الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الرسالة الخامسة عشرة: [تفسير قوله تعالى ويعبدون من دون الله ما لايضرهم ولا ينفعهم]
وله أيضا -قدس الله روحه، ونوَّر ضريحه- رسالة إلى زيد بن محمد، هذا نصها:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى الأخ المكرم زيد بن محمد، زاده الله علما، ووهب لنا وله حُكْمًا. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد، فالخط الذي فيه المسائل وصل، وحصل من الاشتغال والموانع ما اقتضى تأخير الجواب، ونسأل الله لنا الإعانة على ما يقرب إليه من العلم والعمل. أما المسألة الأولى: عن قوله تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ} 1، وقول السائل: إن الرب تبارك وتعالى لا يخفى عليه شيء، وقد قال في سورة العنكبوت:{إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ} 2.فالجواب -وبالله التوفيق- أن كلا من الآيتين الكريمتين على عمومهما وإطلاقهما يُصَدِّق بعضها بعضا، فأما آية يونس، ففيها الإخبار بنفي ما ادعاه المشركون، وزعموه من وجود شفيع يشفع بدون إذنه تبارك وتعالى وأن هذا لا يعلم الله وجوده لا في السماوات ولا في الأرض، بل مجرد زعم وافتراء، وما لا يعلم وجوده مستحيل الوجود، منفي غاية النفي. فالآية رد على المشركين الذين تعلقوا بالشركاء والأنداد بقصد الشفاعة عند الله
1 سورة يونس آية: 18.
2 سورة العنكبوت آية: 42.
والتقرب إليه. وأما آية العنكبوت ففيها إثبات علمه سبحانه- لكل مدعو ومعبود من أي شيء كان، ولا يخفى عليه خافية، ولا يعزب عنه مثقال ذرة. ففي الأولى: نفي العلم بوجود ما لا وجود له بحال، والآية الثانية: فيها إثبات العلم بوجود ما عبدوه ودعوه مع الله من الآلهة التي لا تضر ولا تنفع. قال ابن جرير رحمه الله في الكلام على آية يونس: يقول -تعالى ذكره-: ويعبد هؤلاء المشركون -الذين وصفت صفتهم- الذي لا يضرهم شيئا ولا ينفعهم في الدنيا ولا في الآخرة؛ وذلك هو الآلهة والأصنام التي كانوا يعبدونهم رجاء شفاعتهم عند الله، قال تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم:{قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ} 1 يقول: أتخبرون الله بما لا يكون في السماوات ولا في الأرض؟ وذلك أن الآلهة لا تشفع لهم عند الله في السماوات ولا في الأرض؛ وكان المشركون يزعمون أنها تشفع لهم عند الله، فقال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم قل لهم: أتخبرون الله بما لا يشفع في السماوات ولا في الأرض ليشفع لكم فيها؟ وذلك باطل لا يعلم حقيقته وصحته، بل يعلم أن ذلك خلاف ما تقولون؛ وأنها لا تشفع لأحد ولا تنفع ولا تضر. انتهى. وحاصله أن النفي واقع على ما اعتقدوه وظنوه من وجود شفيع يشفع وينفع، ويقرب إلى الله، وذلك الظن والاعتقاد وَهْمٌ وخيالٌ باطلٌ لا وجود له. وبنحو ذلك قال ابن كثير: يقول: ينكر تعالى على المشركين الذين عبدوا مع الله غيره ظانين أن تلك الآلهة تنفعهم شفاعتها عند الله، وأخبر أنها لا تنفع ولا تضر، ولا تملك شيئا، ولا يقع شيء مما يزعمون فيها، ولا يكون هذا أبدا، ولهذا قال تعالى: {قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي
1 سورة يونس آية: 18.
السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ} 1. انتهى. وقال أبو السعود الرومي2في قوله: {قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ} 3 أعني: أتخبرونه بما لا وجود له أصلا؟ وهو كون الأصنام شفعاءهم عند الله، إذ لو كان ذلك: لعلمه علام الغيوب، وفيه تقريع لهم وتَهَكُّمٌ بهم، وبما يَدَّعُونَ من المُحَال الذي لا يكاد يدخل تحت الصحة والإمكان. وقوله:{فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ} 4: حال من العائذ المحذوف في "يعلم" مؤكِّدَة للنفي؛ لأن ما لا يوجد فيها فهو منتف عادة. انتهى. وقال العلامة ابن القيم رحمه الله في الكلام على هذه الآية: هذا نفيٌ لما ادعاه المشركون من الشفعاء، لِنَفْيِ علم الرب - تعالى- بهم المستلزِم لنفي المعلوم، ولا يمكن أعداء الله المكابرة، وأن يقولوا: قد علم الله وجود ذلك لأنه تعالى إنما يعلم وجود ما أوجده وكَوَّنَهُ، ويعلم أن سيوجد ما يريد إيجاده، فهو يعلم نفسه، وصفاته، ومخلوقاته التي دخلت في الوجود وانقطعت، والتي دخلت في الوجود وبقيت، والتي لم توجد بعد. وأما وجود شيء آخر غير مخلوق ولا مربوب، فالرب -تعالى- لا يعلم لأنه مستحيل في نفسه، فهو سبحانه يعلمه مستحيلا لا يعلمه واقعا، ولو علمه واقعا لكان العلم به عين الجهل، وذاك من أعظم المحال، فكذلك
1 سورة يونس آية: 18.
