الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
النماذج التحريرية
أنموذج رقم "2
"
…
أنموذج رقم "2"
- الصحيفة: الأهرام.
- المادة: المقال الصحفي العام.
- المحرر: د. زكي نجيب محمود.
- لاحظ: جدة الزاوية التي يتناول بها موضوعا طرق من قبل أكثر من مرة، العنوان الجذاب، المدخل السهل ولكنه من النوع المشوق لأمثال قراء هذا المقال، طريقة التناول، المزج بين عدة قوالب في مجال المقال الواحد وهي هنا قوالب الوصف والقصة والنقد، كيفية "إدارة الحوار الفني" خلال سطور المقال نفسه، المحافظة على سلامة اللغة العربية، طول المقال.
شبح اسمه الغزو الثقافي:
إنه لا يزورني إلا حينا طويلا بعد حين طويل، لكنه إذا فعل، بشرت نفسي بمحدث يستولي على لب سامعه بسحر حديثه، ومع ذلك فكثيرا ما يلوذ بصمت مفاجئ لا أدري له سببا، وذلك ما حدث في زيارته الأخيرة وهي أخيرة ولكنها وقعت منذ عامين أو نحو ذلك.
أنه في تلك الزيارة، جاء فاستوى على كرسيه بجواري، ولزم الصمت بعد تحية سريعة قصيرة هامسة، فأخذت من جانبي أحييه ثم أحييه، وأرحب به ثم أرحب به، فيكتفي بهزة رأسه ووضع كفه على صدره، مع ابتسامة مصنوعة، فبحثت في مخزون الدماغ عن أي شيء أقوله، لعلي أحرك فيه شهوة الإجابة، فتنحل عقدة لسانه، قلت: إنني يا أخي كثيرا ما أقع خلال قراءتي على عبارة هنا وعبارة هناك، فيها من الغرابة عن المألوف ما يصدم، ولكن فيها كذلك من الحق ما يوقظ، وعندئذ أنظر إلى العبارة مرقومة أمامي على صفحتها بمداد أسود، إلا أنها تتألق أمام بصري وكأنها تحولت إلى أحرف من نور، أو هكذا يخيل إلي ساعتها، ولعل ذلك الوهم العجيب في طبيعتي إزاء عبارات كهذه، هو الذي يعين ذاكرتي على الاحتفاظ بها، وكأنها احتفرت فيهما بمسمار من نار.
هنا تحرك زائري حركة خفيفة على مقعده، وقال في اهتمام واضح: مثل ماذا؟ فقلت: مثل عبارة وردت في سياق ما يعرضه الكاتب، تقول "إنهم يقولون لماذا تستعبدون الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا"، مع أن هؤلاء الناس قد ولدتهم أمهاتهم مكبلين بقيود من فولاذ، هي قيود الغرائز التي لا حيلة لهم فيها، وقيود الظروف التي ترسم لهم معظم طريق الحياة مقدما" تلك عبارة، وأخرى وجدتها تقول: "لا تنصت إلى من ينصحك بأن تعامل الناس كما تحب أن يعاملوك به، فقد فعلت ذلك ولقيت الوبال، فأنا أحب لنفسي أن يعاملني أصغر صغير وكأننا متساويان في الصغر، أو متساويان في الكبر إذا أردت فعاملت كبيرا ذات يوم بنبرة في الحديث قد توحي إليه بأننا متساويان صغرا مثل صغري، أو كبرا مثل كبره، فحزن لذلك واغتم وبطش بي بعد ذلك بطش الأشداء لأعرف من هو ومن أنا، وكم تكون المسافة بيننا" وعبارات أخرى في مجالات أخرى، مثل قول الجاحظ في كتاب الحيوان: إن القردة تشبه الإنسان في ظاهر ملامحه وحركاته، ولكنها لا تشبهه في السريرة التي تبعثه على الوفاء، وأما الكلاب فتشبه الإنسان من باطن، إذ تشبهه في بواعث سريرته ولا تشبهه في ملامح وجهه أو حركات بدنه، ولذلك نضحك من القردة؛ لأنها تحاكي الظاهر ولا تحاكي الباطن، ولا نضحك من الكلاب؛ لأنها اختارت الباطن حين حاكت، هذا هو معنى ما ورد عند الجاحظ، وضعته لك في عبارتي؛ لأنني لا أحفظ نص عبارته، وهكذا يا صاحبي فماذا ترى في أقوال كتلك؟
