الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سنة سبع وخمسين وثمانمائة
في خامس المحرم ورد المرسوم الشريف باعتقال شيخنا أبي الفضل وولده القاضي أثير الدين بقلعة حلب، وجاء زين الدين فرح بن القاشاني- نقيب الجيش- «1» إليها ليخرجهما إلى القلعة، وكان صديقا لهما في الصورة الظاهرة فاستأذن أثير الدين منه أن يذهب إلى بيته لقضاء أربه فأذن له فذهب وأبطأ فخاف ابن القاشاني أن يكون هرب فتغيرت ألوانه فبينما هو كذلك إذ حضر فخرجا من القلعة ووضعا بالمقام وخرجت مسلما عليهما فرأيت قد ورد كتاب ناظر الخاص جمال الدين يوسف إلى شيخنا المشار إليه بتطييب خاطره وفي الحقيقة هو الذي فعل معه ذلك فقرأ فلم يكتب له جوابا.
وفي يوم الاثنين ثالث صفر اعتقل الشيخ برهان الدين إبراهيم بن الشيخ حسن الرهاوي «2» والريس شهاب الدين أحمد البابي الريس بجامع حلب وهما من جماعة أبي الفضل ابن الشحنة وذلك لأن الطنبغا الآتي ذكره عرف أنهما يقيمان الشفاعة عليه بما يريد أن يصنع. ويوم الثلاثاء دخل الطنبغا الدوادار إلى حلب من الديار المصرية ومعه أحمد بن العطار وكان كاتب أبي الفضل المشار إليه، وكان قد اطلع على عوراته فعزله عن مباشرته وحاسبه ثم سلط عليه من أخذ أوراق الحساب فغضب من ذلك وذهب إلى القاهرة واجتمع بيوسف ناظر خاص وكان قد تغير على أبي الفضل المشار إليه لما بلغه أن أبا الفضل كتب عليه محضرا بما وصل إليه منه وأنه يريد أن يرتقي إلى كتابة الإنشاء بالقاهرة وأن ينتقم منه ومن الطنبغا تغري ورمش مملوك أبي الفضل المشار إليه ونور الدين محمود بن المعري.
وكان كاتبه أيضا راكبين على بغلين صغيرين فأنشد الشيخ حسن خادم الأنصاري:
يا محنة مرت بقاض وابنه
…
واثنين من فوق البغال كبلا
قالوا نرى ذا الدور عنا ينقضي
…
قلت أرى في دوركم تسلسلا
فقال شيخنا أبو الفضل عند سماعهما هذا الشاعر يقول: بالدور تسلسلا. فلما دخلوا تحت القلعة رجم ابن العطار بعض العامة فعظم ذلك على الطنبغا ووقف القاضي زين الدين ابن النصيي وتكلم انتصارا لابن الشحنة لأنه صهره فأمسك بعض من فعل ذلك واختبأ ابن النصيي حتى قام والده مقنية وخدم الطنبغا بشيء حتى سكت عنه. ثم أخرجوا القاضي الحنفي وولده من المقام إلى السجن من غير ورود مرسوم بذلك ونزل الطنبغا بحارة اليهود ببيت ابن أبي أصبع فاجتمع عليه من بغض الشحنة وصاروا يتذاكرون أموره ويحضونه على القيام عليه مع ما عنده من وصية ناظر الخاص.
ثم في يوم السبت أنزلوا القاضي الحنفي إلى دار العدل ليسمع الدعوى وكان القائم عليه بحلب ابن الزهري ووعده ناظر الخاص بقضاء دمشق على القيام عليه وعمر بن السفاح وأمير كبير علي باي وعلي بن الوجيه وكان ناظر الجيش بحلب وأشدهم عليه السيد محمد قطيش خادم بني السفاح/ (38 و) م فكان يحض «1» عليه ويجتمع بالناس ويأمرهم بالشكوى عليه والقيام ويحرضهم على ذلك. وكان القاضي الحنفي قد أحس بالشر قبل صعوده إلى القلعة فأثبت محضرا عند مجد الدين سالم الحنبلي ونقده عز الدين بن النحريري المالكي بشهادة شمس الدين محمد بن الكلزي
وجمال الدين التاذفي بعداوة ابن الزهري له وأن حكمه لا يقبل عليه.
