المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الرسالة الأولى [الإنكار على من كفر المسلمين بغير ما أجمع عليه الفقهاء] - مجموعة الرسائل والمسائل النجدية (الجزء الثالث)

[عبد اللطيف آل الشيخ]

فهرس الكتاب

- ‌الرسالة الأولى [الإنكار على من كفر المسلمين بغير ما أجمع عليه الفقهاء]

- ‌الرسالة الثانية: [التحرج عن رمي من ظاهره الإسلام بالكفر]

- ‌الرسالة الثالثة: [السفر إلى بلاد الأعداء من المشركين والكفار]

- ‌الرسالة الرابعة [حكم من يسافر إلى بلاد المشركين]

- ‌الرسالة الخامسة: [الهجرة والإقامة بين أظهر المشركين]

- ‌الرسالة السادسة: [شدة ظهور غربة الإسلام وأهله]

- ‌الرسالة السابعة: [خطر الفتنة ومضارها والسبيل لنجاة المسلم منها]

- ‌الرسالة الثامنة: [التذكير بآيات الله والحث على لزوم الجماعة]

- ‌الرسالة التاسعة: [تفنيد رسالة ابن عجلان وما فيها من المفاسد]

- ‌الرسالة العاشرة: [حكم الاستنصار بالكفار على البغاة من أهل الإسلام]

- ‌الرسالة الحادية عشرة: [الفتنة والشقاق بين آل سعود]

- ‌الرسالة الثانية عشرة: [الوصية بلزوم الكتاب والسنة والعمل بما فيهما]

- ‌الرسالة الثالثة عشرة: [دعوة الشيخ ابن عبد الوهاب هي دعوة إلى التوحيد الخالص]

- ‌الرسالة الرابعة عشرة: [الهجرة من أركان الدين]

- ‌الرسالة الخامسة عشرة: [تفسير قوله تعالى ويعبدون من دون الله ما لايضرهم ولا ينفعهم]

- ‌الرسالة السادسة عشرة: [رؤية الله سبحانه وتعالى في الجنة]

- ‌الرسالة السابعة عشرة: [تفسير السبحات بالنور]

- ‌الرسالة الثامنة عشرة: [الإيمان بالاستواء وتأويله]

- ‌الرسالة التاسعة عشرة: [الطعن في كتاب الإحياء]

- ‌الرسالة العشرون: [السمت والتؤدة والاقتصاد في الأمور]

- ‌الرسالة الحادية والعشرون: [مؤاخذة أنصار الجاني وأقاربه بجريرة فعله]

- ‌الرسالة الثانية والعشرون: [إسكان النبي عليه السلام المهاجرات دور أزواجهن ميراثا]

- ‌الرسالة الثالثة والعشرون: [نصيحة الشيخ للأمير فيصل]

- ‌الرسالة الرابعة والعشرون: [رسالة الشيخ محمد بن عجلان ورد الشيخ حمد عليها]

- ‌الرسالة الخامسة والعشرون: [حال فتنة الأمراء بنجد وأحوالها ومآلها]

- ‌الرسالة السادسة والعشرون: [الفتن الحاصلة بسبب الإمارة]

- ‌الرسالة السابعة والعشرون: [مداهنة المشركين والسفر إلى بلادهم وعقاب فاعله]

- ‌الرسالة الثامنة والعشرون: [تكفير الترك للنجديين والتقاتل بينهم]

- ‌الرسالة التاسعة والعشرون: [شروط السفر إلى بلد الشرك وحكم الهجرة]

- ‌الرسالة الثلاثون: [الحاجة إلى العلم في حال الفتن]

- ‌الرسالة الحادية والثلاثون: [التمسك بالميراث النبوي والحث على مذاكرة العلم]

- ‌الرسالة الثانية والثلاثون: [الغلظة على الكفار ومتى أمر النبي صلى الله عليه وسلم بها]

- ‌الرسالة الثالثة والثلاثون: [مشروعية بر الكافر غير المحارب والقسط إليه]

- ‌الرسالة الرابعة والثلاثون: [الأمر بالاعتصام والنهي عن التفرق والاختلاف]

- ‌الرسالة الخامسة والثلاثون: [تفسير قوله عزوجل: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأنْسَ إِلَاّ لِيَعْبُدُونِ} ]

- ‌الرسالة السادسة والثلاثون: [بيع دَيْن السَّلَم قبل قبضه]

- ‌الرسالة السابعة والثلاثون: [الرهن وشروطه]

- ‌الرسالة الثامنة والثلاثون: [رفع اليدين إذا قام من التشهد الأول]

- ‌الرسالة التاسعة والثلاثون: [تكفير من أنكر الاستواء على العرش]

- ‌الرسالة الأربعون: [شبهات الجهمية ونفاة الصفات]

- ‌الرسالة الحادية والأربعون: [ما جرى من مفاسد العساكر التركية]

- ‌الرسالة الثانية والأربعون: [حكم نهب الأعراب]

- ‌الرسالة الثالثة والأربعون: [بيان مضار الفتنة ومفاسد العسكر]

- ‌الرسالة الرابعة والأربعون: [الظهار وتعليقه بالمشيئة]

- ‌الرسالة الخامسة والأربعون: [التحريض على لزوم الجماعة]

- ‌الرسالة السادسة والأربعون: [بيان خطبة الشيخ عبد اللطيف في الفتنة بين سعود وأخيه]

- ‌الرسالة السابعة والأربعون: [الحث على الجهاد]