تحرك زائري مرة أخرى في مقعده، وابتسم، لكن حركته هذه المرة لم تكن كسابقتها صادرة عن قلق بل جاءت لتعبر عن طمأنينة، كما لم تكن ابتسامته هذه المرة مصنوعة كسالفتها بل جاءت مطبوعة بطبعة الرضا الودود، ثم قال: لقد صدقت إنها عبارات كاشفة كأنها المصابيح يتوهج الضوء في زجاجها، وهنا رأيته وقد اعتدل في جلسته، مسترخيا هادئا، استرخاء المطمئن وهدوئه، فعرفت أنني مقبل على حلو الحديث، قال:
سأقص عليك قصة، هي -كالعبارات التي ضربت لي أمثلة منها- في ظاهرها من البعد عن المألوف ما يصدم، ولكن فيها كذلك من الحق ما يوقظ؟ فلعلي ذكرت لك مرارا، ذلك الصديق الذي ورث عن أبيه الثراء العريض كما ورث منه كذلك ميلا إلى تحصيل المعرفة تحصيلا دائبا متصلا، ومع ذلك فهو لم يصل عند ذلك التحصيل حد الإشباع، إن لم يكن قد زاده نهما، وهو الصديق الذي قلت عنه أنه دائم السفر، لا يستريح
من رحلة إلا ليأخذ أهبته، ويعد عدته إلى رحلة أخرى، في كل مرة يعود إلي بزاد وفير، عما رآه وسمعه في طول أرض الله وعرضها، ولقد جاءني هذه المرة بأغرب ما يروى وربما كان كذلك أصدق ما يروى في دلالته الخافية لا في صورته الظاهرة.
زعم لي أنه مر بإحدى الجزر المجهولة في الجزء الجنوبي من المحيط الهادي، ذكر لي اسمها، لكني نسيته؛ لأنه مما ينسى لطوله وكثرة أجزائه، وأهل تلك الجزيرة -كما روى لي- يرتدون ثيابا غريبة لكن الطيبة تشع نورا هادئا من وجوهم السمحة، وعيونهم الوديعة ويبدو أن الجزيرة غنية بطيباتها مما يتيح لأهلها فراغا وراحة، ثم ما هو إلا أن سمعوا صاحبي ينطق جملا متقطعة بلغته العربية غير المفهومة لهم، فأدركوا من فورهم أنها هي لغة من جاءهم من الرحالة وأحبهم، وأقام معهم، فأسرعوا به ليلتقي بهذا الزائر الجديد، وإذا بالرجل يمني عربي، استطاب الإقامة فأقام وكان ذلك لصاحبي نعمة هبطت إليه من السماء.
تلازم العربيان: وأخذ الزائر القديم يقص على الوافد الجديد عن أهل الجزيرة أغرب القصص، وكان أغربها عن سلطان الجزيرة الذي يقيم وحده في برج مغلق عليه، أو لعله برج بلا نوافذ وأبواب.
قال اليمني -واسمه حامد- لصديقي الرحالة: منذ بضعة أعوام ضجت هذه الجزيرة الهادئة ضجة اهتز لها كل أبنائها وذلك إثر حادث غريب، امتزج فيه الوهم بالواقع، واختلطت الخرافة بالعلم الصحيح، وكانت نقطة البداية أن رأى السلطان -أو خيل إليه أنه رأى لا في أحلام نومه، بل في عز صحوته، شبحا غريبا- لا ندري كيف وجد طريقه إلى داخل البرج، والبرج مصمت كما ترى وكأن الشبح -فيما نقل عن رواية الرواة- شبحا لرجل، لا كالرجال في عالم الإنسان، فهو أطول من أي رجل رأته العين، وأعرض كتفين، وأغلظ عنقا، ورأسه بلا شعر، وله ثلاثة أعين في وجهه، وعين رابعة في أم رأسه، وأما عيون الوجه فاثنتان في الصدغين والثالثة في جبهته.
