الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الكلام على أحاديث لبس الخفين للمحرم
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
وبعد،
فهذه قطعة من مصنف مفيد للحافظ ابن عبد الهادي في الكلام على أحاديث لبس الخفين للمحرم، وهو بحث حديثي يظهر براعة المؤلف رحمه الله في علل الحديث ومعرفة الرجال.
وهذه القطعة المتبقية تحوي كثيرًا من الفوائد، في الكلام على العلل ومعرفة الرجال، بل وفي الأصول أيضًا: كالكلام على مسألة تأخير البيان عن وقت الحاجة، والكلام على مسألة حمل المطلق على المقيد.
وقد وضعت هذه القطعة هنا إلى أن ييسر الله بنسخة تامة من هذا الجزء - بفضله وكرمه.
صحة نسبة هذا الجزء لابن عبد الهادي:
هذا الجزء ضمن مجموع يحوي عددًا من رسائل الحافظ ابن عبد الهادي.
وقد نسبه للمؤلف جماعة من أهل العلم، منهم: ابن رجب في "ذيل طبقات الحنابلة"(2/ 438) وابن طولون في "القلائد الجوهرية"(2/ 434)، والعليمي في "المنهج الأحمد"(5/ 80) وفي "الدر المنضد"(2/ 509) وابن ضويان في "رفع النقاب"(316)(1).
(1)"معجم مصنفات الحنابلة"(4/ 55).
وصف النسخة الخطية:
هي نسخة مبتورة الأول، محفوظة في المكتبة الأزهرية، في مجموع رقم (235)، في أربع ورقات، من الورقة الأولى إلى الورقة الرابعة، في كل صفحة عشرون سطرًا، بخط حسن، لم يذكر اسم الناسخ ولا تاريخ النسخ، وهي مقابلة على الأصل المنقولة منه يظهر ذلك من وجود الدوائر المنقوطة في آخر كل فقرة، واللحق المصحح على حاشية النسخة.
والحمد لله رب العالمين.
أول النسخة الخطية
آخر النسخة الخطية
ابن حنبل وهو صدوق مشهور، روى له مسلم في "صحيحه"، ووثقه يحيى بن معين وغيره (1).
وجعفر بن برقان صدوق مشهور، روى له مسلم أيضًا في "صحيحه"(2) ووثقه يحيى بن معين (3) وغيره (4)، وأثنى عليه سفيان الثوري (5) وسفيان بن عيينة (6) وغيرهم.
فإن قيل: جعفر وإن كان من رجال مسلم فقد ضعفه غير واحد من الأئمة؟
قلنا: جعفر إنما تكلم فيه من تكلم في روايته عن الزهري خاصة لسبب مشهور عند الأئمة، وأما روايته عن غير الزهري فهي قوية مستقيمة، والتحقيق أن يقال: روايته عن الزهري فيها ضعف وروايته (والتحقيق أن يقال: روايته)(7) عن ميمون بن مهران ونحوه ممن يعرف حديثه
(1) لم أستطع تحديد الكلام على من؛ لأن أول النسخة مبتور، كما ترى، وهذه الرواية التي يتكلم المؤلف رحمه الله عليها عزاها ابن قدامة في "المغني"(3/ 275) إلى "أمالي ابن بشران" ولم أقف عليها في المجلدين المطبوعين من هذه "الأمالي" ولم أقف على من نقل إسناد هذه الرواية" والله أعلم ..
(2)
له في "صحيح مسلم" عدة أحاديث (135، 497، 651، 2564، 2638، 2675). وقال المزي في "تهذيب الكمال"(5/ 18): روى له البخاري في "الأدب" والباقون.
(3)
"تاريخ الدارمي"(رقم 210).
(4)
منهم: أبو نعيم الملائي والعجلي ومروان بن محمد وابن حبان؛ كما في ترجمته من "تهذيب الكمال"(5/ 15 - 16) و"الثقات" لابن حبان (6/ 136).
(5)
قال: ما رأيت أفضل من جعفر بن برقان. "تهذيب الكمال"(5/ 16).
