الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الرسالة التاسعة والثلاثون: [تكفير من أنكر الاستواء على العرش]
وله أيضا -قدس الله روحه، ونور ضريحه- رسالة إلى عبد الله بن عمير صاحب الأحساء، لما بلغه مسبة مشائخ المسلمين، والوقوع في أعراضهم، ليتوصل هو وإخوانه بذلك إلى أغراضهم، من القدح فيما عليه المشايخ من العقيدة والدين، ونسبهم إلى تكفير المؤمنين والمسلمين، مع ما هو قائم به وأخدانه من أهل الأحساء من سوء العقيدة، وسلوك طريق أهل البدع والأهواء، ممن ينتسب في العقيدة إلى الأشعرية من تلامذة الجهمية الجاحدين لعلوه –سبحانه- على خلقه، واستوائه على عرشه، خلاف العقيدة المرْضِية والطريقة السلفية. وقد اتهم بإلقاء ورقة فيها الطعن في عقيدة من دعا الناس إلى عبادة الله، وترك عبادة ما سواه، وكذلك الطعن على الشيخ العلامة، والإمام الفاضل الفهامة الشيخ: عبد الرحمن بن حسن بأنه قبل جوائز ابن بنيان، وأنه بنى بيته من أموال محرمة. وحاشا لله، فقد برأ الله الشيخ من ذلك وكرمه، فإنه لو فرض وجود ذلك في بيت مال المسلمين، فلا يقتضي تحريمه على من خفي عليه عين ذلك، ولا نميز لديه بما اغتصبه أولئك، والمسؤول عن التخليط أولو الأمر من الأئمة، لا من أخذه ولم يعلم عينه، دع من قصد ذلك وأَمَّهُ، كما ستقف عليه من كلام الأئمة الفحول، الذين لهم دراية بالفروع والأصول، وهذا نص الرسالة:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى: عبد الله بن عمير. سلام على عباد الله الصالحين. وبعد فقد بلغنا ما أنت عليه، أنت ومن غرك وأغواك، من مسبة مشايخ المسلمين، والقدح فيما هم عليه من العقيدة والدين، ونسبتهم إلى تكفير المؤمنين والمسلمين، وقد عرفت أني لما أتيتكم عام أربع وستين، بلغني أنك على طريقة من ينتسب إلى الأشعري، من تلامذة الجهمية الذين جحدوا
علوه -تعالى- على خلقه، واستواءه على عرشه، وزعموا أن كتابه الكريم، الذي نزل به جبرائيل على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم عبارة أو حكاية عما في نفس الباري، لا أنه تكلم به حقيقة، وسمع كلامه الروح الأمين، وكذلك بقية الصفات التي ذهب الأشاعرة فيها إلى خلاف ما كان عليه سلف الأمة وأئمتها1. ونقل عنك ما كنت تنتحله، من تصحيح العقود الباطلة في الإجارات، وشافهتك في البحث عن بعض ذلك فاعتذرت، وتنصلت وطلبت الكف عن هذه المادة، وأنك لا تعود إلى شيء من ذلك، فجريت معك بالسيرة الشرعية في الكف عمن أظهر الخير والتزمه، وترك السرائر إلى الله الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور. وقد بلغنا عنك بعد ذلك أنك أبديت لأخدانك وجلسائك شيئا مما تقدمت الإشارة إليه، من السباب والقدح، لا سيما إذا خلوت بمن يعظمك، ويعتقد فيك من أسافل الناس وسقطهم، الذين لا رغبة لهم فيما جاءت به الرسل، من معرفة الله ومعرفة دينه وحقه، وما شرع من حقوق عباده المؤمنين، وقد عرفت يا عبد الله أن من باح بمثل هذا، وأظهر ما انطوى عليه من سوء المعتقد، وطعن في شيء من مباني الإسلام وأصول الإيمان، فدمه هدر وقتله حتم. وقد حكى ابن القيم رحمه الله عن خمسمائة إمام من أئمة الإسلام،
1 قد فتن جماهير الأشاعرة في القرون الوسطى بنظريات المعتزلة والفلاسفة، فتأولوا صفات الله -تعالى- بما يخالف هدي السلف، مع أن الأشعري نفسه رجع إلى مذهب السلف، في آخر أمره، كما فصله في كتابه "الإنابة"، فالظاهر من قول الشيخ:"طريقة من ينتسب إلى الأشعري" أنه يبرّئ الأشعري من هذا التأويلات، وإنما يلصقها بالذين كانوا دائما يطعنون بالحنابلة وأهل الحديث، وينبزونهم بالألقاب.
