يدخل دائرة "بناء الإنسان" أو "بناء البشر" بما في ذلك من أمل كبير في مستقبل أكثر إشراقا، وفي وعي أكثر تطورا وفي إحساس أكثر بواقع الوطن يترجم إلى مزيد من العمل من أجله وفي خدمته.
6-
النظرة إلى المؤلفين من جانب السلطات وأفراد الشعب كقادة فكر وكقادة اجتماع بما يؤدي إليه ذلك من تقدير وإعزاز ومراعاة لظروف عملهم الابتكاري، وما يتطلبه من حماية وتعضيد، وما يمتد إليه ذلك من ميادين وأبعاد كحماية حقوق التأليف وتوفير الإمكانيات المادية والإعفاءات الضرييبية، وتوفير سبل الراحة والحياة الكريمة لهؤلاء خلال سنوات عطائهم، وتأمينهم ضد العجز والشيخوخة والمرض بما في ذلك تقديم المعاش الكريم والعلاج السليم لهم.
1 للاستزادة بهذا الموضوع ننصح بقراءة عدة كتب من بينها: "البيان والتبيين للجاحظ - لماذا نقرأ، لمجموعة من المؤلفين: دار المعارف،
How to Read A Newspaper.. وغيرها".
إن هؤلاء هم القاعدة الأساسية التي تقدم لنا "كتب المقالات" على اختلاف أنواعها، وإن تأثير هذه الأمور لكبير على فكرهم وإبداعهم، وعلى مستوى الوعي الثقافي والسياسي كله في نهاية الأمر.
جـ- المؤثرات الصحفية:
كذلك فإن "الواقع المقالي" هو جزء من الواقع الصحفي الموجود داخل جدران الصحيفة أو المجلة التي تنشر المقالات، وهذا بدوره جزء من الواقع الصحفي "الكلي" أو "الشمولي" الذي تمثله هنا الصورة التي توجد عليها صحافة بلد، أو صحافة آخر، بكل أبعادها، وظلالها وألوانها وحيث نجد قيام هذه المؤثرات الصحفية أو "المهنية" ومنها على سبيل المثال لا الحصر:
1-
تعدد الصحف والمجلات التي تصدر في بلد من البلاد أو قلتها، وكذا تعدد أفكارها وآرائها ومواقفها واتجاهاتها ومشاربها وحيث يؤثر ذلك -إيجابا أو سلبا- على الاهتمام بالمقال بنوعيته المختلفة وبكتابه أيضا، انطلاقا من المنافسة الشريفة، وصراع الرأي المطلوب والذي يثري الحياة الفكرية ويمدها بالحرارة والخصوبة، أو -في حالة عدم تعددها- يحكم عليها بالجمود والتوقف والركود الفكري المؤثر -سلبا- على هذا الواقع المقالي نفسه.
2-
وحتى داخل الصحيفة أو المجلة الواحدة، فإن إعطاء الفرصة المتكائفة للكتاب من مختلفي الاتجاهات والمواقف والآراء، وعلى قدم المساواة وبدون تفرقة بين محرر وآخر أو حجبها عنهم، في ذلك ما فيه من تأثير إيجابي أو سلبي على الفكر المقالي المنطلق المتجدد المنشور بمزيد من الاهتمام والرعاية، أو المحارب، أو "المحجم"، والمحكوم برغبات واتجاهات رئيس التحرير وحده، أو صاحب الصحيفة وحده وهكذا.