فلما وصل إلى دار العدل وجلس بين يدي الكافل وحضر القضاة ادعى عليه بدعاوي منها أنه غصب قطعة أرض من المدرسة الأتابكية وأدخلها إلى إيوان بيته الذي بناه وغير ذلك. وانتصب لذلك علي باك وقال له: أنا وكيل في الدعوى عليك فقال له ابن الشحنة: ووكيلي أيضا. وتلطف معه ابن الشحنة. وقال له:
قال الله تعالى: فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً....
. فلم يلتفت إلى هذا الكلام وصار كلما أبدى جوابا لا يسمع وأحسن ابن الزهري بالمحضر المتقدم. وفي يوم الاثنين خرج الكافل ووقف بالقرب من بيت ابن الشحنة خشية أن لا ينسب إلى التعصب مع ابن الشحنة، وجاء ابن الزهري ومعه القاضيان إلى بيت ابن الشحنة ومعهم المعلمون ومنهم ابن الرحال علي. وكان ابن الشحنة قد ضربه قبل ذلك. وهدموا قطعة من صدر الإيوان. وهو إيوان عظيم أنفق مالا كثيرا في عمارته وعمل في صدره شباكا عظيما داخله قبة وفي الإيوان بابان أنفق على نجارتهما عاج أبنوس مالا عظيما وما تممهما وكتب على رفرفه:
علوت كما شاء المهيمن رفرفا
…
فصيرت نفعي للأنام مباحا
أمد لهم في الصيف ظلي مرفها
…
وأرخي عليهم في الشتاء جناحا
وكتب على مقعد هذا الباب:
إلهي عمر في الهناء معمري
…
وقالوا له في الدارين كل نعيم
وأقعد أخا صدق أتاني محبة
…
بمقعد صدق في جوار كريم
قلت: وأذكرني هذا ما قاله فتح الدين ابن الشهيد ليكتب على رفرف:
رفعت كما شاء الترفه رفرفا
…
أزين سمائي بل أزين سماحي
فلا تدع أن الناس يهوون بهجتي
…
ويمشون في ظلي وتحت جناحي
رجع: ثم ضرب ابن الزهري الشاهدين المذكورين وأصعدهما إلى القلعة وعلى
رؤوسهما طناطير وينادي عليهما بشهادة زور ومعهما سالم الحنبلي وأما المالكي فلا يفعل شيئا لأن السيد السفاحي شفع فيه بل قال له الزهري ضع الزيت على يدك لأقطعها وصار ابن الزهري يقول إني لست بقائم على محب الدين لأني عدوه لكنني محبه وأريد له الخير ليخلص ذمته من الله تعالى.
وفي يوم الثلاثاء ورد ساع وعلى يده مرسوم باستمرار الحنبلي في وظيفته فأنزلوه من القلعة يوم الأربعاء وكذلك الشاهدان. وفي يوم الخميس أحضر ابن الشحنة إلى دار العدل وادعى عليه أيضا أنه التمس مالا لأناس فأنكر فألزمه ابن الزهري باليمين فلم يحلف وذلك لعلمه أنه إن حلف أقاموا عليه شهودا بما أرادوا وادعى عليه بأموال الأوقاف التي التمسها من جهاتها وذكروا في/ (38 ط) م الدعوى أنه التمس أكثر من سبعين ألف دينار فأنكر ولم يحلف وصاروا «1» بعد ذلك يدعون عليه بالقلعة وانتصب علي بن الوجيه للحط عليه فانتصر له الشيخ قاسم الرملى ثم بعد مدة صاحوه على بنت ولده أنس الدين.