ومفاتيه العظام أنهم كفّروا من أنكر الاستواء، وزعم أنه بمعنى الاستيلاء، ومن جملتهم إمامك الشافعي رحمه الله، وجملة من أشياخه كمالك وعبد الرحمن بن مهدي والسفيانين، ومن أصحابه أبو يعقوب البويطي والمزني، وبعدهم إمام الأئمة ابن خزيمة الشافعي، وابن سريج، وخلق كثير. وقولنا: إمامك الشافعي مجاراة للنسبة، ومجرد الدعوى، وإلا فنحن نعلم أنكم بمعزل عن طريقته في الأصول، وكثير من الفروع، كما هو معروف عند أهل العلم والمعرفة.
[تكفير من أجاز دعاء غير الله والتوكل عليه]
وأما تكفير من أجاز دعاء غير الله، والتوكل على سواه، واتخاذ الوسائط بين العباد وبين الله في قضاء حاجاتهم، وتفريج كرباتهم، وإغاثة لهفاتهم، وغير ذلك من أنواع عباداتهم، فكلامهم فيه، وفي تكفير من فعله أكثر من أن يحاط به ويحصر. وقد حكى الإجماع عليه غير واحد ممن يقتدى به ويُرجَع إليه من مشايخ الإسلام، والأئمة الكرام، ونحن قد جرينا على سنتهم في ذلك، وسلكنا منهاجهم فيما هنالك، لم نكفر أحدا إلا من كفره الله ورسوله، وتواترت نصوص أهل العلم على تكفيره، ممن أشرك بالله، وعدل به سواه، أو عطل صفات كماله، ونعوت جلاله، أو زعم أن لأرواح المشايخ والصالحين تصرفا وتدبيرا مع الله؛ تعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا. وقد رأيت ورقة، فيها الطعن على من دعا الناس إلى توحيد الله، وما دلت عليه كلمة الإخلاص من الإيمان به، والكفر بالطاغوت، وبعبادة سواه -تعالى- وفيها ذم من قرر للناس أن دعاء مثل الحسين وعلي والعباس وعبد القادر، وغيرهم ممن يدعى مع الله هو الشرك الأكبر، البواح الجلي، الذي لا يغفر إلا بالتوبة والتزام الإسلام. وقرر أن هذا ونحوه هو ما كانت عليه العرب في عباداتها الملائكة والأوثان والأصنام، قبل ظهور الإيمان
والإسلام. وفي ورقة المشبه المبطل أنكم كفّرتم خير أمة أخرجت للناس، وقصده هؤلاء المشركون، وزعم أنهم هم الأمة الوسط، وأنهم صفوف أهل الجنة، وأنهم عتقاء الله في شهر الصيام، وأن من كفّرهم فقد كفّر أمة محمد لأنهم يتكلمون بالشهادتين. وهذا الكلام من أوضح الأدلة وأبينها على ضلال مبديه، وسفاهة ملقيه، وأنه أضل من الأنعام، ويكفي في رده مجرد حكايته، فإن الفطر السليمة تقضي برده وبطلانه، والأدلة من الكتاب والسنة والإجماع تدل على أن قائله عدو النصوص، والفطرة والعقل والنظر، ولا يبعد أنه تلقاه من مثلك، ووصل إليه من أبناء جنسك. وما أظن اجتماعك بهذا الضرب من الناس إلا على هذا، وجنسه من الشبهات والجهالات التي حاصلها القدح في أصول الإيمان، وعيب أهله وذمهم، و:{لِكُلِّ نَبَأٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} 1.
[إطلاق لفظ الأمة والخطاب المخصوص في قوله: " كنتم خير أمة"]
وهذه الشبه يعرف فسادها كل من كانت له ممارسة في العلم -وإن قلّت- فإن لفظ الأمة -مفردا ومضافا- يقع على المستجيب المهتدي، ويقع –أيضا- على المكذب المعاند، فالأول كقوله -تعالى-:{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} 2، وقوله:{أُمَّةً وَسَطاً} 3، وقوله:{وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ} 4، وفي الحديث:"أنتم توفون سبعين أمة، أنتم خيرها وأكرمها على الله" 5، وفيه:" إن أهل الجنة مائة وعشرون صفا، هذه الأمة منها ثمانون"6.فهذا ونحوه يطلق ويراد به المؤمنون والمسلمون. وقد يطلق هذا اللفظ ويتناول المكذبين والضالين، كما قال -تعالى-:{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ} 7، فأطلق الأمة على الفريقين، وتناول لفظها
1 سورة الأنعام آية: 67.
2 سورة آل عمران آية: 110.
3 سورة البقرة آية: 143.
4 سورة الأعراف آية: 181.
