المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الرسالة الرابعة والخمسون: [نصر مذهب السلف على علم الكلام] - مجموعة الرسائل والمسائل النجدية (الجزء الثالث)

[عبد اللطيف آل الشيخ]

فهرس الكتاب

- ‌الرسالة الأولى [الإنكار على من كفر المسلمين بغير ما أجمع عليه الفقهاء]

- ‌الرسالة الثانية: [التحرج عن رمي من ظاهره الإسلام بالكفر]

- ‌الرسالة الثالثة: [السفر إلى بلاد الأعداء من المشركين والكفار]

- ‌الرسالة الرابعة [حكم من يسافر إلى بلاد المشركين]

- ‌الرسالة الخامسة: [الهجرة والإقامة بين أظهر المشركين]

- ‌الرسالة السادسة: [شدة ظهور غربة الإسلام وأهله]

- ‌الرسالة السابعة: [خطر الفتنة ومضارها والسبيل لنجاة المسلم منها]

- ‌الرسالة الثامنة: [التذكير بآيات الله والحث على لزوم الجماعة]

- ‌الرسالة التاسعة: [تفنيد رسالة ابن عجلان وما فيها من المفاسد]

- ‌الرسالة العاشرة: [حكم الاستنصار بالكفار على البغاة من أهل الإسلام]

- ‌الرسالة الحادية عشرة: [الفتنة والشقاق بين آل سعود]

- ‌الرسالة الثانية عشرة: [الوصية بلزوم الكتاب والسنة والعمل بما فيهما]

- ‌الرسالة الثالثة عشرة: [دعوة الشيخ ابن عبد الوهاب هي دعوة إلى التوحيد الخالص]

- ‌الرسالة الرابعة عشرة: [الهجرة من أركان الدين]

- ‌الرسالة الخامسة عشرة: [تفسير قوله تعالى ويعبدون من دون الله ما لايضرهم ولا ينفعهم]

- ‌الرسالة السادسة عشرة: [رؤية الله سبحانه وتعالى في الجنة]

- ‌الرسالة السابعة عشرة: [تفسير السبحات بالنور]

- ‌الرسالة الثامنة عشرة: [الإيمان بالاستواء وتأويله]

- ‌الرسالة التاسعة عشرة: [الطعن في كتاب الإحياء]

- ‌الرسالة العشرون: [السمت والتؤدة والاقتصاد في الأمور]

- ‌الرسالة الحادية والعشرون: [مؤاخذة أنصار الجاني وأقاربه بجريرة فعله]

- ‌الرسالة الثانية والعشرون: [إسكان النبي عليه السلام المهاجرات دور أزواجهن ميراثا]

- ‌الرسالة الثالثة والعشرون: [نصيحة الشيخ للأمير فيصل]

- ‌الرسالة الرابعة والعشرون: [رسالة الشيخ محمد بن عجلان ورد الشيخ حمد عليها]

- ‌الرسالة الخامسة والعشرون: [حال فتنة الأمراء بنجد وأحوالها ومآلها]

- ‌الرسالة السادسة والعشرون: [الفتن الحاصلة بسبب الإمارة]

- ‌الرسالة السابعة والعشرون: [مداهنة المشركين والسفر إلى بلادهم وعقاب فاعله]

- ‌الرسالة الثامنة والعشرون: [تكفير الترك للنجديين والتقاتل بينهم]

- ‌الرسالة التاسعة والعشرون: [شروط السفر إلى بلد الشرك وحكم الهجرة]

- ‌الرسالة الثلاثون: [الحاجة إلى العلم في حال الفتن]

- ‌الرسالة الحادية والثلاثون: [التمسك بالميراث النبوي والحث على مذاكرة العلم]

- ‌الرسالة الثانية والثلاثون: [الغلظة على الكفار ومتى أمر النبي صلى الله عليه وسلم بها]

- ‌الرسالة الثالثة والثلاثون: [مشروعية بر الكافر غير المحارب والقسط إليه]

- ‌الرسالة الرابعة والثلاثون: [الأمر بالاعتصام والنهي عن التفرق والاختلاف]

- ‌الرسالة الخامسة والثلاثون: [تفسير قوله عزوجل: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأنْسَ إِلَاّ لِيَعْبُدُونِ} ]

- ‌الرسالة السادسة والثلاثون: [بيع دَيْن السَّلَم قبل قبضه]

- ‌الرسالة السابعة والثلاثون: [الرهن وشروطه]

