المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌تمهيد إن العمل الإسلاميّ المعاصر تظهر معالمه في صور متعددة، فهناك - التدريب وأهميته في العمل الإسلامي

[محمد بن موسى الشريف]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌تمهيد

- ‌الفصل الأولمعنى التدريب وأهميته ووسائلهوتأصيله من الكتاب والسنةوعمل السلف الصالح

- ‌المبحث الأولمعنى التدريبوأهميته ووسائله

- ‌المطلب الأول: معنى التدريب وأهميته

- ‌التدريب لغة:

- ‌العلاقة بين التدريب والتنظير

- ‌أهمية التدريب:

- ‌باعث التدريب:

- ‌التدريب عند النصارى:

- ‌المطلب الثاني: وسائل التدريب

- ‌ إنشاء المؤسسات الخاصة بالتدريب الدعويّ العلميّ:

- ‌ تضمين مناهج الجامعات والمعاهد والمدارس العليا قضايا التدريب على العمل الإسلاميّ:

- ‌ الاستفادة من وسائل الإعلام الحديثة:

- ‌المبحث الثانيتأصيل التدريب من الكتابوالسنة وعمل السلف الصالح

- ‌المطلب الأول: تأصيل التدريب من صنيع الله تعالى مع أنبيائه ورسله

- ‌ جعلهم رعاة للغنم:

- ‌ العزلة قبل البعثة:

- ‌ الصلاة الطويلة الشاقة نحو قيام الليل:

- ‌ التدريب على مواجهة الطغاة:

- ‌ مواقف مختلفة:

- ‌المطلب الثاني: تأصيلالتدريب من السنة المطهرة

- ‌1 - تدريب الصحابة على الدعوة وطرائقها:

- ‌2 - تدريب الصحابة على القضاء والفتوى:

- ‌3 - تدريب الصحابة على إدارة بعض شؤون دنياهم:

- ‌المطلب الثالث:تأصيل التدريب من عمل السلفالصالح رضي الله عنهم ومن تبعهم

- ‌1 - تدريب عمر أبا موسى الأشعري رضي الله عنهما وشريحاً على القضاء:

- ‌2 - تدريب عمر رضي الله تعالى عنه الناس على القوة والاخشيشان:

- ‌3 - التدريب على قراءة القرآن العظيم:

- ‌4 - التدريب على قضايا علمية منوعة:

- ‌نماذج من المربِّين المدرِّبين

- ‌الفصل الثانيعرض لبعض طرائق التدريب فيبعض القضايا المهمة

- ‌مدخل

- ‌التدريب على الأمر بالمعروفوالنهي عن المنكر

- ‌الخطوات العملية في هذا الباب:

- ‌1 - مصاحبة داعية بصير مجرب

- ‌2 - مصاحبة رجال هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في جولاتهم الدعوية

- ‌3 - إنشاء معهد خاص للتدريب على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

- ‌4 - التدريب على الصبر على الإيذاء النفسيّ والجسديّ

- ‌5 - التدرب على الشجاعة ومحاولة اكتساب ما يمكن اكتسابه من هذه الصفة المهمة

- ‌6 - الاطلاع على سير الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر من الأنبياء والصالحين

- ‌8 - التدرج في التطبيق مع البصيرة النافذة والحكمة والموعظة الحسنة

- ‌التدريب على مواجهةالمواقف الحرجة

- ‌التدريب على الإلقاء

- ‌التدريب على الاستفادةمن الإنترنت

- ‌التدريب على الاستفادةمن الأوقات

- ‌1 - التدريب على الاستفادة من الوقت الضائع المهدر:

- ‌2 - التدريب على استعمال أسلوب التفتيق أو العطف الذهني:

- ‌التدريب على التخلص منالمصطلحات السلبية

- ‌1 - سأحاول فعل كذا وكذا يوماً ما:

- ‌2 - أنا خَلقت هكذا، أو: ليس عندي أحسن من هذا، أو: هذه إمكاناتي وقدراتي:

- ‌3 - أنت السبب، أو أنت الملوم، أو غير ذلك

- ‌4 - هذا الأمر صعب أو مشكل أو فيه مخاطرة:

- ‌5 - أنا أعرف تماماً ما يجري حولي ومطلع عليه:

- ‌6 - جملة من الألفاظ المحبطة:

- ‌التدريب على انتهاز الفرص

- ‌ إحسان تتبع الأخبار وتَسَقُّطها

- ‌ إحسان قراءة الوقائع بدون إفراط ولا تفريط

- ‌ توسيع ((الأفق))

- ‌ إحسان بناء العلاقات بالناس خاصة الوجهاء والمقدَّمين منهم

- ‌ الإقدام والعزم

- ‌ قراءة تاريخ الذين انتهزوا الفرص ممن ذكرتهم آنفاً وأمثالهم من المسلمين وغيرهم

- ‌ استشارة أهل الخبرة في هذا الباب

- ‌التدريب على المحاسبةوالمساءلة والتقويم

- ‌1 - إنشاء المجالس التقويمية:

- ‌2 - المصارحة والقوة:

- ‌3 - الشمول:

- ‌4 - التذكير حيناً بعد حين بأهمية العمل:

- ‌5 - صقل العاملين:

- ‌التدريب على الاخشيشانوالتقلل من المباحات

- ‌أهمية الاخشيشان:

- ‌1 - إعداد النفس للجهاد:

- ‌2 - إعداد النفس لما قد ينزل بها من البلاء:

- ‌3 - تربية الأهل والأولاد على المعاني العالية:

- ‌4 - شعور المجتمع بمشاركة الأغنياء للفقراء:

- ‌كيفية التدريب على الاخشيشان:

- ‌ الإكثار من الصيام:

- ‌ التقلل من الطعام والشراب في بعض المواسم:

- ‌ منع النفس عن بعض مرغوباتها ومشتهياتها:

- ‌ قراءة سير السلف الصالح رضي الله عنهم أهل الزهد والتقشف والتقلل

- ‌ختام

- ‌فهرس المصادر والمراجع

- ‌القرآن الكريم

- ‌مراجع أجنبية إسلامية:

الفصل: ‌ ‌تمهيد إن العمل الإسلاميّ المعاصر تظهر معالمه في صور متعددة، فهناك

‌تمهيد

إن العمل الإسلاميّ المعاصر تظهر معالمه في صور متعددة، فهناك المسجد وحلقاته ودروسه، وهيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجامعات الإسلامية، والمراكز الدعوية الرسمية منها والتعاونية، ومراكز دعوة الجاليات، والعمل الإعلاميّ الاقتصادي، وجهود الأفراد والجماعات في الدعوة إلى الله تبارك وتعالى.

والعلة الكبيرة في جُل تلك الأعمال- فيما أظن أُقدّر- هي ضعف التدريب وسوء التوجيه وقصوره؛ فالمسلم المعاصر مطالب بالدعوة إلى الله تعالى - كما طولب إسلافه - بنص كتاب الله تعالى (ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون)(1). ثم إنه - في حقيقة الأمر - لا يعرف الكيفية الإيجابية للدعوة، ولا الخطوات الشرعية الصحيحة

(1) سورة أل عمران: أية 104.

ص: 9

للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بسبب أنه لم يُدرَّب على ذلك التدريب الكافي، أو لم يدرَّب على ذلك أبداً، ولم يُخط معه الخطوات اللازمة لتعريفه وإرشاده.

والشواهد على هذه المسألة أكثر من أن تُحصر وأكبر من أن تغفل فتُحضر؛ فالمسجد - مثلاً- يقوم عليه إمام حائز على شهادة نظرية، لكنه لم يدرَّب على الإمامة ومواجهة المصلين والقيام بحقوق إهل الحي وجمع قلوبهم وجهودهم والإجابة على أسئلتهم الشرعية والاجتماعية، بل جيء به - غالباً- إلى مسجد ما ولم يسبق له أن دُرب على ما سيقبل عليه، والأدهى من ذلك أنه يؤتى بأشخاص إلى الجوامع الكبيرة والمساجد المهمة، وكل ما يملكونه من رصيد هو جمال الصوت، لكن لم يدربوا ولم يؤهَّلوا، بل أزعم أن أكثر الأئمة ليسوا على شيء صحيح ذي أسس قويمة بل هم مجتهدون فيما يزاولون، محاولون أمراً ليس لهم به معرفة ولا تجربة، وأقصى ماعند أكثرهم شهادة شرعية لم يخالطها أو يتبعها تدريب مناسب.