5 الترمذي: تفسير القرآن (3001)، وابن ماجه: الزهد (4287 ،4288)، والدارمي: الرقاق (2760) .
6 أحمد (1/453) .
7 سورة النحل آية: 36.
الحزبين. وكذلك قوله: {وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَاّ خَلا فِيهَا نَذِيرٌ} 1، وقع الاسم على من أجاب النذير ومن عصاه، وقوله في خصوص هذه الأمة:{فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً} 2.فالإشارة في الآية إلى هذه الأمة، وقد نص على أن منهم من كفر وعصى الرسول، وكذلك قوله -تعالى-: {وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ} 3، وقوله: {وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيداً عَلَى هَؤُلاءِ} 4، وقوله -تعالى-: {وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا} 5 الآيتين، فانظر إلى ما دلت عليه الآيات من التقسيم، إن كنت ذا عقل سليم. وفي الحديث: "افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة" 6، وفي الحديث:"والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به، إلا كان من أصحاب النار" 7، وفيه:"القدرية مجوس هذه الأمة"8. وخرّج ابن ماجه عن ابن عباس وجابر: "صنفان من أمتي ليس لهما في الإسلام نصيب: المرجئة والقدرية " 9. إذا عرفت هذا فاعلم أن نفس الآية التي يوردها المبطل وهي قوله -تعالى-: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} 10 فيها الدليل الكافي والبرهان الشافي على إبطال قول المشبه المرتاب، ورد شبهته؛ فإن الخطاب في هذه الآية مخصوص بأهل الإيمان، الذي أصله ورأسه معرفة الله وتوحيده، وإخلاص العبادة له، وهو الذي دلت عليه كلمة الإخلاص، ومن عدا هؤلاء ليس
1 سورة فاطر آية: 24.
2 سورة النساء آية: 41.
3 سورة النحل آية: 84.
4 سورة النحل آية: 89.
5 سورة الجاثية آية: 28.
6 الترمذي: الإيمان (2640)، وأبو داود: السنة (4596) ، وأحمد (2/332) .
7 مسلم: الإيمان (153) ، وأحمد (2/317 ،2/350) .
8 أبو داود: السنة (4691) ، وأحمد (2/86) .
9 الترمذي: القدر (2149)، وابن ماجه: المقدمة (62) .
10 سورة آل عمران آية: 110.
بداخل في أصل الخطاب، بل هو ساقط من أول رتب الأعداد، كما لا يخفى إلا على من طبع الله على قلبه. (الثاني) : أنه ذكر العلة والمقتضي بقوله: {تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} 1 وتعليق الحكم بالمشتق يؤذن بالعلة؛ وأحق الناس بهذا الوصف وأولاهم به من دعا إلى توحيد الله، وخلع ما سواه، من الأنداد والآلهة، وقرر أن دعاء عبد القادر وأمثاله هو الشرك الأكبر، الذي يحول بين العبد وبين الإسلام والإيمان، وأن أهله ممن عدل بالله، وسوّى برب العالمين سواه، بل قد وصلوا في عبادتهم للمشايخ والأولياء إلى غاية ما وصل إليها مشركو العرب، كما يعرف ذلك من عرف الإسلام، وما كانت عليه الجاهلية قبل ظهوره. فمقت هؤلاء المشركين وعيبهم وذمهم وتكفيرهم والبراءة منهم هو حقيقة الدين، والوسيلة العظمى إلى رب العالمين؛ ولا طيب لحياة مسلم وعيشه إلا بجهاد هؤلاء ومراغمتهم وتكفيرهم، والتقرب إلى الله بذلك واحتسابه لديه:{يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ إِلَاّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} 2.فهذا المقام الشريف، والوصف المنيف، هو الذي أنكرتموه، واستحللتم به أعراض المسلمين، ورميتموهم لأجله بالعظائم، وإلى الله نمضي جميعا وعنده تنكشف السرائر، وتبدو مخبآت الضمائر، ويعلم من عادى حزبه وأولياءه، ووالى حربه وأعداءه، ماذا جنى على نفسه، وأي الفريقين أولى به، وأي الدارين أليق به، فالمرء مع من أحب ونصر ووالى شاء أم أبى. وهل حدث الشرك في الأرض إلا برأي أمثال هؤلاء المخالفين الذين يظهرون للناس في زي العلماء، وملابس الصلحاء؟ وهم من أبعد خلق الله عما جاءت به الرسل من توحيده ومعرفته، والدعاء إلى سبيله؛ بل هم
1 سورة آل عمران آية: 110.
2 سورة الشعراء آية: 88.