(6)
قال: حدثنا جعفر بن برقان، وكان ثقة بقية من بقايا السلف. "تهذيب الكمال"(5/ 15 - 16).
(7)
كذا في "الأصل" ولعلها زائدة، والله أعلم.
صحيحة (1)، وروايته عن نافع ونحوه درجة متوسطة بين الدرجتين المذكورتين.
فإن قيل: جعفر بن برقان وإن كان صدوقًا وحديثه عن نافع في درجة الحسن إلا أنه واهم في الحديث في موضعين (2): أحدهما هذا الموضع، وهو جعله الزيادة من قول نافع، وقد روى الحديث عن نافع مالك وأيوب وجماعة من الأثبات المتقنين فجعلوا الزيادة مرفوعة، ذكر ذلك الدارقطني في "كتاب العلل" وهؤلاء لو خالف واحد منهم جعفر بن برقان الحاكم له، فكيف إذا اتفقوا كلهم على خلافه؟
فالجواب: أن يقال: الدارقطني رحمه الله وأنار ضريحه- قد حكم ورجح في قريب من هذا الموضع رواية الفرد المميز للزيادة والمبين لأنها غير مرفوعة، بل هي من قول بعض الرواة على رواية العدد الكثير الذين وصلوا الزيادة وأدرجوها وجعلوها من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما رجح رواية المنفرد لأن معه زيادة علم على العدد، فقد يقال: هذا لازم له في هذا الموضع؛ لأن مع المميز للزيادة والمبين لأنها من قول نافع زيادة علم.
فإن قيل: أين فعل الدارقطني هذا؟
قلنا: في مواضع كثيرة، نذكر منها هنا موضعًا واحدًا لئلا يطول الكلام، وذلك في حديث الاستسعاء، فروى البخاري (3)
(1) وهو قول الإمام أحمد ويحيى بن معين وابن نمير والنسائي وابن عدي والدارقطني وابن خلفون، كما في "تهذيب الكمال"(5/ 13 - 17) و"إكمال تهذيب الكمال"(3/ 202).
(2)
نقله البدر العيني في "عمدة القاري"(2/ 199) عن الحافظ ابن عبد البر.
(3)
"صحيح البخاري"(5/ 185، 186 رقم 2526، 2527).
ومسلم (1) في "صحيحيهما" من حديث قتادة، عن النضر بن أنس، عن بشير ابن نهيك، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"من أعتق شقصًا له في عبد فخلاصه في ماله إن كان له مال، فإن لم يكن له مال استسعى العبد غير مشقوق عليه" وقد روى هذا الحديث عن قتادة سبعة (2) أكثرهم ثقات أثبات فجعلوا (3) الاستسعاء من قول النبي صلى الله عليه وسلم، وهم: سعيد بن أبي عروبة، وجرير بن حازم، وأبان بن يزيد العطار، وموسى بن خلف وحجاج (4) وحجاج بن أرطاة، ويحيى بن صبيح -جد سليمان بن حرب لأمه- ورواه همام بن يحيى -في روايةٍ عنه- عن قتادة فجعل الاستسعاء من قول قتادة، ورواه بعضهم عن همام فلم يذكر الاستسعاء بالكلية، فرجح الحافظ أبو الحسن الدارقطني (5) رواية همام عن قتادة -مع الاختلاف عنه- على رواية هؤلاء السبعة؛ لأن معه زيادة علم، مع أن بعضهم أوثق منه وأثبت، ومع أن
(1)"صحيح مسلم"(2/ 1140 رقم 1503).
(2)
في "الأصل": (شعبة) وهو تصحيف، وسيأتي على الصواب.
(3)
تصحفت في "الأصل" ولعلها كما أثبته.
(4)
يعني: ابن حجاج، كما سيأتي نقلًا عن البخاري رحمه الله.
(5)
قال الدارقطني في "العلل"(10/ 317)، وأما الخلاف في متنه فإن سعيد بن أبي عروبة وحجاج بن حجاج وأبان العطار وجرير بن حازم وحجاج بن أرطاة اتفقوا في متنه، وجعلوا الاستسعاء مدرجًا في حديث النبي صلى الله عليه وسلم، وأما شعبة وهشام فلم يذكرا فيه الاستسعاء بوجه.