والجامعات الإسلامية يضعف فيها التدريب ضعفاً ملحوظاً، وبعض الجامعات تكتفي - لتحقيق متطلبات التخريج - بإلزام طلابها بتدريس بعض الحصص لطلاب المدارس، وهذا لا يكفي في تأهيل المتخرج في تلك الجامعات وإعداده للواجبات الملقاة على عاتقه، وحتى

ص: 10

حصص التدريب هذه فإنه لا يدرب عليها وليس له سابق معرفة عما سيصنعه مع الطلاب.

والمراكز الدعوية ومراكز دعوة الجاليات إنما يتصدى للعمل فيها أناس نحسبهم مخلصين لكن يُعْوِزهم التدريب الكافي، وتستخلص خبرتها بدوران عجلة العمل اليومية، وليسوا متدربَّين في الأصل التدريب الكافي على هذا العمل المهم.

والعمل الخيري الإغاثيّ والتربوي - في هيآته وجمعياته ولجانه - يقوم عليه أناس لا تنقصهم الغيرة ولا الحماس لكنهم غير مخصصين، ولا دربوا التدريب الكافي على هذا الباب المهم من أبواب العمل الإسلاميّ، إلا قليلاً منهم، والقاعدة ما ذكرت.

والعمل الإعلامي - المقروء والمسموع والمرئي - يقوم عليه أشخاص ليس لأكثرهم تجارب سابقة، ولا تصورات صحيحة، ولا قواعد منضبطة مستقيمة فيما ينبغي عليهم عمله أو تركه، وما الذي يبث وما الذي يحجب عن العامة، وهكذا

وهناك أمر عجيب، وهو أن المشاركين في الكتابة الإسلامية الناقدة لجوانب العمل الإسلامي المختلفة- ما

ص: 11

ذكرته منها آنفاً وما لم أذكره - ليس لأكثرهم خبرة كافية فيما ينقدونه، ولا لهم مشاركة حاكمة دقيقة إلا ما يرونه من آثار تلك الأعمال ونتائجها.

بل إن كثيراً من الكاتبين في الشؤون الإسلامية العامة في جوانبها المختلفة إنما يتناولون موضوعات لم يحسنوا فهمها، ولا مارسوها، ولم تكن شيئاً واقعاً في حياتهم، ولم يلمسوها أو يتعرفوا عليها عن قرب، إنما هو حماس متدفق وغيرة تنقصها الخبرة والمعرفة والتدريب الكافي على حسن التناول والأخذ:

لا يعرف الشوق إلا من يكابده

ولا الصبابةَ إلا من يعانيها

لذلك كله احتاج العمل الإسلامي - بجوانبه المختلفة - إلى الأخذ الجاد بأساليب وطرائق التدريب العملي القائم على أسس نظرية صحيحة حتى نستطيع أن نستجيب لمتطلبات هذا العصر المعقدة، ونجاري غيرنا من الأمم الكافرة التي استطاعت أن تصل إلى درجات عالية من الرقي لأخذها بجملة أسباب، منها التدريب الجاد والمتواصل في مجالات الحياة كلها تقريباً.

أما الحديث عن أفراد الدعاة إلى الله تعالى وأحوالهم في باب التدريب والممارسة فهو حديث ذو شجون

ص: 12

وهموم، وتناوله يحتاج إلى بسط وتفريع:

هناك إعداد ضخمة من المسلمين الصالحين اعتاد المجتمع على وصفهم بأنهم دعاة إلى الله تعالى، وقد يكون بعضهم قد حاز هذا اللقب الشريف حقاً، لكن أكثرهم لم ينله بعد، هم صالحون حَسنو النية والقصد، سليمو الفطرة، جميلو الفعال .. لكن الحديث عن الدعوة شيء آخر، والوصف بهذا اللقب الشريف يحتاج إلى تمهُّل وتريُّث؛ فالداعية إلى الله تعالى هو من يغْشَى المجتمعات، ويناقش ويجادل بالحسنى، ويعرض الحجج؛ ويبرهن على صحة قضيته وصواب عمله، ويجهد في ذلك كله، وهو مع ذلك يذكر بالله حالهُ ومقالهُ فعلى هذا أقرر أنه قد نال كثير من المسلمين درجة الصلاح، لكن أن يكونوا دعاة فتلك قضية أخرى.