جند محضرون للقباب وعابديها. وقد عقدوا الهدنة والمؤاخاة بينهم وبين من عبد الأنبياء والمشايخ، وأوهموهم أنهم إذا أتوا بالشهادتين، واستقبلوا القبلة لا يضرهم مع ذلك شرك ولا تعطيل، وأنهم هم المسلمون، وهم خير أمة أخرجت للناس، وهم صفوف أهل الجنة؛ فاغتروا بهذا القول منهم، وغلوا في شركهم وضلالهم، حتى جعلوا لمعبوديهم التصرف والتدبير، والتأثير من دون الله رب العالمين. فهل ترى، يا ذا العقل السليم، أضل وأجهل ممن هذا شأنه، وهذه طريقه وعقيدته؟ وإن كان في هذه المظاهر الظاهرة، والرسوم الشائعة، معدودا من أهل العلم بالشرع والإسلام، فهو والله أضل من سائمة الأنعام. وأهل العلم والإيمان لا يختلفون في أن من صدر منه قول أو فعل يقتضي كفره أو شركه أو فسقه، أنه يحكم عليه بمقتضى ذلك، وإن كان ممن يقر بالشهادتين، ويأتي ببعض الأركان، وإنما يكف عن الكافر الأصلي إذا أتى بهما، ولم يتبين منه خلافهما ومناقضتهما، وهذا لا يخفى على صغار الطلبة. وقد ذكروه في المختصرات من كل مذهب، وهو في مواضع من كتاب الروض، الذي تزعم أنك تقرأه، وتدري ما فيه. ولكن الأمر كما قال -تعالى-:{وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً} 1 الآية. بل قد ذكروا أنه من أنكر فرعا مجمعا عليه كتوريث البنت والجد أنه يكفر بذلك، ولا يكون من خير أمة أخرجت للناس، وهذا منصوص في كتب الشافعية وغيرهم، فكيف ترى يا هذا فيمن أنكر التوحيد، الذي هو حق الله على العبيد، ودان بمحض الشرك والتنديد؟ فقاتل الله الجهل، ماذا يفعل بأهله! (الثالث) : قوله –تعالى-: {تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} ، وأصل الإيمان بالله: هو عبادته وحده لا شريك له، وقد فسره النبي –صلى الله عليه وسلم بذلك في حديث
1 سورة المائدة آية: 41.
وفد عبد القيس. هذا هو الإيمان الذي اختص به المؤمنون، وجحده المشركون، وفيه وقع النّزاع، وله شرع الجهاد، وانقسم العباد. وقد ابتليت أنت بأمور أوجبت لك الجهل بأصل الإسلام، وعدم الرغبة في البحث عن قواعده، ومبانيه العظام، من ذلك أنك تبعث مشايخ الطوائف الذين جعلتموهم من خير أمة أخرجت للناس، في طلب العلم والأخذ به، وهم قد خفي عليهم معنى كلمة الإخلاص، التي هي أصل الدين، وما دلت عليه من وجوب عبادة الله رب العالمين، والبراءة من دين الجهلة المشركين. وأكثرهم يقرر أن معناها إثبات قدرته على الاختراع، ونفي ذلك عما سوى الله، والإله عندهم هو القادر على الاختراع. وبعضهم يرى أن الفناء في توحيد الربوبية هو الغاية التي شمر إليها السالكون، وبعضهم قرر أن معناها أنه -تعالى- هو الغني عما سواه، المفتقر إليه كل ما عداه، كما يذكر عن "السنوسي" صاحب الكبرى في العقائد المبتدعة1.
[كلمة التوحيد وما تدل عليه من المعاني]
وهذه المعاني ليست هي المقصودة بالوضع والأصالة من هذه الكلمة الشريفة، التي هي الفارقة بين المسلم والكافر؛ وأكثر الكفار لا ينازعون في قدرة الرب وغناه. وإنما المقصود بالوضع: نفي الإلهية واستحقاق العبادة عن غيره، وإثباتها له -تعالى- على أكمل الوجوه وأتمها، كما يعلم من كتب اللغة والتفسير، وكلام أئمة العلم، الذين إليهم المرجع في هذا الشأن. والمعنى الأول
1 معنى كون عقائد "السنوسي" الكبرى مبتدعة: أنها مبنية على اصطلاحات علوم المنطق والكلام والفلسفة، لا على منهج القرآن والسنة، وآثار سلف الأمة الصالح، وقد عد أئمة السلف الكلام من البدع، وحكى بعض نصوصهم "الغزالي" في الإحياء، واعتذر عنها بأن الكلام ليس من علوم الدين، ولكن عرضت له الضرورة، فهو كحرس الحاج الذي يحميهم من قطاع الطريق. ولكن الحق أن سلوك منهج النصوص أقوى في حماية الدين.