3-
طبيعة وسيلة النشر ذاتها والمدرسة الصحفية التي تسير عليها والسياسية "التحريرية" التي تنتهجها، وهل هي صحيفة "إخبارية"؟ أو صحيفة "رأي"؟ أو هي صحيفة تحاول الجمع بين الاتجاهين؟ وإلى أي مدى؟ على الرغم من صعوبة ذلك، بل إن الصحف الإخبارية لتختلف أيضا في أساليبها، فمنها ما هو إخباري عادي، شعبي يتقدم الأخبار لذاتها ومن حيث هي مادة أساسية، ومنها ما يسرف في أساليب تحريرها ونشرها إلى حد التطرف والإثارة والصخب، وحيث استحقت -عن جدارة- أن يطلق
عليها تعبيرات عديدة من مثل: "صحافة الجاز"1 أو "صحافة الإثارة"2 أو "الصحافة الصفراء"3 إلى غير هذه التعبيرات كلها، كما أن هناك الصحف والمجلات التي تمزج بين الأسلوبين، وتقف وسطا بين الاتجاهين كلما دعت الظروف الإخبارية نفسها إلى ذلك، وحيث تجد في بعض الأخبار ما ينبغي تحريره ونشره وفق أسلوب "رشيد" أو "عاقل" وفي بعضها الآخر ما ينبغي وضع بعض ألوان "التوابل" و"المشهيات" بصحبته، أو زيادة هذا القدر بالنسبة لأخبار ثالثة، وهكذا تماما كما أن هناك تلك التي تسيطر على صفحاتها وسطورها باستثناء جزء من الصفحة الأولى، المقالات بأنواعها، تلك التي يغلب عليها تمام طابع المقالة، بالإضافة إلى المجلات والدوريات المختلفة حيث يتكرر ذلك بشكل أو بآخر.
4-
إمكانيات الصحيفة المادة التي يمكن أن تؤثر في حالة توافرها وثرائها في مقدرتها على جذب عدد من الكتاب المشهود لهم بالكفاءة والمقدرة -ولا أقول كلهم- من الذين يقبل القراء على كتابتهم أكثر مما يقبلون على كتابات غيرهم، ومن هنا نرى صحيفة ما، أو مجلة دون أخرى وقد احتشد لها هذا العدد من المجيدين من الكتاب، إما عن طريق انضمامهم إليها كأعضاء في أسرة تحريرها، وإما عن طريق التعاون أو الكتابة من وقت لآخر نظير مكأفأة ما أو "بالقطعة" وإلى غير ذلك كله والعكس صحيح أيضا، وفي أغلب الأحوال أي: إن الصحف "الفقيرة" أو "متواضعة المستوى" ماديا، لا يمكنها دائما توفير مثل هؤلاء الكتاب، على اختلاف كتاباتهم ونوعياتها، ولنا في أمثال هذه الصحف الشاهد على ذلك حيث أمكن لها -سابقا وحاليا- أن توفر لقرائها كتابات أمثال هذه "الصفوة"، أو النخبة الممتازة من كتاب المقالات، إنها من مثل صحف ومجلات: "المصري، الأهرام، أخبار اليوم، الأخبار، الشرق الأوسط، الأنوار، الحوادث، المجلة، العربي، الدوحة
…
إلخ". على أنه لا ينبغي أن يتخذ من هذا العامل المادي قاعدة في جميع الأحوال والظروف، فقد تفشل أكثر الصحف والمجلات ثراءا أو وفرة في الإمكانيات المادية في استقطاب بعض الكتاب إليها، ويفضلون في ذلك نشر مقالاتهم في صحف ومجلات "فقيرة" في هذا
1 Gass Journ
2 Sensation Journ
3 Yellow Journ
الجانب، أو "متواضعة" في إمكانياتها المادية ولكنها -على الرغم من ذلك- تكون أكثر احتراما وتقديرا في عيون القراء والرأي العام، وإن كانت أقل ميزانية وتوزيعا.
أريد أن أقول أن الثراء هو عامل هام، ولكن يزيده أهمية ويدعمه ويفضله في أحوال عديدة أن تضاف إليه بعض "القيم" الصحفية كالالتزام والثبات على المبدأ والأمانة والنزاهة والدفاع عن الرأي والعقيدة، فإذا اكتملت جوانب الصورة -الثراء والالتزام والأمانة- تكون هي "الصحيفة الأنموذجية" أو "المجلة المثالية" التي ننشدها، والتي نحن أحوج ما نكون إليها في عالمنا العربي، وتكون في الوقت نفسه التربة الخصيبة لأمثال هؤلاء من قادة الفكر المقالي الصحفي.
