الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الرسالة السادسة والعشرون: [الفتن الحاصلة بسبب الإمارة]
وله أيضا -قدس الله روحه- رسالة إلى الإخوان: الشيخ إبراهيم ورشيد بن عوين وعيسى بن إبراهيم وإخوانهم، مضمونها التحريض على لزوم الجماعة والإمامة لأن إضاعتها من أسباب الخزي والندامة، وبالتزامها تحصل السلامة والاستقامة؛ وعَرَّفَهُمْ في هذه الرسالة ما سبق منه في أول هذه الفتنة من المكاتبات، وما مَنَّ الله به عليه من المذاكرة والمناصحات، بلزوم بيعة الإمام عبد الله، والتصريح بأن راية أخيه سعود راية جاهلية عمية. ثم لما صدر من عبد الله ما صدر من جلب الدولة إلى البلاد الإسلامية والجزيرة العربية، وإعطائهم والأحساء والقطيف والخط، تبرأ مما تبرأ الله منه ورسوله، واشتد نكيره عليه شِفَاهًا ومراسلة، كما مر ذلك فيما سبق من الرسائل، وثبت لأخيه سعود البيعة والغلبة والقهر. ثم بعد ذلك قدم عبد الله من الأحساء، وادعى التوبة والندم وأكثر من التأسف والتوجع فيما صدر منه، وبايعه البعض وكتب الشيخ إلى الشيخ حمد بن عتيق: إن الإسلام يَجُبُّ ما قبله، والتوبة تهدم ما قبلها، وذكر له أن الواجب السعي فيما يصلح الإسلام والمسلمين، ثم إنه تغلب سعود على جميع البلاد النجدية، وبايعه الجمهور وسموه باسم الإمامة، وقد علمت أن الحكم يدور مع علته يثبت بثباتها وينتفي بانتفائها، وهذا نص الرسالة:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى الأخ المكرم الشيخ إبراهيم ورشيد بن عوين، وعيسى بن إبراهيم، ومحمد بن علي وإبراهيم بن راشد، وعثمان بن رقيب، وإخوانهم، سلك الله بنا وبهم سبل الاستقامة، وأعاذنا وإياهم من سُبُل الخزي والندامة. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعدُ تفهمون أنه لا إسلام إلا بجماعة،
ولا جماعة إلا بإمامة، وقد حصل من التفرق والاختلاف والخوض في الأهواء المُضِلَّة ما هدم من الدين أصله وفرعه، وطمس من الدين1 أعلامه الظاهرة وشرعه. وهذه الفتنة يحتاج الرجل فيها إلى بصر نافذ عند ورود الشبهات، وعقل راجح عند حلول الشهوات، والقول على الله بلا علم، والخوض في دينه من غير دراية ولا فهم، فوق الشرك واتخاذ الأنداد معه. وقد صار لديكم وشاع بينكم ما يعز حصرُهُ واستقصاؤه، فينبغي للمؤمن الوقوف عند كل همة وكلام، فإن كان لله مضى فيه، وإلا فَحَسْبُهُ السكوتُ، وقد عرفتم حالنا في أول هذه الفتنة، وما صدر لديكم من المكاتبات والنصائح، وفيها الجزم بإمامة عبد الله ولزوم بيعته، والتصريح بأن راية أخيه راية جاهلية عمية، وأوصيناكم بما ظهر لنا من حكم الله وحكم رسوله ووجوب السمع والطاعة. فلما صدر من عبد الله ما صدر من جلب الدولة إلى البلاد الإسلامية والجزيرة العربية، وإعطائهم الحسا والقطيف والخط، تبرأنا مما تبرأ الله منه ورسوله، واشتد النكير عليه شِفَاهًا ومراسلة لمن يقبل مني ويأخذ عني، وذكرت لكم أن بعض الناس جعله تُرْسًا تُدْفَع به النصوص والأحاديث والآثار، وما جاء من وجوب جهادهم والبراءة منهم وتحريم موادتهم وموآخاتهم من النصوص القرآنية، والأحاديث الصحيحة الصريحة النبوية. والقول بأنهم جاؤوا لنصرة إمام أو دين قول يدل على ضعف دين قائله، وعدم بصيرته، وضعف عقله وانقياده لداعي الهوى، وعدم معرفته بالدول والناس، وذلك لا يروج إلا على سواسية الأعراب، ومن نَكَبَ عن طريق الحق والصواب.
1 لعل الأصل الإسلام.
وأعجب من هذا: نسبة جوازه إلى أهل العلم، والجزم بإباحة ذلك، والصورة المختلف فيها مع ضعف القول بجوازها وإباحتها والدفع في صدرها كما هو مبسوط في حديث " إنا لا نستعين بمشرك " 1، هي صورة غير هذه، ومسألة أخرى. وهذه الصورة حقيقتها تولية وتخلية وخيانة ظاهرة كما يعرفه مَنْ له أدنى ذوق وتهمة في العلم. لكن بعد أن قدم عبد الله من الأحساء ادعى التوبة والندم، وأكثر من التأسف والتوجع فيما صدر منه، وبايعه البعض، وكتب إلى ابن عتيق أن الإسلام يَجُبُّ ما قبله، والتوبة تهدم ما قبلها، فالواجب السعي فيما يصلح الإسلام والمسلمين، ويأبى الله إلا ما أراد:{وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} 2.