لازم للمعنى المراد، لا ينفك عنه، لأنه المقصود بالوضع والأصالة، فإن المستحق لأنْ يعبد ويعظم، ويقصد دون غيره، لا بد أن يكون قادرا غنيا، ومن عداه فقيرا محتاجا، لا قدرة له. فبهذا السبب خفي عليك ما هو واضح في نفسه، ولولا حجاب التقليد، وحسن الظن بهؤلاء الطوائف لاتَّضَح الحكم لديك، ولم يخفَ أمره عليك. ومنها أنك رغبت عن الطريقة الشرعية، والمحجة الواضحة السويّة، وأخذت عن حسين النقشبندي طريقة مبتدعة، وعبادة مخترعة، لا أصل لها في شريعة محمد صلى الله عليه وسلم1 وأنت ظننتها الغاية المقصودة، والدرة المفقودة، وهي البدع المضلة الخارجة عن المنهاج والملة. وقد نص العلماء الأعلام على دخولها فيما حذر عنه نبينا -عليه أفضل الصلاة والسلام- في غير ما حديث، كحديث العرباض بن سارية، وحديث ابن مسعود، وحديث حذيفة، وغيرهم. وقد اشتملت هذه الطريقة على خلوات ورياضات، مخالفة لواضح الأخبار والآيات، قال الله -تعالى-:{أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} 2، وقال -تعالى-:{اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} 3. ومن المعروف عن أهل العلم والتجربة أن المعتني بهذه الخلوات والرياضات المبتدعة، يحصل له تنزل شيطاني، وخطاب شيطاني، وبعضهم تطير به الشياطين من مكان إلى مكان، ومن بلد إلى بلد4؛ ومن طلب التنزل الرحماني الرباني الإلهي
1 يعني الشيخ بهذا ما يسمونه الرابطة، وهي أن يتخيل مريد الذكر شيخه، أو بعض شيوخ الطريقة الموتى، فيمثله أمامه، وقلبه متصلا بقلبه يمده – فعد هذا من العبادة شرك صريح، ويقل فهم من لا يقصد به العبادة، ويعده عادة مفيدة في السلوك، لا قربة شرعية.
2 سورة الشورى آية: 21.
3 سورة الأعراف آية: 3.
4 قال بهذا بعض الأجلاء، وما أظنه يثبت.
من غير طريقة رسول الله صلى الله عليه وسلم يبتلى بالتنزل الشيطاني. وبعض هؤلاء يقول: ذكر العامة "لا إله إلا الله"، وذكر الخاصة "الله الله"، وذكر خاصة الخاصة "هو هو". وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:"أفضل الكلام بعد القرآن أربع، وهن من القرآن: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر" 1 2.والاسم المفرد -مظهرا أو مضمرا- ليس بذكر، ولا كلام، ولم يرد ما يدل على مشروعيته، وعمدتهم في ذلك طلب تفريغ الخاطر من الواردات، وجمع القلب حتى تستعد النفس لما ينزل عليها، وقد خفي على هؤلاء المبتدعة أن الوارد الشرعي الديني ممنوع ومحظور على من لم يأت من الباب النبوي، والطريق المحمدي، وأن السنة كسفينة نوح من ركبها نجا، ومن تخلف عنها هلك.
[ذكر الله حصن حصين من الشيطان]
وقد دل الكتاب والسنة على أن التحصن من الشيطان لا يحصل إلا بذكر الله، وعدم فراغ الذهن والقلب من ذلك قال -تعالى-:{وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} 3 الآية، وفي حديث يحيى بن زكريا:" وآمركم بذكر الله، فإن مثل ذلك كمثل رجل جد العدو في طلبه فأوى إلى حصن حصين ".
[القول بأن النبوة مكتسبة]
وبعضهم آل القول به إلى القول بأن النبوة مكتسبة، وأنه قد حصل له مثل ما حصل للأنبياء. وأعظم هذه الكفريات سببها الخروج عما شرعه الله ورسوله، ومن ابتلي بشيء منها، فاته من العلم والهدى بحسب ما فيه، ولولا الامتحان والابتلاء، لما سارعت وهرولت إلى هذا النقشبندي، مع خلعه لربقة الإسلام، وتركه لما عليه العلماء الأعلام، ثم ابتليت بسميّه، مع ما هو فيه من الريب في هذه الدعوة الإسلامية
1 مسلم: الآداب (2137) ، وأحمد (5/10 ،5/11 ،5/21) .
2 ذكره في الجامع الصغير، بعلامة الإمام أحمد عن رجل، وعلّم عليه بالصحة. ولكن ليس فيه ذكر القرآن، فلعلها رواية أخرى.