وهناك فئة من الصالحين قد داروا في حلقة مفرغة من القضايا النظرية التي هي أقرب إلى الإجراءات الإدارية منها إلى الدعوة العملية، فهؤلاء قد قَصّروا في بلوغ منزلة الداعية إلى الله تعالى وإن كانوا في أعمالهم تلك على خير نرجو أن يكونوا فيه مأجورين مثابين، إن شاء الله تعالى، وهذا التقصير مردُّه إلى الطبيعة التي طُبع الصالح عليها لا إلى تعمده إغفالَ الخلطة المحمودة لطوائف المسلمين وإرشادهم عملياً والأخذ بأيديهم دائماً وعليها أحياناً.

ص: 13

إن أولئك الصالحين - أو من نحسبهم كذلك - غفلوا أو أغفلوا أهمية أن يقرن القول بالعمل في هذه المسألة المهمة، بمعنى أنه لا يمنعه الانهماك المتواصل في التخطيط والإدارة أن يبذل شيئاً من جهده للالتفات إلى الناس ومعرفة كيفية الوصول إلى قلوبهم وعقولهم.

كيف يكون داعيةّ من لا يستطيع الحديث في المجالس، أو لا يجيد توجيه أحاديثها، أو أنه لا يغشى مجالس الناس أصلاً، ولا يتعب نفسه في المحاورة مع أهلها، ومجتمعنا المعاصر بحاجة ماسة إلى من يأخذ بيده ويجادل المعاند والضالَّ، ويشجع المتردِّد ويأخذ بيد المقدِم، وأزعم أن المقدم قد وجد من يأخذ بيده لكن الطوائف الأخرى لم تُسعد بعد ولم توجه لها الجهود الكافية.

إن دعاة اليوم لم يدربوا على هذا الأمر، ولم يفكروا فيه كما ينبغي، إلا طوائف قد نذرت نفسها لهذه القضية التبليغية، مغفلة ما سواها من قضايا مهمة كثيرة، فالتوازن المطلوب هو أن يكون الدعاة جامعين بين الدعوة العملية والإدارة النظرية، ولو أُغفل جانب وعُني بآخر لحصل النقص واتسع الخرق.

يقول الدكتور البوطي حفظه الله تعالى معبِّراً عن هذه القضية الشائكة: قضية تحقق الداعية باسمه، وعمله على مقتضى وصفه:

ص: 14

((إن كلمة (الدعوة) تدل على معنى لا يتحقق إلا من خلال طرفين اثنين: داعٍ يرشد ويبين ويدعو، ومدعوّ ينطق واقعه بالحاجة لمن يرشده ويبيِّن له الحق ويأخذ بيده لينهضه من عثراته الفكرية، ويحرره مما علق به من شبهات وأوهام.

أي أن عملية الدعوة إلى الله لا يمكن أن تتم من خلال نشاط يدور في نطاق طرف واحد، بل لا بد لتحققها من أن يسري هذا النشاط ما بين طرفين اثنين: طرف يرشد ويحاور ويعلِّم، وطرف آخر يتلقى ويتعلَّم ويتجاذب مع الطرف الأول زمامَ النقاش والحوار

وأعتقد أن فينا من يقول: إن هذا شيء بدهيّ، ولعل أحداً لا يحتاج إلى بيانه أو تأكيده.

وأقول: أما إنه بدهيٌّ فنعم، وأما إن أحداً لا يحتاج إلى التنبه إليه فإن الواقع- ويا للأسف - لا يؤيد ذلك

)).

ثم أخذ في تقرير أن أكثر الدعاة يمارسون أنشطة قد لا تمت إلى واقع الناس بصلة، أو ليس فيها خلطة بجماهير الناس لأجل هدايتهم وإرشادهم.

وعلى أن كلامه - في تقريره الأخير هذا - فيه تعميم وبعضٌ من الخلط، لكنه ينطبق في بعض جوانبه على واقع كثير ممن يُطلق عليهم دعاة.