5-
ويتصل بهذه النقطة السابقة أيضا ما يمكن للصحيفة أن توفره للمحررين عامة، ولكتاب المقالات خاصة من "مصادر المعلومات المختلفة" وما تضعه تحت أيديهم وفي طائل فكرهم من معلومات متاحة، ونذكر من بين هذين وعلى سبيل المثال لا الحصر:
- ما يمكن أن توفره من إمكانيات تجهيزية حدثية إخبارية سلكية وبرقية تتيح لهؤلاء الاطلاع على أحدث الأخبار والوقائع والصور ومن مصادر متنوعة وعديدة، وليس من مصدر واحد فقط، ونذكر هنا من بين هذه على سبيل المثال لا الحصر:"أجهزة وكالات الأنباء، أجهزة الإرسال والاستقبال الحديثة، الأجهزة الإليكترونية لتصنيف وتنسيق وتخزين الأخبار، أجهزة بث والتقاط الصور سلكيا ولا سلكيا، أجهزة المعلومات المرئية"
…
إلخ.
- الاشتراك في "بنوك المعلومات" ووكالاتها المختلفة للموضوعات والشخصيات والصور.
- ما يمكن أن يضمه "مركز المعلومات والتوثيق" من منادة حدثية وشخصية ومتنوعة.
- ما يمكن أن تضمه "المكتبة الصحفية" بين جدرانها وأقسامها من مراجع وقواميس ومعاجم وكتب معلومات.
- الصحف والمجلات العربية والعالمية التي يمكن أن توفرها لكتاب المقالات، والتي يتابع على صفحاتها هؤلاء أحدث ما كتب من مقالات تتناول الموضوعات المختلفة
عربية وعالمية بما تتضمنه من أفكار وما تقدمه من أساليب وما تتطرق إليه من مواقف وآراء وتعليقات وتحليلات، ومواقف تثري فكر الكاتب وتجدده وتساهم في تعريفه بما يدور حوله.
من هذه الزاوية يكمن أحد جوانب أهمية "ثراء" الصحيفة، حيث تستطيع أن توفر لكتابها بذلك كله، ما لايستطيع غيرها توفيره مما يؤثر -حتما- في مستوى مقالاتها أفقيا ورأسيا، ومن حيث التفكير والتعبير -معا- بشرط أن يعرف كتابها طرق الإفادة من هذه الأجهزة والمستحدثات كلها، وإلا كان وجودها مثل عدمه، لا يقدم ولا يؤخر كثيرا.
6-
وإلى جانب ذلك كله، فإن هناك عدة عوامل أخرى تؤثر إيجابا أو سلبا على هذا الموقف الصحفي من المقال كتابة وكتابا ونشرا، كما أنها تتصل بشكل أو بآخر بالعوامل السابقة في مجموعها، ومن هنا فإننا نركزها في الآتي:
- توقيت صدور الصحيفة أو المجلة وهل هي يومية، تصدر في طبعة واحدة أو في أكثر من طبعة، أو أسبوعية، أو مجلة من المجلات الأسبوعية أو الشهرية.
- نوعية المقال، ومضمون مادته، وهل هو مقال افتتاحي، أو مقال تعليق أو تفسير أو مقال صحفي عام، أو يوميات وما إلى ذلك له، فصحيح -كما قلنا- أن هذه كلها تدخل ضمن دائرة "المستوى الصحفي العام" ولكن بعضها قد يحتاج إلى قدر من الذوق الأدبي، أكثر مما يحتاجه البعض الآخر، كما أن البعض قد لا يحتاج إلى هذا القدر، أو إلى غيره أصلا، كما نوجه النظر هنا إلى حاجة "المقالات المتخصصة" من تلك التي تنشر على الصفحات والأركان والأبواب المختلفة ذات الطبيعة الخاصة حاجتها إلى استخدام بعض كلمات "المعجم الخاص" لتحرير هذه المقالات، والتي يختار الكاتب من بينها ما شاع استخدامه منها علمية أو اقتصادية أو عسكرية أو رياضية، وما إلى ذلك كله.