3 سورة الزخرف آية: 36.
التي مَنَّ الله بها في هذه الأزمان، التي هي أشبه بأيام الفترات، لبعد العهد، وغربة الدين. والذباب يأبى إلا السقوط على العذرة، وقد ابتليت وابتلي صاحبك بعيب أهلها وذمهم، وموالاة أعدائهم، الذين هم ما بين جهمي أو رافضي، أو من عباد القبور، وغرك ما يعِده ويُمَنِّيه من نيل رتبة القضاء، "ودون عليان القتادة والخرط". المسلمون في حرج من كون مثلك يؤم في المساجد، وينتصب في المدارس، فكيف بالقضاء ونحوه، يأبى الله ذلك والمؤمنون، وإن مناك به الجهلة المبطلون. واعلم أن إمامنا -وفقه الله تعالى- على طريقة أسلافه وأعمامه في الدعوة الإسلامية، وحماية هذا الدين. وأخشى إن كثر فيك القول، وظهر له منك ما أشرنا إليه من الجنف والعول، أن يسلك بك مسلك من سلف من أشرار الأحساء الذين لم يقبلوا ما مَنَّ الله به من النور والهدى، فأوقع بهم الإمام "سعود" من بأسه ما خمدت به نار الفتنة والجحود.
كأني بكم والليت آخر قولكم
…
ألا ليتنا كنا إذ الليت لا يغني
[أموال السلطان وجوائز الأمراء]
(فصل) وأما طعنكم على الشيخ المكرم بأنه قبل جوائز ابن ثنيان، وأنه بنى بيت الشيخ من أموال محرمة، فهذا القول منكم مبني على ما في أول هذه الورقة من الطعن في العقيدة، وأنهم كفّروا خير أمة أخرجت للناس، واستباحوا دماءهم وأموالهم، وجعلوها بيت مال بغير حق شرعي، كما فعل الخوارج المعتدون. هذه عقيدتكم وطريقتكم التي أنتم عليها في أمر هذه الدعوة الإسلامية، وقد أظهرها الله، وأبدى ضغينتكم، وكشف لعباده سريرتكم، قال -تعالى- لنبيه صلى الله عليه وسلم {فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ} 1. وهذا تصريح منكم يعرفه كل عاقل، والإمام وغيره من
1 سورة محمد آية: 30.
ذوي الألباب، يعرفون هذا من نفس خطابكم، وأن تخصيص ابن ثنيان تستر وخوف من السيف، وإلا فهم عندكم على طريقة واحدة، ومذهب واحد.
فقد كنت تخفي حب سمراء حقبة
…
فبح لان 1 منها بالذي أنت بائح
ولو حقق الأمر، لم يوجد عندكم فارق بين ابن ثنيان وغيره. إذا عرف هذا، فلو سلم تسليما صناعيا أن قصدكم الأموال المغصوبة، فوجودها في بيت المال لا يقتضي التحريم على من لم يعلم عين ذلك، ولم يميز لديه، والمسؤول عن التخليط ولي الأمر، لا من أخذ منه، إذا لم يعلم عين المغصوب، وقد ذكر ذلك أئمتكم من الشافعية، وغيرهم من أهل العلم، بل ذكر ابن عبد البر إمام المالكية في وقته أنه لا يعرف تحريم أموال السلاطين عن أحد ممن يعتد به من أهل العلم. وقال في رسالته لمن أنكر عليه ذلك:
قل لمن ينكر أكلي
…
لطعام الأمراء
أنت من جهلك عندي
…
بمحل السفهاء
فإن الاقتداء بالسلف الماضين هو ملاك الدين. ثم قال بعد ذلك: ومن حكي عنه أنه تركها، كأحمد وابن المبارك وسفيان، وأمثالهم فذاك من باب الزهد في المباحات، وهجر التوسعات، لا لاعتقاد التحريم
…
إلى أن قال: وقد قال عثمان رضي الله عنه: جوائز السلطان لحم ظبي ذكيّ، وقد قال ابن مسعود لما سئل عن طعام من لا يجتنب الربا في مكسبه، قال: لك المهنا وعليه المأثم، ما لم تعلم الشيء بعينه حراما.
1 "لان" مخففة من الآن لضرورة الوزن. ولو قال الشاعر: "بح" بغير فاء، لزالت هذه الضرورة.