2 هو أبو السعود ابن العماد صاحب التفسير المشهور المطبوع في حواشي التفسير الكبير للرازي نسبه إلى الروم؛ لأنه كان شيخ الإسلام للدولة العثمانية، وكانت تسمى دولة الروم، ويلقب شيخ الإسلام فيها بمفتي الروم؛ لأن عاصمتها "القسطنطينية" وما يحيط بها من البلاد كانت بلاد الروم، وما اشتهرت باسم الدولة التركية والعثمانية إلا في القرن الماضي، والإفرنج هم الذين سموها "تركيا" ولكن أبا السعود هذا عربي الأصل، ونشأ في تلك البلاد.
3 سورة يونس آية: 18.
4 سورة يونس آية: 18.
حُجَج الرب تبارك وتعالى على بطلان ما نسبه إليه أعداؤه المفترون التي هي كالضريع الذي لا يسمن ولا يغني من جوع، فإذا وازنت بينها ظهرتْ لك الفاصلةُ إن كنت بصيرا:{وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً} 1 انتهى.
[تفسير وما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء]
(وأما المسألة الثانية) عن قوله تعالى: {وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ} 2 الآية، فقد أشكل معناها على كثير من المفسرين، فزعموا أن المعنى: نفي اتباعهم شركاء فجعلوا (ما) نافية و (شركاء) مفعول يتبع، أي: لم يتبعوا في الحقيقة شركاء، بل هم عباد مخلوقون مربوبون، والله هو الإله الحق لا شريك له. وأما ابن جرير فقرر أن (ما) في هذا المحل استفهامية لا نافية قال رحمه الله: ومعنى الكلام أيّ شيءٍ يَتَّبِعُ مَن يقول: لله شركاء في سلطانه وملكه كاذبا؟ والله المتفرد بملك كل شيء في سماء كان أو أرض،:{إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَاّ الظَّنَّ} 3 يقول: ما يتبعون في قيلهم ذلك إلا الظن، يقول: إلا الشك لا اليقين: {وَإِنْ هُمْ إِلَاّ يَخْرُصُونَ} 4 انتهى. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: ظن طائفة أن (ما) هاهنا نافية، وقالوا: ما يدعون من دون الله شركاء في الحقيقة، بل هم غير شركاء، وهذا خطأ، ولكن (ما) هاهنا حرف استفهام، والمعنى: وأيّ شيء يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء؟ ما يتبعون إلا الظن، وإن هم إلا يخرصون. ف"شركاء": مفعول يدعون، لا مفعول يتبع؛ فإن المشركين يدعون من دون الله شركاء، كما أخبر عنهم بذلك في غير موضع، فالشركاء موصوفون في القرآن بأنهم يُدْعَوْنَ من دون الله، ولم يوصفوا بأنهم يُتَّبعون، فإنما الأئمة الذين كانوا يَدَّعُونَ هذه الآية، ولهذا قال بعدها:{إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَاّ الظَّنَّ} 5 ولو أراد
1 سورة الإسراء آية: 72.
2 سورة يونس آية: 66.
3 سورة يونس آية: 66.
4 سورة الأنعام آية: 116.
5 سورة يونس آية: 66.