- الوقت المتاح للكاتب والذي يختلف من مقال لآخر، وحيث يتطلب بالنسبة للمقالات الافتتاحية، والتعليقات والتفسيرات والتحليلات، في أغلب الأحوال ذلك "الإيقاع التحريري السريع" والمباشر والذي يتجه إلى الغرض من أقصر الطرق وأقربها إلى عقول القراء بما يؤكد معنى "الحدثية" وإلا فاتت فرصة نشره، أو أصبح
نشره متأخرا، واتسم بـ"البرود" وعدم القدرة على اللحاق بتفاصيل الحدث، بل إن بعض هذه المقالات نفسها قد تسبق الأحداث، بما تتضمنه من "توقعات" لا سيما المقال الافتتاحي "المستكشف" وبعض المقالات القائدة، والصحفية العامة، على المستويات المختلفة، مما يدخل في باب ما أطلق عليه بعض الكتاب تعبير:"أهمية الإنذار بالخطر قبل وقوعه"1 وكذا "الاندماج في التغيير قبل وقوعه"2 وعلى النحو الذي أشرنا إليه من قبل عند حديثنا عن أنواع هذه المقالات.
على أن الحال ليس كذلك بالنسبة لكتاب الأعمدة، ومقالات اليوميات الصحفية بأنواعها، ومقالات الصحف الأسبوعية والمجلة، من تلك التي تأخذ نفس الطابع، وحيث يكون عند هؤلاء فسحة من الوقت للكتابة الهادئة المتأنية ذات الإيقاع البطيء التي تنتج في النهاية لونا من الألوان التي تقترب من "الأدب الصحفي" أو تكون هي نفسها أدبا صحفيا من حيث الطابع العام المسيطر على جانب التفكير والتعبير معا، حيث نعود مرة أخرى، إلى مسألة طابع الصحيفة أو المجلة، وموعد الصدور مما يؤكد تلاحم وتشابك هذه العوامل كلها.
- ردود الأفعال من جانب زملاء العمل في التحرير عامة، وتحرير المقالات خاصة، حيث يكون لكلماتهم المؤيدة والمشجعة والناقدة أحيانا في تجرد وموضوعية، يكون لها دورها وأثرها على كتابات الزملاء من أعضاء الأسرة الصحفية، ولا يمكن لنا أن ننكر أثر هذا العامل الإنساني المهم، أن كلمة صدق معبرة من زميل قد تدفع إلى الأفضل، وإلى مزيد من محاولة الإبداع والإجادة، وقد يكون لها وقع السحر، كما قد يكون لغيرها من الكلمات أثرا عكسيا خاصة عند هؤلاء الذين يمارسون خطواتهم الأولى على طريق تحرير ونشر المقال الصحفي وهم كثيرون.
- تجاوب "المخرج" أو "سكرتير التحرير" مع المقال وأهميته ووضعه في المكان اللائق ولفت أنظار القراء إليه والعمل على إبرازه البروز الكافي، والعكس صحيح أيضا.