وحكي عن أحمد رحمه الله: جوائز السلطان، أحب إلينا من صلة الإخوان، لأن الإخوان يمنون، والسلطان لا يمن. قال: وكان ابن عمر يقبل جوائز صهره المختار، وكان المختار غير مختار. حكى هذا عنه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وناهيك به حفظا وأمانة- عند الكلام على حديث:"إذا دخل أحدكم بيت أخيه فأطعمه من طعامه، أو سقاه من شرابه، فليأكل من طعامه، وليشرب من شرابه، ولا يسأل عنه" 1 والحديث معروف في السنن. قال الحافظ الذهبي: قيل لعبد الله بن عثمان بن خيثم: ما كان من معاش عطاء؟ قال صلة الإخوان، ونيل السلطان. وهذا مشهور بين أهل العلم، وقد قال صالح بن أحمد لأبيه، لما ترك الأكل مما بيد ولده من أموال الخلفاء: أحرام هي يا أبتِ؟ قال: متى بلغك أن أباك حرمها؟ وأما إذا علم الإنسان عين المال المحرم، لغصب أو غيره، فلا يحل له الأكل بالاتفاق، والمشتبه الذي ندب إلى تركه هو ما لم يعلم حله ولا تحريمه. وأما إذا امتاز بحال، وعرف الحكم، فهو لاحق بالبين لا الاشتباه، وفي دخول أموال السلاطين في المشتبه بحث جيد، لا يخاطب به إلا من سلمت -في السلف الصالح- سريرته، وحسنت في المسلمين عقيدته، والمرتاب يصان عنه العلم، ولا يخاطب إلا بما يزجره ويردعه، وقد قبل النبي صلى الله عليه وسلم الهدايا من المقوقس، وصاحب دومة الجندل، وغيرهما، وهوصلى الله عليه وسلم لا يقبل إلا طيبا، ولا يأكل إلا طيبا. وأموال الكفار لا يبيحها الغصب لمثل المقوقس، وإنما تباح، وتملك بالقهر والغلبة والاستيلاء للمسلمين. وهذا كله منا على سبيل التنزل والمجاراة، وإلا فنحن نعلم أنكم لا تذكرون هذا إلا على سبيل العيب، والمذمة والغيبة لا عن ورع فيكم، ولا تحر للصواب،
1 أحمد (2/399) .
وطلب للفقه لديكم، بل أنتم كما قال -تعالى- في أهل الكتاب:{وَتَرَى كَثِيراً مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الأِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} 1.
[شرط حل الأكل من الأوقاف]
وقد اشتهر أنكم في المزاحمة على الأموال المحرمة أحمق من نعجة على حوض، وغالب ما في أيديكم من الأوقاف، والريع والمآكل إنما وصل إليكم من جهة من لا يعرف الدعوة الإسلامية، وليست لهم ولاية شرعية، كرؤساء الأحساء قبل المسلمين من آل حميد، والأتراك وتجار البحر، الذين لا يحرمون ما حرم الله ورسوله، ولا يدينون دين الحق، فكيف تلمزون بأمراء المسلمين، وهذا حالكم، وهذه مآكلكم؟ وما فرض من ذلك على الوجه الشرعي فهو لا يباح إلا لمن قام في وظيفة التدريس والإمامة بما شرع الله ورسوله، من دعاء الخلق إلى توحيده، ونهيهم عن الشرك واتخاذ الأنداد معه، وقرر ما تعرّف الله به إلى عباده من صفات كماله، ونعوت جلاله، وأظهر مسبة من جحدها وألحد فيها، ونفى عن كتاب الله تحريف المبطلين، وتأويل الجاهلين، وزيغ الزائغين، وجرد المتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يتخذ من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة. ومن لم يكن هكذا فهو غاش للمسلمين، غير ناصح لهم، متشبع بما لم يعط، كلابس ثوبي زور في انتصابه في المدارس والمساجد. والعلم معرفة الهدى بدليله، وإدراك الحكم على ما هو عليه في نفس الأمر، ليس إلا. وأما التَّزَيِّي بالملابس، والتحلي بالمظاهر، والانتصاب في المدارس، من غير غيرة لدين الله، ولا نصرة لأوليائه، ولا مراغمة لأعدائه، ولا دعوة إلى سبيله، فما ذاك إلا حرفة الفارغين البطالين، الذين صحبوا الأماني، وقنعوا من الخَلاق بالخسيس الفاني،
1 سورة المائدة آية: 62.