أنهم ما يتبعون في الحقيقة شركاء لقال: إن يتبعون إلا من ليسوا بشركاء؛ بل هو استفهام يبين أن المشركين الذين دَعَوْا من دون الله شركاء، ما اتبعوا إلا الظن، ما اتبعوا علما؛ فإن المشرك لا يكون معه علم مطابق، وهو فيه ما يتبع إلا الظن، وهو الخَرْص والحزر وهو كذب وافتراء كقوله:{قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ} 1. [معنى أسألك بعقد العز من عرشك] (وأما المسألة الثالثة) عن قوله: أسألك بعقد العز من عرشك، وقول السائل ما معناه؟ فلا يخفى أن هذا ليس من الأدعية المرفوعة، ولذلك اختلف الناس فيه: فكره أبو حنيفة رحمه الله المسألة بعقد العز، وأجازها صاحبه أبو يوسف لأنه قد يراد بهذه الكلمة المحل، أي: محل العقد وزمانه، ك "مَذْهَب" يُطلق على محل الذهاب وزمانه. وربما أريد بها المفعول ك "مَرْكِب" بمعنى المركوب، ويكون هنا اسم مصدر من عقد يعقد عقدا، والاسم معقد، ويكون صفة ذات، ولهذا قال أبو يوسف: معقد العز هو الله، وأما أبو حنيفة فنظر إلى أن اللفظ محتملٌ لمعاني متعددة، فلذلك كره المسألة به، وبهذا يتبين المعنى.
[معنى دعاء: إلى من تكلني إلى بعيد يتجهمني]
(وأما المسألة الرابعة) : عن قوله صلى الله عليه وسلم في الدعاء المشهور: " إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجهمني؟ " فاعلم أن التَّجَهُّم: الغلظة والعبوس والاستقبال بالوجه الكريه، والجَهْم: الغليظ المجتمِع، وجَهُمَ كَكَرُمَ جَهَامَة وجُهُومَة: استقبله بوجه كريه كَتَجَهُّمِهِ، والجَهْمَة: آخر الليل، أو بقية سواد من آخره، واجْتَهَمَ: دخل فيه. انتهى. وبه يظهر أن التجهم يقع على الاستقبال بوجه مظلم عبوس ومن صفات الجهم
…
2.
1 سورة الذاريات آية: 10.
2 سقط هاهنا كلام نترك له بياضا ليضعه فيه من وجده، فإن ضاق عنه: وضع الباقي في الحاشية.
[المراد بالنور في قوله صلى الله عليه وسلم: أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات]
(وأما المسألة الخامسة) عن قوله صلى الله عليه وسلم: " أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات " وقوله في حديث أبي موسى: " حجابه النور، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه " 1 وقول السائل هل يفسر بهذا النور أو لا؟ فالجواب: أن النور يضاف إلى الله إضافة الصفة إلى الموصوف، ويضاف إليه إضافة المفعول إلى فاعله، كما أشار إليه العلامة ابن القيم في نونيته، وما في دعائه صلى الله عليه وسلم مَخْرَجَهُ من الطائف من الأول 2 بلا ريب فهو صفة ذات، وكذلك تسمى تعالى وتقدس بهذا الاسم الأنْفَس. وأما ما في حديث أبي موسى من ذكر السُّبُحَات المضافة إلى وجه الله -تعالى- فهي من إضافة الصفة إلى الموصوف على ما يأتي تفسيره. وأما قوله:" حجابه النور" فقد ذكر السيوطي وغيره في الحجب آثارا عن السلف تدل على أن الله احتجب بحُجُبٍ من النور مخلوقة له، وكلام صاحب الكافية الشافية يشير إليه لأنه عطفه في الذكر على ما تقدم من أوصاف الذات، والأصل في العطف أن يكون في المُغَايَرَة. وقال في الجيوش الإسلامية: والله سبحانه- سَمَّى نفسه نورا، وجعل كتابه نورا، ورسوله صلى الله عليه وسلم نورا، ودينه نورا، واحتجب من خلقه بالنور، وجعل دار أوليائه نورا، وقال تعالى:{اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} 3 الآية، وقد فُسِّرَ بكونه منورَ السماوات والأرض، وهذا إنما هو فعل، وإلا فالنور
1 مسلم: الإيمان (179)، وابن ماجه: المقدمة (195) ، وأحمد (4/400 ،4/405) .
2 قوله: مَخْرَجَهُ من الطائف: ظرف متعلق بدعائه يقولون: فعل هذا مُنْصَرَفه من مكان كذا أو مخرجه من بلد كذا – والمعنى هنا دعاؤه "ص" وقت خرجه من الطائف.
3 سورة النور آية: 35.