1، 2 جون هونبرج مؤلف عدة كتب من أشهرها:
"The professional Journalist"
د- مؤثرات خاصة:
وهل تلك التي تتصل بمحرر المقال نفسه، وتعود إلى الكاتب ذاته، أي: إنها عامل خاص هذه المرة، وصحيح أن هذه العوامل أو المؤثرات تتأثر بدورها بتلك السابقة في مجموعها وتسير بحذائها أيضا، ولكنها على الرغم من ذلك يكون لها طابعها الخاص، الذي تنفرد به عن هذه العوامل السابقة، انطلاقا من قاعدتها "الأدبية" تلك التي تؤكد أن كاتب المقال في الأعم والأغلب هو "مطبوع" لا "مصنوع" ليس "مطبوعا" أو "موهوبا" من حيث التحرير واللغة والأسلوب فقط، وإنما تتسع دائرة هذا "الطبع" وتلك "الموهبة" وتمتد خيوطها إلى مجالات أخرى عديدة، كمجال اختيار الأفكار الجديدة والصور والمشاهد والأمور غير العادية أو المتبعة أو القريبة من الأذهان أو المتكررة أو المقلدة، وكذا اختيار الموضوع المناسب للوقت المناسب للقارئ المناسب، بالإضافة إلى "ملكة" التحليل والتفسير والتوقع واستكشاف الأحداث واستقراء تفاصيلها واستكناه وقائعها والنفاذ إلى جوهرها الخفي، ولبها المستور والخروج منها بنتائج وعوامل ومسارات جديدة يكون لها وقع "الكشف" الذي لا يصل إليه غير هذه القلة النادرة، ذلك كله إلى "مواهب" الالتصاق بالمجتمع والإحساس بأدراجه وأحزانه بأكثر مما يحس الآخرون، والنفاذ إلى ما تحت السطح الهادئ أو الراكد، تماما مثل موهبته على النفاذ من بين السطور، والمقدرة على طرح الحلول الواقعية لمشكلاته، واصطناع المواقف الإيجابية والفعالة، التي تنتقل من الصفحات لتؤثر في الجماهير وحركتها واتجاهاتها وحاضرها ومستقبلها، ذلك كله فضلا عن موهبة "وضع" ثقافته ومعاصرته وقراءاته وتجاربه وممارساته وخبرته في خدمة القراء، والمجتمع والإنسانية كلها، وهكذا نجد مواهبه الفريدة والمؤثرة والحاسمة، بدءا من النظرة المدققة والفاحصة التي ترى ما لا يراه غيرها وحتى ترجمة ذلك كله، بكل ما يمتد إليه، وبمختلف أجزائه وأركانه، وظلاله إلى "عمل" مقالي يعكس في النهاية موهبته "التحريرية" وقدرته على كتابة العنوانات والمقدمات والمادة والشواهد والصور والنماذج وغيرها بطريقته الخاصة، التي تختلف عن طرق غيره، بأسلوبه الخاص المميز الذي يعرف به.
خلال هذه "اللحظات" الهامة، السابقة على كتابة المقال، أو خلال جلوسه إلى مكتبه أو في أي مكان آخر، وحيث يحلو للبعض أن يكتب في ناديه الرياضي أو "المقهى" أو الحديقة أو الشرفة تكون هناك مثل هذه المؤثرات العديدة المتصلة
بهذا الجانب نفسه تماما كما تتصل بمكوناته "ككل" وبطاقته "المقالية" التي يكنزها ويستثمرها حين يشاء باختصار شديد نقول إنها:
- خبراته وتجاربه وممارساته ودراساته السابقة والحالية وقراءاته العامة.
- تأثيرا نشأته الأولى لا سيما ما يتصل منها بـ"بيئته" الأصلية والمناخ الذي كان يسودها خاصة ما يتصل بـ"العامل الديني" وأثره وتأصله في هذه "البيئة" إلى جانب القيم والتقليد والعادات الموروثة.
- قدرته على الاقتراب من الناس والمجتمع بكافة صوره وشرائحه وطبقاته والانغماس في هؤلاء، وتحقيق قدر عظيم من المعرفة بما يؤرقه وما يسعده، وما يفكر فيه الناس جميعا، وتلك الأهداف المشتركة التي يسعون إلى تحقيقها، وتلك التي تعكر صفو حياتهم، أو تطحن أحشاءهم، أو تذهب بآمالهم وأحلامهم أدراج الرياح، وإلى الدرجة التي يصبح فيها "ترمومترا" لهذا المجتمع بمن فيه وما فيه.
- استعداده لتحمل مسئوليته الاجتماعية كمنكر وكاتب مقال بما في ذلك من مشاركته الايجابية في طرح ومناقشة وتقديم الآراء والمواقف المفيدة للمجتمع، والمتفاعلة معه ومع قضاياه الهامة، والحالية، والملحة، أو تلك التي تتصل بمستقبله ومستقبل أفراده دون تهرب أو ردة أو اتخاذ موقف سلبي بشكل أو بآخر.
