الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثانيا: المقال: تاريخ وصور
- وإذا كان من الصحيح أن الشكل الأول من أشكال المقالة الحديثة قد ظهر على يد الكاتب الفرنسي "ميشيل دي مونتاني" عندما نشر عام 1580 كتابه الذي أطلق عليه اسم "محاولات"1.
وكانت هذه أول مرة يطلق فيها هذا التعبير.. بما زخر به من مادة قريبة من "المحاورة" بما تقيمه من جسور بينه وبين القارئ.. نفذ من خلالها بكتاباته الذاتية عن عواطف الآباء تجاه الأبناء وعن الضمير والبطالة والفراغ والغرور إلى غير ذلك من موضوعات "وجدانية".
- وإذا كان من الصحيح أيضا أن الإنجليزي "فرنسيس بيكون 1561-1636" هو الذي قام بنقلها أو على الأصح زحزحتها من المجال الذاتي إلى الممارسة الموضوعية العلمية بما وضعه لها من أساس أو "تقاليد" من أهمها التركيز على الفكرة الأساسية، وتحديد زاوية التناول أو المعالجة.. وما إلى ذلك.
ثم تنتقل المقالة بعد ذلك إلى المجال "العملي" أو "الدوري" وهو نفسه المجال "الصحفي" على يد قادة الفكر الصحفي الإنجليزي في القرن الثامن عشر لا سيما "دانيال ديفو" و"ستيل"2 وغيرهما من الكتاب الذين شعروا بجسم الصحفي.. حاجة القراء إلى هذا اللون الجديد من المادة المقالية.
- إذا كان ذلك كله صحيحا.. فمن الصحيح أيضا أن يقال إن الحضارات
1 "essays".
2 لمزيد من المعلومات عن هذا الموضوع ننصح بقراءة: "إبراهيم إمام: تطور الصحافة الإنجليزية - عباس محمود العقاد، يسألونك - محمد عوض محمد، فن المقالة الأدبية - محمد يوسف نجم: فن المقالة".
العالمية في عصور ازدهارها المختلفة لم تعدم وجود لون من الإنتاج الفكري الذي يمكن اعتباره من المقدمات الأولى لفن المقالة، أو من جذورها الضاربة في أعماق الفكر البشري، كما نحب أن نستخدم هذا التعبير.. وذلك على الرغم من:
- عدم وجود المطبعة.
- عدم معرفتنا بأسماء الكتاب إلا فيما ندر.
- عدم استخدام كلمة مقالة أو معرفتها أصلا.
وهكذا كان الحال بالنسبة لعدد كبير من ألوان الإنتاج الفكري القديم نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر هذه الصور والمشاهد كلها:
1-
ما يؤكده "ألن شورتر" من أن المصريين القدماء: "كانوا يغرمون دائما بالتعبير عن أفكارهم عن السلوك الشخصي في صورة نصائح مثل كتاب الأمثال في التوراة، وكان من عادة الكاتب أن يضعها على لسان رجل عظيم من عصر قديم يكون قد اشتهر بالحكمة"1.. ولعل من أقدم ما وصلنا عن هذه الحكم "المواعظ التي تمثل أقدم جذور لفن المقال بأنواعه المختلفة نصائح الوزير القديم جدا "كاجمني" أو "كاجمنا".. الذي كان وزيرا للبلاط الملكي في عهد الملك "سنفرو" -الذي تتخذ محافظة بني سويف من صورة هرمه شعارا لها- وهو من الأسرة الثالثة، وله كتابات عديدة من هذا الطراز تتصل بآداب السلوك الإجماعي والذوق العام وآداب الزيارة والمائدة ومن النوع الأخير -آداب المائدة- قوله في هذه العبارة:
"إذا جلست مع أشخاص كثيرين فاصطنع كراهية الطعام حي ولو كنت شديد الرغبة فيه، إن الأمر لا يستلزم وقتا طويلا لضبط النفس وإنه لمن المشين أن تكون نهما، تعس هذا الرجل الشره من أجل جسده"2.
2-
على أن أهم هذه النوعية وأبعدها أثرا -من الجذور المصرية القديمة- ما عرف
1 ألن شورتر: ترجمة نجيب ميخائيل إبراهيم: الحياة اليومية في مصر القديمة" ص122.
2 المصدر السابق ص123.