- ‌الرسالة الثامنة والأربعون: [الحث على الدعوة إلى الله ونشر العلم بين الناس]

- ‌الرسالة التاسعة والأربعون: [غربة الدين وقلة الأنصار]

- ‌الرسالة الخمسون: [جواب عن سؤال في حديث جابر بن عبد الله والدين الذي كان عليه لليهودي]

- ‌الرسالة الحادية والخمسون: [استعمال الماضي موضع المضارع]

- ‌الرسالة الثانية والخمسون: إخلاص العبادة لله

- ‌الرسالة الثالثة والخمسون: [إلى علماء الحرمين الشريفين]

- ‌الرسالة الرابعة والخمسون: [نصر مذهب السلف على علم الكلام]

- ‌الرسالة الخامسة والخمسون: [نصر الدين والسنة من أفضل شعب الإيمان]

- ‌الرسالة السادسة والخمسون: [الحث على التقوى]

- ‌الرسالة السابعة والخمسون: تحريم تعدد الجمعة في القرية الواحدة

- ‌الرسالة الثامنة والخمسون: [حكم الجهمية والصلاة خلفهم]

- ‌الرسالة التاسعة والخمسون: [فشو الشرك والتعطيل]

- ‌الرسالة الستون: [ذبائح المشركين وطعامهم]

- ‌الرسالة الحادية والستون: [الفتن والامتحانات التي وقعت بين آل سعود وحكمة الله فيها]

- ‌الرسالة الثانية والستون: [الإيمان بالأسماء الحسنى بلا تكييف ولا تعطيل]

- ‌الرسالة الثالثة والستون: [دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب إلى تجديد الدين]

- ‌الرسالة الرابعة والستون: [تفسير قوله تعالى: {ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع} ]

- ‌الرسالة الخامسة والستون: [رد مطاعن على الشيخ محمد بن عبد الوهاب]

- ‌الرسالة السادسة والستون: [رد على الشيخ عثمان بن منصور]

- ‌الرسالة السابعة والستون: [رسالة إلى أهل الحوطة بالاعتصام بالتوحيد الخالص]

- ‌الرسالة الثامنة والستون: [النصيحة إلى كافة المسلمين]

- ‌الرسالة التاسعة والستون: [ما يجب الإيمان به من صفات الله]

- ‌الرسالة السبعون: [فضل الدعوة إلى الله]

- ‌الرسالة الحادية والسبعون: [حال الأمة الإسلامية قبل ظهور الشيخ محمد بن عبد الوهاب]

- ‌الرسالة الثانية والسبعون: [وصف رسالة من رسائل الشيخ ومدحه هو وآله]

- ‌الرسالة الثالثة والسبعون: [شبهات في تحريم القهوة]

- ‌الرسالة الرابعة والسبعون: [نفي كون ما جاء الشيخ محمد بن عبد الوهاب مذهبا خامس] ا

- ‌الرسالة الخامسة والسبعون: [تقديم لترجمة الشيخ محمد بن عبد الوهاب]

- ‌الرسالة السادسة والسبعون: [الرد على عبد اللطيف الصحاف1]

الفصل: ‌الرسالة الأولى [الإنكار على من كفر المسلمين بغير ما أجمع عليه الفقهاء]

مجموعة الرسائل والمسائل النجدية

‌الرسالة الأولى [الإنكار على من كفر المسلمين بغير ما أجمع عليه الفقهاء]

بسم الله الرحمن الرحيم

من عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن إلى عبد العزيز الخطيب. سلام على عباد الله الصالحين. وبعد: فقرأت رسالتك، وعرفت مضمونها، وما قصدته من الاعتذار، ولكن أسأت في قولك: إن ما أنكره شيخنا الوالد من تكفيركم أهل الحق واعتقاد إصابتكم أنه لم يصدر منكم، وتذكر أن إخوانك من أهل النقيع يجادلونك، وينازعونك في شأننا، وأنهم ينسبوننا إلى السكوت عن بعض الأمور، وأنت تعرف أنهم يذكرون هذا غالبا على سبيل القدح في العقيدة، والطعن في الطريقة، وإن لم يصرحوا بالتكفير فقد حاموا حول الحمى. فنعوذ بالله من الضلال بعد الهدى، ومن الغي عن سبيل الرشد والعمى، وقد رأيت سنة أربع وستين رجلين من أشباهكم المارقين بالأحساء قد اعتزلا الجمعة والجماعة، وكفّرا من في تلك البلاد من المسلمين، وحجتهم من جنس حجتكم، يقولون: أهل الأحساء يجالسون ابن فيروز، ويخالطونه هو وأمثاله ممن لم يكفر بالطاغوت، ولم يصرح بتكفير جده الذي رد دعوة الشيخ محمد ولم يقبلها وعاداها. قالا: ومن لم يصرح بكفره فهو كافر بالله لم يكفر بالطاغوت 1، ومن جالسه فهو مثله. ورتبوا على هاتين المقدمتين الكاذبتين الضالتين ما يترتب على الردة الصريحة من الأحكام، حتى

1 قوله: لم يكفر بالطاغوت إما تعليل لكفره بالله على طريقة الاستئناف البياني، فالكفر بالطاغوت شرط لصحة الإيمان بالله وإما خبر بعد خبر.

