المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الرسالة الخامسة والسبعون: [تقديم لترجمة الشيخ محمد بن عبد الوهاب] - مجموعة الرسائل والمسائل النجدية (الجزء الثالث)

[عبد اللطيف آل الشيخ]

فهرس الكتاب

- ‌الرسالة الأولى [الإنكار على من كفر المسلمين بغير ما أجمع عليه الفقهاء]

- ‌الرسالة الثانية: [التحرج عن رمي من ظاهره الإسلام بالكفر]

- ‌الرسالة الثالثة: [السفر إلى بلاد الأعداء من المشركين والكفار]

- ‌الرسالة الرابعة [حكم من يسافر إلى بلاد المشركين]

- ‌الرسالة الخامسة: [الهجرة والإقامة بين أظهر المشركين]

- ‌الرسالة السادسة: [شدة ظهور غربة الإسلام وأهله]

- ‌الرسالة السابعة: [خطر الفتنة ومضارها والسبيل لنجاة المسلم منها]

- ‌الرسالة الثامنة: [التذكير بآيات الله والحث على لزوم الجماعة]

- ‌الرسالة التاسعة: [تفنيد رسالة ابن عجلان وما فيها من المفاسد]

- ‌الرسالة العاشرة: [حكم الاستنصار بالكفار على البغاة من أهل الإسلام]

- ‌الرسالة الحادية عشرة: [الفتنة والشقاق بين آل سعود]

- ‌الرسالة الثانية عشرة: [الوصية بلزوم الكتاب والسنة والعمل بما فيهما]

- ‌الرسالة الثالثة عشرة: [دعوة الشيخ ابن عبد الوهاب هي دعوة إلى التوحيد الخالص]

- ‌الرسالة الرابعة عشرة: [الهجرة من أركان الدين]

- ‌الرسالة الخامسة عشرة: [تفسير قوله تعالى ويعبدون من دون الله ما لايضرهم ولا ينفعهم]

- ‌الرسالة السادسة عشرة: [رؤية الله سبحانه وتعالى في الجنة]

- ‌الرسالة السابعة عشرة: [تفسير السبحات بالنور]

- ‌الرسالة الثامنة عشرة: [الإيمان بالاستواء وتأويله]

- ‌الرسالة التاسعة عشرة: [الطعن في كتاب الإحياء]

- ‌الرسالة العشرون: [السمت والتؤدة والاقتصاد في الأمور]

- ‌الرسالة الحادية والعشرون: [مؤاخذة أنصار الجاني وأقاربه بجريرة فعله]

- ‌الرسالة الثانية والعشرون: [إسكان النبي عليه السلام المهاجرات دور أزواجهن ميراثا]

- ‌الرسالة الثالثة والعشرون: [نصيحة الشيخ للأمير فيصل]

- ‌الرسالة الرابعة والعشرون: [رسالة الشيخ محمد بن عجلان ورد الشيخ حمد عليها]

- ‌الرسالة الخامسة والعشرون: [حال فتنة الأمراء بنجد وأحوالها ومآلها]

- ‌الرسالة السادسة والعشرون: [الفتن الحاصلة بسبب الإمارة]

- ‌الرسالة السابعة والعشرون: [مداهنة المشركين والسفر إلى بلادهم وعقاب فاعله]

- ‌الرسالة الثامنة والعشرون: [تكفير الترك للنجديين والتقاتل بينهم]

- ‌الرسالة التاسعة والعشرون: [شروط السفر إلى بلد الشرك وحكم الهجرة]

- ‌الرسالة الثلاثون: [الحاجة إلى العلم في حال الفتن]

- ‌الرسالة الحادية والثلاثون: [التمسك بالميراث النبوي والحث على مذاكرة العلم]

- ‌الرسالة الثانية والثلاثون: [الغلظة على الكفار ومتى أمر النبي صلى الله عليه وسلم بها]

- ‌الرسالة الثالثة والثلاثون: [مشروعية بر الكافر غير المحارب والقسط إليه]

- ‌الرسالة الرابعة والثلاثون: [الأمر بالاعتصام والنهي عن التفرق والاختلاف]

- ‌الرسالة الخامسة والثلاثون: [تفسير قوله عزوجل: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأنْسَ إِلَاّ لِيَعْبُدُونِ} ]

- ‌الرسالة السادسة والثلاثون: [بيع دَيْن السَّلَم قبل قبضه]

- ‌الرسالة السابعة والثلاثون: [الرهن وشروطه]

- ‌الرسالة الثامنة والثلاثون: [رفع اليدين إذا قام من التشهد الأول]

- ‌الرسالة التاسعة والثلاثون: [تكفير من أنكر الاستواء على العرش]

- ‌الرسالة الأربعون: [شبهات الجهمية ونفاة الصفات]

- ‌الرسالة الحادية والأربعون: [ما جرى من مفاسد العساكر التركية]

- ‌الرسالة الثانية والأربعون: [حكم نهب الأعراب]

- ‌الرسالة الثالثة والأربعون: [بيان مضار الفتنة ومفاسد العسكر]

- ‌الرسالة الرابعة والأربعون: [الظهار وتعليقه بالمشيئة]

- ‌الرسالة الخامسة والأربعون: [التحريض على لزوم الجماعة]

- ‌الرسالة السادسة والأربعون: [بيان خطبة الشيخ عبد اللطيف في الفتنة بين سعود وأخيه]

- ‌الرسالة السابعة والأربعون: [الحث على الجهاد]

- ‌الرسالة الثامنة والأربعون: [الحث على الدعوة إلى الله ونشر العلم بين الناس]

- ‌الرسالة التاسعة والأربعون: [غربة الدين وقلة الأنصار]

- ‌الرسالة الخمسون: [جواب عن سؤال في حديث جابر بن عبد الله والدين الذي كان عليه لليهودي]

- ‌الرسالة الحادية والخمسون: [استعمال الماضي موضع المضارع]

- ‌الرسالة الثانية والخمسون: إخلاص العبادة لله

- ‌الرسالة الثالثة والخمسون: [إلى علماء الحرمين الشريفين]

- ‌الرسالة الرابعة والخمسون: [نصر مذهب السلف على علم الكلام]

- ‌الرسالة الخامسة والخمسون: [نصر الدين والسنة من أفضل شعب الإيمان]

- ‌الرسالة السادسة والخمسون: [الحث على التقوى]

- ‌الرسالة السابعة والخمسون: تحريم تعدد الجمعة في القرية الواحدة

- ‌الرسالة الثامنة والخمسون: [حكم الجهمية والصلاة خلفهم]

- ‌الرسالة التاسعة والخمسون: [فشو الشرك والتعطيل]

- ‌الرسالة الستون: [ذبائح المشركين وطعامهم]

- ‌الرسالة الحادية والستون: [الفتن والامتحانات التي وقعت بين آل سعود وحكمة الله فيها]

- ‌الرسالة الثانية والستون: [الإيمان بالأسماء الحسنى بلا تكييف ولا تعطيل]

- ‌الرسالة الثالثة والستون: [دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب إلى تجديد الدين]

- ‌الرسالة الرابعة والستون: [تفسير قوله تعالى: {ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع} ]

- ‌الرسالة الخامسة والستون: [رد مطاعن على الشيخ محمد بن عبد الوهاب]

- ‌الرسالة السادسة والستون: [رد على الشيخ عثمان بن منصور]

- ‌الرسالة السابعة والستون: [رسالة إلى أهل الحوطة بالاعتصام بالتوحيد الخالص]

- ‌الرسالة الثامنة والستون: [النصيحة إلى كافة المسلمين]

- ‌الرسالة التاسعة والستون: [ما يجب الإيمان به من صفات الله]

- ‌الرسالة السبعون: [فضل الدعوة إلى الله]

- ‌الرسالة الحادية والسبعون: [حال الأمة الإسلامية قبل ظهور الشيخ محمد بن عبد الوهاب]

- ‌الرسالة الثانية والسبعون: [وصف رسالة من رسائل الشيخ ومدحه هو وآله]

- ‌الرسالة الثالثة والسبعون: [شبهات في تحريم القهوة]

- ‌الرسالة الرابعة والسبعون: [نفي كون ما جاء الشيخ محمد بن عبد الوهاب مذهبا خامس] ا

- ‌الرسالة الخامسة والسبعون: [تقديم لترجمة الشيخ محمد بن عبد الوهاب]

- ‌الرسالة السادسة والسبعون: [الرد على عبد اللطيف الصحاف1]

الفصل: ‌الرسالة الخامسة والسبعون: [تقديم لترجمة الشيخ محمد بن عبد الوهاب]

‌الرسالة الخامسة والسبعون: [تقديم لترجمة الشيخ محمد بن عبد الوهاب]

في ترجمة الشيخ محمد بن عبد الوهاب وما قام به ودعا إليه.

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله، أرسله بين يدي الساعة بشيرا ونذيرا. أما بعد: فقد سألت - أرشدك الله - أن أرسل إليك نبذة مفيدة كاشفة عن حال الشيخ الإمام، العلم القدوة، المجدد لما اندرس من دين الإسلام، والقائم بنصرة شريعة سيد الأنام، الشيخ محمد بن عبد الوهاب، أحسن الله له المآل وضاعف له الثواب، ويسر له الحساب. وذكرت - أرشدك الله - أن جهتكم لا يوجد فيها ذلك، وأن عندكم من الطلبة من يتشوق على تلك المناهج والمسالك، فكتبت إليك هذه الرسالة، وسودت إليك هذه الكراسة والعجالة، ليعلم الطالب، ويتحقق الراغب، حقيقة ما دعا إليه هذا الإمام، وما كان عليه من الاعتقاد والفهم التام، ويستبين للناظر فيها ما يبهت به الأعداء، من الأكاذيب والافتراء، التي يرومون بها تنفير الناس عن المحجة والسبيل، وكتمان البرهان والدليل. وقد كثر أعداؤه ومنازعوه، وفشا البهت بينهم فيما قالوه ونقلوه، فربما اشتبه على طالب الإنصاف والتحقيق، والتبس عليه واضح المنهج والطريق، فإن استصحب الأصول الشرعية، وجرى على القوانين المرضية، عرف أن لكل نعمة حاسدا، ولكل حق

ص: 378

جاحدا، ولا يقبل في نقل الأقوال والأحكام إلا العدول الثقاة الضابطون من الأنام، ومن استصحب هذا استراح عن البحث فيما ينقل إليه ويسمع، ولم يلتفت إلى أكثر ما يختلف فيه ويصنع، وكان من أمره على منهاج واضح ومشرع.

[ترجمة الشيخ محمد بن عبد الوهاب]

فصل:

[نسبه]

فأما نسب هذا الشيخ، فهو الإمام العلم القدوة البارع محمد بن عبد الوهاب بن سليمان بن علي بن محمد بن أحمد بن راشد بن بريد بن محمد بن بريد بن مشرف.

[مولده]

ولد رحمه الله سنة خمس عشرة بعد المائة والألف من الهجرة في بلد العيينة من أرض نجد، ونشأ بها وقرأ القرآن بها حتى حفظه وأتقنه قبل بلوغه العشر، وكان حاد الفهم سريع الإدراك والحفظ، يتعجب أهله من فطنته وذكائه.

[طلبه للعلم]

وبعد حفظ القرآن اشتغل بالعلم وجد في الطلب، وأدرك بعض الأرب قبل رحلته لطلب العلم. وكان سريع الكتابة ربما كتب الكراسة في المجلس؛ قال أخوه سليمان: كان والده يتعجب من فهمه، ويعترف بالاستفادة منه مع صغر سنه. ووالده هو مفتي تلك البلاد، وجده مفتي البلاد النجدية، آثاره وتصنيفه وفتاواه تدل على علمه وفقهه، وكان جده إليه المرجع في الفقه والفتوى، وكان معاصرا للشيخ منصور البهوتي الحنبلي خادم المذهب اجتمع به بمكة. وبعد بلوغ الشيخ سن الاحتلام، قدمه والده في الصلاة ورآه أهلا للائتمام، ثم طلب الحج إلى بيت الله الحرام، فأجابه والده إلى ذاك المقصد والمرام، وبادر إلى قضاء فريضة

ص: 379

الإسلام، وأداء المناسك على التمام. ثم قصد المدينة المنورة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام، وأقام بها قريبا من شهرين، ثم رجع إلى وطنه قرير العين، واشتغل بالقراءة في الفقه على مذهب الإمام أحمد رحمه الله.

ثم بعد ذلك رحل يطلب العلم، وذاق حلاوة التحصيل والفهم، وزاحم العلماء الكبار، ورحل إلى البصرة والحجاز مرارا، واجتمع بمن فيها من العلماء والمشايخ الأحبار، وأتى الأحساء، وهي إذ ذاك آهلة بالمشايخ والعلماء؛ فسمع وناظر وبحث واستفاد، وساعدته الأقدار الربانية بالتوفيق والإمداد.

[شيوخه]

وروى عن جماعة منهم الشيخ عبد الله بن إبراهيم النجدي ثم المدني، وأجازه من طريقين، وأول ما سمع منه الحديث المسلسل بالأولية، كتب السماع بالسند المتصل إلى عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا مَنْ في الأرض يرحمكم مَنْ في السماء"1. وسمع منه مسلسل الحنابلة بسنده إلى أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إذا أراد الله بعبده خيرا استعمله، قالوا: كيف يستعمله؟ قال: يوفقه لعمل صالح قبل موته" 2، وهذا الحديث من ثلاثيات أحمد رحمه الله. وطالت إقامة الشيخ ورحلته بالبصرة، وقرأ بها كثيرا من كتب الحديث والفقه والعربية، وكتب من الحديث والفقه واللغة ما شاء الله في تلك الأوقاف.

[دعوته]

وكان يدعو إلى التوحيد، ويظهره لكثير ممن يخالطه ويجالسه ويستدل عليه، ويظهر ما عنده من العلم وما لديه. كان يقول: إن الدعوة كلها لله، لا يجوز صرف شيء منها إلى سواه، وربما ذكروا بمجلسه إشارات

1 الترمذي: البر والصلة (1924)، وأبو داود: الأدب (4941) .

2 الترمذي: القدر (2142) ، وأحمد (3/106 ،3/120) .

ص: 380

الطواغيت أو شيئا من كرامات الصالحين الذين كانوا يدعونهم، ويستغيثون بهم ويلجؤون إليهم في الملمات والمهمات، فكان ينهى عن ذلك ويزجر، ويورد الأدلة من الكتاب والسنة ويحذر، ويخبر أن محبة الأولياء والصالحين إنما هي متابعتهم فيما كانوا عليه من الهدى والدين، وتكثير أجورهم بمتابعتهم على ما جاء به سيد المرسلين؛ وأما دعوى المحبة والمودة، مع المخالفة في السنة والطريقة، فهي دعوى باطلة مردودة، غير مسلمة عند أهل النظر والحقيقة، ولم يزل على ذلك رحمه الله. ثم رجع إلى وطنه، فوجد والده قد انتقل إلى بلده حريملا، فاستقر معه فيها، يدعو إلى السنة المحمدية ويبديها، ويناصح من خرج عنها ويفشيها، حتى رفع الله شأنه ورفع ذكره، ووضع له القبول، وشهد له بالفضل ذووه من أهل المعقول والمنقول. وصنف كتابه المشهور في التوحيد، وأعلن بالدعوة إلى الله العزيز الحميد؛ وقرأ عليه هذا الكتاب المفيد، وسمعه كثير ممن لديه من طالب ومستفيد. وشاعت نسخه في البلاد، وطار ذكره في الغور والأنجاد، وفاز بصحبته واستفاد، من جرد القصد وسلم من الأشر والبغي والفساد. وكثر بحمد الله محبوه وجنده، وصار معه عصابة من فحول الرجال، وأهل السمت الحسن والكمال، يسلكون معه الطريق، ويجاهدون كل فاسق وزنديق.