باسم "نصائح بتاح حتب" التي وجدها فلاح أقصري وباعها للعالم الأثري الفرنسي "بريس"1 الذي نشرها عام 1847 وأهداها للمكتبة الأهلية في باريس وهي تشمل على 18 صفحة مكتوبة بالخط الهيراطيقي بالحبر الأسود والأحمر.. وقد ترجمت إلى لغات العالم كما درست بالمدارس الإنجليزية.. وحيث نقدم هنا صفحتها، "المقالية، الأولى والتي جاء فيها"2:
من حكم بتاح حتب:
"إذا كنت رئيسا فعامل من هم أقل منك مرتبة برفق، واعلم أن مرؤوسك هو عضدك وساعدك، وأن التشدد في معاملته يعقل لسانه ويختم على قلبه فيخفي عنك ما قد يفيدك العلم به، أما إذا استعبدته بالحسنى فلعله يبوح لك بما يضمر ويفتح لك خزائن قلبه وعوده الحرية في القول يصدقك فيما ينفعك، ولا يخدعك فيما يضرك وإذا أتاك في أمر له فلا تجبهه بل كن شفيقا صبورا وإذا استطعت إجابة سؤاله فلا تبطئ فخير البر عاجله، وإياك والشدة في معاملة من يطيعون أمرك فقد تكون داعية إلى سوء الظن بك، واعلم أن الإصغاء للضعيف والمكروب فضيلة يمتاز بها الأخيار على الأشرار.
إذا شئت أن تستبقي حب أخيك وإخلاص صديقك فاحذر مشورة النساء؛ لأنها مجلبة الشر في كل زمان ومكان، واعلم أن حب المرأة مجلبة الهلاك وما طاب عيش امرئ يقضي على سعادته ويستهين بحياته في سبيل لذة لا تدوم أكثر من طرفة عين وتورث آلاما تبقى مدى الحياة.
اجتنب جلساء السوء فإن في بعدهم غنما وفي قربهم غرما. إذا شئت أن تكون صادقا في قولك أمينا في عملك فطهر نفسك من أدران العناد والطمع واحذر الشراهة والجشع، وإن كنت خلوا من تلك النقائص فحذار أن تقع في هوتها فإنها أدواء لا تستقيم حال المرء ما دامت جراثيمها عالقة به، واعلم أن تلك المعائب تفرق بين الوالد والولد
1 Prisse.
2 من ترجمة قديمة جدا نشرتها مجلة "البيان" عام 1912 للأستاذ "محمد لطفي جمعة".
وتشتت شمل الجماعات وتبدد أوصال الصداقات وتقطع ما بين الرجل والمرأة من صلات الود والمحبة وتغرس بذور النفور والبغض".
3-
ولعلنا نجد صورة أخرى من صور هذه الجذور المصرية القديمة ممثلة في تلك الكلمات التي كان كثير من "علية القوم" في مصر القديمة ينقشونها على شواهد قبورهم -كما فعل عرب جنوب شبه الجزيرة بعد ذلك- وحيث كان بعضها إخباري الطابع، والآخر يمت بصلة نسب قديمة جدا إلى الأحاديث الصحفية.. وبعضها الثالث والذي نحن بصدده، يمت بمثل هذه الصلة، ولكن إلى مقال "الاعترافات" من جانب، وإلى "الترجمة الشخصية" من جانب آخر.
وقد أشار إلى ذلك أحد الأساتذة حين قال: "لعل أقدم صورة للترجمة الشخصية تلك الكلمات التي كان ينقشها القدماء على شواهد قبورهم، فيعرفون بأنفسهم، وقد يذكرون بعض أعمالهم، واشتهر المصريون في عصور الفراعنة بكثرة ما نقشوا على قبورهم وأهراماتهم وفي معابدهم وهياكلهم من تواريخهم وأفعالهم"1 وحيث نذكر هنا أمثلة قليلة لهذه الجذور المقالية الكثيرة جدا:
- بعض ما جاء في "متون الأهرام" عن حياة الملك.
- ما تركه أحد حكام المقاطعات ممن عاشوا في القرن السابع والعشرين ق. م، حيث كتب على قبره عن حياته:"لقد أعطيت خبزا لكل الجائعين في جبل الثعبان -ضيعته- وكسوت كل من كان عريانا فيها، وملأت الشواطئ بالماشية الكبيرة وأراضيها المنخفضة بالماشية الصغيرة، وأشبعت كل ذئاب الجبل وطيور السماء بلحوم الحيوان الصغير.. ولم أظلم أحدا قط في ممتلكاته حتى يدعوه ذلك إلى أن يشكو بي.. إلخ"2.
- ومن أبرز هذه الجذور ما كتب على مقبرة "حرخوف"، الرحالة المعروف -من القرن السادس والعشرين ق. م- والذي نقش على واجهة مقبرته بأسوان قصة حياته المليئة بالمخاطرات، والتي يهدد فيها من يحاول سرقة هذه المقبرة قائلا: "ولقد أعطيت خبزا للفقير وملابس للعريان وعديت من لا قارب له، وأنتم أيها
1 شوقي ضيف: "الترجمة الشخصية" ص7.