الذي هو من أوصافه قائم به، ومنه اشتق له اسم النور الذي هو أحد الأسماء الحسنى. فالنور يضاف إليه سبحانه- على أحد وجهين: إضافة صفة إلى موصوفها، وإضافة فعل إلى فاعله، فالأول كقوله:{وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا} 1 إذا جاء لفصل القضاء، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم في الدعاء المشهور:" أعوذ بنور وجهك الكريم أن تُضِلَّنِي لا إله إلا أنت " وفي الأثر الآخر: " أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات" فأخبرصلى الله عليه وسلم أن الظلمات أشرقت بنور وجه الله، كما أخبر -تعالى- أن الأرض تشرق يوم القيامة بنوره. وفي معجم الطبراني والسنة له، وكتاب عثمان الدارمي وغيرهما، عن ابن مسعود رضي الله عنه:" ليس عند ربكم ليل ولا نهار، نور السموات والأرض من نور وجهه"، وهذا الذي قاله ابن مسعود رضي الله عنه أقرب إلى تفسير الآية من قول من فسرها: أنه هادي أهل السماوات والأرض. وأما من فسرها: بأنه مُنور السماوات والأرض، فلا تنافيَ بينه وبين قول ابن مسعود، والحق أنه نور السماوات والأرض بهذه الاعتبارات كلها. وفي صحيح مسلم وغيره من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال:" قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمس كلمات: أن الله لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام " 2 فذكرها. وفي صحيح مسلم عن أبي ذر رضي الله عنه قال: "سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم هل رأيتَ ربك؟ قال: نورٌ أَنَّى أراه؟ " 3 قال شيخ الإسلام: معناه كان ثَمَّ نورٌ، أو حَالَ دون رؤيته نورٌ، وأَنَّى أراه؛ قال: ويدل عليه أن في بعض الألفاظ الصحيحة: هل رأيت ربك؟ قال: " رأيت نورا"، وذكر الكلام في الرؤية ثم قال: 4 ويدل على صحة ما قال شيخنا في معنى حديث أبي ذر رضي الله عنه
1 سورة الزمر آية: 69.
2 مسلم: الإيمان (179) ، وأحمد (4/400 ،4/405) .
3 مسلم: الإيمان (178)، والترمذي: تفسير القرآن (3282) ، وأحمد (5/157 ،5/170 ،5/175) .
4 يعني ابن القيم.
قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر: " حجابه النور " 1 فهذا النور هو -والله أعلم- النور المذكور في حديث أبي ذر " رأيت نورا "2.وأما السبحات فهي نور الذات المقدسة العلية، وهي النور الذي استعاذ به صلى الله عليه وسلم وكلامه فيه إيماء إلى أنه -تعالى- احتجب بهذا النور المذكور، وهو الذي حجبه صلى الله عليه وسلم عن رؤية الباري -تعالىوتقدس-،وهذا النور الذي رآه صلى الله عليه وسلم كما تقدم في حديث أبي ذر: " رأيت نورا " 3 وقد احتجب سبحانه وتعالى بحجب عن خلقه من نور، ومن غيره كما ذكر في آثار مروية عن السلف جمع كثيرا منها السيوطي في كتاب الهيئة السنية، وإذا فسرت السبحات بنور وجهه الكريم جازت الاستعاذة بها لأنهاوصف ذات. ويؤيد ما أومأ إليه ابن القيم رحمه الله قول ابن الأثير: سبحات الله جل جلاله عظمته، وهي في الأصل جمع سبحة، وقيل: ضوء وجهه، وقيل سبحات وجهه محاسنه، وقيل: معناه تنْزيهه له أي سبحان وجهه، وقيل: إن سبحات الوجه كلام معترض بين الفعل والمفعول، أي: لو كشفها لأحرقت كل شيء أبصرت. (قلت) : يريد أن السبحات هي النور الذي احتجب به، ولذلك قال: لو كشفها، قال: وأقرب من هذا أن المعنى لو انكشف من أنوار الله -تعالى- التي تحجب العباد شيء لأهلك كل من وقع عليه ذلك النور كما خر موسى صعقا، وتقطع الجبل دكا لما تجلى الله سبحانه وتعالى، ففي كلام ابن الأثير ما يدل على أن الحجاب نفس أنوار الذات، فتأمله. وذكر ابن الأثير وغيره أن جبريل قال: لله دون العرش سبعون حجابا
1 مسلم: الإيمان (179)، وابن ماجه: المقدمة (195) ، وأحمد (4/400 ،4/405) .
2 مسلم: الإيمان (178) .
3 مسلم: الإيمان (178) .
لو دنونا من أحدها لأحرقتنا سبحات وجهه. انتهى. ومقتضى ما قال القرطبي في حديث أبي موسى "حجابه النور – أو النار": إن هذا حجاب منفصل عن أنوار الذات، لكنه يجري في هذه المباحث على طريق المتكلمين فيما جاء في هذا الباب من صفات الكمال ونعوت الجلال1.
