الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الرسالة الرابعة والسبعون: [نفي كون ما جاء الشيخ محمد بن عبد الوهاب مذهبا خامس] ا
في بيان ما دعا إليه الشيخ محمد عبد الوهاب وكونه حقيقة الإسلام، وتضليل من زعم أنه مذهب خامس، وهو جواب لسؤال ورد على الشيخ من عمان. الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، محمد وآله وصحبه أجمعين: أما بعد: فقد وصلت إلينا الأسئلة التي صدرت من جهة الساحل الشرقي على يد الأخ سعد البواردي. السؤال الأول: قول الملحد الضال المجادل في دين الله: إن الأمر الذي جاء به الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله مذهب خامس، وغش للأمة، فهل يكون هذا القائل سنيا أو مبتدعا؟ فالجواب: وبالله التوفيق إنما تدل مقالته هذه على أنه من أجهل خلق الله في دين الله، وأبعدهم عن الإسلام وأبينهم ضلالة. فإن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله إنما دعا الناس إلى أن يعبدوا الله وحده لا شريك له ولا يشركوا به شيئا، وهذا لا يرتاب فيه مسلم أنه دين الله الذي أرسل به رسله وأنزل به كتبه، كما سنذكره -إن شاء الله تعالى-. وقوله: مذهب خامس يبين جهله، وأنه لا يعرف العلم ولا العلماء، فإن الذي قام به شيخ الإسلام لا يقال له مذهب، وإنما يقال له: دين وملة، فإن التوحيد هو دين الله وملة خليله إبراهيم ودين جميع الأنبياء والمرسلين، وهو الإسلام الذي بعث الله به محمدا صلى الله عليه وسلم وأجمع عليه علماء الأمة سلفا وخلفا؛ ولا يخالف في هذا إلا من هو مشرك كما قال تعالى: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ أَلا
لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} 1، وقال تعالى:{وَمَا أُمِرُوا إِلَاّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} 2،فسماه الله تعالى في هاتين الآيتين وغيرهما من آي القرآن دينا ولم يسمه مذهبا.
[معنى المذهب وسبب المذاهب وأئمتها]
وأما ما جرى على ألسن العلماء من قولهم: مذهب فلان أو ذهب إليه فلان، فإنما يقع في الأحكام لاختلافهم فيها بحسب بلوغ الأدلة وفهمها، وهذا لا يختص بالأئمة الأربعة رحمهم الله بل مذاهب العلماء قبلهم وبعدهم في الأحكام كثيرة فقد جرى الخلاف بين الصحابة رضي الله عنهم، وللصدِّيق رضي الله عنه مذهب تفرد به، ولابن مسعود كذلك، وكذا ابن عباس وغيرهم من الصحابة، وكذا الفقهاء السبعة من التابعين خالف بعضهم بعضا في مسائل، وغيرهم من التابعين كذلك، وبعدهم أئمة الأمصار كالأوزاعي إمام أهل الشام، والليث بن سعد إمام أهل مصر، وسفيان بن عيينة (سفيان) والثوري إمام أهل العراق. فلكل مذهب معروف في الكتب المصنفة في اختلاف العلماء، ومثلهم الأئمة الأربعة، وجاء بعدهم أئمة مجتهدون خالفوا الأئمة الأربعة في مسائل معروفة عند العلماء كأهل الظاهر؛ ولذلك تجد من صنف في مسائل الخلاف إذا عنى الأربعة قال: اتفقوا، وفي مسائل الإجماع التي أجمع عليها العلماء سلفا وخلفا يقول: أجمعوا. وذكر المذاهب لا يختص بأهل السنة من الصحابة فمن بعدهم، فإن بعض أهل البدع صنفوا لهم مذهبا في الأحكام يذكرونه عند أئمتهم، كالزيدية لهم كتب معروفة يفتي بها أهل اليمن، والإمامية الرافضة لهم مذهب مدون خالفوا في كثير منه أهل السنة والجماعة. والمقصود أن قول هذا الجاهل مذهب خامس، قول فاسد لا معنى له كحال أمثاله من
1 سورة الزمر آية: 2.
2 سورة البينة آية: 5.