ص: 15

ثم ذكر أن هناك برزخاً بين هؤلاء النفر من الدعاة وبين ((الخليط من التائهين والجانحين والجاهلين، فليس بين هؤلاء وأولئك أيّ تلاقٍ على صعيد دعوة أو نقاش أو حوار، بل بوسعك أن ترى بدلاً من ذلك فئاتٍ شتى من أصحاب المذاهب والأفكار الهدامة يتغلغلون بين خليط هؤلاء التائهين والجهال

فيجلسون إليهم ويؤانسونهم، ثم يبثُّون في أفكارهم عوامل الشبهات والريب، ثم يسعون إلى إحلال أفكارهم ومذاهبهم الباطلة محلَّ قناعاتهم الدينية التقليدية، وذلك بأساليبَ شتى من الحوار والنقاش

))

ثم ذكر أنه ((مهما كانت الأعمال التي ينهض بها هؤلاء الإسلاميون صالحة ومفيدة فإنها لا تقوم مقام واجب تعريف الناس بالإسلام ودعوتهم إليه قَطّ

)) (1)

وبيَّن أنه ((لو أن رجال الدعوة الإسلامية في مجتمعاتنا تواجهوا إلى حشود هؤلاء التائهين يلقونهم في أنديتهم وأسواقهم، أو مدارسهم وجامعاتهم، يبصِّرونهم بحقائق هذا الدين، ويحاورونهم في إزالة شبهاته، تَحدُوْهم إلى ذلك (2) نوازع الإخلاص لوجه الله والشفقة على عباد الله، إذاً لا ستأنس أولئك بهم وركنوا إليهم، ثم أصغوا

(1)((الجهاد في الإسلام)): 42 - 45.

(2)

أي يحملهم على ذلك.

ص: 16

باهتمام إلى نصائحهم وبياناتهم، ولا بد أن تسري أشعة الهداية أخيراً إلى عقولهم وأفئدتهم

)) (1).

وأحسب أن كلامه هذا معبر عما أريد الحديث عنه، مجمل لما سأقوم - إن شاء الله - بتفصيله.

ويقول الأستاذ عبد البديع صقر رحمه الله تعالى:

((لا يستحق اسمَ الداعية إلا من كان صالحاً لهذه الوظيفة الربانية، بأخلاقه وتخلّقه جميعاً، كما يقول الله تعالى: (ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا)(2). فالداعية إنسان مجهز تجهيزاً خاصا ليقوم بمهمة شاقة دقيقة كتلك التي دعا إليها الأنبياء والمرسلون، فما أعظمها من رسالة

)) (3).

وقول هذا الأستاذ: ((الداعية إنسان مجهز تجهيزاً خاصاً)) هو المحور الذي يدور عليه هذا الكتاب، والقطب الذي يربط به ما أوردته في ثناياه من مباحثَ وأبواب، والله الموفق للصواب.

ويقول أحد المفكرين:

(1)((الجهاد في الإسلام)): 208.

(2)

سورة فاطر: آية 32.

(3)

((كيف ندعو الناس)): 108 - 109.

ص: 17

((إن أوضاع بعض العاملين للإسلام مؤسفة، وذلك لتركيز كثير من العاملين على القضايا النظرية الأكاديمية

الأمر الذي جعل نسبة العاملين المثقلين بالأعباء لا تزيد عن 5% بينما يظل 95% متفرجين.

وهؤلاء يكونون كَلَاّ وعبئاً ثقيلاً تحملهم المؤسسة عوضاً أن يحملوها

)) (1).

إن أوضاع المؤسسات الإسلامية لا تكون في حالة جيدة إلا إذا ((تحولت إلى خلية نحل_ مثل خلايا النحل أو النمل_ مفعمة بالطاقة والحيوية، وقائمة على أداء المهام النافعة في المجتمع لاضطلاع كل فرد فيها بدوره ووقوفه على ثغرة من الثغور)) (2).

وقد يُظهر تحليل إحصائي تقريبيّ أن الأوقات التي يبذلها العاملون في المؤسسات الإسلامية وكذلك الأموال والجهود إنما يصرف 70% منها لمعالجة الشؤون الداخلية لتلك المؤسسات، بينما يخصص 30% فقط لصالح المجتمع الخارجيّ، في حين ينبغي أن يكون الترتيب الصحيح عكس ذلك تماماً (3).

(1)((دليل التنمية البشرية)): 22 بتصرف.

(2)

المصدر السابق.

(3)

المصدر السابق: 31 بتصرف يسير.

ص: 18

ينبغي التأكيد - دون هوادة - على ضرورة تبني المؤسسات الإسلامية مشكلات الأمة الإسلامية وإيجاد الحلول لها، كما يجب عليها توجيه معظم جهودها لمعالجة تلك القضايا، كي تطمئن الأمة إلى أن هذه المؤسسات هي حارسها الأمين (1).