[حال بلاد نجد وغيرها عند ظهور الشيخ]

فصل: كان أهل عصره ومصره في تلك الأزمان قد اشتدت غربة الإسلام بينهم، وعفت آثار الدين لديهم، وانهدمت قواعد الملة الحنيفية، وغلب

ص: 381

على الأكثرين ما كان عليه أهل الجاهلية، وانطمست أعلام الشريعة في ذلك الزمان، وغلب الجهل والتقليد والإعراض عن السنة والقرآن. وشب الصغير وهو لا يعرف من الدين إلا ما كان عليه أهل تلك البلدان، وهرم الكبير على ما تلقاه عن الآباء والأجداد. وأعلام الشريعة مطموسة، ونصوص التنزيل وأصول السنة فيما بينهم مدروسة، وطريقة الآباء والأسلاف مرفوعة الأعلام، وأحاديث الكهان والطواغيت مقبولة، غير مردودة ولا مدفوعة. قد خلعوا ربقة التوحيد والدين، وجدوا واجتهدوا في الاستغاثة والتعلق بغير الله من الأولياء والصالحين، والأوثان والأصنام والشياطين؛ وعلماؤهم ورؤساؤهم على ذلك مقبلون، ومن بحره الأجاج شاربون وبه راضون، وإليه مدى الزمان داعون. قد أعشتهم العوائد والمألوفات، وحبستهم الشهوات والإرادات، عن الارتفاع إلى طلب الهدى من النصوص المحكمات، والآيات البينات، يحتجون بما رووه من الآثار الموضوعات، والحكايات المختلفة والمنامات، كما يفعله أهل الجاهلية وغبر الفترات. وكثير منهم يعتقد النفع والضر في الأحجار والجمادات، ويتبركون بالآثار والقبور في جميع الأوقات:{نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} 1،:{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} 2،:{قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالأِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} 3. فأما بلاد نجد، فقد بالغ الشيطان في كيدهم وجد، وكانوا ينتابون قبر

1 سورة الحشر آية: 19.

2 سورة الأنعام آية: 1.

3 سورة الأعراف آية: 33.

ص: 382

زيد بن الخطاب، ويدعونه رغبا ورهبا بفصيح الخطاب، ويزعمون أنه يقضي لهم الحوائج، ويرونه من أكبر الوسائل والولائج. وكذلك عند قبر يزعمون أنه قبر ضرار بن الأزور، وذاك كذب ظاهر، وبهتان مزور. وكذلك عندهم نخل فحال، ينتابه النساء والرجال يفعلون عنده أقبح الفعال، والمرأة إذا تأخر الزواج عنها ولم يرغب فيها الأزواج، تذهب إليه فتضمه بيدها وتدعوه برجاء وابتهال، وتقول: يا فحل الفحول، أريد زوجا قبل الحول. وشجرة عندهم تسمى: الطريقة أغراهم الشيطان بها وأوحى إليهم التعلق عليها، وأنها ترجى منها البركة ويعلقون عليها الخرق، لعل الولد يسلم من السوء. وفي أسفل بلدة الدرعية مغارة في الجبل يزعمون أنها انفلقت من الجبل لامرأة تسمى: بنت الأمير، أراد بعض الناس أن يظلمها ويضير، فانفلق الغار ولم يكن له عليها اقتدار، كانوا يرسلون إلى هذا المكان من اللحم والخبز ما يقتات به جند الشيطان. وفي بلدتهم رجل يدعي الولاية يسمى: تاج يتبركون به ويرجون به ويرجون منه العون والإفراج. وكانوا يأتون إليه، ويرغبون فيما عنده من المدد بزعمهم ولديه، فتخافه الحكام والظلمة، ويزعمون أن له تصرفا وفتكا بمن عصاه وملحمة، مع أنهم يحكون عنه الحكايات القبيحة الشنيعة التي تدل على انحلاله عن أحكام الملة والشريعة. وهكذا سائر بلاد نجد على ما وصفنا من الإعراض عن دين الله، والجحد لأحكام الشريعة والرد. ومن العجب أن هذه الاعتقادات الباطلة، والمذاهب الضالة، والعوائد الجائرة، والطوائف الخاسرة، قد فشت وظهرت وعمت وطمت، حتى بلاد الحرمين الشريفين: فمن ذلك ما يفعل عند قبر محجوب وقبة أبي طالب، فيأتون قبره بالسماعات والعلامات للاستغاثة

ص: 383

عند نزول المصائب وحلول النواكب، وكانوا له في غاية التعظيم، ولا ما يجب عند البيت الكريم.

[الفتنة بالقبور ومفاسدها]

فلو دخل سارق أو غاصب، أو ظالم قبر أحدهما، لم يتعرض له أحد، لما يرون له من وجوب التعظيم والاحترام والمكارم. ومن ذلك ما يفعل عند قبر ميمونة أم المؤمنين رضي الله عنها في سرف. وكذلك عند قبر خديجة رضي الله عنها يفعل عند قبرها ما لا يسوغ السكوت عليه من مسلم يرجو الله واليوم الآخر، فضلا عن كونه من المكاسب الدنيئة الفاجرة، وفيه من اختلاط النساء بالرجال، وفعل الفواحش والمنكرات وسوء الأفعال، ما لا يقره أهل الأديان والكمال، وكذلك سائر القبور المعظمة المشرفة في بلد الله الحرام مكة المشرفة. وفي الطائف قبر ابن عباس رضي الله عنه، يفعل عنده من الأمور الشركية التي تشمئز منها نفوس الموحدين، وتنكرها قلوب عباد الله المخلصين، وتردها الآيات القرآنية وما ثبت من النصوص عن سيد المرسلين: منها وقوف السائل عند القبر متضرعا مستغيثا، وإبداء الفاقة إلى معبودهم مستكينا مستعينا، وصرف خالص المحبة التي هي محبة العبودية والنذر والذبح لمن تحت تلك المشهد والبنية، وأكثر سوقتهم وعامتهم يلهجون بالأسواق اليوم: على الله وعليك يا ابن عباس، فيستمدون منه الرزق والغوث وكشف الضر والباس. وذكر محمد بن حسين النعيمي الزبيدي رحمه الله أن رجلا رأى ما يفعل أهل الطائف من الشعب الشركية والوظائف فقال: أهل الطائف لا يعرفون الله، إنما يعرفون ابن عباس، فقال له بعض من يترشح للعلم: معرفتهم لابن عباس كافية لأنه يعرف الله، فانظر إلى هذا الشرك الوخيم! والغلو الذميم المجانب للصراط المستقيم! ووازن بينه

ص: 384

وبين قوله: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} 1 الآية، وقوله -جل ذكره-:{وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} 2. وقد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم اليهود والنصارى باتخاذهم قبور أنبيائهم مساجد يعبد الله فيها، فكيف بمن عبد الصالحين ودعاهم مع الله؟ والنصوص في ذلك لا تخفى على أهل العلم.

[البدع الوثنية والشرك في الأمصار والأقطار]

كذلك ما يفعل بالمدينة المشرفة، على ساكنها أفضل الصلاة والسلام، هم من هذا القبيل، بالبعد عن منهاج الشريعة والسبيل. وفي بندر جدة ما قد بلغ من الضلال حده، وهو القبر الذي يزعمون أنه قبر حواء، وضعه لهم بعض الشياطين، وأكثروا في شأنه الإفك المبين، وجعلوا له السدنة والخدام، وبالغوا في مخالفة ما جاء به محمد -عليه أفضل الصلاة والسلام- من النهي عن تعظيم القبور والفتنة بمن فيها من الصالحين والكرام. وكذلك مشهد العلوي، بالغوا في تعظيمه وتوقيره، وخوفه ورجائه، وقد جرى لبعض التجار أنه انكسر بمال عظيم لأهل الهند وغيرهم، وذلك في سنة عشر ومائتين وألف، فهرب إلى مشهد العلوي مستجيرا ولائذا به مستغيثا، فتركه أرباب الأموال، ولم يتجاسر أحد من الرؤساء والحكام على هتك ذلك المشهد والمقام، واجتمع طائفة من المعروفين، واتفقوا على تنجيمه في مدة سنين؛ فنعوذ بالله من تلاعب الفجرة والشياطين. وأما بلاد مصر وصعيدها وفيومها وأعمالها، فقد جمعت من الأمور الشركية، والعبادات الوثنية، والدعاوى الفرعونية، ما لا يتسع له كتاب، ولا يدنو له خطاب، لا سيما عند مشهد أحمد البدوي

1 سورة البقرة آية: 186.

2 سورة الجن آية: 18.

ص: 385

وأمثاله من المعتقدين المعبودين، فقد جاوزوا بهم ما ادعته الجاهلية لآلهتهم، وجمهورهم يرى له من تدبير الربوبية، والتصرف في الكون بالمشيئة والقدرة العامة، ما لم ينقل عن أحد مثله بعد الفراعنة والنماردة. وبعضهم يقول: يتصرف في الكون سبعة، وبعضهم يقول: أربعة، وبعضهم يقول: قطب يرجعون إليه، وكثير منهم يرى أن الأمر شورى بين عدد ينتسبون إليه، فتعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا:{كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَاّ كَذِباً} 1. وقد استباحوا عند تلك المشاهد، من المنكرات والفواحش والمفاسد، ما لا يمكن حصره، ولا يستطاع وصفه، واعتمدوا في ذلك من الحكايات والخرافات والجهالات، ما لا يصدر عمن له أدنى مسكة أو حظ من المعقولات، فضلا عن النصوص الشرعيات. كذلك ما يفعل في بلدان اليمن، جار على تلك الطريق والسنن: ففي صنعاء وبرع والمخا وغيرها من تلك البلاد، ما يتنزه العاقل عن ذكره ووصفه، ولا يمكن الوقوف على غايته وكشفه، ناهيك بقوم استخفهم الشيطان، وعدلوا عن عبادة الرحمن إلى عبادة القبور والشياطين، فسبحان من لا يعجل بالعقوبة على الجرائم، ولا يهمل الحقوق والمظالم، وفي حضرموت والشحر وعدن ويافع، ما تستك عن ذكره المسامع، يقول قائلهم: شيء لله يا عيدروس، شيء لله يا محيي النفوس. وفي أرض نجران، من تلاعب الشياطين، وخلع ربقة الإيمان ما لا يخفى على أهل العلم بهذا الشأن، كذلك رئيسهم المسمى بالسيد، لقد أتوا من تعظيمه وطاعته وتقديسه وتصديره والغلو فيه، بما أفضى بهم إلى مفارقة الملة والإسلام، والانحياز إلى عبادة الأوثان

1 سورة الكهف آية: 5.

ص: 386

والأصنام،:{اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَاّ لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلَاّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} 1. وكذلك حلب ودمشق وسائر بلاد الشام، فيها من النصب والأعلام، ما لا يجامع عليه أهل الإيمان والإسلام، من أتباع سيد الأنام، وهي تقارب ما ذكرنا في الكفريات المصرية، والتلطف والأحوال الوثنية الشركية. وكذلك الموصل وبلاد الأكراد، ظهر فيها من أصناف الشرك والفجور والفساد. وفي العراق من ذلك بحره المحيط بسائر الخلجان، وعندهم المشهد الحسيني، وقد اتخذه الرافضة وثنا، بل ربا مدبرا، وخالقا ميسرا، وأعادوا به المجوسية، وأحيوا به معاهد اللات والعزى، وما كان عليه أهل الجاهلية. وكذلك مشهد العباس ومشهد علي ومشهد أبي حنيفة ومعروف الكرخي والشيخ عبد القادر، فإنهم قد افتتنوا بهذه المشاهد، رافضتهم وسنتهم، وعدلوا عن أسنى المطالب والمقاصد، ولم يعرفوا ما وجب عليهم من حق الله الفرد الصمد الواحد، وبالجملة فهم شر تلك الأمصار، وأعظمهم نفورا عن الحق واستكبارا. والرافضة يصلون لتلك المشاهد، ويركعون ويسجدون لمن في تلك المعاهد، وقد صرفوا من الأموال والنذور، لسكان تلك الأجداث والقبور، ما لا يصرف عشر معشاره للملك العلي الغفور؛ ويزعمون أن زيارتهم لعلي وأمثاله، أفضل من سبعين حجة، تعالى الله وتقدس في مجده وجلاله. ولآلهتهم من التعظيم والتوقير والخشية والاحترام، ما ليس معه من تعظيم الله وتوقيره وخشيته وخوفه شيء للإله الحق والملك العلام، ولم يبق مما عليه النصارى سوى دعوى الولد، يرفع أن بعضهم يرى الحلول لأشخاص بعض البرية.:

1 سورة التوبة آية: 31.

ص: 387

{سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ} 1. وكذلك جميع قرى الشط والمجرة على غاية من الجهل، والمعروف في القطيف والبحرين من البدع الرافضية، والأحداث المجوسية، والمقامات الوثنية، ما يضاد ويصادم أصول الملة الحنيفية. فمن اطلع على هذه الأفاعيل، وهو عارف بالإيمان والإسلام وما فيهما من التفريع والتأصيل، تيقن أن القوم قد ضلوا عن سواء السبيل، وخرجوا من مقتضى القرآن والدليل، وتمسكوا بزخارف الشيطان، وأحوال الكهان، وما شابه هذا القبيل؛ فازداد بصيرة في دينه، وقوي بمشاهدة إيمانه ويقينه، وجد في طاعة مولاه وشكره؛ واجتهد في الإنابة إليه وإدامة ذكره، وبادر إلى القيام بوظائف أمره، وخاف أشد الخوف على إيمانه من طغيان الشيطان وكفره. فليس العجب ممن هلك كيف هلك، إنما العجب ممن نجا كيف نجا، ولقد أحسن العلامة محمد بن إسماعيل الأمير، فيما أبداه من أهل وقته من التبديل والتغيير.

[غلبة الجهال والمبتدعة على أهل العلم والدين]

فصل:

وهذه الحوادث المذكورة، والكفريات المشهورة، والبدع المزبورة، قد أنكرها أهل العلم والإيمان، واشتد نكيرهم حتى حكموا على فاعلها بخلع ربقة الإسلام والإيمان؛ ولكن لما كانت الغلبة للجهال والطغام، انتقض عرى الدين وانثلمت أركانه، وانطمست منه الأعلام. وساعدهم على ذلك من قل حظه ونصيبه من الرؤساء والحكام، والمنتسبين من الجهال إلى معرفة الحلال من الحرام، فاتبعتهم العامة والجمهور من الأنام، ولم يشعروا بما هم

1 سورة الصافات آية: 180.

