الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العقاد، الدكتور هيكل، سلامة موسى، أحمد شوقي، طلعت حرب إلى آخر ذلك الرعيل الرائد من أقوياء فتحوا لكل ما عند العصر من فكر وأدب وفن فتحوا له صدورهم وقلوبهم وعقولهم، في غير خوف، فلا بارك الله أنفس الجبناء.
وأعود إلى رؤيا الحالم الذي افترضت وجوده، وتخيلت أن تكون رؤياه التي جاءني بحثا عن تعبيرها عندي، هي نفسها الصورة التي نقلتها إلي عن الجزيرة وأهلها والشبح الذي اسمه "الغزو الثقافي" فأقول إن "عراف المعبد" الذي ورد ذكره في الرواية إنما يرمز إلى الفئة المباركة التي "تعرف" الأمر على حقيقته وأين تعرفه؟ إنها تعرفه وهي في المعبد، تعرفه وهي مؤمنة بربها وبنفسها، تعرفه وهي على صلة بخالقها ومصورها وباريها فهكذا خلقها سبحانه فئة طموحة تريد أن تطير في الهواء بأجنحة النسور، أستغفر الله بل تريد أن تطير إلى ما هو أبعد من حدود الهواء، فتنطلق في أعماق الكون بأجنحة الصواريخ.
-
أنموذج رقم "3
"
- الصحيفة: الشرق الأوسط.
- المادة: مقال صحفي عام.
- المحرر: عبد الله الجفري.
- لون من ألوان الأدب الصحفي، عندما يتناول كاتب وأديب أحداث الساعة بقلمه من زاوية صحفية، لاحظ العنوان المرتبط بالقصة التاريخية والأسطورة ولكنه المعبر عن الواقع الموضوعي لاحظ أيضا ذلك الاستهلال "الإنشائي التصويري".. وأقول أيضا "الشاعري" البارع تتابع الأفكار والعناصر مع العناية بالشواهد والأمثلة التاريخية، والتي تتصل بالذكريات وإسقاطها على أحداث الحاضر، القالب الفني المختلط الذي يعتمد على الجمع بين بعض جوانب وزوايا قوالب الوصف والقصة والتاريخي، النهاية التصويرية والتحذيرية في آن واحد.. لاحظ أوجه الشبه القائمة بينه وبين المقال السابق على الرغم من اختلاف الموضوعين.
كان ياما كان.. أرض اسمها لبنان!
كان الليل في لبنان هو ذلك المساء الراقص بخطوات السهارى، وبخطرات النسيم التي تجرح خدود الحسان، كما وصف شاعر يحمل في أسراره التأمل والصخب معا، ويزرع فوق أرضه مع مطلع كل فجر سوسنة حب يلتف الناس حولها حنوا ووفاقا لا خنوعا وخلافا.
كان الليل في لبنان هو ذلك الزمن الجديد الطالع كل مساء بضحكات الساهرين.. تتردد في أصدائه "الدبكة" متجانسة مع حركات النضال، ومع أحلام الحرية، ومع أضواء التاريخ التي كانت تنبعث من جنبات صفوف أعمدة "بعلبك".
قادر -ذلك الليل- على أن يفصل بين ضجيج الأضواء والسهارى وبين صمت تلك الصخور الناطقة برسومها وبنقوشها وبدلالتها على حضارة عظيمة.
وكان يسري بين الضجيج والصمت ذلك "الحلم" الرومانسي الصادر من صوت "فيروز" وهي تحكي قصة لبنان، ثم وهي تبكي لبنان بعد ذلك، ثم وهي تفتش عن لبنان الآن.
أصبح الليل في لبنان هو هذا الظلام الذي اعتقل خطوات السهارى، وجلد خطرات النسيم حتى جعلها لهبا، وأحال "الدبكة" إلى رقصة حرب في أدغال أفريقية في مجتمع أكلة لحوم البشر عندما اختل التقييم، وانتفى الفرق بين أن يقتل اللبناني أخاه، أو يقتل جاره، أو يقتل أي إنسان، إلا أن يكون ذلك المقتول عدوا حقيقيا.
والذكريات صدى السنين الحاكي -كما غنت فيروز- نتذكر اليوم ساعة مرت في العمر، قبل اندلاع الحرب الأهلية وقبل التهام جنوب لبنان، كما نقف بجانب شواهد من التاريخ في لبنان، تلك التي ما زالت باقية من عهد الرومان بضخامتها وبرموزها، وهي تطل على سهل فسيح وتبدو من شرفاتها أشجار المشمش والكرز، وترجع فيها هياكل "جوبيتر وفينوس وباخوس" إلى القرون الأولى للميلاد، ويحيط ببعضها جزء من أسوار عربية شيدت بعد ذلك!.
هنا يرى التاريخ حكايات عن: جبابرة نقلوا إليها الحجارة الضخمة قبل نوح والطوفان، وعن عمالقة من عوالم أخرى نقلت حجارة عالم بعيد، وعن غزاة حاولوا تذويب معالمها وتغريب لسانها، وكل أولئك ذهبوا وبقيت لبنان.
فالأرض لا تموت أبدا بل الذي يموت هو الإنسان.
إذا فرط الإنسان في أرضه.. مات!
إذا باع حريته ثمنا لمصالحه.. مات!
إذا وضع "الشخص" فوق قيمة ومصلحة أرضه.. مات.
ذلك أيضا.. يعيدني إلى "وقفة" فلسفية، من خلال أسئلة طرحت على
الفيلسوف الأديب "ميخائل نعيمة" في مناسبة تقدمه إلى "التسعين" من العمر يومها سئل عن علاقته بالزعيم الدرزي "كمال جنبلاط" فأجاب:
- علاقتي معه كانت مبنية على أسس روحية بعيدة عن السياسة، وكان من الناس الذين يتعشقون الفلسفة الهندية.