[معنى قوله تعالى: {لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا} ]
(وأما المسألة السادسة) عن قوله –تعالى- في قصة شعيب: {قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا} 2، وقول السائل: وهم لم يدخلوا فيها، فاعلم أن هذه المسألة شاعت، وذاعت، واشتهرت، وانتشرت، والخلاف فيها قديم بين أهل السنة والمعتزلة، وبين أهل السنة بعضهم لبعض، والذي روى ابن أبي حاتم عن عطية عن ابن عباس كانت الرسل والمؤمنون يستضعفهم قومهم، ويقهرونهم، ويدعونهم إلى العود في ملتهم، فأبى الله لرسله والمؤمنين أن يعودوا في ملتهم
1 قد أوجز -رحمه الله تعالى-،واختصر في هذه المسألة حتى فيما نقله عن المحقق ابن القيم، وقد حققنا مبحث النور، والحجب الإلهية في الكلام على رؤية الرب -تعالى- من تفسير آية الأعراف (7: 142) فقد بلغ الكلام في تفسيرها زهاء سبعين صفحة، ونقلنا في بحث النور، والحجب منها كلاما نفيسا لابن القيم من مدارج السالكين، ومن الوابل الصيب، ووضحناه بما يزيل إشكال من استشكله، ونبهنا في إيضاحه إلى الحاشية الوجيزة التي علقناها على عبارة الوابل الصيب من مجموعة الحديث النجدية، أردنا منها أن آخر ماوصل إليه علماء الكون في النور، والتكوين يؤيده، ويؤيده مذهب السلف، ويبطل قاعدة المتأولة الذي أولوا النور في الآيات، والأحاديث ثم قلت بعد هذا: وقد علمنا أن بعض الذين اطلعوا على هذه الحاشية في مجموعة الحديث لم يفهموها، فاضطربوا فيها، ولهم العذر فإنها على غرابة موضوعها مبهمة لم توضح المقام لأمثالهم كما كان يجب" اهـ فليراجع البحث كله في الجزء التاسع من تفسيرنا.
2 سورة الأعراف آية: 88.
في ملة الكفر، وأمرهم أن يتوكلوا عليه. وقد رواه السدي عن أشياخه، وتأوله عطية على أنه العود إلى السكوت كما كانت الرسل قبل الرسالة، وأنهم كانوا أغفالا قبل النبوة، أي: لا علم لهم بما جاءهم من عند الله. قال: وذلك عند الكفار عود في ملتهم. وهذا الذي رأيته منصوصا عن مفسري السلف، وأما من بعدهم كابن الأنباري والزجاج وابن الجوزي والثعلبي والبغوي، فهؤلاء يؤولون ذلك على معنى لتصيرن، ولتدخلن، وجعلوه بمعنى الابتداء، لا بمعنى الرجوع إلى شيء قد كان، وأنشدوا على ذلك ما اشتهر عنهم في تفاسيرهم كقول الشاعر:
فإن تكن الأيام أحسن مرة
…
إليّ لقد عادت لهن ذنوب
وكقوله:
وما المرء إلا كالشهاب وضوؤه
…
يحور رمادا بعد ما كان ساطعا
وقول أمية:
تلك المكارم لا قعبان من لبن
…
شيبا بماء فعادا بعد أبوالا
وأمثال ذلك مما يدل على الابتداء.
وبعضهم أبقاه على معناه، وقال: هو التغليب، لأن قومهم كانوا في ملة الكفر، فغلب الجمع على الواحد؛ لكن تعقب ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله فقال: وأما التغليب فلا يتأتى في سورة إبراهيم 1 وأما جعلها بمعنى الابتداء، والصيرورة فالذي في الآيات الكريمة عود مقيد بالعود في ملتهم، فهو كقول النبي –صلى الله عليه وسلم: " العائد في هبته كالعائد في
1 المراد آية: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا} ،ولم يتكرر فيها ذكر العود كآية الأعراف.