ص: 388

عليه من المخالفة والمباينة لدين الله الذي اصطفاه لخاصته وأوليائه وصفوته الكرام. ومع عدم العلم والإعراض عن النظر في آيات الله، والفهم لا مندوحة للعامة عن تقليد الرؤساء والسادة، ولا يمكن الانتقال عن المألوف والعادة، ولهذا كرر سبحانه وتعالى التنبيه على هذه الحجة الداحضة، والعادة المطردة الفاضحة، قال تعالى:{وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} 1، وقوله:{وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ} 2 الآية، قد قرر هذا المعنى في القرآن لحاجة العباد وضرورتهم إلى معرفته والحذر منه وعدم الاغترار بأهله، وما أحسن ما قال عبد الله بن المبارك رحمه الله:

وهل أفسد الدين إلا الملوك

وأحبار سوء ورهبانها

[حديث ذات أنواط والبدع التي يعدها الجهال عبادات]

إذا عرفت هذا، فليس إنكار الحوادث من خصائص هذا الشيخ، بل له سلف صالح من أئمة العلم والهدى، قاموا بالنكير والرد على من ضل وغوى، وصرف خالص العبادة إلى من تحت أطباق الثرى، وسنسرد لك من كلامهم ما تقر به العين وتثلج به الصدور، ويتلاشى معه ما أحدثه الجهال من البدع والإشراك والزور. قال الإمام أبو بكر الطرطوشي في كتابه المشهور الذي سماه "الباعث على إنكار البدع والحوادث": روى البخاري 3 عن أبي واقد الليثي قال:

1 سورة لقمان آية: 21.

2 سورة سبأ آية: 44.

3 أخطأ الطرطوشي رحمه الله في عزو هذا الحديث إلى البخاري، وإنما نعرفه من تخريج أحمد والترمذي والنسائي وكبار رواة التفسير المأثور وغيرهم، وهو صحيح على كل حال كما قال الترمذي ولفظه "سبحان الله! هذا كما قال موسى:(اجعل لنا إلها كما لهم آلهة) والذي نفسي بيده لتركبن سنة من كان قبلكم.

ص: 389

" خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل حنين، ونحن حديث وعهد بكفر، وللمشركين سدرة يعكفون عندها، وينوطون بها أسلحتهم يقال لها: ذات أنواط، فمررنا بسدرة، فقلنا: يا رسول الله، اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الله أكبر! هذا كما قالت بنو إسرائيل لموسى: {اجعل لنا إلها كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون} لتركبن سنن من كان قبلكم ". فانظروا -رحمكم الله- أينما وجدتم سدرة أو شجرة، فقصدها الناس يعظمون من شأنها، ويرجون البرء والشفاء من قبلها، وينوطون بها الخرق والمسامير، فهي ذات أنواط، فاقطعوها. انتهى كلامه رحمه الله. فانظر -رحمك الله- إلى تصريح هذا الإمام، بأن كل شجرة يقصدها الناس، ويعظمونها ويرجون الشفاء والعافية من قبلها، فهي ذات أنواط التي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه لما طلبوا منه أن يجعل لهم شجرة كذات أنواط، فقال:" الله أكبر! هذا كقول بني إسرائيل: {اجعل لنا إلها} "1 مع أنهم لم يطلبوا إلا مجرد مشابهتهم في العكوف عندها، وتعليق الأسلحة للتبرك؛ فتبين لك بهذا أن من جعل قبرا أو شجرة أو شيئا حيا أو ميتا مقصودا له، ودعاه واستغاث به، وتبرك به وعكف على قبره، فقد اتخذه إلها مع الله. فإذا كان الرسول صلوات الله وسلامه عليه أنكر عليهم مجرد طلبهم منه مشابهة المشركين في العكوف، وتعليق الأسلحة للتبرك، فما ظنك بما هو أعظم من ذلك وأطم؟ الشرك الأكبر الذي حرمه الله ورسوله، وأخبر أن أصلح الخلق لو يفعله لحبط عمله، وصار من الظالمين. فصلوات الله وسلامه عليه كما بلغ البلاغ المبين، عرفنا بالله وأوضح لنا الصراط المستقيم، فحقيق بمن نصح نفسه، وآمن بالله واليوم الآخر أن لا يغتر بما عليه أهل

1 الترمذي: الفتن (2180) ، وأحمد (5/218) .

ص: 390

الشرك من عبادة القبور من هذه الأمة. ومن ذلك ما ذكره الإمام محدث الشام عبد الرحمن بن إسماعيل بن إبراهيم -المعروف بأبي شامة- من فقهاء الشافعية وقدمائهم في كتابه الذي سماه: "الباعث على إنكار البدع والحوادث" في فصل البدع المستقبحة، قال: البدع المستقبحة تنقسم على قسمين: قسم تعرفه العامة والخاصة أنه بدعة محرمة وإما مكروهة، وقسم يظنه معظمهم – إلا من عصمه الله – عبادات وقربات وطاعات وسننا، فأما القسم الأول فلا نطول بذكره، إذ كفانا مؤنة الكلام منه اعتراف فاعله أنه ليس من الدين. لكن تبين من هذا القسم مما قد وقع فيه جماعة من جهال العوام، النابذين لشريعة الإسلام، التاركين الاقتداء بأئمة الدين من الفقهاء، وهو ما يفعله طوائف من المنتسبين للفقر الذي حقيقته الافتقار عن الإيمان، مؤاخاة النساء الأجانب والخلوة بهن، واعتقادهم في مشايخ لهم ضالين مضلين، يأكلون في نهار رمضان من غير عذر، ويتركون الصلاة، ويخامرون النجاسات غير مكترثين لذلك، فهم داخلون تحت قوله تعالى:{أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} 1؛ ولهذه الآية وأمثالها كان مبادئ ظهور الكفر من عبادة الأصنام وغيرها.

[الافتتان ببعض الأماكن والاعتقاد في بعض الأشياء]

ومن هذا القسم أيضا، ما قد عم الابتلاء به من تزيين الشيطان للعامة تخليق الحيطان، والعمد والسرج مواضع مخصوصة في كل بلد، يحكي حاك أنه رأى في منامه بها أحدا ممن شهر بالصلاح والولاية، فيفعلون ذلك ويحافظون عليه مع تضييعهم فرائض الله تعالى وسننه، ويظنون أنهم متقربون بذلك. ثم يتجاوزون هذا إلى أن يعظم وقع تلك الأماكن في قلوبهم فيعظمونها، ويرجون الشفاء لمرضاهم وقضاء حوائجهم

1 سورة الشورى آية: 21.

ص: 391

بالنذر لهم، وهي من بين عيون وشجر، وحائط وحجر. وفي مدينة دمشق -صانها الله- من ذلك مواضع متعددة، كعوينة الحمى خارج بلد توما، والعمود المخلق خارج الباب الصغير، والشجرة الملعونة اليابسة خارج باب النصر في نفس قارعة الطريق -سهل الله قطعها واجتثاثها من أصلها-. فما أشبهها بذات أنواط الواردة في الحديث الذي رواه محمد بن إسحاق، وسفيان بن عيينة عن الزهري 1 عن سنان بن أبي سفيان عن أبي واقد الليثي رضي الله عنه قال:" خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حنين، وكانت لقريش شجرة خضراء عظيمة يأتونها كل سنة، فيعلقون عليها سلاحهم، ويعكفون عندها ويذبحون لها، وفي رواية: خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم قبل حنين، ونحن حديثو عهد بكفر وللمشركين سدرة يعكفون عليها، وينوطون بها أسلحتهم، يقال لها: ذات أنواط. فمررنا بسدرة، فتنادينا من جانبتي الطريق، ونحن نسير إلى حنين: يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: الله أكبر! هذا كما قال قوم موسى: {اجعل لنا إلها كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون} لتركبن سنن من كان قبلكم " أخرجه الترمذي بلفظ آخر والمعنى واحد، وقال: هذا حديث حسن صحيح. قال الإمام أبو بكر الطرطوشي في كتابه المتقدم ذكره: فانظروا -رحمكم الله- أينما وجدتم سدرة أو شجرة يقصدها الناس، ويعظمون من شأنها، ويرجون البرء والشفاء من قبلها أو ينوطون بها المسامير والخرق، فهي ذات أنواط فاقطعوها. 2

1 بياض في الأصل وبعده سنان بن أبي سفيان، وهو من تحريف النساخ والصواب ما صححناه به كما في جامع الترمذي.

2 كان بقرب بلدنا زيتونة يسمونها: "زيتونة الولية" يعتقد الجمهور بركتها، فلما قرأت لأهل البلد عقيدة التوحيد في أيام طلبي للعلم أغريتهم بقلعها، فقلعوها ليلا، وكان هنالك عليقة منسوبة لولي ينوطون بها الخرق، فما زلت بهم حتى منعتهم من ذلك.

ص: 392

(قلت:) ولقد أعجبني ما فعله الشيخ أبو إسحاق الحسائي -رحمه الله تعالى- أحد الصالحين ببلاد أفريقية حكى عنه صاحبه الصالح أبو عبد الله محمد بن أبي العباس المؤدب أنه كان إلى جانبه عين تسمى: عين العافية، كانت العامة قد افتتنوا بها يأتونها من الآفاق، من تعذر عليها نكاح أو ولد قالت: امضوا بي إلى العافية، فتعرف بها الفتنة. قال أبو عبد الله: فأنا في السحر ذات ليلة إذ سمعت أذان أبي إسحاق نحوها، فخرجت فوجدته قد هدمها، وأذن الصبح عليها. ثم قال: اللهم إني هدمتها لك، فلا ترفع لها رأسا. قال: فما رفع لها رأس إلى الآن. قلت: وأدهى من ذلك وأمر، إقدامهم على قطع الطريق السابلة يجيزون في أحد الأبواب الثلاثة القديمة العادية التي هي من بناء الجن في زمن نبي الله سليمان بن داود عليه السلام ومن بناء ذي القرنين، وقيل فيها: غير ذلك مما يؤذن بالتقدم على ما نقلناه في كتاب "تاريخ مدينة دمشق" -حرسها الله- وهو الباب الشمالي، ذكر لهم بعض من لا يوثق به في شهور سنة 636 أنه رأى مناما يقتضي أن ذلك المكان دفن فيه بعض أهل البيت. وقد أخبرني عنه ثقة أنه اعترف له أنه افتعل ذلك، فقطعوا طريق المارة فيه، وجعلوا الباب بكماله أصل مسجد مغصوبا، وقد كان الطريق يضيق بسالكيه، فتضاعف الضيق والحرج على من دخل ومن خرج، ضاعف الله عذاب من تسبب في بنائه، وأجزل ثواب من أعان على هدمه وإزالة اعتدائه، اتباعا لسنة النبي صلى الله عليه وسلم في هدم مسجد الضرار، المرصد لأعدائه من الكفار، فلم ينظر الشارع إلى كونه مسجدا، وهدمه لما قصد به من السوء والردى، وقال الله لنبيه:{لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً} 1. نسأل الله الكريم معافاتنا من كل ما يخالف

1 سورة التوبة آية: 108.

ص: 393

رضاه، وأن لا يجعلنا ممن أضله واتخذ إلهه هواه. وهذا الشيخ أبو شامة من كبار أئمة الشافعيين في أوائل القرن السابع. وقال الإمام أبو الوفاء بن عقيل الحنبلي رحمه الله: لما صعبت التكاليف على الجهلة والطغام، عدلوا عن أوضاع الشرع إلى أوضاع وضعوها لأنفسهم، فسهلت عليهم إذ لم يدخلوا بها تحت أمر غيرهم، قال: وهم عندي كفار لهذه الأوضاع مثل تعظيم القبور وإكرامها وإلزامها، لما نهى عنه الشارع من إيقاد السرج وتقبيلها وتخليقها 1 وخطاب الموتى بالحوائج، وكتب الرقاع التي فيها: يا مولاي افعل بي كذا وكذا وأخذ2

تبركا بها. وأما إفاضة الطيب على القبور، وشد الرحال إليها، وإلقاء الخرق على الشجر اقتداء بمن عبد اللات والعزى، والويل عندهم لمن لم يقبل مشهد الكفار، ولم يتمسح بآجر المدينة يوم الأربعاء، ولم يقبل الجملون على جنازة الصدِّيق أبي بكر وعلي، أو لم يعقد على قبر أبيه أزجا (؟) بالجص والآجر ولم يخرق ثيابه إلى الذيل، ولم يرق ماء الورد على القبر. انتهى. فتأمل -رحمك الله- ما ذكره هذا الإمام الذي هو أجل أئمة الحنابلة، بل من أجل أئمة الإسلام، وما كشفه من الأمور التي يفعلها الخواص من الأنام، فضلا عن النساء والغوغاء والعوام، مع كونه في سادس القرون، والناس إذ ذاك لما ذكره يفعلون، وجهابذة العلماء والنقدة يشهدون، وحظهم من النهي مرتبته الثانية فهم بها قائمون، يتضح لك فساد ما زخرفه المبطلون، وموَّه به المتعصبون والملحدون.

[سؤال الميت والغائب قضاء الحاجات والاستسقاء بالصالحين]

قال الشيخ تقي الدين: وأما سؤال الميت والغائب، نبيا كان أو غيره،

1 أي: تضميخها بالخلوق، وهو نوع من الطيب، والمراد هنا جنس الطيب.

2 بياض الأصل.

ص: 394

فهو من المحرمات المنكرة باتفاق أئمة المسلمين، لم يأمر الله به ولا رسوله، ولا فعله أحد من الصحابة ولا التابعين لهم بإحسان، ولا استحبه أحد من أئمة المسلمين. وهذا مما يعلم بالاضطرار من دين الإسلام، فإن أحدا منهم ما كان يقول -إذا نزلت به ترة أو عرضت له حاجة- لميت: يا سيدي يا فلان، أنا في حسبك أو اقض حاجتي، كما يقول بعض هؤلاء المشركين، لمن يدعونهم من الموتى والغائبين، ولا أحد من الصحابة استغاث بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد موته، ولا بغيره من الأنبياء، لا عند قبور الأنبياء، ولا الصلاة عندها. ولما قحط الناس في زمن عمر بن الخطاب، استسقى بالعباس وتوسل بدعائه وقال:"اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبيك إذا أجدبنا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا"، كما ثبت ذلك في صحيح البخاري. وكذلك معاوية رضي الله عنه لما استسقى بأهل الشام بيزيد بن الأسود الجرشي. فهذا الذي ذكره عمر رضي الله عنه توسل منه بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم وشفاعته في حياته، ولهذا توسلوا بعده بدعاء العباس، وبدعاء يزيد بن الأسود، وهذا هو الذي ذكره الفقهاء في كتاب الاستسقاء فقالوا: يستحب أن يستسقى بالصالحين، وإذا كان من أقارب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأفضل.