2 ج. هـ. برستيد - ترجمة سليم حسن: "فجر الضمير" ص137.
الأحياء الذين على وجه الأرض والمارون بهذا القبر سواء أكنتم نازلين مع النهر أم صاعدين فيه.. قولوا ألف رغيف وألف إناء جعة تقدم لصاحب هذه المقبرة، وأما من يدخل هذا القبر مدعيا ملكيته الجنائزية، فإنني سأقبض عليه كما يقبض على طائر يرى وسيحاكم على ذلك أمام الإله العظيم
…
إلخ"1.
4-
ما سجله "يوليوس قيصر" في كتابه الذي أطلق عليه المتخصصون اسم "التعليقات" مما يتناول حروبه في بلاد الغال والحرب الأهلية بينه وبين بومبي -أحد القادة المنافسين له- وإلى جانب عرضه عرضا بارعا يصور الدسائس والمؤامرات التي كان ينسج خيوطها من حوله الأصدقاء والأعداء على السواء، وهي المؤامرات التي انتهت بقتله بعد ذلك على يد ابن زوجته وربيب نعمته "بروتس"2.. وحيث يمكن اعتبار هذه الكتابات من جذور مقالات "الاعترافات" و"السيرة الذاتية".. أيضا، مثلها في ذلك مثل هذه الجذور السحيقة المصرية الطابع.
5-
وبالمثل، وقريب من ذلك كله، ومما يمت بمثل هذه الصلة إلى هذه المقدمات نفسها تلك الصورة من صور "الوصايا" التي كان ملوك الفرس القدماء يوجهونها إلى أبنائهم، تعظهم وتقدم لهم تجربة الآباء والجدود، وتوضح سياستهم، وقد نقلها الغرب عنهم "وفي كتاب -تجارب الأمم- لمسكويه أن كسرى أنو شروان ألف كتابا في سيرته وسياسته، واكتفى مسكويه في التعريف به ببعض صفحات من هذا الكتاب تصور حروبه وانتصاراته على الروم والترك والديلم كما تصور سياسته الداخلية ونشره للعدل في رعيته وتخفيفه لمغارم الضرائب عنها حتى تقوى على عمارة الأرض واستخراج ثمارها"3.
6-
وإذا كنا قد أشرنا -ومن قبلنا وولزلي ود. حمزة إلى اعتبار بعض "محاورات أفلاطون" من جذور الأحاديث الصحفية، فإن قراءتنا لهذه المحاورات4 تظهر بما لا يدع مجالا للشك أن بعض فقرات هذه المحاورات الفلسفية القديمة
1 المصدر السابق ص139.
2 يمكن العودة إلى هذه القصة خلال سطور المقال الأول من كتابنا السابق "هم والصحافة".
3 شوقي ضيف، مرجع سابق، ص7.
4 من ترجمة أ. د. زكي نجيب محمود.
هي الجد الأكبر لشكل من أشكال المقالات هو ذلك الذي يعرف باسم "المقال الحواري".
7-
بل ولماذا لا نعتبر كتابات "أرسطو" شكلا من أشكال "المقالات الفلسفية والنقدية" لا سيما تلك الكتابات التي أودع فيها آراءه النقدية التي ضمنها كتابيه "الشعر - الخطابة"؟ إلى جانب تناوله لبعض أسس العلوم الأخرى إلى حد اعتباره واضعها وهي هنا علوم "المنطق، الحيوان، النبات، ما وراء الطبيعة".. وعلى الأخص، وبما يشبه المقالات الحديثة، قيام هذه الكتابات على أساس من منهجه العام، منهج الاستنباط الذي ينتهي إلى قواعد عامة.
8-
وقد أشار إلى مثل هذه الكلمات ناقد متابع حين قال في كتاب له: "
…
فكتاب العالم القديم مارسوا كتابة أشكال أدبية مشابهة لكنهم لم يطلقوا عليها اصطلاح مقالة، فمن الممكن أن يحتوي المفهوم العام للمقالة أشكال الحوار التي برع فيها أفلاطون والآراء التي عبرت عنها شخصيات ثيوفرا ستوس ورسائل بليني وسينكا وكتابات بلوتارك الأخلاقية ومجادلات شيشيرون وتأملات ماركوس أوريليوس وأبحاث أرسطو الفلسفية وغير ذلك من الكتابات التي تدور حول موضوع محدد وذات طول معتدل1.