ص: 4

تركوا رد السلام، فرفع إلي أمرهم؛ فأحضرتهم وهددتهم، وأغلظت لهم القول. فزعموا أولا أنهم على عقيدة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وأن رسائله عندهم؛ فكشفت شبهتهم وأدحضت ضلالتهم، بما حضرني في المجلس، وأخبرتهم ببراءة الشيخ من هذا المعتقد والمذهب، فإنه لا يكفر إلا بما أجمع المسلون على تكفير فاعله من الشرك الأكبر، والكفر بآيات الله ورسله أو بشيء منها، بعد قيام الحجة وبلوغها المعتبر، كتكفير من عبد الصالحين، ودعاهم مع الله، وجعلهم أندادا فيما يستحقه على خلقه من العبادات والإلهية. وهذا مجمع عليه عند أهل العلم والإيمان، وكل طائفة من أهل المذاهب المقلدة يفردون هذه المسألة بباب عظيم يذكرون فيه حكمها، وما يوجب الردة ويقتضيها، وينصون على الشرك الأكبر. وقد أفرد ابن حجر 1 هذه المسألة بكتاب سماه (الإعلام بقواطع الإسلام) . وقد أظهر الفارسيان المذكوران التوبة والندم، وزعما أن الحق ظهر لهما، ثم لحقا بالساحل، وعادا إلى تلك المقالة؛ وبلغنا عنهم تكفير أئمة المسلمين، بمكاتبة الملوك المصريين، بل كفروا من خالط من كاتبهم من مشايخ المسلمين، ونعوذ بالله من الضلال بعد الهدى، والحور بعد الكور 2.وقد بلغنا عنكم نحو من هذا، وخضتم في مسائل من هذا الباب، كالكلام في الموالاة والمعاداة، والمصالحة والمكاتبات، وبذل الأموال والهدايا، ونحو ذلك من مقالة أهل الشرك بالله والضلالات، والحكم بغير ما أنزل الله عند البوادي ونحوهم من الجفاة، لا يتكلم فيها إلا

1 هو العلامة أحمد بن حجر الهيتمي الفقيه الشافعي.

2 الحور بعد الكور معناه النقصان بعد الزيادة كالعصيان بعد الطاعة والجهل بعد الحلم.

ص: 5

العلماء من ذوي الألباب. ومن رزق الفهم عن الله وأوتي الحكمة وفصل الخطاب. والكلام في هذا يتوقف على معرفة ما قدمناه، ومعرفة أصول عامة كلية لا يجوز الكلام في هذا الباب وفي غيره لمن جهلها وأعرض عنها وعن تفاصيلها؛ فإن الإجمال والإطلاق، وعدم العلم بمعرفة مواقع الخطاب وتفاصيله، يحصل به من اللبس والخطأ وعدم الفقه عن الله ما يفسد الأديان، ويشتت الأذهان، ويحول بينها وبين فهم القرآن. قال ابن القيم في كافيته - رحمه الله تعالى-:

فعليك بالتفصيل والتبيين فالإ

طلاق والإجمال دون بيان

قد أفسدا هذا الوجود وخبطا الأ

ذهان والآراء كل زمان

وأما التكفير بهذه الأمور التي ظننتموها من مكفرات أهل الإسلام، فهذا مذهب الحرورية المارقين الخارجين على علي بن أبي طالب أمير المؤمنين ومن معه من الصحابة، فإنهم أنكروا عليهم تحكيم أبي موسى الأشعري، وعمرو بن العاص في الفتنة التي وقعت بينه وبين معاوية وأهل الشام. فأنكرت الخوارج عليه ذلك، وهم في الأصل من أصحابه من قراء الكوفة والبصرة، وقالوا: حكمت الرجال في دين الله، وواليت معاوية وعمرا، وتوليتهما وقد قال –تعالى -:{إِنِ الْحُكْمُ إِلَاّ لِلَّهِ} 1 وضربت المدة بينكم وبينهم، وقد قطع الله هذه الموادعة والمهادنة منذ أنزلت براءة. وطال بينهما النّزاع والخصام، حتى أغاروا على سرح المسلمين، وقتلوا من ظفروا به من أصحاب علي؛ فحينئذ شمر –رضي الله عنه لقتالهم، وقتلهم دون النهروان بعد الإعذار والإنذار، والتمس المخدج المنعوت في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم وغيره من أهل السنن، فوجده علي فسرّ بذلك،

1 سورة الأنعام آية: 57.

ص: 6

وسجد لله شكرا على توفيقه، وقال: لو يعلم الذين يقاتلونهم ماذا لهم على لسان محمد صلى الله عليه وسلم لنكلوا عن العمل، هذا وهم أكثر الناس عبادة وصلاة وصوما.

[فصل في مراتب الإيمان والكفر والنفاق والمعاصي]

ولفظ الظلم والمعصية والفسوق والفجور والموالاة والمعاداة والركون والشرك ونحو ذلك من الألفاظ الواردة في الكتاب والسنة قد يراد بها مسماها المطلق وحقيقتها المطلقة، وقد يراد بها مطلق الحقيقة، والأول هو الأصل عند الأصوليين، والثاني لا يحمل الكلام عليه إلا بقرينة لفظية أو معنوية. وإنما يعرف ذلك بالبيان النبوي، وتفسير السنة، قال –تعالى-:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَاّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} 1 الآية، وقال:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَاّ رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} 2.وكذلك اسم المؤمن، والبر، والتقي يراد بها عند الإطلاق والثناء غير المعنى المراد في مقام الأمر والنهي، ألا ترى أن الزاني، والسارق، والشارب يدخلون في عموم قوله –تعالى -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} 3، وقوله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى} 4 الآية، وقوله –تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ} 5، ولا يدخلون في مثل قوله {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا} 6، وقوله تعالى {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ} 7 الآية. وهذا هو الذي أوجب للسلف ترك تسمية الفاسق باسم الإيمان والبر.