قيئه " 1.وقوله: " وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه " 2 وقوله – تعالى-: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ} 3 فالعود في مثل هذا الموضع عود مقيد صريح بالعود إلى أمر كان عليه الرسل وأتباعهم، لا يحتمل غير ذلك؛ ولا يقال: إن العود في مثل هذا يكون عودا مبتدأ، وما ذكر من الشواهد فأفعال مطلقة ليس فيها أنه عاد لكذا، ولا عاد فيه. قال: ولهذا يسمى المرتد عن الإسلام مرتدا، وإن كان
…
4.ولو على الإسلام، ولم يكن كافرا عند عامة العلماء. قال: وأما قولهم: إن شعيبا والرسل ما كانوا في ملتهم قط، وهي ملة الكفر فهذا فيه نزاع مشهور، وبكل حال فهو خبر يحتاج إلى دليل عقلي، وليس في أدلة الكتاب والسنة والإجماع ما يخبر بذلك، وأما العقل ففيه نزاع، والذي تظاهر عليه أهل السنة أنه ليس في العقل ما يمنع ذلك. وقال أبو بكر الخطيب البغدادي: وقال كثير منهم، ومن أصحابنا، وأهل الحق: إنه لا يمتنع بعثة من كان كافرا، أو مصيبا للكبائر قبل بعثته، قال: ولا شيء عندنا يمنع من ذلك على ما نبين القول فيه، ثم ذكر الخطيب الخلاف في إصابته الذنوب بعد البعثة، وأطال الكلام ثم قال:
[بعثة من كان مصيبا للكفر والكبائر قبل الرسالة]
(فصل في بعثة من كان مصيبا للكفر والكبائر قبل الرسالة)
قال: والذي يدل على ذلك أمور: أحدها: أن إرسال الرسول، وظهور الأعلام عليه اقتضى ودل لا محالة على إيمانه وصدقه وطهارة سريرته، وكمال علمه ومعرفته بالله، وأنه مؤد عنه دون غيره لأنه إنما يظهر الأعلام ليستدل بها على صدقه فيما يدعيه من الرسالة، فإذا كان بدلالة ظهورها عليه إلى هذه الحال من الطهارة والنّزاهة والإقلاع عما كان
1 البخاري: الهبة وفضلها والتحريض عليها (2621)، ومسلم: الهبات (1622)، والترمذي: البيوع (1298)، والنسائي: الهبة (3693 ،3694 ،3695 ،3696 ،3697 ،3698 ،3699 ،3700 ،3701 ،3702 ،3703 ،3704 ،3705) والرقبى (3710)، وأبو داود: البيوع (3538)، وابن ماجه: الأحكام (2385) ، وأحمد (1/217 ،1/237 ،1/250 ،1/280 ،1/289 ،1/291 ،1/327 ،1/339 ،1/342 ،1/345 ،1/349) .
2 البخاري: الإيمان (21)، ومسلم: الإيمان (43)، والترمذي: الإيمان (2624)، والنسائي: الإيمان وشرائعه (4987 ،4988 ،4989)، وابن ماجه: الفتن (4033) ، وأحمد (3/103 ،3/113 ،3/172 ،3/174 ،3/230 ،3/248 ،3/278 ،3/288) .
3 سورة المجادلة آية: 8.
4 بياض في الأصل.
عليه لا يمنع بعثته وإلزام توقيره وتعظيمه، وإن وجد منه ضد ذلك قبل الرسالة، وأطال الكلام. ثم قال شيخ الإسلام: تحقيق القول في ذلك: إن الله –سبحانه وتعالى إنما يصطفي لرسالته من كان خيار قومه كما قال: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} 1، وقال:{اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ} 2 وقال: ومن نشأ بين قوم مشركين جهال لم يكن عليه نقص ولا غضاضة إذا كان على مثل دينهم إذا كان عندهم معروفا بالصدق والأمانة وفعل ما يعرفون وجوبه، واجتناب ما يعرفون قبحه، وقد قال -تعالى-:{وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا ً} 3. ولم يكن هؤلاء مستوجبين العذاب قبل الرسالة إذا كان لا هو ولا هم يعلمون ما أرسل به، وفرق بين من يرتكب ما لا يعلم قبحه، وبين من يفعل ما لا يعرف؛ فإن هذا الثاني لا يذمونه، ولا يعيبونه عليه، ولا يكون ما فعله مما هم عليه منفردا عنه بخلاف الأول؛ ولهذا لم يكن في أنبياء بني إسرائيل من كان معروفا بشرك، فإنهم نشؤوا على شريعة التوراة، وإنما ذكر هذا فيمن كان قبلهم. وأما ما ذكر –سبحانه- في قصة شعيب، والأنبياء فليس في هذا ما ينفر أحدا عن القبول منهم، وكذلك الصحابة الذين آمنوا بالرسول صلى الله عليه وسلم بعد جاهليتهم، وكان فيهم من كان محمود الطريقة قبل الإسلام كأبي بكر الصديق رضي الله عنه، فإنه لم يزل معروفا بالصدق، والأمانة، ومكارم الأخلاق، ولم يكن فيه قبل الإسلام ما يعيبونه به، والجاهلية كانت مشتركة فيهم كلهم. وقد تبين أن ما أخبر عنه قبل النبوة في القرآن من أمر الأنبياء ليس فيه ما ينفر أحدا عن تصديقهم، ولا يوجب طعن قومهم، ولهذا لم يكن يذكر عن أحد
1 سورة الأنعام آية: 124.