وفي ليلة الأحد بعد العشاء تاسع صفر حضر نائب القلعة تغري بردي من الحجاز قبل الحجاج- وكان أمير الحاج- لأنه فارقهم بالشام لما بلغه وفاة السلطان وولاية ولده المنصور وأشار إليه نائب الشام بالذهاب إلى حلب لحفظ القلعة خوفا من قانباي الحمزاوي، والحمزاوي كان عاقلا لا يفعل شيئا ولا يخرج عن الطاعة.
ودخل القلعة فأصبح الناس في أمر مريح بسبب قدومه ولم ينزل من القلعة وصاحا على ابن الزهري ونحو شاعليه وجاء بعض الناس إلى بيت ابن الزهري لنهبه ثم كفوا عن ذلك، وأطلق الرهاوي والبابي، وأخرج القاضي الحنفي وولده من السجن إلى المقام وأكرمه أقبردي ورتب له سماطا مع ما كان بينهما من العداوة.
وفي يوم الخميس ثامن عشري صفر صلي على الظاهر جقمق بجوامع حلب.
وتوفي ليلة الثلاثاء المسفر صباحها عن ثالث صفر ثم في يوم الاثنين قدم هجان من القاهرة وأخبر بولاية المنصور وعلى يده مرسوم بالتأكيد على محاسبة ابن الشحنة فأعيد الرهاوي والبابي إلى السجن ثم أخرجا بالبدل، واختبأ الحنبلي وتجهز إلى القاهرة.
وفي يوم الاثنين ثاني عشري ربيع الأول ورد الخبر باستقرار الأشرف إينال أبي النصر «1» في السلطنة عوضا عن المنصور عثمان بن الظاهر جقمق وتسلطن يوم الاثنين ثامن الشهر المذكور وخلع المنصور يوم الأحد بعد وقعة حرب وأسفرت عن قتلى. وأمسك تمر بغا الدوادار وغيره وجرح قانباي الجركسي وأخرج ابن الشحنة من السجن إلى المقام وأرسل ابن الشحنة قاصدا إلى القاهرة في البر والبحر. ففي يوم الجمعة ورد بعد العصر ورد الخبر بإطلاقه وذلك في ثالث شهر ربيع الآخر ثم ورد المرسوم الشريف بذلك يوم الأحد خامس الشهر المذكور فنزل هو وولده وكان يوما مشهودا وفرح الناس بذلك وألبسهما الكافل خلعتين سنيّتين وبكى عندما شاهدهما.
وفي غضون الدعاوي فاوض الطنبغا ومن معه النحريري المالكي أن يرتب على ابن الشحنة مرتبا «2» يقتضي قتله فما أجاب.
وقال الشيخ عبيد الله المالكي إن وليتموني الحكم سمعت عليه البينة وقتلته، وكان هذا عبيد الله زنجي اللون. فاضلا في النحو وفقه المالكية له كرم ونظم جيد وكان صاحب ابن الشحنة وله عليه أيادي فانقلبت الصداقة بالعداوة، ثم ولي بعد مدة مديدة قضاء الشغر فقتل ليلا. كان يسعى في قضاء حلب أولا على النحريري.