1 سورة إبراهيم آية: 4.

2 سورة النحل آية: 43.

3 سورة المائدة آية: 6.

4 سورة الأحزاب آية: 69.

5 سورة المائدة آية: 106.

6 سورة الحجرات آية: 15.

7 سورة الحديد آية: 19.

ص: 7

وفي الحديث: " لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا ينتهب نهبة يرفع الناس إليه أبصارهم فيها وهو مؤمن " 1، وقوله " لا يؤمن من لا يأمن جاره بوائقه " 2 3. لكن نفي الإيمان هذا لا يدل على كفره، بل يطلق عليه اسم الإسلام، ولا يكون كمن كفر بالله ورسله. وهذا هو الذي فهمه السلف، وقرروه في باب الرد على الخوارج والمرجئة ونحوهم من أهل الأهواء، فافهم هذا فإنه مضلة أفهام، ومزلة أقدام. وأما إلحاق الوعيد المرتب على بعض الذنوب والكبائر، فقد يمنع منه مانع في حق المعين كحب الله ورسوله، والجهاد في سبيله، ورجحان الحسنات، ومغفرة الله ورحمته، وشفاعة المؤمنين، والمصائب المكفرة في الدور الثلاثة. وكذلك لا يشهدون لمعين من أهل القبلة بجنة ولا نار، وإن أطلقوا الوعيد كما أطلقه القرآن والسنة، فهم يفرقون بين العام المطلق، والخاص المقيد، وكان عبد الله (حمار) 4 يشرب الخمر فأتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلعنه رجل، وقال: ما أكثر ما يؤتي به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:" لا تلعنه، فإنه يحب الله ورسوله " 5 مع أنه لعن الخمر وشاربها وبائعها وعاصرها ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه.

[قصة حاطب وآيات سورة الممتحنة في موالاة المشركين]

وتأمل قصة حاطب بن أبي بلتعة وما فيها من الفوائد، فإنه هاجر إلى الله ورسوله، وجاهد في سبيله، لكن حدث منه أنه " كتب بسر رسول

1 البخاري: المظالم والغصب (2475)، ومسلم: الإيمان (57)، والترمذي: الإيمان (2625)، والنسائي: قطع السارق (4870 ،4871 ،4872) والأشربة (5659 ،5660)، وأبو داود: السنة (4689)، وابن ماجه: الفتن (3936) ، وأحمد (2/243 ،2/317 ،2/386)، والدارمي: الأشربة (2106) .

2 أحمد (2/288) .

3 الحديث الأول رواه الشيخان وغيرهما، والثاني رواه البخاري بلفظ والله لا يؤمن والله لا يؤمن والله لا يؤمن – قيل من يا رسول الله؟ قال: الذي لا يأمن جاره بوائقه ورواه أحمد أيضا ولا أذكر لفظه.

4 صحابي معروف وحمار لقب له.

5 صحيح البخاري: كتاب الحدود (6780) .

ص: 8

الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين من أهل مكة يخبرهم بشأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ومسيره لجهادهم ليتخذ بذلك يدا عندهم يحمي أهله وماله بمكة. فنَزل الوحي بخبره. وكان قد أعطى الكتاب ظعينة جعلته في شعرها، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا والزبير في طلب الظعينة، وأخبر أنهما يجدانها في روضة خاخ. فكان ذلك، فتهدداها حتى أخرجت الكتاب من ضفائرها، فأتي به رسول الله صلى الله عليه وسلم. فدعا حاطب بن أبي بلتعة فقال له: ما هذا؟ فقال: يا رسول الله إني لم أكفر بعد إيمان، ولم أفعل هذا رغبة عن الإسلام، وإنما أردت أن تكون لي عند القوم يد أحمي بها أهلي ومالي، فقال –صلى الله عليه وسلم: صدقكم خلوا سبيله. واستأذن عمر في قتله فقال: دعني أضرب عنق هذا المنافق، فقال: وما يدريك أن الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم ". وأنزل الله في ذلك صدر سورة الممتحنة فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} 1 الآيات، فدخل حاطب في المخاطبة باسم الإيمان ووصفه به، وتناوله النهي بعمومه وله خصوص السبب الدال على إرادته، مع أن في الآية الكريمة ما يشعر أن فعل حاطب نوع موالاة، وأنه أبلغ إليهم بالمودة، فإن فاعل ذلك قد ضل سواء السبيل؛ لكن قوله " صدقكم خلوا سبيله " ظاهر في أنه لا يكفر بذلك إذا كان مؤمنا بالله ورسوله غير شاك ولا مرتاب، وإنما فعل ذلك لغرض دنيوي. ولو كفر لما قيل: " خلوا سبيله ". لا يقال قوله صلى الله عليه وسلم لعمر: " وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم " 2 هو المانع من تكفيره، لأنا نقول: لو كفر لما بقي من حسناته ما يمنعه من لحاق الكفر وأحكامه.

1 سورة الممتحنة آية: 1.

2 البخاري: الجهاد والسير (3007)، ومسلم: فضائل الصحابة (2494)، والترمذي: تفسير القرآن (3305)، وأبو داود: الجهاد (2650) ، وأحمد (1/79 ،1/105) .