2 سورة الحج آية: 75.
3 سورة الإسراء آية: 15.
من المشركين عدَّ هذا قادحا في نبوته، ولو كانوا يرونه عيبا لعابوه، ولقالوا: كنتم أنتم أيضا على الحالة المذمومة، ولو ذكروا هذا للرسل؛ لقالوا: كنا كغيرنا لم نعرف ما أوحي به إلينا، ولكنهم قالوا:{إِنْ أَنْتُمْ إِلَاّ بَشَرٌ مِثْلُنَا} 1، فقالت الرسل:{إِنْ نَحْنُ إِلَاّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} 2. (قال) : وقد اتفقوا كلهم على جواز بعثة رسول لم يعرف ما جاءت به الرسل قبله من أمور النبوة والشرائع، ومن لم يقر بهذا الرسول بعد الرسالة فهو كافر. والرسل قبل الوحي قد كانت لا تعلم لهذا فضلا عن أن تقر به، فعلم أن عدم هذا العلم والإيمان لا يقدح في نبوتهم، بل الله إذا نبأهم علمهم ما لم يكونوا يعلمون. (قلت) : وقوله: وقد اتفقوا كلهم يعني أهل السنة والمعتزلة، ثم قال -تعالى-:{يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} 3، وقال -تعالى-:{يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَاّ أَنَا فَاتَّقُونِ} 4، فجعل إنذارهم بعبادته وحده كإنذار يوم التلاق، كلاهما عرفوه بالوحي، واستدل على هذا بآيات إلى أن قال: وقد تنازع الناس في نبيناصلى الله عليه وسلم قبل النبوة، وفي معاني بعض هذه الآيات في قوله -تعالى-:{وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ} 5، وفي قوله:{مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الأِيمَانُ} 6، وقوله:{وَوَجَدَكَ ضَالاً فَهَدَى} 7، وما تنازعوا في معنى آية الأعراف وآية إبراهيم، فقال قوم: لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم على دين قومه، ولا كان يأكل ذبائحهم، وهذا هو المنقول عن أحمد، قال: من زعم أنه على دين قومه، فهو قول سوء، أليس كان لا يأكل ما ذبح على النصب؟ ثم قال الشيخ: ولعل أحمد قال: أليس كان لا يعبد الأصنام؟ فغلط
1 سورة إبراهيم آية: 10.
2 سورة إبراهيم آية: 11.
3 سورة غافر آية: 15.
4 سورة النحل آية: 2.
5 سورة يوسف آية: 3.
6 سورة الشورى آية: 52.
7 سورة الضحى آية: 7.
الناقل عنه، فإن هذا قد جاء في الآثار أنه كان لا يعبد الأصنام، وأما كونه لا يأكل من ذبائحهم، فهذا لا يعلم أنه جاء به أثر، وأحمد من أعلم الناس بالآثار، قال: والشرك حرم من حين أرسل الرسل، وأما تحريم ما ذبح على النصب، فإنه ما ذكر إلا في سورة المائدة، وقد ذكر في السور المكية كالأنعام والنحل تحريم ما أهل به لغير الله، وتحريم هذا إنما عرف من القرآن، وقبل القرآن لم يكن يعرف تحريم هذا بخلاف الشرك. ثم ذكر الفرق بين ما ذبحوه للحم، وبين ما ذبحوه للنصب على جهة القربة للأوثان قال: فهذا من جنس الشرك لا يقال قط في شريعة بحلها كما كانوا يتزوجون المشركات أولا. (قال: والقول الثاني) : إطلاق القول بأنه صلى الله عليه وسلم كان على دين قومه، وفسر ذلك بما كان عليه من بقايا دين إبراهيم، لا بالموافقة لهم على شركهم، وذكر أشياء مما كانوا عليه من بقايا الحنيفية كالحج والختان وتحريم الأمهات والبنات والأخوات والعمات والخالات. قال الشيخ: وهؤلاء إن أرادوا أن هذا الجنس مختص بالحنفاء، لا يحج يهودي ولا نصراني لا في الجاهلية ولا في الإسلام، فهو من لوازم الحنيفية، كما أنه لم يكن مسلما إلا من آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم، وأما قبل محمد، فكان بنو إسرائيل على ملة إبراهيم، وكان الحج مستحبا قبل محمد لم يكن مفروضا، ولهذا حج موسى ويونس وغيرهما من الأنبياء. ثم قال: ولكن تحريم المحرمات لا يشاركهم فيه أهل الكتاب، والختان يشاركهم فيه اليهود، وأطال في الرد والنقل عن ابن قتيبة، وذكر كلام ابن عطية في قوله:{وَوَجَدَكَ ضَالاً فَهَدَى} 1 أنه أعانه، وأقامه على غير الطريق
1 سورة الضحى آية: 7.