وكتب أرجوزة إلى الكمالي بن البارزي. وهنا هي بخطه «1» :
الحمد لله وأما بعده
…
فإنني ملتزم ما يبدو
من ظاهر النظم «2» ومن فحواه
…
ومن دليل اللفظ أو معناه
بأن أقوم للمقر العالي
…
الأشرف الموسوم بالكمالي
السيد المولى الفقير العبد
…
كهف الملا في حلهم والعقد
شيخ الأنام المسلمين العالم
…
علامة الوقت الإمام الحاكم
الحافظ الرحلة ذو العلوم
…
ومنشئ المنثور والمنظوم
قاضي القضاة ذو الأصول الفاخرة
…
البارزي والفروع الزاهرة
صدر العلى بمصر والشام
…
مؤتمن الملوك والحكام
إمام هذا العصر في الإنشاء
…
وكاتب الأسرار والأنباء
قامع أهل البغي والفجور
…
وكل مفتر نحريري
في كل عام عن وظيفة القضاء
…
في حلب الشهباء بما فيه الرضى
بما لها فيه من العلوم
…
إذ هو معلوم لكل قوم
من الجوالي ومن الجبول
…
والجامع الكبير ذي التفضيل
وغيرها من سائر الجهات
…
أسوة من فيها من القضاة
من غير أخذي زكوات الناس
…
والرشوات عامدا أو ناسي
من الدنانير ذوات العد
…
والأشرفيات الجياد النقد
خمس مئات زاكيات الوزن
…
على الحلول عاجلا وآني
لقادر على الأداء إن أتى
…
تشريف مولانا على فصل الشتا
أو أيّ ما وقت وهذا خطي
…
عاشا هذا بهذا الضبط
وصاحب النظم عبيد الله
…
المالكي حقا بلا اشتباه
قدما له في ساع وكتبه
…
رابع عشر الصوم بين الطلبة
عام ثلاث بعد خمسين تلت «1»
…
ثمانيا من المئين قد خلت
من هجرة الرسول خير البشر
…
العاقب المزمل المدثر
صلى عليه الملك المهيمن
…
الواحد البر السلام المؤمن
فآله جميعهم والصحبة
…
ما أشرقت سماؤنا بالشهب
وكان له مرتب على الجوالي والقاضي الحنفي ابن الشحنة ناظر عليها فلما أقبضه
مرتبه كتب أشهادا بالقب نظما. وهي من خطه نقلت:
حمدت إله العرش ذا المن والعلا
…
مديحا صلاتي للنبي على الولا
وبعد فمولانا الإمام وكهفا
…
وسيدنا العبد الفقير لذي العلا
وشيخ الأنام العالم البحر حبرهم
…
وعلامة الوقت المفيد لمن تلا
وقاضي القضاة الجهبذ الحافظ الذي
…
غدا رحلة الحفاظ من ذوي الملا
محب ذرى الإيمان والدين والنهي
…
أبو الفضل والإحسان والجود مسجلا
ونجم العلا ابن الشحنة الحاكم الذي
…
به حلب الشهباء خضراء تجتلى
هو الحنفي الكامل الحلم والحجى
…
أمر القضايا مجملا ومفصّلا
هو الناظر الشرعي في الحكم والقضا
…
ومال الجوالي والحصون ذوي العلا
(39 ظ) م
وما مع هذي عظم الله شأنه
…
وأعلى له في جنة الخلد منزلا
مددت يدي للقبض من بحر واكف
…
فألفيت ذاك القبض منه مسهلا
وحازت يدي من فيض كفيه فضة
…
دراهم سكت بالأصابع كمّلا
وعدتها تسع مئات تحصلت
…
لست شهور ذات فضل تأثلا
لعام ثلاث بعد خمسين قد تلت
…
ثماني مئات كاملات قد انجلا
وذي الجملة المقبوضة التي أعنيت
…
فاخر مالي الجوالي تحصلا
من السنة المذكورة الآن فاعلمن
…
وذا الخط أضحى شاهدا حين سجلا
على بما قد قلت والمالكي ذا
…
الفقير عبيد الله للنظم كملا
رجع: ولما أفرج عن القاضي الحنفي ابن الشحنة سافر الطنبغا الدوادار عن حلب إلى القاهرة فمات بالطريق قبل أن يصل إلى القاهرة. وكان قد قال له القاضي ابن الشحنة: إن كنت قمت عليّ باطلا لا أوصلك الله إلى القاهرة فقال آمين.
فكان هو الداعي على نفسه.