- حسه الوطني والقومي، وما يتصل بشعور "الانتماء" للأرض والناس والمجتمع، وأنه غير منفصل عنهم بما يعنيه ذلك من اهتمام بمسائل وأمور غير مؤثرة، أو غير مناسبة لوقت ما، أو غير ملائمة لبيئة أو أخرى، أو من تلك التي تعتبر ترفا عقليا، بما يتصل بذلك من البعد عن مسائل الجدل العقيم أو غير المفيد، أو تلك التي لا تحقق مردودا وطنيا أو قوميا إيجابيا بما يتصل له ذلك من استعداده الكامل للدفاع بالقلم والفكر والموقف عن هذا الوطن وعن عقيدته، وعن تاريخه وعن تراثه وعن تقاليده وعن العمد التي يرتكز إليها مجتمعه.
- التجهيزات والتسهيلات التي تضعها صحيفته بين يديه ومصادر المعلومات والأخبار التي يمكن أن توفرها له، والرحلات التي تنظمها من أجل مساعدته على الرؤية والدراسة.
- "المناخ" الذي يمكن أن توفره له ليكتب داخل الصحيفة أو المجلة أو خارجها،
ومن ذلك -مثلا- اختصاصه بحجرة متسعة بها لمسات من جمال، في مكان هادئ، وتطل على أكثر من مشهد طبيعي، إلى جانب "الديكور" المناسب، وصحيح أن بعض الكتاب يقدر ويستطيع وربما يفضل الكتابة في صالة التحرير نفسها أو بين صخب الزملاء وضجيج آلات "التيكرز" أو حتى ضجيج "المطبعة" نفسها، كما قد يقوم بالكتابة في أي مكان، ولكنه -حتما- يكون في حاجة إلى مثل هذا المكان الذي يمثل "صومعة" الشاعر أو "محراب" الفنان، من أجل "استجماع" أفكاره، وترتيبها، أو حتى الحصول عليها.
- علاقاته الخاصة والجيدة، بل والممتازة مع عديد من الناس والمسئولين والقراء والزملاء وأهل الحي، الذين يمكن أن يضعوا يده على حركة الجماهير، وما يفكر فيه المجتمع كما يقدموا له أفكار هذه المقالات، وقد يطلعونه على نتائجها وآثارها مما يشكل مادة مقالية جديدة، وكما سبق القول.
- حضوره الذهني المقالي، أو حاسته الصحفية المقالية التي تجعله يعيش يومه كله بإحساس كاتب المقال، يفكر ويتحدث ويستمع ويناقش ويستقبل ويحاور ويشهد ويلاحظ ويتحرك، ويتدبر وروح المقال تطغى على كل حركاته سكناته وتصرفاته، إنه يرى في كل مشهد وكل كلمة، حتى تلك العابرة، أو التي تبدو للبعض غير هامة، حتى في تلك "اللفتة" أو "اللمسة" أو "الإيماءة" أو التعليق السريع، أو الخاطرة، أو "الوخزة" يرى فيها -جميعها- إمكانية الإمساك بخيطها حتى نهايته، فقد يكون هناك ما يصلح للتعبير عنه في شكل مقال، أو تناوله ضمن هذا الإطار الفني التحريري.
- وجود "أرشيف" أو "مركز معلومات" خاص به يتضمن من الملفات والأوراق والقصاصات عددا هائلا مفهرسا ومرتبا حسب موضوعه أو شخصيته خاصة عندما يتضمن:
- ما يتصل بمجالات اهتماماته الأساسية والغالبة "معلومات وموضوعات".
- ما كتبه الآخرون عنها "مقالات متنوعة".
- الشخصيات الهامة التي تدور حولها مقالاته.
- ما يتصل بكتاب المقالات التي تتصل باهتماماته.
- الصور الخاصة بالشخصيات الهامة التي تتناولها كتاباته.
- خطابات القراء والأصدقاء والزملاء إليه.
- تعليقات القراء والكتاب والزملاء على مقالاته.
- ما يتصل بصحيفته ونظام العمل بها وكتابها.
- أصول المقالات التي يكتبها قبل الحذف والاختصار.