- ‌الرسالة الثامنة والثلاثون: [رفع اليدين إذا قام من التشهد الأول]

- ‌الرسالة التاسعة والثلاثون: [تكفير من أنكر الاستواء على العرش]

- ‌الرسالة الأربعون: [شبهات الجهمية ونفاة الصفات]

- ‌الرسالة الحادية والأربعون: [ما جرى من مفاسد العساكر التركية]

- ‌الرسالة الثانية والأربعون: [حكم نهب الأعراب]

- ‌الرسالة الثالثة والأربعون: [بيان مضار الفتنة ومفاسد العسكر]

- ‌الرسالة الرابعة والأربعون: [الظهار وتعليقه بالمشيئة]

- ‌الرسالة الخامسة والأربعون: [التحريض على لزوم الجماعة]

- ‌الرسالة السادسة والأربعون: [بيان خطبة الشيخ عبد اللطيف في الفتنة بين سعود وأخيه]

- ‌الرسالة السابعة والأربعون: [الحث على الجهاد]

- ‌الرسالة الثامنة والأربعون: [الحث على الدعوة إلى الله ونشر العلم بين الناس]

- ‌الرسالة التاسعة والأربعون: [غربة الدين وقلة الأنصار]

- ‌الرسالة الخمسون: [جواب عن سؤال في حديث جابر بن عبد الله والدين الذي كان عليه لليهودي]

- ‌الرسالة الحادية والخمسون: [استعمال الماضي موضع المضارع]

- ‌الرسالة الثانية والخمسون: إخلاص العبادة لله

- ‌الرسالة الثالثة والخمسون: [إلى علماء الحرمين الشريفين]

- ‌الرسالة الرابعة والخمسون: [نصر مذهب السلف على علم الكلام]

- ‌الرسالة الخامسة والخمسون: [نصر الدين والسنة من أفضل شعب الإيمان]

- ‌الرسالة السادسة والخمسون: [الحث على التقوى]

- ‌الرسالة السابعة والخمسون: تحريم تعدد الجمعة في القرية الواحدة

- ‌الرسالة الثامنة والخمسون: [حكم الجهمية والصلاة خلفهم]

- ‌الرسالة التاسعة والخمسون: [فشو الشرك والتعطيل]

- ‌الرسالة الستون: [ذبائح المشركين وطعامهم]

- ‌الرسالة الحادية والستون: [الفتن والامتحانات التي وقعت بين آل سعود وحكمة الله فيها]

- ‌الرسالة الثانية والستون: [الإيمان بالأسماء الحسنى بلا تكييف ولا تعطيل]

- ‌الرسالة الثالثة والستون: [دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب إلى تجديد الدين]

- ‌الرسالة الرابعة والستون: [تفسير قوله تعالى: {ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع} ]

- ‌الرسالة الخامسة والستون: [رد مطاعن على الشيخ محمد بن عبد الوهاب]

- ‌الرسالة السادسة والستون: [رد على الشيخ عثمان بن منصور]

- ‌الرسالة السابعة والستون: [رسالة إلى أهل الحوطة بالاعتصام بالتوحيد الخالص]

- ‌الرسالة الثامنة والستون: [النصيحة إلى كافة المسلمين]

- ‌الرسالة التاسعة والستون: [ما يجب الإيمان به من صفات الله]

- ‌الرسالة السبعون: [فضل الدعوة إلى الله]

- ‌الرسالة الحادية والسبعون: [حال الأمة الإسلامية قبل ظهور الشيخ محمد بن عبد الوهاب]

- ‌الرسالة الثانية والسبعون: [وصف رسالة من رسائل الشيخ ومدحه هو وآله]

- ‌الرسالة الثالثة والسبعون: [شبهات في تحريم القهوة]

- ‌الرسالة الرابعة والسبعون: [نفي كون ما جاء الشيخ محمد بن عبد الوهاب مذهبا خامس] ا

- ‌الرسالة الخامسة والسبعون: [تقديم لترجمة الشيخ محمد بن عبد الوهاب]

- ‌الرسالة السادسة والسبعون: [الرد على عبد اللطيف الصحاف1]

الفصل: ‌الرسالة الرابعة والخمسون: [نصر مذهب السلف على علم الكلام]

زادهما الله تشريفا وتكريما ومهابة وتعظيما؛ فلعل هذه الحوادث عن بعض النواب والوزراء الذين لا خبرة لهم بسبيل الرشد والهدى، ولا علم لهم بأسباب السعادة والتقى، وصلى الله على إمام المتقين، وعلى آله وصحبه والتابعين، آمين.

