الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الرسالة التاسعة والعشرون: [شروط السفر إلى بلد الشرك وحكم الهجرة]
وله أيضا رسالة إلى الإخوان محمد بن علي وإبراهيم بن راشد وإخوانهم، يحرِّضُهم فيها ويُذَكِّرهم ما سبق من المُكَاتَبات في شأن هذه الحوادث العُمْيِ العظائم التي قَلَعَتْ أصولَ الدين، والْتَبَسَ الأمرُ بسببها على مَن ينتسب إلى العلم، وخفي عليه المخرج والحكم. واتَّبعهم في ذلك جمهورُ أهل الأهواء، ولم يلتفتوا إلا إلى مَن منهجه الإهلاك والإغواء، وتركوا طريقة مَن يدعوهم إلى الحق والهدى، ويُبَصِّرُهم -بنور الله- أسباب النجاة والتقى، حتى أعضل فادح تلك الحوادث، وطغى على القلوب ما طغى من تلك الكوارث فما ارْعَوَى إلى الحق أكثرُهم وما استرشد، ولم يستبينوا الرشد إلا ضحى الغد. وقد سأله الإخوان عن حكم من يسافر إلى بلاد المشركين التي يعجز فيها عن إظهار ما وجب لله من التوحيد والدين، ويُعَلِّلُ بأنه لا يسلم عليهم، ولا يجالسهم، ولا يبحثون عن سره إلى غير ذلك من تعاليلُ الجاهلين، فأجاب بما ستقف عليه من التحقيق والسلوك إلى أقوم نهج وطريق، وهذا نص الرسالة:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى الأولاد المكرمين محمد بن علي وإبراهيم بن راشد وإبراهيم بن مرشد وعثمان بن مرشد -سلَّمَهم الله تعالى-. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعدُ: فنحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو، كثير الخير دائم المعروف، والخط وصل بما اشتمل عليه من الوصية -جعلنا الله وإياكم ممن يقبل النصائح، ويدرأ المقت والفضائح- وجاءكم مني مكاتبات في هذه الحوادث العُمْيِ. ولم يبلغني ما يسرني عنكم من القبول، والقيام لله، والحق على طالب العلم والمنتسب إلى الدين والفهم أكبر منه على غيره، والواجب عليه آكد، والعاقل لا يرضى لنفسه سبيل أهل المداهنة والبطالة، وقد دهم الإسلام من الحوادث ما تعجز عن حمله الجبالُ الراسياتُ،
وتصغر في جنبه كل المحن والمصيبات، فما مضت فتنة إلا إلى ما هو من أكبر الشرك والكُفْرِيَّات. ومع ذلك فكثير من الناس قد التبس عليه الأمر، وخفي عليه المخرجُ والحكمُ، وكثر الخوضُ والاعتراضُ من بعض مَن ينتسب إلى القراءة ويَدَّعِي الفهم والطلب، واتبع جمهور أولئك ما يَهْوَاه من غير بينة ولا سلطان، ولا يتهم أحد رأيه، ولم يرجع إلى المُحَاقَّة والفكرة، حتى انهدم بنيان الإسلام، ولم يستوحش الأكثرون من ولاية عباد الأوثان والأصنام. وما أحسن ما قال سهل بن حنيف فيما رواه البخاري قال: حدثنا الحسن بن إسحاق ثنا محمد بن سابق ثنا مالك بن مغول قال: سمعت أبا حصين قال: قال ابن وائل: لما قدم سهل بن حنيف من صفين نَسْتَخْبِره فقال: اتهموا الرأي فقد رأيتني يوم أبي جندل ولو أستطيع أن أرد على رسول الله صلى الله عليه وسلم لرددت، والله ورسوله أعلم، وما وضعنا أسيافنا عن عواتقنا إلا أسهل بنا إلى أمر لا نعرفه قبل هذا الأمر، وما نَسُدُّ منها خصمًا إلا انفجرَ خصمٌ ما ندري كيف نأتي له. وأما السؤال عمن يسافر إلى بلد المشركين التي يعجز فيها عن إظهار ما وجب لله من التوحيد والدين، ويعلل بأنه لا يُسَلِّمُ عليهم ولا يجالسهم، ولا يبحثونه عن سره، وأنه يقصد التوصل إلى غير بلاد المشركين، ونحو ذلك من تعاليل الجاهلين. فاعلم أن تحريم ذلك السفر قد اشتهر بين الأئمة، وأفتى به جماهيرهم، وما ورد من الرخصة محمول على مَن يقدر على إظهار دينه أو على ما كان قبل الهجرة. ثم إن الحكم قد أُنِيطَ بالمُجَامعة والمُسَاكنة، وإن لم يحصل سلام ولا مجالسة، ولا بحث عن سره، كما في حديث سمرة:" من جامع المشرك وسكن معه فإنه مثله "1.فانظر ما علق به الحكم من
1 أبو داود: الجهاد (2787) .
المساكنة والاجتماع، وتعليق الحكم بالمشتق يؤذن بالعلة، فإن وقع مع ذلك سلام ومجالسة، أو فتنة بالبحث عن عقيدته وسره، عظم الأمر واشتد البلاء، وهذه محرمات مستقلة يضاعف بها الإثم والعذاب. وكيف تروج عليكم هذه الشبهات، ولكم في طلب العلم سنوات، وخوف الفتنة أحد مقاصد الهجرة، وهو غير منتفٍ مع هذه التعاليل. ومن مقاصد الهجرة الانحياز إلى الله بعبادته، والإنابة إليه، والجهاد في سبيله، ومراغمة أعدائه وإلى رسوله بطاعته وتعزيره ونصره ولزوم جماعة المسلمين، ولذلك يقرن الهجرة بالإيمان في غير موضع من كتاب الله. وكل هذا غير حاصل، وإن فرض صدق القائل فيما علل به، والغالب كذب هذا الجنس، فإن الأعمال الظاهرة تنشأ عما في القلوب من الصدق والإخلاص أو عدمهما. وقد عرفتم أن العامي الذي لا يعرف حدود ما أنزل الله على رسوله، ولم يلتفت إلى العلم تسرع إليه الفتنة أسرع من السيل إلى مُنْحَدره، ولذلك غلب على كثير من الناس عدم النُّفْرَة فرحل إليهم مَن رحل، وقبلوا رسائلهم وأفشوها في الناس، وأعانهم بعض المفتونين عن دينهم وجالسهم وراسلهم بعضُ من يقول: الدين في القلوب، ولم يلتفتوا إلى الأعمال الإسلامية والشرائع الإيمانية، ولو صدق ما زعموه في قلوبهم لأطاعوا الله ورسوله واعتصموا به، أعاذنا الله وإياكم من مُضَلات الفتن. وحماية جَنَاب التوحيد وسدُّ الذرائع الشركية، من أكبر المقاصد الإسلامية، وقد ترجم شيخنا في كتاب التوحيد لهذه القاعدة، فرحمه الله من إمام، ما أفقهه في دين الله! وما أعظم غيرته لربه وتعظيمه لحرماته! وما أحسن أثره على الناس! والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.