وفي يوم السبت بعد العصر ثالث جمادى الأولى توفي الشيخ الإمام الفقيه شمس الدين أبو عبد الله محمد «1» بن عمر الغزولي، قرأ على الشيخ عبيد كثيرا وخلفه بعده في التدريس بالجامع الأموي احتسابا. وكان يتجر بسوق الغزل ويدرس أول النهار وآخره، واجتمعت الطلبة عليه، واعتكفوا لديه، وكان يعرف (منهاج النووي) وهو قليل الكلام منقطع عن الناس ومولده قبل محنة تيمور ولا يتأنق في المأكل والملبس وهو من عباد الله الصالحين وله ديوان عريض وكان ينظر على ما يقربه من المنهاج، ويحفظه وينقله ثم بعد ساعة ينساه. كأن لم يكن ودرس (منهاج البيضاوي) في آخر عمره.
وفي يوم السبت رابع عشري جمادى الأول ورد مثال شريف أشرفي باستقرار السيد تاج الدين عبد الوهاب الحسيني الدمشقي وعزل ابن الزهري عن قضاء حلب وفي يوم الجمعة ثاني عشر شعبان نزل السيد المشار إليه بمقام سيدي عبد الله الأنصاري، ويوم السبت دخل دار العدل. ولبس تشريفه. ونزل عند التاج الكركي فذهبت مسلما عليه، فرأيت عليه آثار الانقباض عن الناس، ثم ندم على سكناه عند ابن الكركي لأنه رآه جار سوء فانتقل إلى البيت الذي مقابل الشرفيه، ونزل به وجاء إلى الشرفيه. ودام يصلي بها ويجلس غالب الأوقات.
وهو كما شاهدت بخط العلامة الشيخ تقي الدين ابن قاضي شهبة: أبو محمد بن العدل زين الدين عمر بن العدل الكبير بدر الدين الحسين بن محيي الدين أحمد بن بدر الدين الحسن بن حمزة بن محمد بن ناصر بن علي بن الحسين بن إسماعيل بن محمد بن إسماعيل بن جعفر الصادق بن محمد بن الباقر «2» بن علي زين العابدين بن الحسين بن
علي رضي الله عنه.
وهذا الرجل كان فقيها أصوليا/ (40 و) م نحويا فريضا، وقرأ على الشيخ العلامة علاء الدين البخاري وكان دينا عفيفا نزها شكلا حسنا. عليه مهابة الأشراف. وفي أخلاقه شراسة، سنيا. مواظبا للجماعة.
وكان يدرس بجامع حلب ويواظب على ذلك، ودرس بالمدارس ولم يتعرض لأموال قضاه البر، ولا للمدارس، بل فرقها على الفقهاء. والذي تحصل من السلطانية أصرفه على عمارتها، وتمر المتحصل للمدينة الشريفة من قرية (أبزموا) و (أرحاب) وأرسله إلى المدينة المشرفة، وثمر مال الأيتام ونماه.
وله مؤلف في الفرائض سماه: (الغيث الفائض) قرّض «1» عليه تقي الدين ابن حجة، والشيخ شمس الدين بن ناصر الدين وغيرهما. ولما صرف عن قضاء حلب ذهب إلى الشام وصار يذهب إلى القدس ويجيء ثم إلى الحجاز. وفي آخر أمره وقف كتبه على مدرسة أبي عمر الصالحية من الشام ومات بمكة وله ملك كثير بالشام.
وفي يوم الأربعاء بكرة النهار خامس عشر رمضان توفي شيخ الطائفة شهاب الدين أبو جعفر محمد بن الضياء بن العجمي الشافعي ودفن عند أسلافه بالجبيل وكان قد نشأ يتيما في حجر عمه شمس الدين. وحفظ القرآن والمنهاج، واشتغل على زين الدين الكركي وغيره. وقرأ على والدي كثيرا وكان يتأدب بآدابه وحج معه ثلاث عشرة. ولازمه إلى أن مات والدي ودبل كثيرا. وبعد تيمور وليّ قضاء حلب وكان شكلا حسنا لا يتكلم إلا بخير ويأكل من أوقاف أسلافه وكتب شرح والدي على البخاري. وكتب كثيرا من الفقه وغيره. وآل إليه تدريس الزجاجية
والشرفية والظاهرية ومشيخة الشمسية ونظر الجميع. وكانت أوقاف بني العجمي منتظمة في أيامه. وعمر شمالية الشرفية وغيرها. وكان يلبس الثياب الفاخرة وأثرى.