‌الرسالة الرابعة والخمسون: [نصر مذهب السلف على علم الكلام]

وله أيضا رحمه الله رسالة إلى الشيخ أبي بكر بن محمد آل الملا المعروفين ببلد الأحساء، وكان أبو بكر هذا وأشياعه متهمين بطريقة التأويل والتعطيل الكلامية، وكانوا في حال ظهور هذا الإسلام يخفون ذلك. فكتب هذا الشيخ رسالة إلى بعض إخوانه يحضه، وكانت مشتملة على ما يمج سماعه من الزور والبهتان، والدفع لصريح السنة والقرآن، كقوله فيها: إن الله لا داخل العالم ولا خارجه، وإن آيات الصفات وأحاديثها من المتشابه، فكتب عليها الشيخ المبجل، والإمام الجليل المفضل، الشيخ عبد الرحمن بن حسن جوابا بين فيه ما فيها من الزيغ والتعطيل، وأقام على ذلك البرهان والدليل، فزعم أنها ليست له، بل لبعض علماء الأحساء وكان معطلا متأولا. فحكم الشيخ بخط أبي بكر عليه، وأشار برد أباطيله إليه؛ لأن من اعتنى، واشتغل بنسخ كتب الزندقة والتعطيل والتجهم، وأقر ما فيها من نفي إثبات الصفات المؤدي إلى التعطيل، وصمم بل زعم أنه لم يظهر له ما فهمه أهل الإثبات للصفات على ما يليق بعظمة الله وجلاله، ونعوت صفاته وكماله، ويدعي مع ذلك أنه لا يعتقد ما فيها، لكنه ما رد ولا أنكر ما اشتملت عليه من البدع والأهواء، ولم يسلك مناهج أهل الحق والهدى، فدعواه دعوى باطلة جدلية، وسفسطة ظاهرة جلية. ثم إنه كتب يتظلم من تلك الرسالة، وأنها مخالفة لمعتقده ومقاله، فكتب إليه الشيخ عبد اللطيف هذا الجواب، وأبان ما في كلامه من الزيغ والارتياب، وأن الأدلة والقرائن القوية، تدل على استحسانه لتلك الاعتقادات الوبية. فنعوذ بالله من الخِذلان ومخالفة السنة والقرآن. وهذا نص الرسالة:

ص: 294

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الذي افترض تغيير المنكر باليد واللسان والجنان، وأخذ الميثاق على ورثة الرسل بالبلاغ والبيان، وأن لا يداهنوا في دين الله مغرورا بحبائل الشيطان، وأن لا يركنوا إلى مفتون بزخارف الهذيان، وإن ظن أنه من أهل البصيرة والإيمان، والصلاة والسلام على سيد من جاهد في ذات الله، وإمام من حارب كل من استعبده صنمه أو جاهه أو هواه. من الفقير إلى الله سبحانه عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن إلى الشيخ أبي بكر بن محمد، جمعنا الله وإياه على الطاعة وجنبنا سبل الفتنة والشناعة. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. أما بعد: فقد وصلت إليّ رسالتك إلى شيخنا الوالد حفظه الله ومتعنا والمسلمين بحياته، وقد أحسنت فيها بذكر المعتقد وبيانه، وأنك اقتديت فيه بكلام أئمة الدين كالإمام أبي حنيفة وغيره من السلف الماضين، وهذا هو القصد منكم، وقد أشرت به إليك وقت اجتماعنا؛ إذ بذكرك معتقدك وتقريره والتبري من أهل البدع كالجهمية والمعتزلة والأشعرية والكرّامية والماتُريدية، يحصل لنا نحن، وإياك اتفاق الكلمة وصلاح الطوية، نسأل الله أن يمن بذلك. لكنك أسأت بذكر أمور يحصل منها نفور واشمئزاز، وهذه معاكسة ظاهرة لما أشرت به إليك شفاها، ومتابعة لغرض نفسي شيطاني، لا لقصد شرعي إيماني، من ذلك أنك لما ذكرت أن الرسالة ليست لك بل لبعض أسلافك من علماء الأحساء وأنه كان أشعري الاعتقاد اعترفت، وصرحت بأنك نقلتها لبعض الإخوان بخطك، وهذا فيه ما لا يخفى من