[السنة في زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم]

وكره العلماء كمالك وغيره أن يقوم الرجل عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم يدعو لنفسه، وذكروا أن هذا من البدع التي لم يفعلها السلف. قال أصحاب مالك: إذا دخل المسجد يدنو من القبر، فيسلم على النبي صلى الله عليه وسلم ويدعو مستقبل القبلة، يوليه ظهره، وقيل: لا يوليه ظهره، وإنما اختلفوا لما فيه من استدباره، أما إذا جعل الحجرة عن يساره، فقد زال المحذور بلا خلاف، ولعل هذا الذي ذكره الأئمة أخذوه من كراهة

ص: 395

الصلاة إلى القبر. فإذا كان قد ثبت النهي عن النبي صلى الله عليه وسلم، فلما نهى أن يتخذ القبر مسجدا أو قبلة، أمروا بأن لا يتحرى الدعاء إليه كما لا يصلى إليه. قال مالك في المبسوط: لا أرى أن يقف عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم يدعو، ولكن يسلم ويصلي. ولهذا -والله أعلم- حرفت الحجرة، وثلثت لما بنيت، فلم يجعل حائطها الشمالي على القبلة، ولا جعل سطحا. وذكر الإمام وغيره: أنه يستقبل القبلة، ويجعل الحجرة عن يساره لئلا يستدبره، وذلك بعد تحيته والصلاة والسلام عليه، ثم يدعو لنفسه. وذكروا أنه إذا حياه وصلى يستقبل وجهه -بأبي وأمي صلى الله عليه وسلم، فإذا أراد الدعاء جعل الحجرة عن يساره، واستقبل القبلة ودعا، وهذا مراعاة منهم أن يفعل الداعي أو الزائر ما نهي عنه من تحري الدعاء عند القبر. وقد ذكر مالك رحمه الله وغيره من أهل المدينة: كلما دخل أحدهم المسجد أن يجيء؛ فيسلم على النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبيه، قال: وإنما يكون ذلك لأحدهم إذا قدم من سفر أو أراد سفرا ونحو ذلك، ورخص بعضهم في السلام عليه إذا دخل للصلاة ونحوها وأما قصده دائما للصلاة والسلام عليه، فما علمت أحدا رخص في ذلك، لأن ذلك نوع من اتخاذه عيدا، وأيضا، فإن ذلك بدعة، فقد كان المهاجرون والأنصار في عهد أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم بما كان النبي صلى الله عليه وسلم يكرهه من ذلك وما نهاهم عنه؛ 1 ولأنهم كانوا يسلمون عليه حين دخول المسجد والخروج منه، وفي آخر الصلاة في التشهد، كما كانوا يسلمون عليه كذلك في حياته، والمأثور عن ابن عمر يدل على ذلك. قال أبو سعيد في سننه: حدثنا عبد الرحمن بن يزيد حدثني أبي عن ابن

1 كذا وفي العبارة قلق واضطراب.

ص: 396

عمر أنه كان إذا قدم من سفر أتى قبر النبي صلى الله عليه وسلم فصلى وسلم عليه وقال: السلام عليك يا أبا بكر، السلام عليك يا أبتاه، وعبد الرحمن بن يزيد وإن كان يضعف، لكن الحديث الصحيح عن نافع يدل على أن ابن عمر لم يكن يفعل ذلك دائما ولا غالبا. وما أحسن ما قال مالك رحمه الله: لن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها، ولكن كلما ضعف تمسك الأمم بعهود أنبيائهم ونقصوا إيمانهم، عوضوا عن ذلك بما أحدثوه من البدع والشرك وغيره، ولهذا كرهت الأمة استلام القبر وتقبيله، وبنوه بناء منعوا الناس أن يصلوا إليه. ومما يبين حكمة الشريعة، وأنها كما قيل: سفينة نوح، من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق، أن الذين خرجوا عن المشروع، زين لهم الشيطان أعمالهم حتى خرجوا إلى الشرك، فطائفة من هؤلاء يصلون للميت، ويستدبر أحدهم القبلة ويسجد للقبر، ويقول أحدهم: القبلة قبلة العامة، وقبر الشيخ فلان قبلة الخاصة، وهذا يقوله من هو أكثر الناس عبادة وزهدا، وهو شيخ متبوع ولعله أمثل أتباع شيخه يقول في شيخه. وآخر من أعيان الشيوخ المتبوعين أصحاب الصدق والاجتهاد في العبادة والزهد، يأمر المريد أول ما يتوب أن يذهب إلى قبر الشيخ، ويعكف عليه عكوف أهل التماثيل عليها.

[الاستغاثة بالنبي والافتتان بالصالحين]

وجمهور هؤلاء المشركين بالقبور يجدون عند عبادة القبور من الرقة والخشوع، والذل وحضور القلب، ما لا يجده أحدهم في مساجد الله التي أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه. وآخرون يحجون القبور، وطائفة صنفوا كتبا، وسموها:"مناسك حج المشاهد" كما

ص: 397

صنف أبو عبد الله محمد بن النعمان الملقب: "بالمفيد" أحد شيوخ الإمامية كتابا في ذلك، وذكر فيه من الحكايات المكذوبة على أهل البيت ما لا يخفى كذبه على من له معرفة بالنقل. وآخرون يسافرون إلى قبور المشايخ، وإن لم يسموا ذلك نسكا وحجا، فالمعنى واحد. وكثير من هؤلاء أعظم قصده من الحج قصد قبر النبي صلى الله عليه وسلم لا حج البيت. وبعض الشيوخ المشهورين بالدين والزهد والصلاح، صنف كتابا سماه الاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وسلم في اليقظة والمنام، وقد ذكر في مناقب هذا الشيخ: أنه حج مرة وكان قبر النبي صلى الله عليه وسلم منتهى قصده، ثم رجع إلى مكة، وجعل هذا من مناقبه، فإن كان هذا مستحبا؛ فينبغي لمن يجب عليه حج البيت إن حج أن يجعل المدينة منتهى قصده، ولا يذهب إلى مكة؛ فإنه زيادة كلفة ومشقة مع ترك الأفضل، وهذا لا يقوله عاقل. وبسبب الخروج عن الشريعة صار بعض أكابر الشيوخ عند الناس -ممن يقصده الملوك والقضاة والعلماء والعامة- على طريقة ابن سبعين، قيل عنه: أنه كان يقول: البيوت المحجوجة ثلاثة: مكة، وبيت المقدس، والبيت الذي للمشركين في الهند؛ وهذا لأنه كان يعتقد أن دين اليهود حق، ودين النصارى حق. وجاءه بعض إخواننا العارفين قبل أن يعرف حقيقته فقال له: أريد أن أسلك على يديك، فقال: على دين اليهود أو النصارى أو المسلمين؟ فقال له: واليهود والنصارى ليسوا كفارا؟ فقال الشيخ: لا تشدد عليهم، ولكن الإسلام أفضل. ومن الناس من يجعل مقبرة الشيخ بمنزلة عرفات، يسافرون إليها وقت الموسم، فيعرفون بها كما يعرف المسلمون بعرفات كما يفعل هذا في المشرق والمغرب. ومنهم من يحكي عن الشيخ الميت أنه قال: كل خطوة إلى قبري كحجة، ويوم

ص: 398

القيامة لا أبيع بحجة، فأنكر بعض الناس ذلك، فتمثل له الشيطان بصورة الشيخ 1 عن إنكار ذلك. وهؤلاء وأمثالهم صلاتهم ونسكهم لغير الله رب العالمين، فليسوا على ملة إمام الحنفاء، وليسوا من عُمَّار مساجد الله التي قال الله فيها:{إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَاّ اللَّهَ} 2، وعُمار مشاهد القبور يخشون غير الله، ويرجون غير الله، حتى أن طائفة من أرباب الكبائر الذين لا يخشون الله فيما يفعلونه من القبائح، فإذا رأى قبة الميت أو الهلال الذي على رأس القبة، فيخشى من فعل الفواحش، ويقول أحدهم لصاحبه: ويحك هذا هلال القبة، فيخشون المدفون تحت الهلال، ولا يخشون الذي خلق السماوات والأرض، وجعل أهلة السماء مواقيت للناس والحج.

وهؤلاء إذا نوظروا خوفوا مناظرهم كما صنع المشركون مع إبراهيم عليه الصلاة والسلام، قال تعالى:{وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَاّ أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} 3 إلى قوله: {وَهُمْ مُهْتَدُونَ} 4.

[الافتتان بأصحاب القبور]

وآخرون قد جعلوا الميت بمنزلة الإله، والشيخ الحي المتعلق به كالنبي، فمن الميت طلب قضاء الحاجات وكشف الكربات، وأما الحي، فالحلال ما حلله والحرام ما حرمه؛ وكأنهم في أنفسهم قد عزلوا الله أن يتخذوه إلها، وعزلوا محمدا صلى الله عليه وسلم أن يتخذوه رسولا. وقد يجيء الحديث

1 بياض بالأصل لعل مكانه كلمة: فنهاه.

2 سورة التوبة آية: 18.

3 سورة الأنعام آية: 80.

4 سورة الأنعام آية: 82.

ص: 399

العهد بالإسلام والتابع لهم المحسن الظن بهم أو غيره يطلب من الشيخ الميت إما دفع ظلم ملك يريد أن يظلمه، أو غير ذلك، فيدخل ذلك السادن، فيقول قد قلت للشيخ، والشيخ يقول للنبي، والنبي يقول لله، والله قد بعث رسولا إلى السلطان فلان؛ فهل هذا إلا محض دين المشركين والنصارى؟ وفيه من الكذب والجهل ما يستجيزه كل مشرك أو نصراني ولا يروج عليه، ويأكلون من النذور والمنذور ما يؤتى به إلى قبورهم ما يدخلون به في معنى قوله تعالى:{إِنَّ كَثِيراً مِنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ} 1، يعرضون بأنفسهم ويمنعون غيرهم؛ إذ التابع لهم يعتقد أن هذا هو سبيل الله ودينه؛ فيمتنع بسبب ذلك من الدخول في دين الحق الذي بعث الله به رسله وأنزل به كتبه، والله سبحانه لم يذكر في كتابه المشاهد، بل ذكر المساجد، وأنها خالصة لوجهه، قال تعالى:{وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} 2، وقال {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} 3، وقال:{فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} 4، وقال تعالى:{وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً} 5، ولم يذكر بيوت الشرك كبيوت النيران والأصنام والمشاهد؛ لأن الصوامع والبيع لأهل الكتاب. فالممدوح من ذلك ما كان مبنيا قبل النسخ والتبديل، يؤمنون بالله واليوم الآخر ويعملون الصالحات، فبيوت الأوثان وبيوت النيران وبيوت الكواكب وبيوت المقابر لم يمدح الله شيئا منها، ولم يذكر ذلك إلا في قصة من لعنهم النبي صلى الله عليه وسلم قال تعالى:{قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدا ً} 6، فهؤلاء الذين اتخذوا مسجدا على أهل الكهف كانوا من النصارى

1 سورة التوبة آية: 34.

2 سورة الأعراف آية: 29.

3 سورة التوبة آية: 18.

4 سورة النور آية: 36.

5 سورة الحج آية: 40.

6 سورة الكهف آية: 21.

ص: 400

الذين لعنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: "لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" 1، وفي رواية (وصالحيهم) ، ودعاء المقبورين من أعظم الوسائل إلى ذلك. وقد قدم بعض شيوخ المشرق، فتكلم معي في هذا، فبينت له فساد هذا فقال: أليس قد قال النبي صلى الله عليه وسلم "إذا أعيتكم الأمور، فعليكم بأصحاب القبور؟ " فقلت: هذا كذب باتفاق أهل العلم، لم يروه عن النبي صلى الله عليه وسلم أحد من علماء الحديث. وبسبب هذا وأمثاله ظهر مصداق قول النبي صلى الله عليه وسلم:"لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه، قال: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟ " 2 3.

[عزو بعض الدجل والحيل عند القبور وغيرها إلى الشياطين]

وهؤلاء الغلاة المشركون إذا حصل لأحدهم مطلبه ولو من كافر، لم يقبل على الرسول بل يطلب حاجته من حيث إنها تقضى، فتارة يذهب إلى ما يظنه قبر رجل صالح، ويكون فيه قبر كافر أو منافق، وتارة يعلم أنه كافر أو منافق فيذهب إليه كما يذهب قوم إلى الكنيسة، أو إلى مواضع يقال لهم: إنها تقبل النذور؛ فهذا يقع فيه عامتهم، وأما الأول فيقع فيه خاصتهم، والمقصود هنا أن كثيرا من الناس يعظم قبر من يكون في الباطن كافرا أو منافقا، ويكون هذا عنده والرسول من جنس واحد، لاعتقاده أن الميت يقضي حاجته إذا كان رجلا صالحا، وكلا هذين من جنس واحد يستغيث به. وكم من مشهد يعظمه الناس، وهو كذب بل يقال: إنه قبر كافر، كالمشهد الذي بسفح جبل

1 البخاري: الصلاة (436)، ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (531)، والنسائي: المساجد (703) ، وأحمد (1/218 ،6/34 ،6/80 ،6/121 ،6/146 ،6/252 ،6/255 ،6/274)، والدارمي: الصلاة (1403) .

2 البخاري: أحاديث الأنبياء (3456)، ومسلم: العلم (2669) ، وأحمد (3/84 ،3/89 ،3/94) .

3 رواية الشيخين في الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري " لتتبعن سنن من قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب دخلتموه" ولفظ مسلم "لاتبعتموهم "، وفي رواية البخاري "لو سلكوا حجر ضب.. إلخ قلنا يا رسول الله: اليهود والنصارى؟ قال: "فمن؟ ".

ص: 401

لبنان الذي يقال: إنه قبر نوح، فإن أهل المعرفة كانوا يقولون إنه قبر بعض العمالقة. وكذلك مشهد الحسين الذي بالقاهرة، وقبر أبي بن كعب الذي بدمشق، اتفق العلماء على أنهما كذب. ومنهم من قال: إنهما قبرا نصرانيين، وكثير من المشاهد تنازع (الناس) فيها، وعندها شياطين تضل بسبها من تضل. ومنهم من يرى في المنام شخصا يظن أنه المقبور، ويكون ذلك شيطانا متصورا بصورته كالشياطين الذين يكونون بالأصنام، وكالشياطين الذين يتمثلون لمن يستغيث بالأصنام والموتى والغائبين. وهذا كثير في زماننا وغيره، مثل أقوام يرصدون بعض التماثيل التي بالبراري بديار مصر بأخميم وغيرها، يرصدون التمثال مدة لا يتطهرون طهر المسلمين، ولا يصلون صلاة المسلمين، ولا يقرؤون حتى يتعلق الشيطان تلك الصورة فيراها تتحرك، فيطمع فيها، أو غيرها، فيرى شيطانا قد خرج له، فيسجد لذلك الشيطان حتى يقضي بعض حوائجه. ومثل هؤلاء كثير في شيوخ الترك الكفار يسمونه البوشت، وهو المخنث عندهم إذا طلبوا منه بعض هذه الأمور أرسلوا إليه بعض من ينكحه ونصبوا له حركات عالية في ليلة ظلماء، وقربوا له خبزا وميتة، وغنوا غناء يناسبه بشرط أن لا يكون عنده من يذكر الله، ولا هناك شيء فيه شيء من ذكر الله، ثم يصعد ذلك الشيخ المفعول به في الهواء، ويرون الدف يطير في الهوى. ويضرب من مد يديه إلى الخبز، ويضرب الشيطان بآلات اللهو وهم يسمعون، ويغني لهم الأغاني التي كانت تغنيها آباؤهم الكفار، ثم قد يغيب وكذلك الطعام، وقد نقل إلى بيت البوشت وقد لا يغيب، ويقربون له ميتة يحرقونها بالنار فيقضي بعض حوائجهم. ومثل هذا كثير جدا للمشركين، فالذي يجري عند المشاهد من جنس

ص: 402

ما يجري عند الأصنام.