أهل الجدل والزيغ في زماننا. (شعر) :
يقولون أقوالا ولا يعرفونها
…
وإن قيل هاتوا حققوا لم يحققوا
(وأما قوله:) وغش الأمة، فهذا الجاهل الضال بنى هذا القيل الكاذب على سوء فهمه وانصرافه عن دين الإسلام، لأنه عدو لمن قام به ودعا إليه وعمل به؛ ومن المعلوم عند العقلاء وأهل البصائر أن من دعا الناس إلى توحيد ربهم وطاعته أنه الناصح لهم حقا. وأما من حسَّن الشرك والبدع ودعا إليها، وجادل بالباطل وألحد في أسماء الله وصفاته، فهو الظالم الغاش لعباد الله؛ لأنه يدعوهم إلى ضلالة. نعوذ بالله من جهد البلاء، ودرك الشقاء، وسوء القضاء، وشماتة الأعداء.
[التوحيد الذي دعا إليه الشيخ محمد بن عبد الوهاب]
ونذكر ما قام به الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، فإنه نشأ في أناس قد اندرست فيهم معالم الدين، ووقع فيهم من الشرك والبدع ما عم وطم في كثير من البلاد، إلا بقايا متمسكين بالدين يعلمهم الله تعالى. وأما الأكثرون فعاد المعروف بينهم منكرا، والمنكر معروفا، والسنة بدعة والبدعة سنة، نشأ على هذا الصغير، وهرم عليه الكبير، ففتح الله بصيرة شيخ الإسلام بتوحيد الله الذي بعث به رسله وأنبياءه، فعرف الناس ما في كتاب ربهم من أدلة توحيده الذي خلقهم له، وما حرمه عليهم من الشرك الذي لا يغفره الله إلا بالتوبة منه، فقال لهم ما قاله المرسلون لأممهم:{أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} 1. فحجب كثيرا منهم عن قبول هذه الدعوة ما اعتادوه، وما نشؤوا عليه من الشرك والبدع؛ فنصبوا العداوة لمن دعاهم إلى توحيد ربهم وطاعته، وهو شيخنا رحمه الله. ومن استجاب له، وقبل دعوته وأصغى
1 سورة الأعراف آية: 59.
إلى حجج الله وبيناته، كحال من خلا من أعداء الرسل كما قال تعالى:{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الأِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً} 1، وقال تعالى:{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً} 2. وأدلة ما دعا إليه هذا الشيخ رحمه الله من التوحيد في الكتاب والسنة أظهر شيء وأبينه. اقرأ كتاب الله من أوله إلى آخره تجد بيان التوحيد والأمر به، وبيان الشرك والنهي عنه مقررا في كل سورة، وفي كثير من سور القرآن يقرره في مواضع منها، يعلم ذلك من له بصيرة وتدبر. ففي فاتحة الكتاب:{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} 3: فيها نوعا التوحيد: توحيد الإلهية وتوحيد الربوبية، وفي:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} 4 النوعان، وقصر العبادة والاستعانة على الله عز جل أي: لا نعبد غيرك ولا نستعين إلا بك 5.أول أمر في القرآن يقرع سمع السامع والمستمع قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} 6 إلى قوله: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} 7. فأمرهم بتوحيد الإلهية، واستدل عليه بالربوبية، ونهاهم عن الشرك به، وأمرهم بخلع الأنداد التي يعبدها المشركون من دون الله. وافتتح -سبحانه- كثيرا من سور القرآن بهذا التوحيد:{الم اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَاّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} 8.: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} 9 - إلى قوله: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ} 10 أي: المألوه
1 سورة الأنعام آية: 112.
2 سورة الفرقان آية: 31.
3 سورة الفاتحة آية: 2.
4 سورة الفاتحة آية: 5.
5 هذا التفسير للقصر المذكور، ومعنى الآية في جملتها نعبدك ولا نعبد غيرك، ونستعينك ولا نستعين سواك، فهي جامعة بين إثبات العبادة والاستعانة لله، ونفيهما عن سواه.
6 سورة البقرة آية: 21.
7 سورة البقرة آية: 22.
8 سورة آل عمران آية: 1-2.
9 سورة الأنعام آية: 1.
10 سورة الأنعام آية: 3.