ص: 295

التهمة القوية، حيث أثبتها بخطك، وأشعتها في قومك، ورهطك، غير ملتفت لرد ما فيها من الزور والبهتان، وأن آيات الصفات وأحاديثها من المتشابه، وغير ذلك مما ساق من خرافاته، ومما نمق من غلطاته ووهلاته، وأنت مع ذلك لم تتحاشَ من نقلها وإهدائها إلى الإخوان. وكذلك سميت هذا الرجل وعددته -مع ما ارتكبه- من علماء المسلمين، وما هكذا المعروف من هدي أهل العلم والإيمان، فإنهم لا يكتبون الضلال والباطل والزور، إلا لرده ودفعه في نفس ذلك المزبور، وأنت قد خالفت هديهم وخرجت عن طريقتهم، ومن سلك مسالك التهم فلا يلومن من أساء به الظن.

[الاحتجاج بالخط على كاتبه]

ثم إن خط الرجل حجة عليه، ودعواه أنه ناقل دعوى تفتقر إلى إثبات ودليل، فلا غَرو أن حكم شيخنا الوالد بخطك عليك، وأشار برد أباطيله إليك. وقد ذكرت أنك كنت متأسيا حال النقل بما في الفقه الأكبر لأبي حنيفة في العقيدة السليمة الحميدة، وعسى الله أن يحقق ذلك، وعلى تسليمه كيف ساغ لك أن تكتب ضدها ولا تبين ما فيه؟! ولو أخذت بواجب أمر الفرقان، وتخلقت بخلق أهل الإيمان، المذكور في قوله سبحانه:{وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً} 1 لما وجه الوالد ولا غيره إليك ردا ولا ملاما، ولكن: عرضت نفسك للبلا فاستهدف

ومن ذلك قولك: قد تمادى بنا الكلام، حتى خرجنا عن المقام، تشبيها لأولي الأفهام، ودفعا للكثير من الأوهام، وهذا تصريح منك بأن أخذك بخطك من باب الوهم، ومن المعلوم أنه لم يكن مما يفيد اليقين والثبوت، فأقل أحواله تنْزيلا أن يكون من باب الفراسة والحكم بالقرائن القوية، ومن زعم أن الحكم بها من باب الأوهام فسفسطته وجدله مما لا يحتاج برهانه وتقريره بسط

1 سورة الفرقان آية: 72.

ص: 296

كلام. ولا يشك من له أدنى مسكة من عقل أن من اعتنى بنسخ كتب الزندقة والتعطيل والتجهم مع دعواه أنه لا يعتقدها، فهو مخبول العقل ليس عنده من وازع الدين ما يقتضي تركها. هذا لو سلمنا هذه الدعوى وتركنا الأدلة والقرائن على استحسانها واعتقادها، وأدهى من هذا وأمر وأوضح منه من نظر في خطك واعتبر أنك تقول: إنه لم يظهر لك في حال نقلك لتلك الرسالة من نفي إثبات الصفات المؤدي إلى التعطيل ما فهمه شيخنا الوالد -حفظه الله-، فإن كنت لا تفهم من قول هذا الرجل في ربه: إنه لا داخلَ العالم ولا خارجه ولا فوقه، وإن ما دل على حقائق صفات الله سبحانه، ونعوت جلاله من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية معدود عند السلف من المتشابه، ونحو ذلك من كلامه، فإن كنت لا تفهم من هذا نفيا ولا تعطيلا فلتبك عقلك النوائح. أين أولو البصائر والأفهام؟! أين المناضلون عن ملة الإسلام؟! ما هذه إلا مكابرة جلية، وسفسطة جدلية، فإن صبيان المكاتب، فضلا عن أولي العلم والمراتب، يعلمون أن هذه العبارة صريحة في التعطيل، غير محتملة للتصحيح والتأويل، وقد كنت أظن بك دون هذه المكابرة، وأحسب أنك ترعوي عند المحاقّة والمخابرة، لا سيما بعد اطلاعك على هذا الرد النفيس، وما تضمنه من براهين الإثبات والتقديس، فخلت أن همتك ترتفع به إلى فوق، وأنك لا ترضى سبيل الميل والعوق، وأن أفراخ اليونان لا تعوقك عن الوصول، وأن أسلاف القوم لا يصدونك عن سنن الرسول، لكن كما قيل:

خفافيش أعشاها النهار بضوئه

ووافقها قطع من الليل مظلم

وقولك: إن المفاهيم تتفق وتختلف جوابه: أن الاتفاق والاختلاف إنما يقع عند ذوي البصائر والعقول والأفهام السليمة في غير صرائح العبارات

ص: 297

ومنطوقها، وفي غير الدلالة المطابقية، ولا يمتري عاقل فضلا عن عالم أن الذي خالف فهمك فهم شيخنا فيه، صريحه ومنطوقه يرد زعمك وينافيه.