[صور من الشرك]

وقد تيقنت بطرق متعددة أن ما يشرك به من دون الله من صنم وقبر وغير ذلك تكون عنده شياطين تضل من أشرك به، وإن تلك الشياطين لا يقضون إلا بعض أغراضهم، وإنما يقضون بعض أغراضهم إذا حصل لهم من الشرك والمعاصي ما يحبه الشيطان، وقد ينهاه عما أمر به من التوحيد والإخلاص والصلوات الخمس وقراءة القرآن ونحو ذلك. والشياطين تغوي الإنسان بحسب ما تطمع منه، فإن كان ضعيف الإيمان أمرته بالكفر البين، وإلا أمرته بما هو فسق، أو معصية، وإن كان قليل العلم، أمرته بما لا يعرف أنه مخالف للكتاب والسنة. وقد وقع في هذا النوع كثير من الشيوخ الذين لهم نصيب وافر من الدين والزهد والعبادة، لكن لعدم علمهم بحقيقة الدين الذي بعث الله به رسوله-صلى الله عليه وسلم طمعت فيهم الشياطين حتى أوقعوهم فيما يخالف الكتاب والسنة. وقد جرى لغير واحد من أصحابنا المشايخ يستغيث بأحدهم بعض أصحابه، فيرى الشيخ في اليقظة حتى قضى ذلك المطلوب. وإنما (هي) شياطين تتمثل للمشركين الذين يدعون غير الله، والجن بحسب الإنس، فالكافر للكافر، والجاهل للجاهل، والفاجر للفاجر، وأما أهل العلم والإيمان فأتباع الجن لهم كأتباع الإنس يتبعونه فيما أمر الله به رسوله. وكان رجل يباشر التدريس، وينتسب إلى الفتيا كان يقول: النبي صلى الله عليه وسلم يعلم ما لا يعلمه الله، ويقدر على ما لا يقدر الله عليه، وإن هذا السر انتقل بعده إلى الحسن. ثم انتقل في ذرية الحسن إلى الشيخ أبي الحسن الشاذلي. وقالوا: هذا مقام القطب الغوث الفرد الجامع. وكان شيخ آخر معظم

ص: 403

عند أتباعه يدعي هذه المنزلة، ويقول: إنه المهدي الذي بشر به النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه يزوج عيسى ابنته، وأن نواصي الملوك بيده، والأولياء بيده، يولي من يشاء، ويعزل من يشاء، وأن الرب يناجيه دائما، وأنه الذي يمد حملة العرش وحيتان البحر. وقد عزرته تعزيرا بليغا في يوم مشهود في حضرة من أهل المسجد الجامع يوم الجمعة بالقاهرة؛ فعرفه الناس، وانكسر بسببه أشباهه من الدجاجلة. ومن هؤلاء من يقول: قول الله -سبحانه وبحمده-: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً} 1 إلى قوله: {كْرَةً وَأَصِيلاً} أن الرسول هو الذي يسبح بكرة وأصيلا، ومنهم من يقول إن الرسول صلى الله عليه وسلم يعلم مفاتيح الغيب الخمس التي قال النبي صلى الله عليه وسلم:"مفاتيح الغيب خمس لا يعلمهن إلا الله: {إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت} "2 وقال: بأنه علمها بعد أن أخبر أنه لا يعلمها إلا الله. ومنهم من قال: أسقط الربوبية، وقل في الرسول ما شئت. ومنهم من يقول: نحن نعبد الله ورسوله، ومنهم من يأتي قبر الميت فيقول: اغفر لي، وارحمني، ولا توقفني على زلة إلى أمثال هذه الأمور التي يتخذ فيها المخلوق إلها. أقول: وهذه سنة مأثورة، وطريقة مسلوكة، والله غير مهجورة، وضلالة واضحة مشهورة، وبدعة مشهورة غير منكورة، وأعلامها مرفوعة منشورة، وراياتها منصوبة غير مكسورة، وبراهينها غير محدودة ولا محصورة، ودلائلها في كثير من المصنفات والمناظيم مذكورة، كما قال ذلك في البردة وبين في ذلك قصده:

1 سورة الفتح آية: 8.

2 البخاري: تفسير القرآن (4627) ، وأحمد (2/24 ،2/52 ،2/58 ،2/85 ،2/122) .

ص: 404

دع ما ادعته النصارى في نبيهم

واحكم بما شئت مدحاً فيه واحتكم

فإن من جودك الدنيا وضرتها

ومن علومك علم اللوح والقلم

ولو نطيل بذكر هذه الأخبار لحررنا منها أسفارا، فلنكف عن قلم اليراع في هذا الميدان، فالحكم والله لا يخفى على ذي عيان، بلى أجلى من ضياء الشمس في البيان. فلما استقر هذا في نفوس عامتهم، نجد أحدهم إذا سئل عمن ينهاهم: ما يقول هذا؟ فيقول: فلان ما ثم عنده إلا الله، لما استقر في نفوسهم أن يجعلوا مع الله إلها آخر. وهذا كله وأمثاله وقع ونحن بمصر، وهؤلاء الصالحون مستخفون بتوحيد الله، ويعظمون دعاء غير الله من الأموات، فإذا أمروا بالتوحيد، ونهوا عن الشرك استخفوا بالله، كما أخبر الله تعالى عن المشركين بقول:{وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَاّ هُزُواً أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ} 1، فاستهزؤا بالرسول لما نهاهم عن الشرك. وقال عن المشركين:{إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلَاّ اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَوَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ} 2، وقال تعالى:{وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} 3.

تفضيل المشركين لمعبوداتهم على خالقهم

وما زال المشركون يسفهون الأنبياء، ويصفونهم بالجنون والضلال والسفاهة، كما قال قوم نوح لنوح، وعاد لهود عليهما السلام:{قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} 4.فأعظم ما سفهوه لأجله، وأنكروه هو التوحيد؛ وهكذا تجد من فيه شبه من

1 سورة الأنبياء آية: 36.

2 سورة الصافات آية: 35.

3 سورة ص آية: 4.

4 سورة الأعراف آية: 70.

ص: 405

هؤلاء من بعض الوجوه إذا رأى من يدعو إلى توحيد الله وإخلاص الدين له، وأن لا يعبد الإنسان إلا الله، ولا يتوكل إلا عليه، استهزأ بذلك لما عنده من الشرك. وكثير من هؤلاء يخربون المساجد، ويعمرون المشاهد؛ فتجد المسجد الذي يبنى للصلوات الخمس معطلا مخرباً ليس له كسوة إلا من الناس، وكأنه خان من الخانات، والمشهد الذي بني على الميت فعليه المستور، وزينة الذهب والفضة والرخام، والنذور تغدو إليه وتروح، فهل هذا إلا من استخفافهم بالله وآياته ورسوله وتعظيمهم للشرك! فإنهم يعتقدون أن دعاءهم للميت الذي بني له المشهد، والاستغاثة به أنفع لهم من دعاء الله، والاستغاثة به في البيت الذي بني لله –عز وجل؛ ففضلوا البيت الذي بني لدعاء المخلوق على البيت الذي بنى لدعاء الخالق. وإذا كان لهذا وقف ولهذا وقف، كان وقف الشرك أعظم عندهم، مضاهاة لمشركي العرب الذين ذكر الله حالهم في قوله:{وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيباً} 1 الآية: كانوا يجعلون له زرعا وماشية، ولآلهتهم زرعا وماشية، فإذا نضب نصيب آلهتهم أخذوا من نصيب الله فوضعوه فيه، وقالوا: الله غني وآلهتنا فقيرة، فيفضلون ما يجعل لغير الله على ما يجعل لله. وهكذا حال أهل الوقوف والنذور التي تبذل عندهم للمشاهد أعظم عندهم مما يبذل للمساجد ولعمار المساجد والجهاد في سبيل الله. وهؤلاء إذا قصد أحدهم القبر الذي يعظمه بكى عنده وخضع، ويدعو، ويتضرع، ويحصل له من الرقة والتواضع والعبودية وحضور القلب ما لا يحصل له مثله في الصلوات الخمس والجمعة وقيام الليل وقراءة القرآن. فهل هذا الأمر إلا من حال المشركين المبتدعين؟ لا الموحدين

1 سورة الأنعام آية: 136.

ص: 406

المخلصين المتبعين لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. ومثل هذا إذا سمع الأبيات يحصل له من الحضور والخشوع والبكاء ما لا يحصل له مثله عند سماع آيات الله؛ فيخشع عند سماع المبتدعين المشركين، ولا يخشع عند سماع المتقين المخلصين. بل إذا سمعوا آيات الله استثقلوها وكرهوها واستهزؤوا بها، فيجعل له أعظم نصيب من قوله:{قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ} 1؛وإذا سمعوا القرآن سمعوه بقلوب لاهية، وألسن لاغية كأنهم صم عمي؛ وإذا سمعوا الأبيات حضرت قلوبهم، وسكتت ألسنتهم، وسكتت حركاتهم، حتى لا يشرب العطشان منهم. ومن هؤلاء من إذا كانوا في سماعهم فأذن المؤذن قالوا: نحن في شيء أفضل مما دعانا إليه. ومنهم من يقول: كنا في الحضرة فإذا قمنا إلى الصلاة صرنا إلى الباب. وقد سألني بعضهم عمن قال ذلك من هؤلاء الشيوخ الضلال، فقلت: كان في حضرة الشيطان فصار على باب الله، فإن البدع والضلال فيها من حضور الشيطان ما قد فصل في غير هذا الموضع. والذين جعلوا دعاء الموتى من الأنبياء والأئمة والشيوخ أفضل من دعاء الله أنواع متعددة: منهم من تقدم، ومنهم من يحكي أنواعا من الحكايات فلم يخرجه، ودعا بعض المشايخ الموتى فأخرجه إلى بلاد الإسلام2. وحكاية أن بعض المشايخ قال لمريده: إذا كانت لك إلى الله حاجة فتعال إلى قبري، وآخر قال: فتوسل إلى الله بي، وآخر قال: قبر فلان هو الترياق المجرب. فهؤلاء وأشباههم يرجحون هذه الأدعية على أدعية

1 سورة التوبة آية: 65.

2 هذا السطر غير مفهوم إذ ليس قبله اسم يظهر أنه فاعل لقوله فيه فلم يخرجه وقوله فأخرجه. فالظاهر أنه سقط من الكلام قبله شيء. وهذه الرسالة كثيرة الغلط.

ص: 407

المخلصين لله، مضاهاة للمشركين. وهؤلاء يتمثل لكثير منهم صورة شيخه الذي يدعوه فيظنه إياه، أو ملكا على صورته، وإنما هو شيطان أغواه. ومن هؤلاء من إذا نزلت به شدة لا يدعو إلا شيخه، ولا يذكر إلا اسمه قد لهج به كما يلهج الصبي بذكر أمه، فيتعس أحدهم فيقول: يا فلان، وقد قال الله تعالى للمؤمنين:{فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً} 1. ومن هؤلاء من يحلف بالله ويكذب، ويحلف بشيخه وإمامه فيصدق، فيكون شيخه عنده وفي صدره أعظم.

القبوريون ليس لهم حجة على دعواهم

فإذا كان دعاء الموتى مثل الأنبياء والصالحين يتضمن هذا الاستهزاء بالله وآياته ورسوله، فأي الفريقين أحق بالاستهزاء بآيات الله ورسوله؟ من كان يأمر بدعاء الموتى والاستغاثة بهم مع ما يترتب على ذلك من الاستهزاء بالله وآياته ورسوله، أو من كان يأمر بدعاء الله وحده لا شريك له كما أمرت رسله، ويوجب طاعة الرسول ومتابعته في كل ما جاء به؟. وأيضاً فإن هؤلاء الموحدين من أعظم الناس لجانب الرسول تصديقاً له فيما أخبر، وطاعة له فيما أمر، واعتناء بما بعث به، ولتميز ما روي عنه من الصحيح والضعيف والصدق والكذب، واتباع ذلك دون ما خالفه عملا بقوله تعالى:{اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} 2. وأما أولئك الضلال أشباه المشركين والنصارى فعمدتهم إما أحاديث ضعيفة، أو موضوعة، أو منقولة عمن لا يحتج بقوله، إما أن تكون كذبا عليه، وإما أن تكون غلطا منه إذ هي نقل غير مصدق عن قائل غير معصوم، وإن اعتصموا بشيء مما ثبت عن الرسول حرفوا الكلم عن مواضعه، وتمسكوا بمتشابهه

1 سورة البقرة آية: 200.

2 سورة الأعراف آية: 3.

ص: 408

وتركوا محكمه، كما فعل النصارى. هذا ما علمته ينقل عن أحد من العلماء لكنه موجود في كلام بعض الناس مثل الشيخ يحي الصرصري ففي شعره قطعة منه، والشيخ محمد بن النعمان وكتاب المستغيثين بالنبي صلى الله عليه وسلم في اليقظة والمنام، وهؤلاء لهم صلاح ودين، لكن ليسوا من أهل العلم العالمين بمدارك الأحكام، الذين يؤخذ بقولهم في شرائع الإسلام، ومعرفة الحلال والحرام. وليس لهم (دليل) شرعي، ولا نقل عن عالم مرضي، بل عادة جروا عليها كما جرت عادة كثير من الناس بأنه يستغيث شيخه في الشدائد، ويدعوه. وكان بعض الشيوخ الذين أعرفهم ولهم صلاح وعلم وزهد إذا نزل به أمر، خطا إلى جهة الشيخ عبد القادر خطوات معدودة واستغاث به1. وهذا يفعله كثير من الناس، ولهذا لما نبه من نبه له من فضلائهم، تنبهوا، وعلموا أن ما كانوا عليه ليس من دين الإسلام، بل هو مشابهة لعباد الأصنام، ونحن نعلم بالاضطرار من دين الإسلام أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يشرع لأمته أن يدعوا أحداً من الأموات، لا الأنبياء ولا غيرهم بلفظ الاستغاثة ولا بغيرها، كما أنه لم يشرع السجود لميت ولا إلى ميت ونحو ذلك، بل نعلم أنه نهى عن كل هذه الأمور؛ وإن ذلك من الشرك الذي حرمه الله ورسوله، لكن لغلبة الجهل وقلة العلم بآثار الرسالة في كثير

1 قد ذكروا في بعض الكتب وما زالوا يتناقلون أن من أصابته شدة فليصل ركعتين ثم ليتوجه إلى الشرق- أي إلى بغداد – وينادي الشيخ وينشد هذين البيتين في الاستغاثة والاستجارة به: أيدركنى ضيم وأنت ذخيرتي وأظلم في الدنيا وأنت مجيري وعار على راعي الحمى وهو في الحمى إذا ضاع في الهيجا عقال بعير ويقول: سيدي عبد القادر اقض حاجتي ويذكرها. قالوا: فإنها تقضى وإن ذلك مجرب، وقد يروون ذلك عنه، برأه الله من شركهم بالله وكفرهم بدينه.