فعلى الدعاة إذاً أن يسعوا لتحقيق التغير في المجتمع وأن يسهموا فيه؛ فكل برامج التدريب وتزكية النفوس إنما تهدف إلى جعلهم أداة في عملية التحول الاجتماعي، قال الله تعالى:((إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم)) (2).

نعم إن عجلة الحياة اليومية لأصحاب القضية الدعوية قد تمنع من النظر الكافي لمعالجة هذا الأمر على ما ينبغي أن تكون عليه المعالجة، لكن لا بد مما ليس منه بُد، وهذا الأمر ليس من الأمور القابلة للإغفال، بل هو أُسّ العمل وأساسه، وأيضاً ينبغي أن ينبعث شعور ذاتي من كل عامل لله تعالى أنه ينبغي عليه أن يرتقي بنفسه دوماً وأبداً، وأن يلتحق بما يستطيع ويتسر له من أُطُر تدريبيه تأخذ بيده، لا

(1) المصدر السابق بتصرف يسير.

(2)

سورة الرعد: أية 11، والكلام منقول بتصرف من المصدر السابق:46.

ص: 19

أن ينتظر توجيه الآخرين وإرشادهم؛ فليس من أحد يحسن إدراك المنفعة أكثر من محتاجها، وليس الفاقد للشيء - عادة- بمنتظر نصيحة الواجد له، ولكن العجز والتواني هو السبب الظاهر والعامل القاهر، والله المرجو أن يبصر ويهدي إلى كل عمل صالح ومُرْضٍ.

ما الذي ينبغي صنيعه إذاً على ضوء ذلك الكلام المتقدم؟

ينبغي على المسلم - والله أعلم - أن يجمع بين الصلاح الذاتي وبين الدعوة العملية وبين القضايا الإدارية، على وجه يتيح له أن يسير في ركاب الأنبياء والصالحين الذين ساروا هذه السيرة قبله ودرجوا على الطريق وأوضحوا معالمه، فنبينا صلى الله عليه وسلم كان القدوة والمثل في الصلاح الذاتي، وكانت القضايا النظرية التي يدارسها المجتمع المسلم آنذاك منوطة به، فهو المؤصِّل لها والضابط، وكان - أيضاً صلى الله عليه وسلم القدوة العظمى في مسائل الخلطة والدعوة العلمية، الأمثلة على ذلك أكثر من أن تحصر، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يغشى القبائل، ويحضر تجمعات قريش، ويناقش المعاندين ويجادلهم بالحجة الواضحة، وحدِّث ما شئت عن دعوته اليهود والمنافقين في المدينة، ويقوم بكل واجبات الدعوة على المثال المرغوب المطلوب.

ص: 20

أما أن تكتفي طوائف من المسلمين بالدعوة العملية وليس معهم ضوابط مؤصلة ونظريات هادية حاكمة لمسارها فهذا قصور، أو أن تكتفي طوائف من المسلمين بوضع الضوابط والنظريات المؤصلة، ثم إنها لا تبذل جهداً مكافئاً قوياً في تحقيق الخلطة العملية وغشيان المجتمعات فهذا قصور أيضاً، أو أن تأتي طائفة ثالثة بالعجب العجاب وهو الاكتفاء بنقد أهل تلك الطائفتين نقداً لا يقوم على تقدير صحيح لما يبذله أولئك، أو تصور صحيح لما يرونه ويعتقدونه، فهذا جهل بقواعد النقد التقويم، والعجيب أن تلك الطائفة تقيم عملها الإسلامي على محاربة تلك الطائفتين وتجهيل أمرهما، وهذا - تقريباً- هو جلّ عملها.

والغريب أنه ما من جانب من جوانب الحياة تقريباً إلا والقائمون عليه يشترطون فيمن يرغب المشاركة في إدارته - عن طريق التوظيف - خبرة عملية سابقة، فلم لا يشترط ذلك في كل جوانب العمل الإسلامي التي يتاح اليوم لأكثر الناس المشاركة فيها بغير خبرة سابقة ولا تجارب كافية ولا ضوابط حاكمة.

وأشرع الآن في التفصيل بعون الله تعالى.

ص: 21