وأما همام فتابع شعبة وهشامًا على متنه، وجعل الاستسعاء من قول قتادة، وفصل بين كلام النبي صلى الله عليه وسلم، ويشبه أن يكون همام قد حفظه، قال ذلك أبو عبد الرحمن المقرئ -وهو من الثقات- عن همام.
ورواه محمد بن كثير وعمرو بن عاصم عن همام فتابعه -كذا- شعبة على إسناده ومتنه، ولم يذكر فيه الاستسعاء بوجه. اهـ.
إمام الأئمة وإمام الجرح والتعديل والمرجوع إليه في ذلك وهو يحيى بن سعيد القطان كان سيئ الرأي في همام (1)، فإذا كان الدارقطني قد حكم في مثل هذا الموضع لهمام على هؤلاء للتفصيل الذي فصله؛ لزمه أن يحكم لجعفر ابن برقان للزيادة التي ذكرها.
فإن قيل: الفرق بين الموضعين ظاهر، فإن الكلام في الاستسعاء وتضعيفه وعدم العمل به ليس مستندم إلى رواية همام وجعله ذلك من قول قتادة؛ بل إنما لم يقبل الاستسعاء لوجوه:
أحدها: أن أكبر من رواه عن قتادة وأوثق من رواه عنه سعيد بن أبي عروبة (2) وقد اختلط في آخر عمره، وأنكر الناس حفظه، وقد اختلف عليه أصحابه في ذكر الاستسعاء، فبعضهم ذكره، وبعضهم لم يذكره؛ فرواه عنه
(1) كما في "العلل ومعرفة الرجال" للإمام أحمد (3/ 216 رقم 4936) و"الجرح والتعديل"(9/ 108) و"الكامل" لابن عدي (8/ 442 - 443).
وذكر الإمام أحمد سبب ذلك - فيما رواه عنه ابن عدي في "الكامل"(8/ 443) فقال: شهد يحيى بن سعيد في حداثته بشهادة، وكان همام على العدالة، يعني أن همامًا لم يعدله، فتكلم فيه يحيى.
وقد كف يحيى بن سعيد عنه بعد، فقد قال عفان: كان يحيى بن سعيد يعترض على همام في كثير من حديثه، فلما قدم معاذ بن هشام نظرنا في كتبه؛ فوجدفاه يوافق همامًا في كثير مما كان يحيى ينكره عليه، فكف يحيى بعد عنه. هذا في "الجرح والتعديل"(8/ 109) ونحوه في "العلل ومعرفة الرجال" للإمام أحمد (1/ 226 رقم 278، 1/ 525 رقم 1231).
(2)
جمع الحافظ ابن رجب الحنبلي في كتابه القيم "شرح علل الترمذي"(2/ 743 - 747) الرواة عن سعيد الذين سمعوا منه قبل الاختلاط، والرواة الذين سمعوا منه بعد الاختلاط، في مبحث نفيس.
روح بن عبادة وغيره من غير ذكره.
الثاني: إنا لم نقبل الاستسعاء لأن شعبة بن الحجاج وهشام بن عبد الله الدستوائي روياه عن قتادة فلم يذكراه بالكلية، وهما أثبت أصحاب قتادة.
الثالث: إنا إنما لم نقبله لمخالفته حديث ابن عمر المخرج في "الصحيحين" من رواية مالك بن أنس (1) وغيره (2) عن نافع عنه: "من أعتق شركًا له في عبد"، وفيه:"وإلا فقد عتق منه ما عتق".
الرابع: إنما منعنا من قبوله تضعيف الأئمة الكبار المرجوع إلى قولهم له، فممن ضعفه الإمام أبو عبد الله أحمد بن حنبل في رواية المروذي (3) وغيره (4)، وضعفه أيضًا سليمان بن حرب (5) -شيخ الإمام أحمد والبخاري- وتكلم فيه
(1)"صحيح البخاري"(5/ 179 رقم 2522) و"صحيح مسلم"(3/ 1286 رقم 1501/ 47).