[قبول كتاب الفقه الأكبر عند النجديين]

ثم إنك ادعيت أولا أنك سليم العقيدة، موافق لما في الفقه الأكبر لأبي حنيفة، ولما عليه الأئمة الذين حكيت أقوالهم، وهذا حسن جيد لكن يعكر عليك ويناقضه قولك بعد:"لكني وقفت بعد ذلك على كلام لبعض العلماء ينافي بعض ما فيها فملت إليه، وعولت عليه، لكونه أقرب للسلامة، وأشبه بهدي أهل الاستقامة"، وهذا تصريح منك بالميل إلى خلافها، والتعويل على سواها بعد اعتقادها، وهو مخالف ومناقض لكلامك الأول حيث زعمت أنك كنت في حال نقلها متأسيا بما في الفقه الأكبر. ثم يا هذا: قد استدللت على رجوعك بقضية عمر في المشتركة، وبما صح من رجوع كثير من أئمة الاجتهاد عن أقوال ظهر لهم الحق في خلافها والرجوع إلى الحق أولى وأحق، لكن لا يخفى أن رجوعهم من اجتهاد إلى اجتهاد بخلاف من رجع من ذنب يأثم به ولا يؤجر عليه بل غايته بعد التوبة أن يغفر، ولذلك قالوا بصحة الاجتهاد الأول. فإن قلت: الشبه ليس من كل الوجوه بل من حيث الرجوع إلى الحق، قلت: لأي شيء؟ عدلت عن قوله: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً} 1 والعدول عن الدليل الصريح المطابق من كل الوجوه يقدح في فهم الرجل وتأليفه. ثم إنك تقول: اعلم أني بحمد الله غير مستنكف عن قبول الحق ولا مستكبر ولا مستحقر. وأقول: أي كبر أعظم وأدهى من أنفة الرجل أن يدعى إلى الله ظاهرا، ويرد قوله الذي قد شاع وينسخ جهارا، ويعد هو ذنوبه وخطاياه من باب الاجتهاد؟ وقد أعرضنا عن غير ذلك

1 سورة الزمر آية: 53.

ص: 298

من علامات بطر الحق، وأما كون شيخنا الوالد صرح باسمك في الرياض فهو منه اهتمام بالواجب الشرعي، فإن الرجل إذا خيف أن يفتن به الجهال، ومن لا تمييز عندهم في نقد أقاويل الرجال، فحينئذ يتعين الإعلان بالإنكار، والدعوة إلى الله في السر والجهار، ليعرف الباطل فيجتنب، وتهجر مواقع التهم والريب، ولو طالعت كتب الجرح والتعديل، وما قاله أئمة التحقيق والتأصيل، فيمن اتهم بشيء يقدح فيه أو يحط من رتبة ما يحدّث به ويرويه، لرأيت من ذلك عجبا، ولعرفت أن سعي الشيخ محمود قولا وسببا. ثم إنك تذكر أن الرد صار للعوام والطغام سلما للوقيعة في أعراض علماء الإسلام، وفي هذا من تزكية نفسك والتنويه بذكرها ما لا يخفى، وما أظن عالما يقول: أنا عالم، وقد قال عمر رضي الله عنه من قال: أنا عالم فهو جاهل، ومن قال: أنا مؤمن فهو كافر، ومن قال: أنا في الجنة فهو في النار انتهى. والعالم من يخشى الله، وهذا مأخوذ من قوله تعالى:{إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} 1 فإن الآية تقتضي حصر العلماء في أهل الخشية كما تقتضي حصر الخشية في العلماء، وحقيقة العلم هو ما جاءت به الرسل من معرفة الله سبحانه بصفات الكمال، ونعوت الجلال إثباتا لا تعطيلا، وتنْزيها لا تمثيلا، وذلك يقتضي من إسلام الوجه له، والتبتل إليه وحده لا شريك له حبا وإجلالا وتعظيما وذلا وإخلاصا وانقيادا، وهو محسن في ذلك بعدم الانحراف عما جاءت به الرسل طاعة لهم وتكريما. وهذا أيضا يقتضي العلم بالأوامر الشرعية لأن الجاهل لا يحسن السير، ولا بد في العلم بهذا من النفوذ إلى ما جاءت به الرسل، فيعرف الحكم من دليله. وأما غير ذلك من أنواع العلوم التي أُحدثت بعد خير القرون في العقائد والعبادة بما لم يشرع

1 سورة فاطر آية: 28.