ص: 9

فإن الكفر يهدم ما قبله لقوله –تعالى -: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالأِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ} 1، وقوله –تعالى-:{وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} 2، والكفر محبط للحسنات والإيمان بالإجماع؛ فلا يظن هذا. وأما قوله {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} 3، وقوله {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} 4، وقوله–تعالى -:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} 5، فقد فسرته السنة وقيدته وخصته بالموالاة المطلقة العامة. وأصل الموالاة هو الحب والنصرة والصداقة، ودون ذلك مراتب متعددة، ولكل ذنب حظه وقسطه من الوعيد والذم، وهذا عند السلف الراسخين في العلم من الصحابة والتابعين معروف في هذا الباب وغيره. وإنما أشكل الأمر، وخفيت المعاني، والتبست الأحكام على خلوف من العجم والمولدين الذين لا دراية لهم بهذا الشأن، ولا ممارسة لهم بمعاني السنة والقرآن، ولهذا قال الحسن رضي الله عنه: من العجمة أتوا. وقال عمرو بن العلاء لعمرو بن عيد لما ناظره في مسألة خلود أهل الكبائر في النار: واحتج ابن عبيد أن هذا وعد، والله لا يخلف وعده، يشير إلى ما في القرآن من الوعيد على بعض الكبائر والذنوب بالنار والخلود، فقال له ابن العلاء: من العجمة أتيت، هذا وعيد لا وعد، وأنشد قول الشاعر:

وإني وإن أوعدته أو وعدته

لمخلف إيعادي ومنجز موعدي

وقال بعض الأئمة فيما نقل البخاري، أو غيره: إن من سعادة الأعجمي والأعرابي إذا أسلما أن يوفقا لصاحب سنة، وإن من شقاوتهما أن يمتحنا

1 سورة المائدة آية: 5.

2 سورة الأنعام آية: 88.

3 سورة المائدة آية: 51.

4 سورة المجادلة آية: 22.

5 سورة المائدة آية: 57.

ص: 10

وييسرا لصاحب هوى وبدعة. ونضرب لك مثلا هو أن رجلين تنازعا في آيات من كتاب الله أحدهما خارجي، والآخر مرجئ، قال الخارجي: إن قوله {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} 1 دليل على حبوط أعمال العصاة والفجار وبطلانها، إذ لا قائل إنهم من عباد الله المتقين. قال المرجئ: هي في الشرك فكل من اتقى الشرك يقبل عمله لقوله –تعالى-: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} 2.قال الخارجي: قوله –تعالى-: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً} 3 يرد ما ذهبت إليه. قال المرجئ: المعصية هنا الشرك بالله واتخاذ الأنداد معه لقوله: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} 4.قال الخارجي: {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كَانَ فَاسِقاً} 5 دليل على أن الفساق من أهل النار الخالدين فيها. قال له المرجئ في آخر الآية: {وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} 6 دليل على أن المراد من كذب الله ورسوله، والفاسق من أهل القبلة مؤمن كامل الإيمان. ومن وقف على هذه المناظرة من جهال الطلبة والأعاجم ظن أنها الغاية المقصودة، وعض عليها بالنواجذ، مع أن كلا القولين لا يرتضى، ولا يحكم بإصابته أهل العلم والهدى، وما عند السلف والراسخين في العلم خلاف هذا كله لأن الرجوع إلى السنة المبينة للناس ما نزل إليهم. وأما أهل البدع والأهواء فيستغنون عنها بآرائهم وأهوائهم وأذواقهم. وقد بلغني أنكم تأولتم قوله –تعالى-: في سورة محمد: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الأَمْرِ} 7 على بعض ما يجري من أمراء الوقت من مكاتبة، أو مصالحة، أو هدنة لبعض رؤساء الضالين، والملوك المشركين

1 سورة المائدة آية: 27.

2 سورة الأنعام آية: 160.

3 سورة الجن آية: 23.

4 سورة النساء آية: 48.

5 سورة السجدة آية: 18.

6 سورة السجدة آية: 20.

7 سورة محمد آية: 26.

ص: 11

ولم تنظروا لأول الآية وهي قوله: {إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى} 1، ولم تفقهوا المراد من هذه الطاعة، ولا المراد من الأمر بالمعروف المذكور في قوله –تعالى- في هذه الآية الكريمة وفي قصة صلح الحديبية، وما طلبه المشركون، واشترطوه، وأجابهم إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يكفي في رد مفهومكم ودحض أباطيلكم.

فصل [في أصول لا بد من بيانها]

[السنة هي المبينة للأحكام القرآنية]

وهنا أصول:

(أحدها) أن السنة والأحاديث النبوية هي المبينة للأحكام القرآنية، وما يراد من النصوص الواردة في كتاب الله في باب معرفة حدود ما أنزل الله، كمعرفة المؤمن والكافر، والمشرك والموحد، والفاجر والبر، والظالم والتقي، وما يراد بالموالاة والتولي، ونحو ذلك من الحدود، كما أنها المبينة لما يراد من الأمر بالصلاة على الوجه المراد في عددها وأركانها وشروطها وواجباتها. وكذلك الزكاة فإنه لم يظهر المراد من الآيات الموجبة، ومعرفة النصاب والأجناس التي تجب فيها من الأنعام والثمار والنقود، ووقت الوجوب واشتراط الحول في بعضها، ومقدار ما يجب في النصاب وصفته إلا ببيان السنة وتفسيرها. وكذلك الصوم والحج جاءت السنة ببيانهما وحدودهما وشروطهما ومفسداتهما، ونحو ذلك مما توقف بيانه على السنة. وكذلك أبواب الربا وجنسه ونوعه، وما يجري فيه وما لا يجري، والفرق بينه وبين البيع الشرعي. وكل هذا البيان أخذ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم برواية الثقات العدول عن مثلهم إلى أن تنتهي السنة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فمن أهمل هذا

1 سورة محمد آية: 25.