[تغلب سعود على نجد ومبايعة الجمهور له]
والمقصود: كشف حقيقة الحال في أول الأمر وآخره، وقد تغلب سعود على جميع البلاد النجدية، وبايعه الجمهور، وسموه باسم الإمامة، وقد عرفتم أن أمر المسلمين لا يصلح إلا بإمام، وأنه لا إسلام إلا بذلك، ولا تتم المقاصد الدينية ولا تحصل الأركان الإسلامية، ولا تظهر الأحكام القرآنية، إلا مع الجماعة والإمامة، والفرقة عذاب، وذهاب في الدين والدنيا، ولا تأتي شريعة بذلك قط. ومن عرف القواعد الشرعية عرف ضرورة الناس وحاجتهم في دينهم ودنياهم إلى الجماعة والإمامة، وقد تغلب من تغلب في آخر عهد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعطوه حكم الإمامة، ولم ينازعوا كما فعل ابن عمر وغيره، مع أنها أخذت بالقهر والغلبة. وكذلك بعدهم في عصر الطبقة الثالثة، تغلب من تغلب، وجرت أحكام الجماعة والإمامة، ولم يختلف أحد في ذلك، وغالب الأئمة بعدهم على هذا القبيل وهذا النمط، ومع ذلك فأهل العلم والدين يَأْتَمِرُونَ بما أَمَرُوا به من المعروف، وينتهون عما نُهُوا
1 مسلم: الجهاد والسير (1817)، والترمذي: السير (1558)، وأبو داود: الجهاد (2732)، وابن ماجه: الجهاد (2832) ، وأحمد (6/67 ،6/148)، والدارمي: السير (2496) .
2 سورة يوسف آية: 21.
عنه من المنكر، ويجاهدون مع كل إمام كما هو منصوص عليه في عقائد أهل السنة. ولم يقل أحد منهم بجواز قتال المتغلب والخروج عليه، وترك الأمة تموج في دمائها وتستبيح الأموال والحرمات، ويجوس العدو الحربي خلال ديارهم وينزل بحماهم، هذا لا يقول بجوازه وإباحته إلا مُصَاب في عقله، مَوْتُورٌ في دينه وفهمه، وقد قيل:
لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم
…
ولا سراة إذا جهالهم سادوا
بل هذا الحكم الديني يؤخذ من قوله تعالى: {اعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} 1، لأنه لا يحصل القيام بهذا الواجب إلا بما ذكرنا، وتركُهُ مفسدةٌ محضةٌ، ومخالفةٌ صريحةٌ قال تعالى:{وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} 2.وفي الحديث: " إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه " 3، لا سيما وقد نزل العدو بأطرافكم، واسْتَخَفَّ الشيطانُ أكثرَ الناس، وزَيَّنَ لهم الموالاة واللحاق بالمشركين، وإسناد أمر الرياسة إليهم، وأنهم ولاة أمر يَعْرِفُونَ ويُوَلُّونَ، ويَنْصُرُونَ وَيُنَصِّبُونَ، وأنهم جاؤوا لنصرة فلان كما ألقاه الشيطان على ألسن المفتونين، وصاروا بعد التَّرَسُّمِ بالدين من جملة أعوان المشركين، المبيحين لترك جهاد أعداء رب العالمين، فما أعظمها من مكيدة، وما أكبرها من خطيئة، وما أبعدها من دين الله ورسوله: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} 4.وما صدر من بعض الإخوان من الرسائل المُشْعِرَةِ بجواز الاستنصار بهم وتهوين فتنتهم، والاعتذار عن بعض أكابرهم، زلةٌ لا يرقى سليمها، وورطةٌ قد هلك وضلَّ زعيمُها، وما أحسن قوله:{قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا} 5 فاقبلوا وامتثلوا
1 سورة آل عمران آية: 103.
2 سورة المائدة آية: 2.
3 البخاري: الاعتصام بالكتاب والسنة (7288)، ومسلم: الحج (1337)، والترمذي: العلم (2679)، والنسائي: مناسك الحج (2619)، وابن ماجه: المقدمة (1 ،2) ، وأحمد (2/508) .
4 سورة الأعراف آية: 187.
5 سورة سبأ آية: 46.
موعظة ربكم وجاهدوا في الله حق جهاده. وقد أجمع المسلمون على جهاد عدوهم مع الإمام سعود -وفقه الله-، وقد قرر أهل السنة في عقائدهم أن الجهاد ماض مع كل إمام، وهو فرض على المشهور، أو ركن من أركان الإسلام لا يبطله جَوْرُ جَائِرٍ. قال بعض السلف لَمَّا لامَهُ بعضُ الناس على الصلاة خلف المبتدعة: إنْ دَعَوْنَا إلى الله أجبنا، وإن دَعَوْنَا إلى الشيطان أَبَيْنَا، وفي الحديث:" جاهدوا المشركين بأنفسكم وأموالكم وألسنتكم "1.وفقنا الله وإياكم للجهاد في سبيله، والإيمان بوعده وقِيلِهِ، واحذروا المِرَاء والخوض في دين الله بغير علم، فإنه من أسباب الهلاك كما صح بذلك الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. والله يقول الحق وهو يهدي السبيل، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم
1 النسائي: الجهاد (3096)، وأبو داود: الجهاد (2504) ، وأحمد (3/124 ،3/153 ،3/251)، والدارمي: الجهاد (2431) .