(2)
رواه البخاري (5/ 180 رقم 2523) ومسلم (3/ 1286 رقم 1501/ 48) من طريق عبيد الله بن عمر عن نافع به.
ورواه مسلم (3/ 1286 رقم 1501/ 49) من طريق جرير بن حازم عن نافع به.
(3)
قال أبو بكر المروذي: ضعف أبو عبد الله حديث سعيد. نقله ابن قدامة في "المغني"(12/ 240) وابن القيم في "تهذيب السنن"(7/ 78).
(4)
قال في رواية الأثرم: ليس في الاستسعاء حديث يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم ص، وحديث أبي هريرة يرويه ابن أبي عروبة، وأما شعبة وهشام الدستوائي فلم يذكراه، وحدث به معمر ولم يذكر فيه السعاية. نقله ابن قدامة في "المغني"(12/ 240) وابن القيم في "تهذيب السنن"(7/ 78).
(5)
قال الأثرم: ذكره سليمان بن حرب فطعن فيه وضعفه. نقله ابن قدامة في "المغني"(12/ 240) وابن القيم في "تهذيب السنن"(7/ 78)
الإمام أبو عبد الله الشافعي (1) وأبو بكر النيسابوري (2) والدارقطني (3) وأبو عمر ابن عبد البر (4) وأبو سليمان الخطابي (5) وأبو بكر البيهقي (6) وغيرهم (7)، وقال ابن المنذر (8): لا يصح حديث الاستسعاء، وذكر همام أن ذكر الاستسعاء من فتيا قتادة، وفرق بين الكلام الذي هو من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم وقول قتادة، قال بعد ذلك: فكان قتادة يقول: إن لم يكن له مال استسعى العبد.
فالجواب أن يقال: ما أوردناه على الدارقطني لازم له؛ فإنه إنما أعتمد على رواية همام وتمييزه الزيادة من الحديث، ولم يلتفت إلى مخالفة العدة
(1) نقله البيهقي في "السنن الكبرى"(10/ 281).
(2)
قال: ما أحسن ما رواه همام وضبطه، وفصل بين قول النبي صلى الله عليه وسلم وبين قول قتادة. اهـ. سمعه منه الدارقطني، ورواه في "سننه"(4/ 127).
(3)
في كتبه: "التتبع"(ص 205 - 208) و"العلل"(10/ 313 - 317) و"السنن"(4/ 125 - 127).
(4)
قال في "التمهيد"(13/ 282): فاتفق شعبة وهشام وهمام على ترك ذكر السعاية في هذا الحديث، والقول قولهم في قتادة عند جميع أهل الحديث إذا خالفهم في قتادة غيرهم، وأصحاب قتادة الذين هم حجة فيه، هؤلاء الثلاثة: شعبة، وهشام الدستوائي، وسعيد بن أبي عروبة، فإن اتفقوا لم يعرج على من خالفهم في قتادة، وإن اختلفوا نظر؛ فإن اتفق اثنان وانفرد واحد فالقول قول الاثنين، لا سيما إذا كان أحدهما شعبة، وليس أحد بالجملة في قتادة مثل شعبة؛ لأنه كان يوقفه على الإسناد والسماع، وهذا الذي ذكرت لك قول جماعة أهل العلم بالحديث، وقد اتفق شعبة وهشام في هذا الحديث على سقوط ذكر الاستسعاء فيه، وتابعهما همام.
(5)
"معالم السنن"(4/ 65).
(6)
"السنن الكبرى"(10/ 281 - 283).
(7)
منهم الحاكم في "معرفة علوم الحديث"(ص 84).
بل بالغ ابن العربي فقال: اتفقوا على أن ذكر الاستسعاء ليس من قول النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما هو من قول قتادة.
(8)
نقله ابن قدامة في "المغني"(12/ 240) وابن القيم في "تهذيب السنن"(7/ 78).
الكثير له.