ص: 12

وأضاعه فقد سد على نفسه باب العلم والإيمان ومعرفة معاني التنْزيل والقرآن.

بيان شعب الإيمان

(الأصل الثاني) : إن الإيمان أصل له شعب متعددة كل شعبة منها تسمى إيمانا، فأعلاها شهادة أن لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق. فمنها ما يزول الإيمان بزواله إجماعا كشعبة الشهادتين، ومنها ما لا يزول بزوالها إجماعا كترك إماطة الأذى عن الطريق. وبين هاتين الشعبتين شعب متفاوتة منها ما يلحق بشعبة الشهادة ويكون إليها أقرب، ومنها ما يلحق بشعبة إماطة الأذى ويكون إليها أقرب؛ والتسوية بين هذه الشعب في اجتماعها مخالف للنصوص، وما كان عليه سلف الأمة وأئمتها. وكذلك الكفر أيضا ذو أصل وشعب، فكما أن شعب الإيمان إيمان، فشعب الكفر كفر، والمعاصي كلها من شعب الكفر كما أن الطاعات كلها من شعب الإيمان، ولا يسوى بينهما في الأسماء والأحكام. وفرق بين من ترك الصلاة والزكاة والصيام، وأشرك بالله أو استهان بالمصحف، وبين من سرق، أو زنى، أو شرب، أو انتهب، أو صدر منه نوع من موالاة 1 كما جرى لحاطب، فمن سوى بين شعب الإيمان في الأسماء والأحكام، وسوى بين شعب الكفر في ذلك فهو مخالف للكتاب والسنة، خارج عن سبيل سلف الأمة، داخل في عموم أهل البدع والأهواء.

[الإيمان مركب من قول وعمل]

(الأصل الثالث) : إن الإيمان مركب من قول وعمل، والقول قسمان: قول القلب وهو اعتقاده، وقول اللسان وهو التكلم بكلمة الإسلام. والعمل قسمان: عمل القلب وهو قصده واختياره ومحبته ورضاه وتصديقه، وعمل الجوارح كالصلاة والزكاة والحج والجهاد ونحو ذلك من الأعمال

1 ولعل الأصل موالاة المشركين أو الكفار.

ص: 13

الظاهرة. فإذا زال تصديق القلب ورضاه ومحبته لله وصدقه زال الإيمان بالكلية، وإذا زال شيء من الأعمال كالصلاة والحج والجهاد مع بقاء تصديق القلب وقبوله فهذا محل خلاف. هل يزول الإيمان بالكلية إذا ترك أحد الأركان الإسلامية كالصلاة والحج والزكاة والصيام أو لا يكفر؟ وهل يفرق بين الصلاة وغيرها أو لا يفرق؟ وأهل السنة مجمعون على أنه لا بد من عمل القلب الذي هو محبته ورضاه وانقياده. والمرجئة تقول يكفي التصديق فقط، ويكون به مؤمنا. والخلاف – في أعمال الجوارح هل يكفر أو لا يكفر - واقع بين أهل السنة، والمعروف عند السلف تكفير من ترك أحد المباني الإسلامية كالصلاة والزكاة والصيام والحج. والقول الثاني: إنه لا يكفر إلا من جحدها. والثالث: الفرق بين الصلاة وغيرها. وهذه الأقوال معروفة. وكذلك المعاصي والذنوب التي هي فعل المحظورات فرقوا فيها بين ما يصادم أصل الإسلام وينافيه وما دون ذلك، وبين ما سماه الشارع كفرا وما لم يسمه. هذا ما عليه أهل الأثر المتمسكون بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأدلة هذا مبسوطة في أماكنها.

[أنواع الكفر والشرك والنفاق]

(الأصل الرابع) : إن الكفر نوعان: كفر عمل، وكفر جحود وعناد، وهو أن يكفر بما علم أن الرسول جاء به من عند الله جحودا وعنادا من أسماء الرب وصفاته وأفعاله وأحكامه التي أصلها توحيده وعبادته -وحده لا شريك له-، وهذا مضاد للإيمان من كل وجه. وأما كفر العمل فمنه ما يضاد الإيمان كالسجود للصنم، والاستهانة بالمصحف، وقتل النبي وسبه. وأما الحكم بغير ما أنزل الله وترك الصلاة، فهذا كفر عمل لا كفر اعتقاد،