ص: 409

من المتأخرين لم يمكن تكفيرهم بذلك حتى يبين لهم ما جاء به الرسول مما يخالفه. ولهذا ما بينت المسألة قط لمن يعرف دين الإسلام إلا تفطن لهذا، وقال: هذا أصل الإسلام. وكان بعض أكابر الشيوخ العارفين من أصحابنا يقول: هذا أعظم ما بينه لنا، لعلمه أن هذا أصل الدين، وكان هذا أو أمثاله في ناحية أخرى يدعون الأموات، ويسألونهم ويستجيرون بهم، ويتضرعون إليهم.

دعاء أصحاب القبور والصالحين

وربما كان الذي يفعلونه بالأموات أعظم، لأنهم إنما يقصدون الميت في ضرورة نزلت بهم، فيدعون دعاء المضطر راجين قضاء حاجاتهم بدعائه، أو الدعاء به، أو الدعاء عند قبره، بخلاف عبادتهم للذي دعاهم إياه، فإنهم يفعلونه في كثير من الأوقات على وجه العادة والتكلف، حتى إن العدو الخارج عن شريعة الإسلام لما قدم دمشق خرجوا يستغيثون بالموتى عند القبور التي يرجون عندها كشف ضرهم، قال بعض الشعراء:

يا خائفين من التتر

لوذوا بقبر أبي عمر

ينجيكمو من الضرر

فقلت لهؤلاء الذين يستغيثون بهم: لو كانوا معكم في القتال لانهزموا كما انهزم من المسلمين يوم أحد، فإنه كان قد قضي أن العسكر ينكسر لأسباب اقتضت ذلك ولحكمة كانت لله في ذلك، ولهذا كان أهل المعرفة بالدين والمكاشفة لم يقاتلوا في تلك المرة لعدم القتال الشرعي الذي أمر الله به ورسوله. فلما كان بعد ذلك جعلنا نأمر بإخلاص الدين لله والاستعانة به، وأنهم لا يستعينون إلا إياه، ولا يستغيثون بملك مقرب ولا نبي مرسل. فلما أصلح الناس أمورهم، وصدقوا في الاستغاثة بربهم، نصرهم الله على عدوهم نصراً عزيزاً لم يتقدم نظيره، ولم يهزم التتار مثل هذه الهزيمة

ص: 410

أصلا لما صح من توحيد الله وطاعة رسوله بما لم يكن قبل ذلك، فالله ينصر رسله:{وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ} 1 كما قال -تعالى- في يوم بدر: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ} 2. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم "كان يقول في كل يوم: يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث" 3،وفي لفظ "أصلح لي شأني كله ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين، ولا إلى أحد من خلقك" 4.وهؤلاء يدعون الميت والغائب فيقول أحدهم: بك أستغيث، بك أستجير، أغثنا أجرنا، ويقول: أنت تعلم ذنوبي، ومنهم من يقول للميت: اغفر لي، وارحمني، وتب على، ونحو ذلك. ومن لم يقل من عقلائهم فإنه يقول: أشكو إليك ذنوبي، وأشكو إليك عدوي، وأشكو إليك جور الولاة، وظهور البدع، أو جدب الزمان وغير ذلك، فيشكون إليه ما حصل من ضرر في الدين والدنيا، ومقصوده في الشكوى أن يشكيه5 فيزيل ذلك الضرر. وقد يقول مع ذلك للميت: أنت تعلم ما نزل بنا من الضرر، وأنت تعلم ما فعلته من الذنوب، فيجعل الميت والحي والغائب عالماً بذنوب العباد ومجرياتهم التي يمتنع أن يعلمها بشر حي أو ميت6. وعقلاؤهم يقولون: مقصودنا أن يسأل الله لنا، ويظنون أنهم إذا سألوه بعد موته أن يسأل الله لهم فإنه يسأل الله لهم7، فإنه يسأل ويشفع كما كان يسأل ويشفع لما سأله الصحابة الاستسقاء وغيره، وكما يشفع يوم القيامة إذا سئل الشفاعة، ولا يعلمون أن سؤال الميت والغائب غير مشروع البتة، ولم يفعله أحد

1 سورة غافر آية: 51.

2 سورة الأنفال آية: 9.

3 الترمذي: الدعوات (3524) .

4 أبو داود: الأدب (5090) ، وأحمد (5/42) .

5 يشكيه بضم الياء من الإشكاء وهو إزالة ما يشكو منه من ضر.

6 ومن كلمات خواصهم التي سمعت من بعض قضاة الشرع وغيرهم من أهل العلم قولهم عند القبر المنسوب إلى الحسين -رضي اله عنه-: ياسيدي العارف لا يعرف إلخ.

7 قد سقط من هنا كلام فيه ذكر النبي –صلى الله عليه وسلم.

ص: 411

من الصحابة، بل عدلوا عن سؤاله، وطلبوا الدعاء منه، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم وسائر الأنبياء والصالحين وغيرهم لا يطلب من أحدهم بعد موته من الأمور ما كان يطلب منه في حياته. انتهى كلام الشيخ رحمه الله ملخصاً.

أنواع عبادة القبور ومخالفة النصوص فيها

فانظر -رحمك الله- إلى ما ذكره هذا الإمام من أنواع الشرك الأكبر الذي قد وقع في زمانه ممن يدعي العلم والمعرفة، وينتصب للفتيا والقضاء، لكن لما نبههم الشيخ رحمه الله على ذلك، وبين لهم أن هذا من الشرك الذي حرمه الله ورسوله، تنبه من تنبه منهم وتاب إلى الله، وعرف أن ما كان عليه شرك وضلال، وانقاد للحق؛ وهذا مما يبين لك غربة الإسلام في ذلك الوقت عند كثير من الأنام. وأن هذا مصداق ما تواترت به الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:"لتتبعن سنن من كان قبلكم" 1 الحديث، أو قوله:"بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ" 2 وبهذا ينكشف لك ويتضح عندك بطلان ما عليه كثير من أهل الزمان، من أنواع الشرك والبدع والحدثان، قلا تغتر بما هم عليه، وهذه هي البلية العظيمة، والخصلة القبيحة الذميمة، وهي الاغترار بالآباء والأجداد، وما استمر عليه عمل كثير من أهل البلاد، وتلك الحجة التي انتحلها أهل الشرك والكفر والعناد، كما حكى الله عنهم ذلك في محكم التنْزيل، من غير شك ولا تأويل، حيث قال وهو أصدق القائلين، حكاية عن فرعون اللعين، أنه قال لموسي وأخيه هارون الكريمين:{قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى} 3، فأجابه عليه السلام بقوله:{عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى} 4. فمن امتطى كاهل الصدق والوفاء، وسلم من التعصب والعناد والجفاء،

1 البخاري: أحاديث الأنبياء (3456)، ومسلم: العلم (2669) ، وأحمد (3/84 ،3/89 ،3/94) .

2 مسلم: الإيمان (145)، وابن ماجه: الفتن (3986) ، وأحمد (2/389) .

3 سورة طه آية: 51.

4 سورة طه آية: 52.

ص: 412

وتوسط في المحجة، وقنع في قبول الحق بالحجة، كان ذلك طريقه ونهجه وأشرق في صدره مصباح القبول، وأوقد فيه بزيت المعرفة والوصول، وكان من ضوء التوحيد على حصول، قال ابن القيم رحمه الله في الإغاثة: قال صلى الله عليه وسلم: "لا تتخذوا قبري عيدا" 1، وقال:"للهم لا تجعل قبري وثنا يعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" 2، وفي اتخاذها عيدا من المفاسد ما يغضب لأجله من في قلبه وقار لله وغيرة على التوحيد، ولكن

ما لجرح بميت إيلام

منها الصلاة إليها والطواف بها، واستلامها وتعفير الخدود على ترابها وعبادة أصحابها، وسؤالهم النصر والرزق والعافية، وقضاء الديون، وتفريج الكربات التي كان عباد الأوثان يسألونها أوثانهم. وكل من شم أدنى رائحة من العلم يعلم أن من أهم الأمور سد الذريعة إلى ذلك، وأنه صلى الله عليه وسلم أعلم بعاقبة ما نهى عنه، وأنه يؤول إليه، وإذا لعن من اتخذ القبور مساجد يعبد الله فيها، فكيف بملازمتها واعتياد قصدها وعبادتها؟ ومن جمع بين سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في القبور، وما أمر به، وما نهى عنه، وما عليه أصحابه، وبين ما عليه أكثر الناس اليوم، رأى أحدهما مضادا للآخر. فنهى عن اتخاذها مساجد؛ وهؤلاء يبنون عليها المساجد. ونهى عن تسريجها، وهؤلاء يوقفون الوقوف على إيقاد القناديل بل عليها. ونهى عن أن تتخذ عيداً، وهؤلاء يتخذونها أعيادا، ونهى عن تشريفها، وأمر بتسويتها كما في صحيح مسلم عن علي رضي الله عنه وهؤلاء يرفعونها ويجعلون عليها القباب. ونهى عن تجصيص القبر والبناء عليه كما في صحيح مسلم عن جابر، ونهى عن الكتابة عليها كما رواه الترمذي في صحيحه عن جابر، ونهى أن يزاد عليها غير ترابها كما رواه أبو داود عن

1 أبو داود: المناسك (2042) ، وأحمد (2/367) .

2 مالك: النداء للصلاة (416) .

ص: 413

جابر، وهؤلاء يتخذون عليها الألواح، ويكتبون عليها القرآن، ويزيدون على ترابها بالجص والآجر والأحجار. وقد آل الأمر بهؤلاء الضلال المشركين إلى أن شرعوا للقبور حجا، ووضعوا لها مناسك، حتى صنف بعضهم في ذلك كتابا سماه مناسك حج المشاهد.

لن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها

ولا يخفى أن هذا مفارقة لدين الإسلام ودخول في دين عباد الأصنام، فانظر إلى هذا التباين العظيم بين ما شرعه الرسول صلى الله عليه وسلم لأمته، وبين ما شرعه هؤلاء. والنبي صلى الله عليه وسلم أمر بزيارة القبور لأنها تذكر الآخرة، وأمر الزائر أن يدعو لأهل القبور، ونهاه أن يقول هجرا؛ فهذه الزيارة التي أذن رسول الله فيها لأمته وعلمهم إياها، هل تجد فيها شيئا مما يعتمد عليه أهل الشرك والبدع، أم تجدها مضادة لما هم عليه من كل وجه؟ وما أحسن ما قال الإمام أحمد:1 رحمه الله: لن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها، ولكن كلما ضعف تمسك الأمم بعهود أنبيائهم، عوضوا عن ذلك بما أحدثوا من البدع والشرك، ولقد جرد السلف الصالح التوحيد وحموا جانبه، حتى كان أحدهم إذا سلم على النبي صلى الله عليه وسلم ثم أراد الدعاء جعل ظهره إلى جدار القبر ثم دعا، وقد نص على ذلك الأئمة الأربعة أنه يستقبل القبلة للدعاء حتى لا يدعو عند القبر، فإن الدعاء عبادة.

الدعاء للميت لا الاستشفاع به

وبالجملة فإن الميت قد انقطع عمله فهو محتاج إلى من يدعو له، ولهذا شرع في الصلاة عليه من الدعاء ما لم يشرع مثله للحي، ومقصود الصلاة على الميت الاستغفار له والدعاء له، وكذلك الزيارة مقصودها الدعاء للميت والإحسان

1 هذه الكلمة مأثورة عن الإمام مالك فالظاهر أن الناسخ كتب "الإمام أحمد" سهوا منه. ويحتمل أنها مروية عن الإمامين -رحمهما الله تعالى-.

ص: 414

إليه وتذكير الآخرة، فبدل أهل البدع والشرك قولا غير الذي قيل لهم، فبدلوا الدعاء له بدعائه نفسه، والشفاعة له بالاستشفاع به، والزيارة التي شرعت إحسانا إلى الميت وإلى الزائر بسؤال الميت والإقسام به على الله، وتخصيص تلك البقعة بالدعاء الذي هو محض العبادة، وحضور القلب عندها وخشوعه أعظم منه في المساجد. ثم ذكر حديث ذات أنواط، ثم قال: فإذا كان اتخاذ الشجرة لتعليق الأسلحة والعكوف لها اتخاذ إله مع الله، وهم لا يعبدونها ولا يسألونها، فما الظن بالعكوف حول القبر ودعائه، والدعاء عنده والدعاء به؟ وأي نسبة للفتنة بشجرة إلى الفتنة بالقبر لو كان أهل الشرك والبدع يعلمون؟!

[التخلص مما يؤدي بالناس إلى الشرك]

ومن له خبرة بما بعث الله به رسوله، وبما عليه أهل الشرك والبدع اليوم في هذا الباب وغيره، علم أن ما بين السلف وبينهم أبعد مما بين المشرق والمغرب. والأمر والله أعظم مما ذكرنا، وعمى الصحابة قبر دانيال بأمر عمر رضي الله عنه، ولما بلغه أن الناس ينتابون الشجرة التي بويع رسول الله صلى الله عليه وسلم تحتها، أرسل إليها وقطعها. قال عيسى بن يونس: هو عندنا من حديث ابن عوف عن نافع، فإذا كان هذا فعله في الشجرة التي ذكرها الله في القرآن، وبايع تحتها الصحابة رضي الله عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فماذا حكمه فيما عداها؟ وأبلغ من ذلك أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم هدم مسجد الضرار، ففيه دليل على هدم المساجد التي هي أعظم فسادا منه كالمبنية على القبور، وكذلك قبابها فتجب المبادرة إلى هدم ما لعن رسول الله –صلى الله عليه وسلم فاعله؛ والله يقيم لدينه من ينصره ويذب عنه. وكان بدمشق كثير من هذه الأنصاب فيسر الله –سبحانه- كسرها

ص: 415

على يد شيخ الإسلام، وحزب الله الموحدين. وكان العامة يقولون للشيء منها: إنه يقبل النذر، أي يقبل العبادة من دون الله؛ فإن النذر عبادة يتقرب بها الناذر إلى المنذور، ولقد أنكر السلف التمسح بحجر المقام الذي أمر الله أن يتخذ منه مصلى. قال قتادة في الآية: إنما أمروا أن يصلوا عنده ولم يؤمروا بمسحه، ولقد تكلفت هذه الأمة شيئاً ما تكلفته الأمم قبلها، ذكر لنا من رأى أثر أصابعه فما زالت هذه تمسحه حتى اخلولق (؟) .