ثم نقول: حديث الاستسعاء حديث صحيح ثابت، وهؤلاء الأئمة المضعفون له قد خالفهم غيرهم، ومن جملة المخالفين لهم شيخًا الصنعة البخاري ومسلم، وقد بلغ البخاري رحمه الله بعض ما قيل في تعليل الحديث فأشار إلى الجواب عنه في "صحيحه" إشارة مختصرة وهي في الحقيقة كافية للمنصف قال (1) رحمه الله:
باب إذا أعتق نصيبًا في عبد وليس له مال استسعى العبد غير مشقوق عليه على نحو الكتابة.
حدثني أحمد بن أبي رجاء، ثنا يحيى بن آدم، ثنا جرير بن حازم قال: سمعت قتادة، ح،
وحدثنا مسدد، ثنا يزيد بن زريع، ثنا سعيد، عن قتادة، عن النضر بن أنس، عن بشير بن نهيك، عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"من أعتق نصيبًا أو شقيصًا في مملوك فخلاصه عليه في ماله إن كان له مال، وإلا قوم عليه فاستسعى به غير مشقوق عليه".
قال البخاري: وتابعه حجاج بن حجاج وأبان بن موسى بن خلف عن قتادة، اختصره شعبة.
انتهى ما ذكره البخاري، وهو متضمن للجواب عما قيل في الحديث، بل هو مشتمل على فوائد كثيرة:
منها: أنه ساق الحديث من رواية يزيد بن زريع عن سعيد بن أبي عروبة
(1)"صحيح البخاري"(5/ 185 - 186 رقم 2526، 2527).
دون غيره من أصحاب سعيد الذين رووه عنه، يزيد بن زريع أثبت أصحاب سعيد وأخصهم به، وممن ضبط حديثه وعرفه، وروى عنه قبل الاختلاط، وكون بعض أصحاب سعيد لم يرو عنه الاستسعاء لا يقدح في رواية من رواه عنه، لا سيما والذي لم يذكره دون الذي ذكره، وليس من لم يحفظ حجة على من حفظ.
ومنها: أنه ذكره من رواية جرير بن حازم أيضًا عن قتادة مصرحًا بسماع جرير من قتادة؛ لأن رواية جرير عن قتادة قد تكلم فيها بعض الأئمة (1)، لكنها في هذا الموضع قوية لتصريحه بالسماع، ولأنه غير منفرد.
ومنها: ذكر من تابع سعيدًا وجريرًا عن قتادة، وهم حجاج بن حجاج وأبان العطار وموسى بن خلف، وفي هذا تقوية لرواية جرير وسعيد.
ومنها: قوله: "اختصره شعبة" وهو جواب عن سؤال مقدر، وكان قائلًا أورد عليه فقال: شعبة لم يذكر الاستسعاء في روايته عن قتادة، وهو من الأثبات؟ فقال هو: هذا لا يقدح في رواية غيره؛ فإن شعبة اختصره، وغيره
(1) قال عبد الله بن أحمد بن حنبل في "العلل ومعرفة الرجال"(3/ 10 رقم 2912): سألت يحيى بن معين عن جرير بن حارزم، فقال: ليس به بأس، فقلت: إنه يحدث عن قتادة عن أنس أحاديث مناكير؟ فقال: ليس بشيءٍ، هو عن قتادة ضعيف. ورواه ابن عدي في "الكامل"(2/ 345).
وقال الإمام أحمد: كان يحدثهم بالتوهم عن قتادة يسندها بواطيل. وقال أيضًا: كان حديثه عن قتادة غير حديثه الناس، يسند أشياء، ويوقف أشياء. نقله ابن رجب في "شرح علل الترمذي"(2/ 784).
وقال ابن عدي في "الكامل"(2/ 355): هو مستقيم الحديث صالح فيه إلا روايته عن قتادة فإنه يروي أشياء عن قتادة لا يرويها غيره، وجرير عندي من ثقات المسلمين، حدث عنه الأئمة من الناس.
لم يختصره، بل حفظه وضبطه، فالحكم للحافظ الضابط، لا لمن اختصر ولم يحفظ.