فزع السلطان لرؤيته فزعا شديدا، وهم بصرخة المستغيث لولا أن كتمه الشبح بإحدى راحيته قائلا له: لا تخف يا صاحب الجلالة، سوف تجدني صديقا معينا.
- السلطان: من أنت، ومن أين جئت؟
- الشبح: وماذا ينفعك من أكون؟ وماذا يفيدك من أين جئت؟ لكن الذي
يهمك حقا هو أنني جئتك منذرا بغزوة تقلب نعاسكم يقظة، وغفلتكم صحوة وحرصا.
- السلطان: لم أفهم عنك شيئا.
- الشبح: سل عراف المعبد في الجزيرة ينبئك الخبر اليقين.
واختفى الشبح، فجزع السلطان لاختفائه كما جزع لظهوره، ولما أصبح الصباح، أرسل في لهفة مرتاعة يطلب من عراف المعبد أن يمثل بين يديه، ولكن -يا هول ما يسمع وما يرى- فقد عاد إليه رسوله، لينبئه بأن العراف يصر على بقائه في معبده وعلى السلطان أن يذهب إليه إذا كانت به حاجة، فلم يجد السلطان بدا من أن يقصد متخفيا إلى المعبد، وكيف كان ليعلن عن نفسه أمام شعب الجزيرة، الذي لم يعهد قط في سلطانه إلا أن يبقى حصينا في برجه، وعلى كل من أمر السلطان بمثوله بين يديه أن يصدع بالأمر بمن فيهم عراف المعبد؟
قصد السلطان متخفيا إلى عراف المعبد وهو في صومعته ودار بينهما حديث:
- السلطان: جئتك لأقص عليك نبأ عجيبا.
- العراف: أعرف كل شيء، فقد فأجأك الشبح ليلة أمس.
- السلطان: ومن أدراك؟
العراف: أنسيت جلالتكم أنني العراف؟
السلطان: قل لي أيها القديس، ماذا يكون ذلك الشبح المخيف؟
- العراف إنه ليس مخيفا.
- السلطان: إنك إذا رأيته وسمعته، فقد رأيت وحشا نبتت في رأسه قرون الشياطين، وله في يديه وقدميه مخالف الذئاب وصوته ذو بحة كفحيح الأفاعي، أتوسل إليك أن تنبئني من يكون؟ وماذا يعني نذيره لنا؟
- العراف: هون على نفسك الأمر يا صاحب الجلالة، فهو آت من بلد بعيد، جنسه ليس جنسنا، وعقله لا يشبه عقولنا، وقد أطلقوا عليه اسم "الغزو الثقافي" وحق لهم أن يفعلوا؛ لأنه يكتسح ويغزو، لا بالدبابة والمدفع، ولكن بما يملكه من فكر وفن.
- السلطان: اللهم احفظنا من كل سوء.. وكيف جاء إلينا، والبحر يحيط بنا والسماء فوق رءوسنا؟
- العراف: ومن ذلك البحر وهذه السماء جاءكم، فهو ساحر يسبح فوق البحر آنا ويغوص في جوفه آنا، ثم هو يطير في الهواء بأجنحة كأنه في جماعة النسور.
- السلطان: ولكن لماذا أطلقوا عليه، أو أطلق على نفسه، هذا الاسم المركب الذي لم يألفه الناس اسما بين الأسماء وهل سمعت -أيها القديس- باسم كهذا من قبل؟
- العراف: الذي أطلق عليه اسم "الغزو الثقافي" هو أنتم يا مولاي، هو أهل جزيرتكم فاستملح هو الاسم حين سمعه، واصطنعه لنفسه، وكأنه عده ضربا من التحدي فقبل التحدي، قذفتم له بالقفاز كما كان يفعل المتبارزون، فالتقط هو القفاز. هو في الأصل كان اسمه "ثقافة" فقط وكان وهو بهذا الاسم البسيط في صورة بشرية من لحم ودم، فلما تحول على أيديكم وأيدي أهل الجزيرة، يا مولاي من "ثقافة" إلى "غزو ثقافي" تحول كيانه تبعا لذلك، ليتم التطابق بين الاسم والمسمى فتحول من صورته البشرية الأولى إلى صورته الشبحية الراهنة، وماذا كنتم تريدون له أن يفعل ما دمتم قد جعلتموه شيئا لا وجود له بين ما هو موجود في دنيا الوقائع والحقائق.