التي كان عليها. هذا قول الحسن والضحاك، قال: والضلال يختلف فمنه القريب، ومنه البعيد، وكون الإنسان واقفا لا يميز بين المهيع
…
1. ضلال قريب لأنه لم يتمسك بطريقة ضالة بل كان يرتاد، وينظر.
حفظ الرسول عليه السلام من مفاسد الجاهلية
(قال) : والمنقول أنه عليه السلام كان قبل النبوة يبغض عبادة الأصنام، ولكن لم يكن ينهى عنها نهيا عاما، وإنما كان ينهي خواصه، وساق ما رواه أبو يعلى الموصلي، وفيه:" فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فطاف بالبيت، وبين الصفا والمروة، وكان عند الصفا والمروة صنمان من نحاس أحدهما أساف، والآخر نائلة، وكان المشركون إذا طافوا تمسحوا بهما فقال النبي صلى الله عليه وسلم لزيد: لا تمسحهما فإنهما رجس، فقلت في نفسي لأمسنهما حتى انظر ما يقول، فمسستهما فقال: يا زيد ألم تنهه؟ " وقال أبو عبد الله المقدسي: هذا حديث حسن له شاهد في الصحيح. والحديث معروف قد اختصره البيهقي، وزاد فيه: قال زيد بن حارثة: والذي أكرمه وأنزل عليه الكتاب ما استلم صنما قط حتى أكرمه الله بالذي أكرمه. وفي قصة بحيرا الراهب حين حلف باللات والعزى فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " لا تسألن باللات والعزى، فوالله ما أبغضت بغضهما شيئا قط ". وكأن الله قد نزهه عن أعمال الجاهلية، ولم يكن يشهد مجامع لهوهم، وكان إذا هم بشيء من ذلك ضرب الله على أذنه فأنامه، وقد روى البيهقي وغيره في ذلك آثارا. وقد كانت قريش يكشفون عوراتهم لشيل حجر ونحوه، فنزهه الله عن ذلك كما في الصحيحين من قول جابر، وفي مسند أحمد زيادة:" فنودي: لا تكشف عورتك فألقى الحجر، ولبس ثوبه "
1 بياض بالأصل.
1.
وكانوا يسمونه الصادق الأمين، وكان الله - عزوجل- قد صانه عن قبائحهم، ولم يعرف منه قط كذبة، ولا خيانة، ولا فاحشة، ولا ظلم قبل النبوة، بل شهد مع عمومته حلف المطيبين على نصرة المظلومين. وأما الإقرار بالصانع وعبادته، والإقرار بأن السماوات والأرض مخلوقة له، محدثة بعد أن لم تكن، وأنه لا خالق غيره؛ فهذا كان عامتهم يعرفونه، ويقرون به فكيف لا يعرفه هو، ويقر به؟ وذكر الشيخ بعض علامات النبوة، وتغير العالم بمولده، ثم قال: لكن هذا لا يجب أن يكون مثله لكل نبي، فإنه أفضل الأنبياء، وهو سيد ولد آدم، والله –سبحانه- إذا أهّل عبدا لأعلى المنازل والمراتب، رباه على قدر تلك المرتبة، فلا يلزم إذا عصم نبينا أن يكون معصوما قبل النبوة من كبائر الإثم، والفواحش صغيرها وكبيرها، أن يكون كل نبي كذلك، ولا يلزم إذا كان الله بغض إليه شرك قومه قبل النبوة أن يكون كل نبي كذلك، كما عرف من حال نبينا صلى الله عليه وسلم-وفضائله لا تناقض من أخبار غيره إذا كان كذلك، ولا يمنع كونه نبيا لأن الله فضل بعض النبيين على بعض، كما فضلهم بالشرائع والكتب والأمم. وهذا أصل يجب اعتباره، وقد أخبر الله أن لوطا كان من أمة إبراهيم، وممن آمن له أن الله أرسله، والرسول الذي نشأ بين أهل الكفر الذين لا نبوة لهم، ثم يبعثه الله فيهم يكون أكمل وأعظم ممن كان من قومه لا يعرفونه، فإنه يكون بتأييد الله له أعظم من جهة تأييده بالعلم والهدى، ومن جهة تأييده بالنصر والقهر. (قلت) : وبهذا يظهر اختلاف درجات الأنبياء والرسل وعدم الاحتياج إلى التكلف في الجواب عن مثل آية إبراهيم ونحوها، وأن قصارى ما يقال
1 أحمد (5/454) .