وأما من ضعف حديث الاستسعاء لأنه مخالف لقوله في حديث ابن عمر: "وإلا فقد عتق منه ما عتق" فجوابه من وجهين:
أحدهما: أنه قد قيل: إنه مدرج، وأن قوله:"وإلا فقد عتق منه ما عتق" من قول نافع، والحديث هو من رواية نافع عن ابن عمر، وقد رواه عن نافع جماعة منهم أيوب ومالك وعبيد الله بن عمر ويحيى بن سعيد، وقال أيوب في روايته: إنما قال نافع فقد عتق منه ما عتق، وربما لم يقله وكبر ظني أنه شيء كان يقوله نافع برأيه، فأيوب معه زيادة علم على غيره ممن رواه عن نافع.
الوجه الثاني: أن هذه الزيادة وإن كانت ثابتة لا تنافي حديث الاستسعاء، فإن قوله:"وإلا فقد عتق منه ما عتق" يدل على تنجيز العتق في البعض، والبعض الآخر مسكوت عنه، وقد جاء بيان حكمه في حديث الاستسعاء، فحديث أبي هريرة تضمن ما في منطوق حديث ابن عمر وزيادة بيان ما سكت عنه، فلا تنافي بين الحديثين، والله أعلم.
فالصحيح من حيث النظر أن حديث الاستسعاء صحيح ثابت مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك الصحيح أن قوله:"وإلا فقد عتق منه ما عتق" مرفوع أيضًا، ولا تنافي بينهما كما ذكرنا (1).
وكذلك الصحيح أن حديث ابن عباس (2) مغاير لحديث ابن عمر، وأن
(1) وانظر "تهذيب سنن أبي داود" لابن القيم (7/ 86 - 87) و"فتح الباري" لابن حجر (5/ 186 - 190).
(2)
رواه البخاري (4/ 69 رقم 1841، 1843) ومسلم (2/ 835 رقم 1178).
قوله في حديث ابن عمر: "وليقطعهما أسفل من الكعبين"(1) مرفوع أيضًا، وقد رواه سالم وغيره عن ابن عمر، لكن يحتمل أن يحمل الأمر فيه على الاستحباب ويبعد جدًّا أو يتعذر حمل الإطلاق في حديث ابن عباس على التقييد في حديث ابن عمر لأمور كثيرة:
منها: أنه يلزم تأخير البيان عن وقت الحاجة.
ومنها: أن من شرط حمل المطلق على المقيد أن يكون اللفظ يطلق عليهما على سبيل الحقيقة، كعتق رقبة مع عتق رقبة مؤمنة؛ فإن الرقبة حقيقة في المؤمن والكافر، وكقوله:{وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} (2) مع قوله: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} (3) فإن الشاهد حقيقة في العدل وغيره، وهذا بخلاف قوله:"وليلبس الخفين" فإن المقطوع لا يُسمى خفًّا حقيقة، وقوله:"امسحوا على الخفين"(4) لا يدخل فيه المقطوع؛ فإنه لا يجوز المسح عليه بالاتفاق.
ولا يقال: يجب القطع لأنه قد جاء في حديث ابن عباس مرفوعًا (5) وموقوفًا.
لأن ذلك غلط؛ قد نبهنا عليه في غير هذا الموضع.
(1) رواه البخاري (1/ 278 رقم 134) ومسلم (2/ 834 رقم 1177).
(2)
سورة الطلاق، الآية:2.
(3)
سورة البقرة، الآية:282.
(4)
رواه الإمام أحمد في "مسنده"(6/ 12، 13، 14) عن بلال بن رباح رضي الله عنه وأصل الحديث في "صحيح مسلم"(1/ 231 رقم 275) عن بلال رضي الله عنه "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مسح على الخفين والخمار".
(5)
رواه النسائي في "سننه"(5/ 135).
ولا يقال: يلزمكم أيضًا تأخير البيان عن وقت الحاجة؛ فإن من شهد معه الإحرام بذي الحليفة كانوا أكثر ممن أمرهم بالقطع في المدينة، ولم يأمرهم بوجوب القطع في تلك الحال مع وجوبه عليهم وحاجتهم إلى بيانه لهم.