[الفتنة بالقبور أصل عبادة الأصنام]

وأعظم من الفتنة بهذه الأنصاب فتنة أصحاب القبور، وهي أصل فتنة عباد الأصنام كما ذكر الله في سورة نوح فى قوله:{وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً} 1 الآية، ذكر السلف في تفسيرها أن هؤلاء أسماء رجال صالحين في قوم نوح، فلما ماتوا عكفوا على قبورهم، ثم صوروا تماثيلهم، ثم طال عليهم الأمد فعبدوهم2، وتعظيم الصالحين إنما هو باتباع ما دعوا إليه دون اتخاذ قبورهم أعيادا وأوثانا، فأعرضوا عن المشروع واشتغلوا بالبدع. ومن أصغى إلى كلامه وتفهمه أغناه عن البدع والآراء، ومن بعد عنه فلا بد أن يتعوض بما لا ينفعه؛ كما أن من عمر قلبه بمحبة الله وخشيته والتوكل عليه أغناه عن محبة غيره وخشيته والتوكل عليه. فالمعرض عن التوحيد مشرك شاء أم أبى، والمعرض عن السنة مبتدع شاء أم أبى، والمعرض عن محبة الله عبد الصور شاء أم أبى. وهذه الأمور المبتدعة عند القبور أنواع أبعدها عن الشرع أن يسأل الميت حاجته كما يفعله كثير، وهؤلاء من جنس عباد الأصنام؛ ولهذا يتمثل لهم الشيطان في صورة

1 سورة نوح آية: 23.

2 رواه البخارى عن ابن عباس –رضي الله عنه بابسط من هذا.

ص: 416

الميت كما يتمثل لعباد الأصنام، وكذلك السجود للقبر وتقبيله والتمسح به. (النوع الثاني) : أن يسأل الله به، وهذا يفعله كثير من المتأخرين، وهو بدعة إجماعا. (النوع الثالث) : أن يظن أن الدعاء عنده مستجاب، وأنه أفضل من الدعاء في المسجد، فيقصد القبر لذلك. فهذا أيضاً من المنكرات إجماعا، وما علمت فيه نزاعا بين أئمة الدين، وإن كان كثير من المتأخرين يفعله. وبالجملة فأكثر أهل الأرض مفتونون بعبادة الأصنام، ولم يتخلص منها إلا الحنفاء أتباع ملة إبراهيم. وعبادتها في الأرض من قبل نوح، وهياكلها ووقوفها وسدنتها وحجابها، والكتب المصنفة في عبادتها طبق الأرض. قال إمام الحنفاء عليه السلام:{وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ} 1، وكفى في معرفتهم أنهم أكفر أهل الأرض بما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن بعث النار من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون، وقد قال تعالى:{فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَاّ كُفُوراً} 2، وقال تعالى:{وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} 3، ولو لم تكن الفتنة بعبادتهم الأصنام عظيمة، لما أقدم عبادها على بذل نفوسهم وأموالهم وأبنائهم دونها، يشاهدون مصارع إخوانهم، وما حل بهم، ولا يزيدهم ذلك إلا حبا وتعظيما، ويوصي بعضهم بعضاً بالصبر عليها. انتهى كلام الشيخ رحمه الله ملخصاً.

[من طرق تحقيق التوحيد الذي هو أصل الدين ورأسه]

وقال الشيخ تقي الدين في (الرسالة السنية) لما ذكر حديث الخوارج ومروقهم من الدين وأمره صلى الله عليه وسلم بقتلهم قال: فإذا كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفائه من انتسب إلى الإسلام والسنة، ففي هذه الأزمان قد مرق أيضاً

1 سورة إبراهيم آية: 35.

2 سورة الإسراء آية: 89.

3 سورة الأنعام آية: 116.

ص: 417

من الإسلام1. وذلك بأسباب: منها الغلو الذي ذمه الله في كتابه حيث قال: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} 2 الآية، وعلي بن أبي طالب رضي الله عنه حرق الغالية من الرافضة، وأمر بأخاديد خدَّت عند باب كندة، فقذفهم فيها. واتفق الصحابة على قتلهم، لكن ابن عباس -رضى عنه- مذهبه أن يقتلوا بالسيف بلا تحريق، وهو قول أكثر العلماء، وقصصهم معروفة عند العلماء. وكذلك الغلو في بعض المشايخ، بل الغلو في علي بن أبي طالب، بل الغلو في الشيخ ونحوه، فكل من غلا في نبي، أو رجل صالح، وجعل فيه نوعا من الإلهية مثل أن يقول: يا سيدي فلان انصرني، أو أغثني، أو ارزقني، أو آجرني، أو أنا في حسبك، ونحو هذه الأقوال، فكل هذا شرك وضلال يستتاب صاحبه، فإن تاب وإلا قتل. فإن الله إنما أرسل الرسل، وأنزل الكتب ليعبدوه وحده لا يجعلون معه إلهاً آخر. والذين يدعون مع الله آلهة أخرى مثل المسيح والملائكة والأصنام، لم يكونوا يعتقدون أنها تخلق الخلائق، أو تنزل المطر، أو تنبت النبات، وإنما كانوا يعبدونهم، أو يعبدون قبورهم، أو صورهم يقولون: إنما نعبدهم ليقربونا إلى الله زلفى: {وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} 3؛ فبعث الله رسوله ينهى أن يدعى أحد من دونه لا دعاء عبادة ولا دعاء استغاثة، وقال تعالى:{قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} 4 الآية. قال طائفة من السلف: كان أقوام يدعون المسيح وعزيراً

إلى أن قال:

1 كذا في الأصل والكلام كما ترى قد سقط منه شيء والمراد منه مفهوم بالقرينة وهو أن المروق من الإسلام غير مستغرب في هذا الزمان بعد أن علم مروق أناس منه في خير القرون.

2 سورة النساء آية: 171.

3 سورة يونس آية: 18.

4 سورة الإسراء آية: 56.

ص: 418

وعبادة الله هي أصل الدين، وهي التوحيد الذي بعث الله به الرسل، وأنزل به الكتب، قال تعالى:{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} 1، وقال:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَاّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَاّ أَنَا فَاعْبُدُونِ} 2. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحقق التوحيد، ويعلم أمته حتى قال رجل: ما شاء الله وشئت، قال: "أجعلتني لله ندا؟ قل: ما شاء الله وحده" 3، ونهى عن الحلف بغير الله وقال: "من حلف بغير الله فقد أشرك" 4 وقال في مرض موته: "لعن الله اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" 5، يحذر ما فعلوا، وقال: "اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد" 6. ولهذا اتفق أئمة الإسلام على أنه لا يشرع بناء المساجد على القبور ولا الصلاة عندها، وذلك لأن من أكبر أسباب عبادة الأوثان تعظيم القبور. ولهذا اتفق العلماء على أن من سلم على النبي –صلى الله عليه وسلم عند قبره فلا يشبه بيت المخلوق ببيت الخالق7، كل هذا لتحقيق التوحيد الذي هو أصل الدين ورأسه الذي لا يقبل الله عملا إلا به، ويغفر لصاحبه، ولا يغفر لمن تركه، كما قال تعالى:{إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً} 8. ولهذا كانت كلمة التوحيد أفضل الكلام، وأعظم آية في القرآن آية الكرسي: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَاّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} 9. وقال صلى الله عليه وسلم: "من كان آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا الله، دخل الجنة" 10، ولا إله إلا الله الذي تأله القلوب عبادة واستعانة ورجاء وخشية وإجلالا. انتهى كلامه رحمه الله. فتأمل أول كلامه وآخره، وتأمل كلامه فيمن دعا نبيا، أو وليا مثل أن يقول: يا سيدي أغثني، ونحوه، أنه يستتاب، فإن تاب وإلا قتل، تجده صريحا في تكفير أهل

1 سورة النحل آية: 36.

2 سورة الأنبياء آية: 25.

3 ابن ماجه: الكفارات (2117) ، وأحمد (1/214) .

4 الترمذي: النذور والأيمان (1535)، وأبو داود: الأيمان والنذور (3251) ، وأحمد (2/34 ،2/69 ،2/86 ،2/125) .

5 البخاري: الصلاة (436)، ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (531)، والنسائي: المساجد (703) ، وأحمد (1/218 ،6/34 ،6/80 ،6/121 ،6/146 ،6/252 ،6/255 ،6/274)، والدارمي: الصلاة (1403) .

6 مالك: النداء للصلاة (416) .

7 في العبارة سقط وتحريف فليتأمل.

8 سورة النساء آية: 48.

9 سورة البقرة آية: 255.

10 أبو داود: الجنائز (3116) ، وأحمد (5/233 ،5/247) .

ص: 419

الشرك وقتلهم بعد الاستتابة وإقامة الحجة عليهم، وأن من غلا في نبي أو رجل صالح، وجعل فيه نوعا من الآلهية فقد اتخذه إلها مع الله، لأن الإله هو المألوه الذي يألهه القلب أي: يقصده بالعبادة والدعوة والخشية والإجلال والتعظيم، وإن زعم أنه لا يريد إلا الشفاعة والتقرب عند الله، لأنه بين أن هذا مطلوب المشركين الأولين، فاستدل على ذلك بالآيات الصريحات القاطعات. والله أعلم.

الإهلال لغير الله

وقال رحمه الله في الكلام على قوله تعالى: {وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} 1: ظاهره أن ما ذبح لغير الله سواء لفظ به أو لم يلفظ، وتحريم هذا أظهر من تحريم ما ذبحه للحم، وقال فيه: باسم المسيح، ونحوه. كما أن ما ذبحناه متقربين به إلى الله تعالى كان أزكى مما ذبحناه للحم، وقلنا عليه: باسم الله، فإن عبادة الله بالصلاة والنسك له أعظم من الاستغاثة باسمه في فواتح الأمور. والعبادة لغير الله أعظم كفرا من الاستغاثة بغير الله، فلو ذبح لغير الله متقربا إليه لحرم، وإن قال فيه باسم الله، كما قد يفعله طائفة من منافقي هذه الأمة، وإن كان هؤلاء لا تباح ذبيحتهم بحال، لكن يجتمع في الذبيحة مانعان، ومن هذا ما يفعل بمكة وغيرها من الذبح للجن. انتهى كلام الشيخ رحمه الله. فتأمل -رحمك الله- هذا الكلام وتصريحه فيه بأن من ذبح لغير الله من هذه الأمة، فهو كافر مرتد لا تباح ذبيحته، لأنه يجتمع فيها مانعان: الأول: أنها ذبيحة مرتد، وذبيحة المرتد لا تباح بالإجماع، الثاني: أنها مما أهل به لغير الله، وقد حرم الله ذلك في قوله:{قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَاّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} 2. وتأمل قوله: ومن هذا ما يفعل بمكة وغيرها من الذبح للجن. والله أعلم.

1 سورة المائدة آية: 3.

2 سورة الأنعام آية: 145.

ص: 420

[من صور الشرك الأكبر]

فصل

قال ابن القيم في شرح المنازل في باب التوبة: وأما الشرك فهو نوعان: أكبر وأصغر، فالأكبر لا يغفره الله إلا بالتوبة: وهو أن يتخذ من دون الله ندا يحبه كما يحب الله؛ وهو الشرك الذي تضمن تسوية آلهة المشركين برب العالمين، ولهذا قالوا لآلهتهم في النار:{تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} 1، مع إقرارهم بأن الله وحده خالق كل شيء وربه ومليكه، وأن آلهتهم لا تخلق، ولا ترزق، ولا تحيي، ولا تميت، وإنما كانت هذه التسوية في المحبة والتعظيم والعبادة كما هو حال أكثر مشركي العالم، بل كلهم يحبون معبوديهم، ويعظمونها، ويوالونها من دون الله. وكثير منهم بل أكثرهم يحبون آلهتهم أعظم من محبة الله، ويستبشرون بذكرهم أعظم من استبشارهم إذا ذكر الله وحده، ويغضبون لمنتقص معبوديهم وآلهتهم من المشايخ أعظم مما يغضبون إذا انتقص أحد رب العالمين. وإذا انتهكت حرمة من حرمات آلهتهم ومعبوديهم غضبوا غضب الليث إذا حرد، وإذا انتهكت حرمات الله لم يغضبوا لها، بل إذا قام المنتهك لها بإطعامهم شيئاً رضوا عنه، ولم تتنكر له قلوبهم. وقد شاهدنا هذا نحن وغيرنا منهم جهرة، وترى أحدهم قد اتخذ ذكر إلهه ومعبوده من دون الله على لسانه، إن قام وإن قعد، وإن عثر، وإن مرض، وإن استوحش؛ فذكر إلهه ومعبوده من دون الله هو الغالب على قلبه ولسانه، وهو لا ينكر ذلك، ويزعم أنه باب حاجته إلى الله وشفيعه عنده، ووسيلته إليه، وهكذا كان عباد الأصنام سواء. وهذا القدر هو الذي قام بقلوبهم، وتوارثه المشركون

1 سورة الشعراء آية: 97.

ص: 421

بحسب اختلاف آلهتهم، فأولئك كانت آلهتهم من الحجر، وغيرهم اتخذها من البشر، قال تعالى حاكيا عن أسلاف هؤلاء المشركين:{وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَاّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} 1. ثم شهد عليهم بالكفر والكذب، وأخبر أنه لا يهديهم فقال: {إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} 2، فهذه حال من اتخذ من دون الله وليا، يزعم أنه يقربه إلى الله، وما أعز من تخلص من هذا! بل ما أعز من لا يعادي من أنكره! والذي قام بقلوب هؤلاء المشركين وسلفهم، أن آلهتهم تشفع لهم عند الله، وهذا عين الشرك. وقد أنكر الله عليهم ذلك في كتابه وأبطله، وأخبر أن الشفاعة كلها لله3، قال الله تعالى:{قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَاّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} 4، فالمشرك إنما يتخذ معبوده لما يحصل له به من النفع. والنفع لا يكون إلا ممن فيه خصلة من هذه الأربع: إما مالك لما يريده عابده منه، فإن لم يكن مالكا كان شريكا للمالك، فإن لم يكن شريكا له كان معينا له وظهيرا، فإن لم يكن معينا ولا ظهيرا كان شفيعا عنده. فنفى -سبحانه المراتب- الأربع نفياً مترتبا متنقلا من الأعلى إلى ما دونه: فنفى الملك والشركة والمظاهرة والشفاعة التي يظنها المشرك، وأثبت شفاعة لا نصيب فيها لمشرك، وهي الشفاعة بإذنه. فكفى بهذه الآية نوراً وبرهانا ونجاة وتجريداً للتوحيد، وقطعا لأصول الشرك ومواده لمن عقلها.

1 سورة الزمر آية: 3.

2 سورة الزمر آية: 3.

3 قد سقط من هذا المحل مقدار ثلاث صفحات أو أكثر لم نثبتها كما أثبتنا كثيرا من الكلم والجمل التي سقطت من هذا النقل عن مدارج السالكين وأصلحنا كثيرا من التحريف.

4 سورة سبأ آية: 22.