المعبود في السماوات والأرض، وفي هذه السورة 1 من أدلة التوحيد ما لا يكاد أن يحصر، وفيها من بيان الشرك والنهي عنه كذلك. وافتتح سورة هود بهذا التوحيد فقال:{الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ أَلَاّ تَعْبُدُوا إِلَاّ اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ} 2، فأحكم تعالى آيات القرآن، ثم فصلها ببيان توحيده والنهي عن الإشراك به، وفي أول سورة طه قال تعالى:{اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَاّ هُوَ لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} 3. وافتتح سور الصافات بهذا التوحيد، وأقسم عليه فقال: {وَالصَّافَّاتِ صَفّاً فَالزَّاجِرَاتِ زَجْراً فَالتَّالِيَاتِ ذِكْراً إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِد رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقٌِ} 4. وافتتح سورة الزمر بقوله: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} 5. وفي هذه السورة من بيان التوحيد والأمر به، وبيان الشرك والنهي عنه، ما يستضيء به قلب المؤمن، وفي السورة بعدها كذلك، وفي سورة: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} 6 نفى الشرك في العبادة إلى آخره. وفي سورة: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} 7 توحيد الألوهية وتوحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات. وهذا ظاهر لمن نور الله قلبه بفهم القرآن. وفي خاتمة المصحف: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ مَلِكِ النَّاسِ إِلَهِ النَّاسِ} 8 بين أن ربهم وخالقهم ورازقهم والمتصرف فيهم 9 بمشيئته وإرادته، وهو ملكهم الذي نواصي الملوك بيده، وجميع الخلق في قبضته، يعز هذا ويذل هذا
1 يعني سورة الأنعام، وهي أجمع سور القرآن لعقائد الإسلام في الإلهيات والنبوة والبعث،
ورد شبهات المشركين.
2 سورة هود آية: 1.
3 سورة طه آية: 8.
4 سورة الصافات آية: 1.
5 سورة الزمر آية: 1.
6 سورة الكافرون آية: 1.
7 سورة الإخلاص آية: 1.
8 سورة الناس آية: 1.
9 لعل أصله هو المتصرف فيهم، فيكون خبر أن ربهم وإلا فأين الخبر.
ويهدي من يشاء، ويضل من يشاء،:{لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} 1، وهو معبودهم الذي لا يستحق لأن يعبد سواه، فهذه إشارة إلى ما في القرآن.
[دعوة الشيخ إلى أركان الإسلام وشعب الإيمان]
وأما السنة: ففيها من أدلة التوحيد ما لا يمكن حصره، كقوله في حديث معاذ الذي في الصحيحين:"فإن حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا" 2، وفي حديث ابن مسعود الصحيح:"من لقي الله لا يشرك به شيئا، دخل الجنة. ومن لقيه يشرك به، دخل النار" 3، والحديث الذي في معجم الطبراني:" إنه لا يستغاث بي، وإنما يستغاث بالله عز وجل "، ولما قال له رجل:"ما شاء الله وشئت، قال: أجعلتني لله ندا؟ بل ما شاء الله وحده" 4 وأمثال هذا لا يحصى كما تقدم ذكره. وأدلة التوحيد في الكتاب أبين من الشمس في نحر الظهيرة، لكن لمن له فهم ثاقب، وعقل كامل، وبصر ناقد، وأما الأعمى فلا يبصر للشمس ضياء، ولا للقمر نورا.
[عداوة أكثر الناس لإصلاح الرسل وورثتهم]
ثم إن شيخنا رحمه الله كان يدعو الناس إلى الصلوات الخمس، والمحافظة عليها حيث ينادى لها؛ وهذا من سنن الهدى ومعالم الدين كما دل على ذلك الكتاب والسنة. ويأمر بالزكاة والصيام والحج، ويأمر بالمعروف ويأتيه، ويأمر الناس أن يأتوه ويأمروا به، وينهى عن المنكر ويتركه، ويأمر الناس بتركه والنهي عنه. وقد تتبع العلماء مصنفاته رحمه الله من أهل زمانه وغيرهم، فأعجزهم أن يجدوا فيها ما يعاب. وأقواله في أصول الدين مما أجمع عليه أهل السنة والجماعة، وأما في الفروع والأحكام، فهو حنبلي المذهب، لا يوجد له قول
1 سورة الرعد آية: 41.
2 البخاري: الجهاد والسير (2856)، ومسلم: الإيمان (30)، والترمذي: الإيمان (2643)، وابن ماجه: الزهد (4296) ، وأحمد (3/260 ،5/228 ،5/229 ،5/230 ،5/234 ،5/236 ،5/238 ،5/242) .
3 مسلم: الإيمان (93) ، وأحمد (3/325 ،3/344 ،3/374 ،3/391) .
4 أحمد (1/214) .