- السلطان: ماذا تعني بهذا الكلام العجيب؟
- العراف: أعني أن الموجود عندنا أو عند غيرنا هو ثقافة لا غزو فيها، فإذا أضفتم إليها صفة الغزو، انتقلت هي بعد هذه الإضافة من الوجود إلى العدم؟ ومن هنا جاءت ضرورة أن يتحول الجسم الحي إلى شبح كالذي رأيته ليلة أمس يا مولاي.
وبعد أن فرغ زائري من روايته لما قصه عليه صديقه الرحالة ضحك ضحكة هادئة وسألني: هل خرجت من هذه القصة بشيء، قلت له: نعمن بالتأكيد فقد كنت أتابع ما نقلته عن صديقك فأشعر كأنني أتابع قصة الثقافة في مصر إبان تاريخها الحديث، أو على الأقل خلال فترات من ذلك التاريخ، منها هذه الفترة الراهنة التي نجتازها اليوم، فأدهشت إجابتي الأخ الزائر دهشة انفعل بها حتى أخرجته من هدوئه فسألني بما يشبه الصياح، وهو يمد ذراعيه أمامه ويطوح بهما ذات اليمين وذات اليسار مرة وإلى أعلى وإلى أسفل مرة أخرى قائلا في ذهوله ماذا: تقول يا أخانا؟ أقص عليك خرافة عاشتها جزيرة نائية حينا من دهرها، فتجعلها أنت تصويرا للثقافة المصرية في بعض مراحل تاريخها الحديث كيف كان ذلك يا مولانا قل لي بربك كيف كان ذلك؟
قلت: اهدأ قليلا يا أخي، فليس الصياح برهانا ولا اضطراب الأعصاب يزيدنا شيئا في توضيح المعاني سأبين لك الآن كيف أن ما أسميته أنت بخرافة أهل الجزيرة هو في الوقت نفسه تصوير لحياتنا نحن الثقافية اليوم، فلنفرض أن أحدا جاءني وأراد الاستعانة بي في تفسير حلم له رآه في نومه، ثم أخذ يقص علي هذه القصة ذاتها التي رويتها لي عن الجزيرة وأهلها نقلا عن صديقك الرحالة، فكيف كنت لأفسرها، كنت لأقول له شيئا كالآتي: أما الجزيرة الصغيرة النائية، فترمز هنا للعزلة المميتة التي نحيا اليوم في ظلمتها -وأعني بها عزلتنا الثقافية- وذلك لأن المعول في الحكم على حياتنا الثقافية ليس هو تلك العشرات القليلة من صفوة المثقفين الذين يتابعون تيارات الفكر والفن في العالم المتقدم، الذي شاء له الله في هذا العصر أن يكون مبدع الحضارة الجديدة، والثقافة الجديدة معا، بل المعول هو على ما ينشره أصحاب الصوت المسموع لجماهير الشعب ولتسعة أعشار المتعلمين أيضا فإذا رأيت هؤلاء جميعا في واد، وما يعج به العالم المتقدم في واد آخر، فاعلم إذن أن خير تصوير لهذه الحالة هو جزيرة نائية في جنوبي المحيط الهادي لا تسمع عن أحد ولا يسمع عنها أحد.
وأما سلطان الجزيرة -والحديث هنا عن حياتنا الثقافية بوجه عام- فهو يرمز إلى أولئك الذين أمسكوا بزمام الجماهير يكتبون للجماهير ويذيعون للجماهير، فتسمع الأذان جميعا، وتقرأ الأعين القارئة، فذلك السلطان المتسلطن على عرشه، لم تكفه عزلة الشعب في جزيرة فينعزل معه، بل أمعن في العزلة فسكن برجا مصمت الجدران، لا تبصر فيه العين بابا ولا نافذة حتى لتعجب من أين يكون الدخول والخروج، اللهم إلا أن يكون السقف مفتوحا نحو السماء.