ص: 422

والقرآن مملوء من أمثال هذه الآية ولكن أكثر الناس لا يشعرون بدخول الواقع تحته وتضمنه له، ويظنه في نوع وقوم قد خلوا من قبل، ولم يعقبوا وارثا؛ وهذا هو الذي يحول بين المرء وفهم القرآن، ولعمر الله إن كان أولئك قد خلوا فقد ورثهم من هو مثلهم، أو شر منهم، أو دونهم، وتناول القرآن لهم كتناوله لأولئك. ولكن الأمر كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: إنما تنقض عرى الإسلام عروة عروة إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية، وهذا لأن من لم يعرف الشرك وما عابه القرآن وذمه وقع فيه، وأقره، ودعا إليه، وصوبه، وحسنه، وهو لا يعرف أنه الذي كان عليه أهل الجاهلية، أو نظيره، أو شر منه، أو دونه فينتقض بذلك عرى الإسلام، ويعود المعروف منكرا، والمنكر معروفا، والسنة بدعة، والبدعة سنة، ويكفَّر الرجل بمحض الإيمان وتجريده التوحيد، ويبدع تجريد متابعة الرسول ومفارقة الأهواء والبدع ومن له بصيرة وقلب حي يرى ذلك عيانا والله المستعان 1. ومن أنواعه طلب الحوائج من الموتى، والاستغاثة بهم، والتوجه إليهم؛ وهذا أصل شرك العالم، لأن الميت قد انقطع عمله، وهو لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً فضلا لمن استغاث به، وسأله قضاء حاجته، أو سأله أن يشفع له إلى الله فيها، وهذا من جهله بالشافع والمشفوع له عنده.

فإن الله تعالى لا يشفع عنده أحد إلا بأذنه، والله لم يجعل سؤال غيره سببا لإذنه، وإنما السبب لإذنه كمال التوحيد؛ فجاء هذا المشرك بسبب يمنع الإذن، فهو بمنزلة من استعان في حاجة بما يمنع حصولها. وهذه حالة كل مشرك. والميت محتاج إلى من يدعو له، ويترحم عليه ويستغفر له كما أوصانا النبي صلى الله عليه وسلم

1 هذا آخر فصل من فصول مدارج السالكين ومما بعده من أثناء فصل آخر.

ص: 423

إذا زرنا قبور المسلمين أن نترحم عليهم، ونسأل لهم العافية والمغفرة، فعكس هذا المشركون وزاروهم زيارة العبادة واستقضاء الحوائج والاستغاثة بهم، وجعلوا قبورهم أوثانا تعبد، وسموا قصدها حجا، واتخذوا عندها الوقفة وحلق الرأس؛ فجمعوا بين الشرك بالمعبود وتغيير دينه ومعاداة أهل التوحيد، ونسبتهم إلى تنقيص الأموات. وهم قد تنقصوا الخالق بالشرك، وأولياءه الموحدين له الذين لم يشركوا به شيئا بذمهم وعيبهم ومعاداتهم، وتنقصوا من أشركوهم به غاية التنقص إذ ظنوا أنهم راضون منهم بهذا، وأنهم أمروهم به، وأنهم يوالونهم عليه؛ وهؤلاء أعداء الرسل والتوحيد في كل زمان ومكان. وما أكثر المستجيبين لهم، ولله در خليله إبراهيم عليه السلام حيث قال:{وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ} 1. وما نجا من شرك هذا الشرك الأكبر إلا من جرد توحيده لله، وعادى المشركين في الله، وتقرب بمقتهم إلى الله تعالى. انتهى كلامه -رحمه الله تعالى-. فتأمل -رحمك الله- كلام هذا الإمام وتصريحه بأن من دعا الموتى، وتوجه إليهم، واستغاث بهم ليشفعوا له عند الله، فقد فعل الشرك الأكبر الذي بعث الله محمداًصلى الله عليه وسلم بإنكاره وتكفير من لم يتب منه وقتاله ومعاداته؛ وأن هذا قد وقع في زمانه، وأنهم غيروا دين الرسول صلى الله عليه وسلم وعادوا أهل التوحيد الذين يأمرونهم بإخلاص العبادة لله وحده لا شريك له. وتأمل أيضاً قوله: وما أعز من تخلص من هذا! بل ما أعز من لا يعادي من أنكره! يتبين لك الأمر إن شاء الله. ولكن تأمل أرشدك الله قوله: وما نجا من شرك هذا الشرك الأكبر إلا من عادى المشركين

إلى آخره،

1 سورة إبراهيم آية: 35.

ص: 424

يتبين لك أن الإسلام لا يستقيم إلا بمعاداة أهل هذا الشرك، فإن لم يعادهم فهو منهم وإن لم يفعله. والله أعلم.

[لا يجوز إبقاء مواضع الشرك بعد القدرة على هدمها]

وقال رحمه الله في كتاب (زاد المعاد في هدي خير العباد) في الكلام على غزوة أهل الطائف، وما فيها من الفقه قال: ومنها أنه لا يجوز إبقاء مواضع الشرك والطواغيت، بعد القدرة على هدمها وإبطالها، يوما واحداً؛ فإنها من شعائر الكفر والشرك، وهي أعظم المنكرات؛ فلا يجوز الإقرار عليها مع القدرة البتة. وهكذا حكم المشاهد التي بنيت على القبور التي اتخذت أوثانا وطواغيت تعبد من دون الله، والأحجار التي تقصد لأجل التعظيم وللتبرك والتقبيل، لا يجوز إبقاء شيء منها على وجه الأرض مع القدرة على إزالته، وكثير منها بمنزلة اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى، أو أعظم شركا بها وعندها، والله المستعان. ولم يكن أحد من أرباب هذه الطواغيت يعتقد أنها تخلق، وترزق، وتحيي، وتميت، وإنما كانوا يفعلون عندها وبها ما يفعله إخوانهم من المشركين اليوم عند طواغيتهم؛ فاتبع هؤلاء سنن من كان قبلهم، وسلكوا سبيلهم حذو القذة بالقذة، وأخذوا مأخذهم شبراً بشبر، وذراعا بذراع. وغلب الشرك على أكثر النفوس لظهور الجهل وخفاء العلم، وصار المعروف منكراً والمنكر معروفا، والسنة بدعة والبدعة سنة، ونشأ في ذلك الصغير، وهرم عليه الكبير، وطمست الأعلام، واشتدت غربة الإسلام، وقل العلماء، وغلبت السفهاء، وتفاقم الأمر، واشتد البأس،:{ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ} 1؛ ولكن لا تزال طائفة من الأمة المحمدية قائمين، ولأهل الشرك والبدع مجاهدين، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وهو خير الوارثين.

1 سورة الروم آية: 41.

ص: 425

[لا تكون العصمة إلا مع التزام شرائع الإسلام]

وقال الشيخ تقي الدين لما سئل عن قتال التتار مع تمسكهم بالشهادتين، ولما زعموا من اتباع أصل الإسلام: كل طائفة ممتنعة من التزام شرائع الإسلام الظاهرة المتواترة من مقاتلي هؤلاء القوم وغيرهم، فإنه يجب قتالهم حتى يلتزموا شرائعه، وإن كانوا مع ذلك ناطقين بالشهادتين ملتزمين بعض شرائعه، كما قاتل أبو بكر والصحابة رضي الله عنهم مانعي الزكاة، وعلى ذلك اتفق العلماء بعدهم بعد سابقة مناظرة عمر لأبي بكر رضي الله عنه، فاتفق الصحابة على القتال على حقوق الإسلام عملا بالكتاب والسنة؛ وكذلك ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من عشرة أوجه عن الخوارج والأمر بقتالهم، وأخبر أنهم شر الخلق والخليقة مع قوله:"تحقرون صلاتكم من صلاتهم، وصيامكم مع صيامهم"1. فعلم أن مجرد الاعتصام بالإسلام، مع عدم التزام شرائعه العظام ليس بمسقط للقتال، فالقتال واجب حتى يكون الدين كله لله، وحتى لا تكون فتنة؛ فمتى كان الدين لغير الله فالقتال واجب. فأيما طائفة امتنعت عن الصلوات المفروضات، أو الصيام، أو الحج، أو عن التزام تحريم الدماء والأموال، أو الخمر، أو الزنى، أو الميسر، أو نكاح ذوات المحارم، أو عن التزام جهاد الكفار، أو ضرب الجزية على أهل الكتاب، أو غير ذلك من التزام واجبات الدين، أو محرماته التي لا عذر لأحد في جحودها، أو تركها الذي يكفر الواحد بجحودها، فإن الطائفة الممتنعة تقاتل عليها وإن كانت مقرة بها؛ وهذا مما لا أعلم فيه خلافا بين العلماء. وإنما اختلف الفقهاء في الطائفة الممتنعة إذا أمرت، على ترك بعض السنن كركعتي الفجر أو الأذان، أو الإقامة عند من لا يقول بوجوبها، ونحو ذلك من الشعائر، فهل تقاتل الطائفة الممتنعة على تركها أم لا؟

1 البخاري: فضائل القرآن (5058)، ومسلم: الزكاة (1064) ، وأحمد (3/33 ،3/56 ،3/60) .

ص: 426

فأما الواجبات أو المحرمات المذكورة ونحوها فلا خلاف في القتال عليها، وهؤلاء عند المحققين من العلماء ليسوا بمنزلة البغاة الخارجين على الإمام والخارجين عن طاعته، كأهل الشام مع أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فإن أولئك خارجون عن طاعة إمام معين، أو خارجون عليه لإزالة ولايته. وأما المذكورون فهم خارجون عن الإسلام بمنزلة مانعي الزكاة، أو بمنزلة الخوارج الذين قاتلهم علي رضي الله عنه، ولهذا افترقت سيرته رضي الله عنه في قتاله لأهل البصرة وأهل الشام، وفي قتاله لأهل النهروان، وإن كانت سيرته مع البصريين والشاميين سيرة الأخ مع أخيه، ومع الخوارج بخلاف ذلك. وثبتت النصوص عن النبي صلى الله عليه وسلم بما استقر عليه إجماع الصحابة من قتال الصديق لمانعي الزكاة، وقتال علي للخوارج. انتهى كلامه رحمه الله. فتأمل -رحمك الله- تصريح هذا الإمام في هذه الفتوى بأن من امتنع من شريعة من شرائع الإسلام الظاهرة كالصلوات الخمس، أو الزكاة، أو الحج، أو ترك المحرمات كالزنى، أو تحريم الدماء والأموال، وشرب الخمر، أو المسكرات، أو غير ذلك، أنه يجب قتال الطائفة الممتنعة عن ذلك حتى يكون الدين كله لله، ويلتزموا شرائع الإسلام، وإن كانوا مع ذلك ناطقين بالشهادتين ملتزمين شرائع الإسلام؛ وأن ذلك مما اتفق عليه الفقهاء من سائر الطوائف من الصحابة فمن بعدهم، وأن ذلك عمل بالكتاب والسنة. فتبين لك أن مجرد الاعتصام بالإسلام مع عدم التزام شرائعه

ص: 427

ليس بمسقط للقتال، وأنهم يقاتلون قتال كفر وخروج عن الإسلام، كما صرح به في آخر الفتوى بقوله: وهؤلاء عند المحققين من العلماء ليسوا بمنزلة مانعي الزكاة. والله أعلم. وقال في الإقناع من كتب الحنابلة التي يعتمد عليها عندهم في الفتوى: وأجمعوا على وجوب قتل المرتد، فمن أشرك بالله فقد كفر بعد إسلامه كقوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} 1، أو جحد ربوبيته، أو وحدانيته كفر لأن جاحد ذلك مشرك بالله تعالى

إلى أن قال: قال الشيخ: أو كان مبغضاً لرسوله، أو ما جاء به اتفاقا، أو جعل بينه وبين الله وسائط يدعوهم، ويتوكل عليهم ويسألهم، كفر إجماعا لأن ذلك كفعل عابدي الأصنام قائلين:{مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَاّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} 2.

[أنواع المكفرات]

فصل

وأما كلام الحنفية فقال في كتاب تبين المحارم المذكورة في القرآن: باب الكفر: وهو 3 وجحود الحق وإنكاره، وهو أول ما ذكر في القرآن العظيم من المعاصي، قال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} 4 الآية؛ وهو أكبر الكبائر على الإطلاق فلا كبيرة فوق الكفر

إلى أن قال: واعلم أن ما يلزم به الكفر أنواع: فنوع يتعلق بالله –سبحانه-، ونوع يتعلق بالقرآن وسائر الكتب المنزلة، ونوع يتعلق بنبيناصلى الله عليه وسلم وسائر الأنبياء والملائكة والعلماء، ونوع يتعلق بالأحكام. فأما ما يتعلق به –سبحانه- إذا وصف الله –سبحانه- بما لا يليق به، بأن شبه الله –سبحانه- بشيء من المخلوقات، أو نفى صفاته، أو قال بالحلول، أو

1 سورة النساء آية: 48.

2 سورة الزمر آية: 3.

3 بياض بالأصل.

4 سورة البقرة آية: 6.

ص: 428

الاتحاد، أو معه قديم غيره، أو معه مدبر مستقل غيره، أو اعتقد أنه –سبحانه- جسم أو محدث، أو غير حي، أو اعتقد أنه لا يعلم الجزئيات، أو سخر باسم من أسمائه، أو أمر من أوامره، أو وعده ووعيده، أو أنكرهما، أو سجد لغير الله تعالى، أو سب الله –سبحانه-، أو ادعى أن له ولداً أو صاحبة، أو أنه متولد من شيء كائن عنه، أو أشرك بعبادته شيئاً من خلقه، أو افترى على الله سبحانه وتعالى الكذب بادعائه الإلهية والرسالة

إلى أن قال: وما أشبه ذلك مما لا يليق به سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علواً كبيراً، يكفر بهذه الوجوه لأجل سوء فعله، عمداً، أو هزلا، ويقتل إن أصر على ذلك، فإن تاب تاب الله عليه وسلم من القتل. انتهى كلامه بحروفه. وقال الشيخ قاسم في شرح الدر: النذر الذي يقع من أكثر العوام بأن يأتي إلى قبر بعض الصلحاء قائلا: يا سيدي فلان، إن رد غائبي، أو عوفي مريضي، أو قضيت حاجتي، فلك من الذهب، أو الطعام، أو الشمع كذا، باطل إجماعا لوجوه: منها أن النذر للمخلوق لا يجوز. ومنها أن ذلك كفر

إلى أن قال: قد ابتلي الناس بذلك لا سيما في مولد أحمد البدوي. انتهى. فصرح بأن هذا النذر كفر يكفر به المسلم. انتهى. والله أعلم وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم. قد كتب هاهنا في الأصل المخطوط الذي جاءنا من نجد ما نصه: قد وقع تحرير مجموع هذه الرسائل العظيمة المفيدة في يوم الأربعاء ثاني محرم سنة ألف وثلاثمائة وأربعة وثلاثين بقلم مالكها الفقير إلى الله -عز شأنه- عبد العزيز بن صالح بن مرشد، غفر الله له ولوالديه ولأرحامه ولمشايخه وللمسلمين، آمين. ورحم الله عبدا قال آمين.

ص: 429