مخالف لما ذهب إليه الأئمة الأربعة، بل ولا خرج عن أقوال أئمة مذهبه، على أن الحق لم يكن محصورا في المذاهب الأربعة كما تقدم، ولو كان محصورا فيهم لما كان لذكر المصنفين في الخلاف، وأقوال الصحابة والتابعين، ومن بعدهم مما خرج عن أقوال الأربعة فائدة. والحاصل: أن هذا المعترض المجادل مع جهله، انعكس عليه أمره، فقبل قلبه ما كان منكرا، ورد ما كان معروفا؛ فأعداء الحق وأهله من زمن قوم نوح إلى أن تقوم الساعة، هذه حالهم وطريقتهم، فمن حكمة الرب أنه ابتلى عباده المؤمنين الذين يدعون الناس إلى ما دعا إليه النبي صلى الله عليه وسلم من الدين بثلاثة أصناف من الناس وكل صنف له أتباع. (الصنف الأول) : من عرف الحق، فعاداه حسدا وبغيا كاليهود، فإنهم أعداء الرسل والمؤمنين كما قال تعالى:{بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ} 1،:{وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} 2. (الصنف الثاني) : الرؤساء أهل الأموال الذين فتنتهم دنياهم وشهواتهم لأنهم يعلمون أن الحق يمنعهم من كثير مما أحبوه، وألفوه من شهوات الغنى، فلم يعبؤوا بداعي الحق ولم يقبلوا منه. (الصنف الثالث) : الذين نشؤوا في باطل وجدوا عليه أسلافهم يظنون أنهم على حق، وهم على باطل، فهؤلاء لم يعرفوا إلا ما نشؤوا عليه، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا. وكل هذه الأصناف الثلاثة وأتباعهم، هم أعداء الحق من لدن زمان نوح إلى أن تقوم الساعة.
1 سورة البقرة آية: 90.
2 سورة البقرة آية: 146.
(فأما الصنف الأول) : فقد عرفت ما قال الله فيهم. (وأما الصنف الثاني) : فقد قال فيهم: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} 1. وقال عن الصنف الثالث: {قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} 2،: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} 3، وقال: {إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ} 4. وهؤلاء هم الأكثرون كما قال تعالى: {وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الأَوَّلِينَ} 5، وقال تعالى في سورة الشعراء عقب كل قصة:{إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} 6، وقال تعالى:{وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} 7، وقال تعالى في قصة نوح عليه السلام:{وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَاّ قَلِيلٌ} 8، وقال:{وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَاّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَاّ يَخْرُصُونَ} 9. فيا من نصح نفسه، تدبر ما ذكر الله في كتابه من ضلال الأكثرين لئلا تغتر بالكثرة من المنحرفين عن الصراط المستقيم، الذي هو سبيل المؤمنين، وتدبر ما ذكر الله من أحوال أعداء المرسلين، وما فعل الله بهم، قال تعالى: {مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَاّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ} 10 الآية، وقال تعالى: {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} 11. والآيات في هذا المعنى كثيرة، تبين أن أهل الحق أتباع الرسل
1 سورة القصص آية: 50.
2 سورة الشعراء آية: 74.
3 سورة الزخرف آية: 22.
4 سورة الصافات آية: 69.
5 سورة الصافات آية: 71.
6 سورة الشعراء آية: 8.
7 سورة يوسف آية: 103.
8 سورة هود آية: 40.
9 سورة الأنعام آية: 116.
10 سورة غافر آية: 4.
11 سورة غافر آية: 83.
هم الأقلون عددا، الأعظمون عند الله قدرا، وأن أعداء الحق هم الأكثرون في كل مكان وزمان. وفي الأحاديث الصحيحة ما يرشد إلى ذلك كما في الصحيح: أن ورقة بن نوفل قال للنبي صلى الله عليه وسلم: "يا ليتني كنت فيها جذعا، ليتني أكون حيا إذ يخرجك قومك، قال: أومخرجي هم؟ قال: نعم، لم يأت أحد قط بمثل ما جئت به إلا عودي"1. فإذا كان هذا حال أكثر الخلق مع المرسلين، مع قوة عقولهم وفهومهم وعلومهم، فلا تعجب مما جرى في هذه الأوقات ممن هم مثلهم في عداوة الحق وأهله، والصد عن سبيل الله، مع ما في أهل هذه الأزمان من الرعونات والجهل، وفرط الغلو في الأموات، كما قال تعالى عن أسلافهم وأشباههم: {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ} 2. فاحتج سبحانه على بطلان دعوتهم غيره بأمور: (منها) أنهم: {لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ} 3 فالمخلوق لا يصلح أن يقصد بشيء من خصائص الإلهية، لا دعاء ولا غيره و "الدعاء مخ العبادة" 4 (الثاني) : كون الذين يدعونهم من دون الله أمواتا غير أحياء والميت لا يقدر على شيء فلا يسمع الداعي ولا يستجيب له، ففيها معنى قوله تعالى:{وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} 5، وفي هذه الآية أربعة أمور تبطل دعوة غير الله، وتبين ضلالة من دعا غير الله، فتدبرها.
