الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التدريب على الاخشيشان
والتقلل من المباحات
انقلبت كثير من المفاهيم والموازين في هذا العصر، وأصبح الترف - على سبيل المثال - هو القاعدة السائدة عند كثير من الناس، والأنكى والأشد أن يستمرئ الصالحون الترف ويبتعدوا عن الاخشيشان والتقلل وكأنهما وصمة عار أو هوان.
إننا نتقلب - بحمد الله تعالى - في نعم عظيمة علينا أن نشكرها وأن نقدرها حق قدرها، ومن شكر النعم الأخذ منها بقدر وعدم التوسع فيها توسعاً يؤدي إلى نسيان المعاني العلية ويفضي إلى الكسل والإخلاد إلى الأرض، وعلى كل منا أن يدرِّب نفسه على الارتفاع عن كثير من المباحث واللذائذ حتى إن كانت متيسرة وسهلة عليه.
إن الملايين الجائعة في العالم الإسلامي لهي أحق بتوجيه الأموال الفائضة إليها لا أن نتمتع بها وننسى إخواننا
المسلمين الذين يتضورون جوعاً ويموتون برداً.
إن مشكلة الترفّه أنه يجلب الحقد: حقد الضعفاء والفقراء ما لم يشعروا بالمواساة الصادقة الكريمة، وقد يكون هذا الحقد من بعض الصالحين الذي يعيشون ظروفاً صعبة، ويلاحظون تمتعك بكل المباحث واللذائذ، وقد يقال: وهل يحق الصالح؟ أقول نعم، قد يَزلّ، وهل هو ملّك أو معصوم؟ نعم إن حقده خطأ، لكن الذي دعاه إليه ما يراه من ترفه وانشغال بالكماليات عند قوم وتضرره هو ومَن على شاكلته حتى لا يكادون يجدون كفايتهم.
إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتمتع باللذائذ والمباحاث لكن بقدر، وفي أوقات دون أوقات، ولذائذه ومتعه صلى الله عليه وسلم لا تقارن بما عليه كثير من الناس - حتى الصالحين - اليوم في متعهم ولذائذهم، فقد كان صلى الله عليه وسلم يحب الحلوى والعسل، وكانت النساء قد حُبِّبن إليه، وحُبِّب إليه الطيب، وكان يحب الكَتِف، ويعرف منه الصحابة رضي الله تعالى عنهم ذلك ويهدون إليه.
وقد يقال: ما للاخشيشان ولموضوع الكتاب: التدريب على العمل الإسلامي؟
وأقول: إن للترف مدخلاً كبيراً في تأخير العمل الإسلامي، بل قد يهدمه، لأن للمترفين شأناً بعيداً عن شأن
العاملين الباذلين المجاهدين المضحِّين، والمترف يصعب عليه ترك لذائذه ومحبوباته، ومن ثَمَّ يصعب عليه أ، يعمل عملاً قوياً مؤثراً في الحياة من حوله، لذلك كان لابد من نوع من الاخشيشان والتقلل من المباحث يربط المرء بالمعاني العلية ويخرجه من دائرة الالتزام اليوميّ بمحبوباته وشهواته ومراداته.
وهكذا كان السلف صدر الأمة رضي الله عنهم يخشوشنون أحياناً كثيرة ويتمتعون قليلاً، وما كانوا في تمتعهم - إذا تمتعوا - إلا أتقياء بزرة أنقياء، رضي الله تعالى عنهم.
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم على غاية من الاخشيشان لا يكاد يبلغه فيها أحد، هذا مع تمتعه في بعض الأوقات، وتناوله بعض اللذائذ والمباحات كما بيَّنت آنفاً.
هذا وقد كان قادراً - بأبي هو وأمي صلوات الله وسلامه عليه - على أن يكون ملكاً نبياً، لكنه ارتضى معيشة الزهد والتقلل لانها أقرب إلى الكمال، وقد ساس أهله صلى الله عليه وسلم حتى ارتضوا تلك المعيشة، وخيَّرهن بين التوسع وفراقهن وبين الرضا بمعيشته صلى الله عليه وسلم، فارتضينه كلهن رضي الله تعالى عنهن.
هذه عائشة رضي الله تعالى عنها تخبر عروة
رحمه الله تعالى - ابن أختها -: ((وإن كنا لننظر إلى الهلال ثلاثة أهلة في شهرين وما أوقدت في أبيات رسول الله صلى الله عليه وسلم نار))، فيتعجب عروة ويقول: ما كان يُعيشُكم؟ قالت: الأسودان: التمر والماء
…
إلخ (1).
وقال أنس: ((ما أعلم النبي صلى الله عليه وسلم رأى رغيفاً مرققاً حتى لحق بالله، ولا رأى شاة سميطاً (2) بعينه قط)) (3).
وهذه عائشة رضي الله تعالى عنها تخبر أنه ما شبع آل محمد صلى الله عليه وسلم منذ قدم المدينة من طعام بُرِّ ثلاث ليالٍ تباعاً حتى قبض (4).