وأما الشبح البشع المخيف، الذي هاجم سلطان "الثقافة" الشعبية، فليس هو في الحقيقة بذي وجود وإلا لما كان شبحا، وإنما هو موجود في أوهام السلطان وأعوانه وأشباهه ومريديه، إن الشبح إذا كان قد هدد السلطان بغزو وشيك لجزيرته فما ذلك إلا انعكاس للسمادير الهائمة في تلافيف دماغ السلطان وأدمغة الحاشية، وصورة من الهلوسة التي تفزعهم بالنهار ويرونها في كوابيس الليل، أما الموجود حقا عبر المحيط، والذي يتسلل إلى الجزيرة رغم أنف الكارهين، فهو "ثقافة" تأتي لتنفتح الأبصار وترهف الأذان.
هنا قاطعني زائري بقوله: وما الذي يدعوهم إلى أن يظنوا بالثقافة "غزوا"
إذا لم يكونوا قد رأوا تلك الثقافة خطرا على حياتهم.
قلت له: نعم لقد صدقت، فالثقافة العصرية بعلومها وفنونها وآدابها، هي بالفعل خطرا على "حياتهم، لأنها تحمل من العلم ما لا يعلمون، ومن الفن ما لا يقدرون، ومن الأدب ما لا يتذوقون، إن الأمر -يا سيدي- لا يزيد ولا يقل عن دفاع غريزي عن النفس تماما كما يفزع الكائن الحي أينما كان، لأخف حركة غير مألوفة يحس بها وقد فاجأته فتسري في بدنه رعدة الخوف، وتفرز له الغدد المختصة ما تفرزه داخل جسمه وينسحب الدم من رأسه حتى ليصفر وجهه، وذلك ليتجه ذلك الدم المنسحب إلى الأذرع والأرجل استعدادا إما لمواجهة القتال وإما للفرار وهو أمر طبيعي يا أخي لا غرابة فيه ولا شذوذ، والسلطان "وحاشيته وأشباهه" في حايتنا الثقافية قد حفظ أشياء حفظا أصم، وهو مستعد لإخراجها كلما دعت الحاجة ثم يطويها في صندوقها انتظارا للحظة أخرى يطلب منه فيها إعادة تسميعها، ومن هذا يكسب رزقه الحلال، فلماذا يعرض نفسه للخطر الجديد الوافد كائنا ما كان نفعه عند أصحابه؟ من هنا رأيته يرى في أية "ثقافة" ترد إلى أرضه "غزوا".
قال زائري: ومتى يا ترى، ولماذا أخذ أصحابنا هذا الموقف؟ أما كانت تلك هي الحل دائما معنا ومع غيرنا.
أجبته قائلا: إنها حالة تنتاب الرءوس في مراحل الضعف، لكنها تختفي اختفاء تاما في مراحل القوة، انظر إلى العرب الأوائل عندما بلغوا من القوة ما بلغوا في صدر الإسلام، لقد فتحوا ثغورهم جميعا لكل ثقافة تأتي من خارج حدودهم، أيا ما كان مصدرها، وهي إن لم تأتهم من تلقاء نفسها أتوابها عامدين، جاءتهم "ثقافة" وأرسلوا رسلهم ليجيئوا لهم بثقافة ولم يخطر لأحد منهم -إلا نادرا- أن يقول قائل منهم إنه "غزو ثقافي" وذلك لأنهم كانوا أصحاء أشداء لا يخشون على أنفسهم لفحة البرد أو حتى ضربات الصقيع.
ولماذا نطوي القرون القهقرى أكثر من ألف عام بحثا عن مثال لما قد كان بين الأسلاف، أنه لتكفينا بضع عشرات من السنين، لنرسل أبصارنا إلى ساحة الرجال، فهذا هو الشيخ محمد عبده يقرأ ما كتبه هانوتو ليرد عليه ثم يسافر إلى انجلترا ليلتقي وجها لوجه مع شيخ فلاسفة بريطانيا في ذلك العهد، وهو هربرت سبنسر، ثم هاجم أولاء رجالنا في العشرات الأربع الأولى من هذا القرن: قاسم أمين، لطفي السيد، طه حسين،