9-
على أن مؤرخ "فنون المقال" عامة، والصحفي خاصة، لا بد له من التوقف مرة أخرى عند عدد من "المقدمات" ذات الأطر والموضوعات الأدبية العربية، خاصة تلك التي سادت خلال "العصر العباسي" سواء ما يتصل بألوان وأغراض وأساليب الكتابة الفنية "الإنشائية" التي سادت في صدر الدولة، أو ما يطلق عليه مؤرخو الأدب "العصر العباسي الأول" بمدرسته الأولى النثرية التي تزعمها "ابن المقفع" أو مدرسته الثانية التي تزعمها "الصحفي الأول" وأعني به هنا الجاحظ، أو بالنسبة لألوان الكتابة التي سادت "العصر العباسي الثاني" لا سيما كتابات "عبد الحميد" وابن العميد، ولكل منهما مدرسته العلمية الكتابية المكملة للأخرى، والتي قيل عنها ضمن ما ذكرته كتب الأدب العربي:
1 نبيل راغب: "دليل الناقد الأدبي" ص190.
"فتحت الكتابة بعبد الحميد وختمت بابن العميد".
أقول إن مؤرخ المقال لا بد وأن يتوقف عند هؤلاء، وبالذات عند عدد من نتاجهم الذي كان يمكن -وببساطة- أن ينشر ضمن صفحات الرأي وأبواب وزوايا المقالات الأدبية والنقدية والاجتماعية ومقالات الخواطر والتأملات ومقالات الفقرات وما إليها مما تنشره صحف اليوم باستثناء لغة العصر وأسلوبه، وحيث نتوقف هنا عند ملامح عدد من "مقدمات المقالة" عند اثنين من هؤلاء:
- عبد الله بن المقفع: أول ما يهمنا من كتاباته أن اهتمامه بعنصر "الفكرة" أو الموضوع كان كبيرا بحيث طغى في أحيان كثيرة على عنصر "الأسلوب" ويلي ذلك اهتمامه بالكتابة "الهادفة" فهي ليست بذات التأثير اللغوي البلاغي فقط، وإنما لها تأثيراتها الاجتماعية والإصلاحية أيضا، كما أن من أبرز خصائص كتابته المتصلة بالكتابة الصحفية عامة، والمقالية خاصة أنه وضع قاعدة هامة تنادي بأن يكون في صدر الكلام ما يدل على غرضه، ويهمنا ذلك من ثلاث زوايا:
أ- أنه يعني وصوله إلى تقسيم الكتابة إلى صدر وجسم أو مقدمة وصلب على نحو ما نفعل الآن.
ب- أنه توصل إلى أهم معالم العنوانات والمقدمات وهي: الاتصال بالنص والقيادة إليه ولفت الأنظار إلى مضمونه ومادته عموما والإعلان عنه.
جـ- أن ذلك يدخل في معرفته بما أسماه البلاغيون ورجال التحرير الصحفي بعد ذلك "براعة الاستهلال" وهي من الخصائص الفنية لأنواع الكتابة أدبية وصحفية.
- عبد الحميد بن يحيى الكاتب: ويهمنا من كتاباته -ومما يتصل بالمقدمات المقالية نفسها- معرفته بأن "لكل مقام مقال" أي: أن يكون نوع ولغة وطول الكلام على قدر مضمونه وأفكاره وأهميته عامة.. ثم حسن تقسيمه لرسالته، والترتيب الدقيق لأفكاره، والاهتمام بالخاتمة أو النهاية إلى جانب المقدمة أو الصدر كما كانت عباراته قصيرة، دقيقة ومتماسكة، كل ذلك إلى جانب ميله إلى تقديم الحجج القوية والبراهين التي تؤدي إلى إقناع القارئ بما يقول، كما كان يبتعد عن اللفظ الغريب، والوحشي أو السوقي، وكلها من خصائص "المقالة" ذات الصلة القوية بالمقالة الصحفية عامة.
تدريب عملي "2":
1-
قم بالحصول على كتاب "البيان والتبيين" للجاحظ واستخرج منه ما يمكن اعتباره من جذور المقال الصحفي، وذلك من وجهة نظرك الخاصة.
2-
ادرس نصا للكاتب "عبد الله بن المقفع" وقم بنقده وتحليله في ضوء التعريفات السابقة للمقالات، وحدد كيف يمكن اعتباره من بين جذور المقال، أو من غيرها.
3-
قارن بين نصين أحدهما للجاحظ والآخر لعبد الحميد الكاتب، وكتب مرئياتك لهما في ضوء هذه التعريفات نفسها.