ودخل عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على حصير، قال: فجلست فإذا عليه إزاره وليس عليه غيره، وإذا الحصير قد أثَّر في جنبه، وإذا أنا بقبضة من شعير نحو الصاع، وقَرَظ (5) في ناحية في
(1) صحيح البخاري: باب ماجاء في الرقاق وألا عيش إلا عيش الآخرة: باب كيف كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وتخليهم عن الدنيا.
(2)
أي: مشوية.
(3)
المصدر السابق.
(4)
المصدر السابق.
(5)
ورق الشجر الذي يدبغ به الجلد.
الغرفة، وإذا إهاب معلق (1)، فابتَدَرتْ عيناي (2)، فقال:((ما يبكيك يا ابن الخطاب؟)) فقال: يا نبي الله، وما لي لا أبكي وهذا الحصير قد أثَّر في جنبك، وهذه خِزانتك لا أرى بها إلا ما أرى، وذاك كسرى وقيصر في الثمار والأنهار، وأنت نبي الله وصفوته وهذه خزانتك؟
قال: ((يا ابن الخطاب: أما ترضى أن تكون لنا الآخرة ولهم الدنيا؟)) (3).
أما حال السلف من الصحابة رضي الله تعالى عنهم فهم الذين تربوا على ما شاهدوا النبي صلى الله عليه وسلم عليه، وتدربوا على وصيته:((إذا نظر أحدكم إلى من فُضِّل عليه في المال والخَلق فلينظر إلى من هو أسفل منه)) (4). يعني أن النبي صلى الله عليه وسلم يعلِّم أصحابه إذا ضاقت على أحدهم الدنيا أن يقارن بينه وبين من هو في ضيق أكبر وضنك أشد حتى يحمد لله تعالى ويرضى بحاله.
(1) أي: جلد.
(2)
أي: بكى.
(3)
قال المنذر: رواه ابن ماجه بإسناد صحيح، والحاكم وقال: صحيح على شرط مسلم: ((الترغيب والترهيب)): 4/ 200.
(4)
أخرجه الإمام مسلم في صحيحه: كتاب الزهد، حديث رقم 2963.
وهكذا درج أصحابه رضي الله تعلى عنهم، فهذا عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قد عُلم حاله من الاخشيشان والضيق الذي اختاره لنفسه ولم يفرضه عليه أحد، وقد لقي يوماً جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنه وقد ابتاع لحماً بدرهم، فقال: ما هذا ياجابر؟ قال: قَرِم أهلي - أي اشتدت شهوتهم - فابتعت لهم لحماً بدرهم، فجعل عمر يردد: قَرِم أهلي، حتى تمنيت أن الدرهم سقط مني ولم ألقَ عمر، وفي رواية: أوَكلما اشتهيتم اشتريتم؟ (1)
قال الإمام الحَلِيمي (2) معلقاً على هذه الحادثة:
((لا ينبغي أن تعود النفس، ربما تميل به إلى الشره ثم يصعب تداركها، ولتُرَضْ من أول الأمر على السداد - أي على الاستقامة في المأكل والمشرب وعدم الفساد بالتوسع فيهما - فإن ذلك أهون من أن تدرب على الفساد ثم يجتهد في إعادتها إلى الصلاح، والله أعلم)) (3).
وجاء رجل إلى عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما فسأله: ألسنا من فقراء المهاجرين؟ فقال له
(1) سنن البيهقي.
(2)
الحسين بن الحسن بن محمد البخاري الحَليمي. المتوفى سنة 403. انظر ترجمته في: ((سير أعلام النبلاء)): 17/ 231.
(3)
المصدر السابق.
عبد الله بن عمرو: ألك امرأة تأوي إليها؟ قال: نعم.
قال: ألك مسكن تسكنه؟ قال: نعم قال: فأنت من الأغنياء. قال: فإن لي خادماً. قال: فأنت من الملوك (1).
الله أكبر، فماذا كان قائلاً لو رآنا اليوم ونحن نتقلب في النعم ظهراً لبطن والترف قد نَخَلَنا نَخْلاً، وتساوى الدعاة والصالحون - أو أكثرهم - مع غيرهم في اقتسام الترف واللذائذ وانتهاب الطيبات؟
وجاء أصحاب سلمان الفارسي رضي الله تعالى عنه، يعودونه عند الاحتضار، فوجدوه يبكي، فسألوه عما به؟ فقال: عهد إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكون زاد أحدنا كزاد الراكب، فقالوا: حَسَبْنا مافي بيته فإذا هو لا يزيد عن بضعه عشر درهماً، رضي الله تعالى عنه (2).
فعلى الدعاة والصالحين أن يخشوشنوا حتى لا يركنوا إلى الدنيا وتقعد بهم هممهم، وهم في حاجة ماسة إلى التدرب على هذا حتى يصبح خلقاً سائداً فيهم، نعم إن هذا زمان صعب إن طاوعتك نفسك فيه على منهاج من العيش خشن قد لا يطاوعك على ذلك أهلك والمقربون منك،
(1) أخرجه الإمام مسلم في صحيحه: كتاب الزهد، حديث رقم 2979.
(2)
((نزهة الفضلاء)): 1/ 205.