1 البخاري: بدء الوحي (4)، ومسلم: الإيمان (160) ، وأحمد (6/223 ،6/232) .
2 سورة النحل آية: 20.
3 سورة النحل آية: 20.
4 الترمذي: الدعوات (3371) .
5 سورة فاطر آية: 13.
(والأمر الثالث) في هذه الآية قوله: {وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُون َ} 1، ومن لا يدري متى يبعث لا يصلح أن يدعى من دون الله، لا دعاء عبادة ولا دعاء مسألة. ثم بين تعالى ما أوجبه على عباده من إخلاص العبادة لله، وأنه هو المألوه المعبود دون كل من سواه، فقال:{إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} 2. وهذا هو الذي بعث الله به رسله، وأنزل به كتبه كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَاّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَاّ أَنَا فَاعْبُدُونِ} 3. ثم بين تعالى حال أكثر الناس مع قيام الحجة عليهم، وبطلان ما هم عليه من الشرك بالله، وبيان ما افترض عليهم من توحيده فقال:{فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ} 4، فذكر سببين حائلين بينهم، وبين قبول الحق الذي دعوا إليه:(فالأول) : عدم الإيمان باليوم الآخر. (والثاني) : التكبر، وهو حال الأكثرين كما قد عرف من حال الأمم الذين بعث إليهم رسله، كقوم نوح وقوم هود وقوم صالح وغيرهم، وكيف جرى منهم وما حل بهم، وكحال كفار قريش والعرب وغيرهم مع النبي صلى الله عليه وسلم لما بعثه الله بالتوحيد والنهي عن الشرك والتنديد، فقد روى مسلم وغيره من حديث عمرو بن عبسة أنه "قال للنبي صلى الله عليه وسلم لما قال له: أنا نبي، قال: وما نبي؟ قال: أرسلني الله، قال: بأي شيء أرسلك؟ قال: بصلة الأرحام، وكسر الأوثان، وأن يوحد الله ولا يشرك به شيء، قال: فمن معك على هذا؟ قال: حر وعبد" 5، ومعه يومئذ أبو بكر وبلال. وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ، فطوبى للغرباء الذين يصلحون إذا فسد الناس" 6، وفسر الغرباء بأنهم النزاع من القبائل، فلا يقبل الحق من القبيلة إلا نزيعة الواحد والاثنان؛ ولهذا قال بعض السلف: لا تستوحش من الحق لقلة السالكين، ولا تغتر
1 سورة النحل آية: 21.
2 سورة البقرة آية: 163.
3 سورة الأنبياء آية: 25.
4 سورة النحل آية: 22.
5 مسلم: صلاة المسافرين وقصرها (832) ، وأحمد (4/112) .
6 مسلم: الإيمان (145)، وابن ماجه: الفتن (3986) ، وأحمد (2/389) .
بالباطل لكثرة الهالكين. وعن بعضهم: ليس العجب ممن هلك كيف هلك؟ إنما العجب ممن نجا كيف نجا؟ فإذا كان الأمر كذلك، فلا تعجبوا من كثرة المنحرفين الناكبين عن الحق المبين، المجادلين في أمر الدين، كما قال تعالى:{الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ} 1. فأعظم منة على من رزقه الله معرفة الحق، الاعتصام بكتابه، والتمسك بتوحيده وشرعه، مع كثرة المخالف والمجادل بالباطل و: {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً مُرْشِدا ً} 2. وصلى الله على محمد سيد المرسلين وإمام المتقين، وعلى آله وصحبه أجمعين وسلم تسليما كثيرا، والحمد لله رب العالمين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
1 سورة غافر آية: 35.
2 سورة الكهف آية: 17.