ولما توفي خلّف مالا جزيلا وكتبا كثيرة، وملبوسا سنيا فاخرا جما.
وفي يوم الاثنين ثالث القعدة وليّ القاضي محب الدين أبو الفضل بن شحنة كتابة الإنشاء بالقاهرة، ومدحه شعراؤها كالشيخ شهاب الدين بن أبي السعود. والشيخ شمس الدين النواجي والشهاب الحجازي، وغيرهم.
وفي ليلة الخميس بعد المغرب المسفر صباحها عن ثالث عشر ذي القعدة توفي الرئيس القاضي ضياء الدين أبو المعالي محمد بن القاضي زين الدين أبي حفص عمر ابن النصيبي أالشافعي، وكان قد أصابه الفالج قبل ذلك وداواه معين الدين العجمي.
وكان رئيسا صدرا محتشما كريم النفس والأخلاق شكلا حسنا قرأ القرآن العزيز وقام به قبل الفتنة التيمورية وحفظ (المنهاج) و (ألفية ابن مالك) وعرضها على ابن خطيب المنصورية. وكتب في ديوان الإنشاء، وأحبه الناس لحسن كلامه وكثرة مروءته- قرأت عليه قطعة من الاستيعاب بسند والدي عن السيد عز الدين نقيب الأشراف- واختصر تاريخ ابن خلكان. وله معرفة بأنساب أقاربه، واعتنى بذلك في كراريس. وكان حسن المحاضرة والمفاكهه، لا تمل مجالسته.
وحج رفيقا لوالدي سنة ثلاث عشرة. وكانت الوقفة الجمعة/ (40 ظ) م.
وكان القاضي ضياء الدين كبير الرياسة غزير السياسة لا يكاد أحد يسبقه إلى عزاء ولا هناء. ولا ينزل من مضارب الرئاسة إلا في خباء مروة وفناء يود من يعرفه ومن لا يعرفه، ويسعف قاصده ولا يعنفه.
ولم يزل على حالته إلى أن مضى إلى حال سبيله وأنجب ولديه العلّامتين زين الدين وشرف الدين وكان هو وهما أعيان عصرهم وشامة حلب بل شاههم:
إذا ركبوا زانوا المراكب هيبة
…
وإن جلسوا كانوا صدور المجالس
وهم من بيت سعادة وحشمة وسيادة، وفتوى وفتوة، ومكارم للناس مرجوة:
من تلق منهم تقل لاقيت سيدهم
…
مثل النجوم التي يسري بها الساري
وكتب القاضي صدر الدين إلى شيخنا شيخ الإسلام ابن حجر من نظمه:
العبد طولب عن الذي
…
لم يخف عنكم من سؤال السائل
فانعم به لازلت تتحف دائما
…
بفوائد وعوائد وفواضل
ولما بلغت وفاة المحبي بن الشحنة حزن حزنا عظيما وكتب إلى صهره القاضي زين الدين من قصيدة يرثيه بها:
لقد ضحكت رياض الأرض لما
…
بكت من فوقها سحب السماء
وقد فقد الضياء فصار ليلا
…
نهار العز من فقد الضياء «1»
وقلت مضمنا:
ابن النصيبي الضياء له الورى
…
عدموا وحزنهم عليه طويل
هيهات لا يأتي الزمان بمثله
…
إن الزمان بمثله لبخيل
وفي ليلة السبت المسفر صباحها عن حادي عشر الحجة هلك علي باك المؤيدي أمير كبير بحلب. وكان شريرا، شرابا للخمر، به بغض «2» للفقهاء. مستهزئ بالمذاهب الأربعة. ودفن خارج زاوية الشيخ خضر.