ص: 14

وكذلك قوله: " لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض " 1 2، وقوله:" من أتى كاهنا فصدقه، أو أتى امرأة في دبرها، فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم" 3 4. فهذا من الكفر العملي وليس كالسجود للصنم، والاستهانة بالمصحف، وقتل النبي وسبه، وإن كان الكل يطلق عليه الكفر. وقد سمى الله –سبحانه- من عمل ببعض كتابه، وترك العمل ببعضه مؤمنا بما عمل به، وكافرا بما ترك العمل به، قال –تعالى-:{وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ} 5 إلى قوله {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} 6 الآية، فأخبر –سبحانه- أنهم أقروا بميثاقه الذي أمرهم به، والتزموه؛ وهذا يدل على تصديقهم به. وأخبر أنهم عصوا أمره، وقتل فريق منهم فريقا آخر، وأخرجوهم من ديارهم، وهذا كفر بما أخذ عليهم. ثم أخبر أنهم يفدون من أسر من ذلك الفريق، وهذا إيمان منهم بما أخذ عليهم في الكتاب، وكانوا مؤمنين بما عملوا به من الميثاق كافرين بما تركوه منه. فالإيمان العملي يضاده الكفر العملي، والإيمان الاعتقادي يضاده الكفر الاعتقادي. وفي الحديث الصحيح:" سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر " 7 فرق بين سبابه وقتاله، وجعل أحدهما فسوقا لا يكفر به، والآخر كفر، ومعلوم أنه إنما أراد الكفر العملي لا الاعتقادي؛ وهذا الكفر لا يخرجه من الدائرة الإسلامية والملة بالكلية، كما لم يخرج الزاني والسارق والشارب من الملة، وإن زال عنه اسم الإيمان.

1 البخاري: العلم (121)، ومسلم: الإيمان (65)، والنسائي: تحريم الدم (4131)، وابن ماجه: الفتن (3942) ، وأحمد (4/358 ،4/363 ،4/366)، والدارمي: المناسك (1921) .

2 رواه أحمد والشيخان وغيرهما.

3 الترمذي: الطهارة (135)، وأبو داود: الطب (3904)، وابن ماجه: الطهارة وسننها (639) ، وأحمد (2/408 ،2/429 ،2/476)، والدارمي: الطهارة (1136) .

4 في الجامع الصغير من أتى عرافا أو كاهنا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد، رواه أحمد والحاكم من حديث أبي هريرة، (وحسنه) وفيه من حديثه عند أحمد وأصحاب السنن الأربعة: من أتى كاهنا فصدقه بما يقول، أو أتى امرأة حائضا، أو أتى امرأة في دبرها فقد برئ مما أنزل على محمد.

5 سورة البقرة آية: 84.

6 سورة البقرة آية: 85.

7 البخاري: الإيمان (48)، ومسلم: الإيمان (64)، والترمذي: البر والصلة (1983) والإيمان (2634 ،2635)، والنسائي: تحريم الدم (4105 ،4106 ،4108 ،4109 ،4110 ،4111 ،4112 ،4113)، وابن ماجه: المقدمة (69) والفتن (3939) ، وأحمد (1/385 ،1/411 ،1/417 ،1/433 ،1/439 ،1/446 ،1/454 ،1/460) .

ص: 15

وهذا التفصيل هو قول الصحابة الذين هم أعلم الأمة بكتاب الله وبالإسلام والكفر ولوازمهما، فلا تتلقى هذه المسألة إلا عنهم. والمتأخرون لم يفهموا مرادهم فانقسموا فريقين: فريقا أخرجوا من الملة بالكبائر، وقضوا على أصحابها بالخلود في النار، وفريقا جعلوهم مؤمنين كاملي الإيمان، فأولئك غلوا، وهؤلاء جفوا، وهدى الله أهل السنة للطريقة المثلى والقول الوسط الذي هو في المذاهب كالإسلام في الملل. فهاهنا كفر دون كفر، ونفاق دون نفاق، وشرك دون شرك، وظلم دون ظلم، فعن ابن عباس في قول:{وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} 1 قال: ليس هو الكفر الذي تذهبون إليه، رواه عنه سفيان وعبد الرزاق، وفي رواية أخرى كفر لا ينقل عن الملة، وعن عطاء كفر دون كفر، وظلم دون ظلم، وفسق دون فسق، وهذا بيِّن في القرآن لمن تأمله؛ فإن الله –سبحانه- سمى الحاكم بغير ما أنزل الله كافرا، وسمى الجاحد لما أنزل الله على رسوله كافرا، وسمى الكافر ظالما في قوله:{وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} 2.وسمى من يتعدى حدوده في النكاح والطلاق والرجعة والخلع ظالما، وقال: {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} 3، وقال يونس عليه السلام: {إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} 4، وقال آدم: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا} 5، وقال موسى: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي} 6، وليس هذا الظلم مثل ذلك الظلم. وسمى الكافر فاسقا في قوله: {وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَاّ الْفَاسِقِينَ} 7، وقوله:{وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَاّ الْفَاسِقُونَ} 8، وسمى العاصي فاسقا في قوله –تعالى-:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} 9، وقال في الذين يرمون المحصنات:{وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} 10، وقال: {فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ

1 سورة المائدة آية: 44.

2 سورة البقرة آية: 229.

3 سورة الطلاق آية: 1.

4 سورة الأنبياء آية: 87.

5 سورة الأعراف آية: 23.

6 سورة القصص آية: 16.

7 سورة البقرة آية: 26.

8 سورة البقرة آية: 99.

9 سورة الحجرات آية: 6.

10 سورة النور آية: 4.