ص: 299

كما عليه كثير ممن يدعي العلم في باب معرفة الله سبحانه وتعالى، فإنهم أخذوا العقيدة في هذا الباب عن أهل القوانين الكلامية، كالجهمية وغيرهم ممن خرج عن العقائد السلفية، وكما عليه كثير من أهل الطريق والتصوف؛ فإنهم أحدثوا من التعبد بالذوق والعقول ما لم ترد به هذه الشريعة. وكذلك من اقتصر على تقليد المتأخرين في الأحكام، ولم يلتفت إلى أخذ الحكم من هدي سيد الأنام، فهذا ونحوه وإن جاز لهم التقليد فليسوا من أهل العلم بالإجماع كما حكاه الحافظ ابن عبد البر رحمه الله.

[حقيقة العلم]

وبالجملة، فلو عرفت حقيقة العلم لأحجمت عن عد نفسك من أهله، ولأيقنت أن من ابتغى معرفة الله سبحانه وتعالى مما نصبه مشايخ اليونان والفلاسفة من الأدلة العقلية والموازين الكلامية، وأخذ عن تلامذتهم الذين نشؤوا على ملتهم، ودانوا ببدعتهم، ولم يلتفت إلى ما جاء به الوحي من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، زاعما بأنها ظواهر لفظية، ومجازات لغوية، وأن قانون المنطق هو القواطع العقلية، والبراهين الجلية، وأن ما جاءت به الكتب وأخبرت به الرسل من صفات الله معدود من متشابه الكلام، مصروف عن حقيقته عند ذوي البصائر والأفهام، فنفى لذلك صفات الكمال، وأغرب في سلب نعوت الجلال، وأضاف إلى ذلك تقليد مشايخه في الأحكام والفروع، فلم يأخذ من هدي الرسل العلم المتبوع، فهذا ونحوه من أضل الناس وأبعدهم عن هدي المرسلين، فضلا عن أن يكون من علماء المسلمين، وإن انضم إلى ذلك الضلال عن معرفة توحيد العبادة الذي هو فعل العبد وعمله وكسبه، فاتخذ الآلهة من دون الله أربابا، فأحبهم كحب الله وذل وخضع واستغاث واستعان، وذبح لغير الله القربان، وحلف تعظيما وتفخيما، ورجا

ص: 300

أن يكون الند له شفيعا وعونا، فهناك تشتد الرزية وتعظم البلية، ويعلم أن هؤلاء الضرب من الناس بينهم وبين الإسلام أبعد بون، وأن الأمر كما قيل:

نزلوا بمكة من قبائل هاشم

ونزلت بالبيداء أبعد منْزل

والمقام يستدعي أكثر من هذا، ولكن العاقل يسير فينظر، والسلف قد أنكروا على من سماهم علماء، فما بالك بمن سمى نفسه عالما، وتشبع بما لم يعط؟ نعوذ بالله من الخذلان. هذا، وفي رسالتك شيء من الهمز والتصنع والمداهنة، والغش والحقد والمشاحنة، وعدم التثبت، وأن الأولى الإسرار إليك، وترك ما كتبته، وكذلك في تسمية من خاض في هذا عواما، أهل لغو بالفضول، ما لا يخفى على أرباب العقول، ولو شئت أن أبين لك مَن الأولى بذلك كله، فأقيم لك البراهين على أنك متصف به لفعلت، وسجلت وقررت وحققت، ولكن سأترك ذلك ليوم تبدو فيه السرائر، ويظهر الله مكنون الضمائر، ولو صرحت بما في نفسك من الرد، وسجلت وناضلت لكان أليق بك، فإن من أظهر ما في نفسه حري بالرجوع إلى الحق، بخلاف من كتم وداهن، كما قيل:

أو آخر خيرا منه عندي المحارب

فلست أرى إلا عدوا محاربا

وكان قصدي منك -أيها الشيخ- أن تكتب ما تعتقده، وتدع التزكية والعتاب، وتطرح كل شك وارتياب، فإن ذلك أجمع للقلوب، وأقرب للاتفاق،:{وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} 1، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.

1 سورة الأحزاب آية: 4.

ص: 301