- "أجندة" أو "مفكرة" الأحداث الهامة للعام.
- بعض المقالات الأخرى العامة في موضوعات لا تدخل ضمن دائرة اهتماماته ولكنها تكون مقالات هامة، أو خطيرة، أو لقيمة علمية أو صحفية أو فنية أو تحريرية أو سياسية أو تاريخية.
- مقالات نفسها "المطبوعة" في صحيفته أو الصحف والمجلات الأخرى.
- خطاباته الخاصة، وما يتصل به شخصيا.
- أصول رسائله أو صور منها خاصة تلك التي تتصل بموضوعات هامة، أو تلك التي تحوي ردودا على رسائل الأصدقاء والكتاب والتي نوقشت خلال سطورها بعض الموضوعات الهامة، التي تتصل بمقالات أو مشروعات مقالات.
- القدر من الصفاء الذهني ووضوح الرؤية، وما يمكن أن يتمتع به من نظرة دقيقة وفاحصة تتيح له أن ينفذ إلى ما رواء الظواهر والقشور والشكليات والأمور السطحية ليصل لي الجوهر والعمق في ثبات وثقة، ومن خلال فكر متجدد خصب، ليضع النتائج والاحتمالات والتقديرات، في خدمة القراء وصالح المجتمع.
- القدر الذي يتمتع به من الحس الأدبي، والذوق الفني الذي يتيح له التعبير الجميل والأسلوب البليغ والمناسب في المواضع التي تتطلب ذلك.
- القدر من المعرفة باللغة العربية، التي تسفر عن كتابة صحيحة يرضى عنها القراء والبلغاء ورجال اللغة، ودون حاجة إلى قلم المصحح أو المراجع.
- معرفته بعدد من اللغات الأخرى، وما يهيئه له من فرص الاطلاع على المادة الصحفية عامة، والمقالية خاصة التي تنشرها الصحف والمجلات الأجنبية وبلغاتها الأصلية، فضلا عن قراءة المؤلفات الهامة سياسية وأدبية، بهذه اللغات نفسها وتأثير ذلك الإيجابي على "مكوناته" وثقافته وشخصيته، وفكره، ومن ثم على مقالاته نفسها.
- وهذه القراءة نفسها لمقالات الآخرين، بلغته وبغير لغته، يكون لها أثرها في التمرس بأفكارهم والتعرف عليها ونقدها والخروج من خلالها بأفكار جديدة، فضلا عما يتيحه ذلك من التعرف على كتابات الآخرين، وأساليبهم وأنماطهم البلاغية، وأطرهم التي يضعون مادتهم خلالها وما إلى ذلك من "آثار مقالية" تقدم له الدراية بها ووضعها في دائرة الضوء الكثير من الخبرات الكتابية والممارسات التحريرية نفسها، وشتان بين كاتب يقرأ لغيره، ويوميا، وكاتب لا يقرأ، أو يقرأ ما يكتبه فقط.
- إدراكه لأهمية وجود "أجندة" عنده أو "قائمة انتظار للأفكار" يدون فيها أفكاره التي سوف يتناولها أو يمكن أن يتناولها في وقت ما، ويحدد هذا الوقت كما يدون فيها أيضا مشروعات "العناصر" الرئيسية لتناول هذه الأفكار.
- ما يمكن أن تحدثه استجابة القراء وتشجيع المسئولين وإحساس السلطات بقيمة ما يكتب، وأثر ما يقدم.
- شخصيته القوية في غير تصلب، الشديدة في الحق وما أجله، المحبوبة من الزملاء والأصدقاء والقراء والمجتمع كله.
وبقدر توافر هذه العوامل -كلها أو بعضها- بقدر ما يتحقق وجود "المقال الصحفي الأنموذجي" الذي يقف من ورائه فكر خبير، وموهبة مبدع، ورأي مجرب، وموقف مسئول وقائد اجتماعي.
بقدر توافرها يكون مستوى المقال ومكانته وتأثيره وردود أفعاله ونتائجه.
وصدق الحق تبارك وتعالى القائل في محكم كتابه العزيز: {إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا} .