ص: 16

فِي الْحَجِّ} 1، وليس الفسوق كالفسوق 2.وكذلك الشرك شركان شرك ينقل عن الملة، وهو الشرك الأكبر، وشرك لا ينقل عن الملة وهو الأصغر كشرك الرياء، وقال –تعالى- في الشرك الأكبر: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} 3، وقال: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ} 4 الآية. وقال في شرك الرياء: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} 5، وفي الحديث:" من حلف بغير الله فقد أشرك " 6، ومعلوم أن حلفه بغير الله لا يخرجه عن الملة، ولا يوجب له حكم الكفار، ومن هذا قوله صلى الله عليه وسلم:" الشرك في هذه الأمة أخفى من دبيب النمل "7.فانظر كيف انقسم الشرك والكفر والفسوق والظلم إلى ما هو كفر ينقل عن الملة، وإلى ما لا ينقل عنها. وكذلك النفاق نفاقان نفاق اعتقاد ونفاق عمل، ونفاق الاعتقاد مذكور في القرآن في غير موضع أوجب لهم –تعالى- به الدرك الأسفل من النار، ونفاق العمل جاء في قوله صلى الله عليه وسلم:" أربع من كن فيه كان منافقا خالصا، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر، وإذا اؤتمن خان " 8، وكقوله صلى الله عليه وسلم: " آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب،

1 سورة البقرة آية: 197.

2 كذا ولعل أصله: وليس الفسوق هنا كالفسوق هناك، كما قال في الظلم قبله.

3 سورة المائدة آية: 72.

4 سورة الحج آية: 31.

5 سورة الكهف آية: 110.

6 الترمذي: النذور والأيمان (1535)، وأبو داود: الأيمان والنذور (3251) ، وأحمد (2/34 ،2/69 ،2/86 ،2/125) .

7 أحمد (4/403) .

8 البخاري: الإيمان (34)، ومسلم: الإيمان (58)، والترمذي: الإيمان (2632)، والنسائي: الإيمان وشرائعه (5020)، وأبو داود: السنة (4688) ، وأحمد (2/189 ،2/198) .

ص: 17

وإذا اؤتمن خان، وإذا وعد أخلف " 1 2. قال بعض الأفاضل: وهذا النفاق قد يجتمع مع أصل الإسلام، ولكن إذا استحكم وكمل فقد ينسلخ صاحبه عن الإسلام بالكلية، وإن صلى وصام، وزعم أنه مسلم 3؛ فإن الإيمان ينهى عن هذه الخلال، فإذا كملت للعبد لم يكن له ما ينهاه عن شيء منها، فهذا لا يكون إلا منافقا خالصا.

[إتيان الإنسان شعبة من شعب الإيمان أو الكفر]

(الأصل الخامس) : أنه لا يلزم من قيام شعبة من شعب الإيمان بالعبد أن يسمى مؤمنا، ولا يلزم من قيام شعبة من شعب الكفر أن يسمى كافرا، وإن كان ما قام به كفر، كما أنه لا يلزم من قيام جزء من أجزاء العلم به، أو من أجزاء الطب، أو من أجزاء الفقه أن يسمى عالما، أو طبيبا، أو فقيها، وأما الشعبة نفسها فيطلق عليها اسم الكفر كما في الحديث:" ثنتان في أمتي هما بهم كفر: الطعن في الأنساب والنياحة على الميت " 4 5، وحديث " من حلف بغير الله فقد كفر " 6 7، ولكنه لا يستحق اسم الكافر على الإطلاق. فمن عرف هذا عرف فقه السلف، وعمق علومهم وقلة تكلفهم، قال ابن مسعود: من كان متأسيا فليأتس بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنهم أبر هذه الأمة قلوبا، وأعمقها علما، وأقلها تكلفا، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه؛ فاعرفوا لهم حقهم فإنهم كانوا على الهدي المستقيم، وقد كاد الشيطان بني آدم بمكيدتين عظيمتين لا يبالي بأيهما ظفر: إحداهما الغلو ومجاوزة الحد والإفراط، والثانية: هي الإعراض والترك والتفريط. قال ابن القيم لما ذكر

1 البخاري: الشهادات (2682)، ومسلم: الإيمان (59)، والترمذي: الإيمان (2631)، والنسائي: الإيمان وشرائعه (5021) ، وأحمد (2/357 ،2/397 ،2/536) .

2 الحديث الأول رواه الجماعة عن ابن عمر وقيل إلا ابن ماجه وفي روايات الخصال تقديم وتأخير. والثاني رواه منهم الشيخان والترمذي والنسائي عن أبي هريرة.

3 هذا القيد روي في بعض ألفاظ الحديث.

4 مسلم: الإيمان (67)، والترمذي: الجنائز (1001) ، وأحمد (2/291 ،2/377 ،2/414 ،2/431 ،2/441 ،2/455 ،2/496 ،2/526 ،2/531) .

5 رواه أحمد ومسلم عن أبي هريرة ولفظ مسلم "اثنتان في الناس" ولا نحفظه إلا هكذا.

6 الترمذي: النذور والأيمان (1535) ، وأحمد (2/34 ،2/125) .

7 رواه أحمد والترمذي والحاكم عن ابن عمر.

ص: 18

شيئا من مكائد الشيطان: قال بعض السلف: ما أمر الله بأمر إلا وللشيطان فيه نزغتان، إما إلى تفريط وتقصير، وإما إلى مجاوزة وغلو، ولا يبالي بأيهما ظفر، وقد اقتطع أكثر الناس إلا القليل في هذين الواديين، وادي التقصير، ووادي المجاوزة والتعدي، والقليل منهم جدا الثابت على الصراط الذي كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه. وعد رحمه الله كثيرا من هذا النوع إلى أن قال: وقصر بقوم حتى قالوا إيمان أفسق الناس وأظلمهم كإيمان جبريل وميكائيل فضلا عن أبي بكر وعمر، وتجاوز بآخرين حتى أخرجوا من الإسلام بالكبيرة الواحدة. هذا آخر ما وجد من هذه الرسالة العظيمة المنافع، القاضية بالبراهين والدلائل القواطع، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.

ص: 19