{لأنا نقول} (1): من سمع منه القطع بالمدينة وجب عليه العمل به، ومن لم يسمعه لم يتعلق به حكم القطع أصلًا؛ لأن من شرط الوجوب على المكلف علمه بالأمر من المكلف به، فمن لم يبلغه الأمر بالقطع كيف يقال يجب عليه العمل به، بل النبي صلى الله عليه وسلم أمرنا بالقطع جوابًا لسائل سأله بالمدينة، فلما كان بعرفات خطب الناس وأباح لهم لبس الخفين ولم يأمرهم بالقطع، فدل على أنه رخص لهم في ذلك مطلقًا من غير تقييد، إذ لو كان القطع واجبًا لتعين بيانه لمن لم يسمع الخبر الأول بالمدينة، بل إنما سمع هذا الخبر الثاني المقتضي للجواز من غير تقييد، والجمع الذي حضر معه بعرفات وسمع الرخصة أضعاف أضعاف من سمع الخبر الأول المقتضي للقطع، فلو كان القطع والحالة هذه ثابتًا لتعين بيانه، ولما جاز إهماله، والله أعلم (2).
آخره والحمد لله وحده (3).
(1) في "الأصل": (لأنقول).
(2)
قلت: قد حقق هذا المسألة باستفاضة شيخ الإسلام ابن تيمية في "مجموع الفتاوى"(21/ 191 - 201) والعلامة ابن القيم في "تهذيب السنن"(3/ 501 - 504) ورجحا ما رجحه ابن عبد الهادي هنا.
(3)
ختم المؤلف هذه المسألة في "تنقيح التحقيق"(2/ 432 - 433) بقوله:
قال صاحب "المغني": احتج أحمد بحديث ابن عباس وجابر "من لم يجد نعلين فليلبس خفين" مع قول علي رضي الله عنه: "قطع الخفين فساد، يلبسهما كما هما" مع موافقة القياس؛ فإنه ملبوس أبيح لعدم غيره فأشبه السراويل، وقطعه لا يخرجه عن حالة الحظر؛ فإن =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= لبس المقطوع محرم مع القدرة على النعلين كلبس الصحيح، وفيه إتلاف ماليته، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن إضاعة المال.
فأما حديث ابن عمر فقد فقيل: إن قوله: "وليقطعهما" من كلام نافع، كذا رويناه في "أمالي أبي القاسم بن بشران" بإسناد صحيح أن نافعًا قال بعد روايته للحديث:"وليقطع الخفين أسفل من الكعبين". وروى ابن أبي موسى عن صفية بنت أبي عبيد عن عائشة "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رخص للمحرم أن يلبس الخفين ولا يقطعهما" وكان ابن عمر يفتي بقطعهما. قالت صفية: فلما أخبرته بهذا رجع وروى أبو حفص في "شرحه" بإسناده عن عبد الرحمن بن عوف "أنه طاف وعليه خفان، فقال له عمر: والخفان مع القباء؟ قال: قد لبستهما مع من هو خير منك -يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم ". ويحتمل أن يكون الأمر بقطعهما منسوخًا، فإن عمرو بن دينار روى الحديثين جميعًا وقال: انظروا أيهما كان قبل.
قال الدارقطني: قال أبو بكر النيسابوري: حديث ابن عمر قبل؛ لأنه قد جاء في بعض رواياته قال: "نادى رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم -وهو بالمسجد- يعني بالمدينة" وكأنه كان قبل الإحرام. وفي حديث ابن عباس يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب بعرفات يقول: "من لم يجد نعلين فليلبس خفين" فيدل على تأخيره على حديث ابن عمر فيكون ناسخًا له؛ لأنه لو كان القطع واجبًا لبينه للناس؛ إذ لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة إليه. المفهوم من إطلاق لبسهما لبسهما على حالهما من غير قطع، والأولى قطعهما عملًا بالحديث الصحيح، وخروجًا من الخلاف، وأخذًا بالاحتياط. انتهى كلامه، وهو في "المغني"(3/ 275) وصوبت منه عدة أخطاء كانت في كتاب "التنقيح" المطبوع.