وعندما جاء "وليد جنبلاط" في مكان أبيه.. تكشف لنا أنه ابتعد هو بدوره عن الفلسفة الهندية، وخالف والده ولم تعد فلسفة "اليوجا" تقنعه كدور سياسي في الصراعات التي اندلعت، خاصة بعد مقتل والده، فأعضاء "وليد جنبلاط" وفكره أصبحا أكثر قسوة على لبنان، مما جعل ممارسة "اليوجا" تتعذر عليه.
ولم يجد "وليد جنبلاط" في قدراته ما كان يراه في قدرات والده على الاسترخاء فوق ذلك السرير الهندي المليء بالمسامير المدببة، التي كان "جنبلاط" الأب يراها أكثر رحمة من سرير جديد للبنان يمتلئ بما يوفق المسامير، ويسمى: سرير التقسيم الطائفي.
ولكن ما الذي أوصل "لبنان" واضطر هذا البلد الذي كان مخمليا، وفيروزيا لينام فوق سرير التقسيم الطائفي، وينظر إلى "اليوجا" على أنها فلسفة نظرية، برغم أنها عملية جدا، ويجري إلى التذبيب الأقسى؟
إنها "الفوضى" التي أوصلت لبنان إلى هذا الحال وإلى الاستلقاء القسري فوق سرير التقسيم الطائفي، فالفوضى أصبحت قانون لبنان الجديد، وتنظيمها السياسي، ومجابهتها للغزاة.
- وسئل "ميخائيل نعيمة" إن كان ينتمي لحزب ما، فأجاب:
- لا أنتمي إلى أحزاب أيا كانت؛ لأنها تختلف عن طبيعتي، ولأنني لا أريد أن أتنازل عن حريتي.
فإذا فقد "الوطن" وحدته الوطنية أصبح غاية، وتحول إلى فوضى.
ثم أضاف "ميخائيل نعيمة" عبارته المباشرة بعد ذلك، فقال:
- إني أربأ بلبنان أن يصبح سلعة تتناقشها شتى الأيدي، أو أن يخسر طابعه الخاص!
وإذن فقد بلغ "لبنان" الوطن الواحد هذه المرحلة الخطيرة مرحلة: السلعة التي تتناقشها شتى الأيدي.
والآن.. إلى أين يهرب لبنان من تاريخه وهياكله وأعمدته بشجرة الأرز؟ الآن.. إلى أن يركض "اللبناني" بوطنه.. هروبا من الوحدة الوطنية، وتفكرا للوفاق واغتيالا لشخصية الوطن التي تقدم قربانا وثمنا لشخصية الفرد؟!
الآن لا أمريكا، ولا روسيا، ولا حتى إسرائيل مسئولية عن ما سيحدث في لبنان من تقسيم، ومن إعادة بدء حكاية "قابيل وهابيل" بل المسئول الأول والأخير هو "اللبناني" نفسه.
وفي البدء -عندما اشتعلت الحرب الأهلية- كان "اللبناني" هو الذي يتحمل وزر التمزق الوطني من الداخل حتى لو لمسنا خلفيات الأحداث، وأثبتنا تدخل جهات غير لبنانية في مصير لبنان، وسياسته، فكانت تلك الجهات هي السبب في تصعيد الحرب الأهلية، ذلك أن الجهات الأجنبية قد خططت بالفعل لشرذمة وتمزيق الأرض اللبنانية، ولكن الإنسان اللبناني الذي حمل السلاح وصوبه إلى صدر أخيه اللبناني في حرب أهلية مقيتة ومخجلة، كأن هو الأداة وهو الذي جعل مهمة تطبيق وتنفيذ مخطط التمزيق مهمة سهلة.
لقد بقي اللبناني مسئولا حتى عندما اجتاح العدو الصهيوني أرض لبنان؛ لأنه لولا تفكك الوحدة الوطنية، ولولا تنازع الأخوة فيما بينهم.. لما أمكن لإسرائيل أن تدخل الأرض اللبنانية، ولا أن تغريها تلك الخلافات باقتناص الفرصة.
وإذن فإن ما حدث في "لبنان" منذ بدء الحرب الأهلية، وحتى الاجتياح وما سيحدث بعد التوصل إلى وقف إطلاق النار من محاولات تقسيم، هو في الرؤية الأبعد والأشمل تشبث بمبدأ "المصالح الشخصية" أو المصالح الطائفية، أو مصالح الزعامة السياسية التي يجسد كل زعيم من خلالها مصالحه الذاتية، وأن يكون ذلك "القبضاي" وأن يكون المستفيد من تجارة السلاح، ومن المزايدت السياسية في المنطقة.
إن أعتى الأساطيل لا تقدر أن تهزم أصغر الشعوب، لو اتحد هذا الشعب، وآمن بقضيته، وحرص على وحدة أرضه، فهو سيواجه المعتدي بذلك الإيمان، وبتلك الجذور التي تشده إلى أرضه.. وقد رأينا كيف بدأت أمريكا تصرخ من "اقتناص" أفراد "المارينز" قبل وقف إطلاق النار، فكانت مقاومة شعبية رائعة لن تستمر أو تتأكد إلا في ترسيخ الوحدة الوطنية، تماما بنفس الصورة التي كانت تعانيها أمريكا في حرب فيتنام، فلماذا لا تضحك أمريكا وإسرائيل وسعد حداد اليوم؟.
فالدولة القوية المعتدية، لن تصمد أمام الدولة الصغيرة التي تقاوم الاستعمار