وهذا لا يفيد إيمان الرجل، فضلا عن كونه عالما. فلا يباح، والحالة هذه لمن كان هكذا أن يحوز أوقافا قصد بها التقرب إلى الله، والإعانة على إظهار دينه، والتماس مرضاته، والدعوة إلى سبيله، ومن أكل منها وهو مجانب لهذه الأوصاف، فقد أكل ما لا يحل له، وما لا يستحقه. وهذا يستفاد من قول الفقهاء: يشترط أن يكون الوقف على جهة بر، ولا يستحقه إلا من كان من أهل تلك الجهة. وفي الحديث:"إن هذا المال حلوة خَضِرة، فمن أخذه بحقه بورك له فيه، ورب متخوض في مال الله بغير حق ليس له يوم القيامة إلا النار" 1، والأوقاف من مال الله. ولهذا عزل الخليفة المتوكل كل من يتهم بشيء من بدعة الجهمية عن المساجد والقضاء وغيره من الوظائف الدينية، وذلك بأمر من الإمام أحمد رحمه الله. فإنه رحمه الله توجه إليه الفتح بن خاقان -وزير المتوكل- بورقة فيها أسماء القضاة والأئمة، فقرأها الفتح على الإمام، فأمر بعزل من يُعرف منه شيء من ذلك، أو يتهم به، فعُزل خلق كثير، وهو عند المسلمين في ذلك بارّ راشد، متبع لأمر الله ورسوله.
[ما جاء في رؤيا الطفيل]
(فصل) ما جاء في رؤيا الطفيل: "أنه مر على نفر من اليهود فقال لهم: إنكم لأنتم القوم، لولا أنكم تقولون: عزير ابن الله. قالوا: وأنتم القوم، لولا أنكم تقولون: ما شاء الله وشاء محمد. ومر على ملأ من النصارى فقال: إنكم لأنتم القوم، لولا أنكم تقولون: المسيح ابن الله، قالوا: وأنتم لأنتم القوم، لولا أنكم تقولون: والله والكعبة"2. فأخبر الطفيل برؤياه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنهى الناس عن هذه الأقوال، وقرر حكم هذه الرؤيا. والغرض منها هنا ذكر المشابهة بينكم وبينهم في إدراك الخفي، فما زعمتموه عيبا مع العمى، والجهل بما أنتم عليه، فأعجب لها من نادرة قال حسان:
1 البخاري: فرض الخمس (3118)، والترمذي: الزهد (2374) ، وأحمد (6/377) .
2 أحمد (5/72) .
تعدون قتلا في الحرام عظيمة
…
وأعظم من ذا لو يرى الرشد راشد
صدودكمو عن مسجد الله أهله
…
وإخراجكم من كان لله ساجد
[كثرة المخالطة لها تأثير ظاهر في الأخلاق والطباع]
(تنبيه) طول المعاشرة، وكثرة المخالطة لها تأثير ظاهر، وفعل بيّن في الأخلاق والطباع والشيم والعقائد والديانات، كما هو مشاهد محسوس، حتى إن الإنسان قد يسري إليه ما جبل بعض الحيوانات عليه، كما يشير إليه قوله صلى الله عليه وسلم:" الغلظة في الفدّادين أهل الوبر والشعر، والسكينه في أهل الغنم ". ولا يخفى ما أنتم عليه من كثرة المعاشرة، وطول المزاولة لجيرانكم، الذين ابتلوا بسب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وخيار هذه الأمة، حتى رموهم بما يستحى من ذكره، وكثرة ثنائهم وموالاتهم للزنادقة والكفار من أعداء هذه الملة، ولعل ما جاء عنكم من الذم والقيل، هو من ذلك القبيل. شعر:
لما رأت أختها بالأمس قد خرب
…
كان الخراب لها أعدى من الجرب
[ما قام به والد الشيخ من الإصلاح الديني]
وأما عمى بصائركم عمّا منّ الله به على هذا الشيخ، من النعم الباطنة والظاهرة، وكونه نصّب نفسه بحمد الله ومنّته لحماية هذا الدين، والذب عنه، ومراغمة أعدائه، فقام في وجوه من أجاز دعاء غير الله، والاعتماد عليه، والتوكل على غيره، وذم من حسن حالهم، وذب عنهم وتصدى للرد عليه، وتجهيله وتضليله. وقام في وجوه أهل البدع المنكرة كالجهمية والأشاعرة والسالمية والكرامية، وقمعهم الله به، وصاروا في بلدتكم يستترون، وكذلك أهل الموالد والأعياد الجاهلية، كبتهم الله بما أبداه وقرره من عيبهم وتضليلهم، وقد من عليه بنشر العلم، وانتفع الناس به بعدما كاد يعدم في البلاد النجدية، بعد المحنة المصرية، فجدد الله به آثار سلفه الصالح. وجمهور من له معرفة بالعلم، وما جاءت به الرسل من أهل هذه البلاد النجدية إنما تخرّج
عليه، وسمع منه، وتربى بين يديه، ومن لم يحط بهذا فهو دون غيره، كما لا يخفى على عارف. والمنصف من الأعداء يعترف بهذا، وقد عرف العامة والخاصة مناصحته لولاة الأمور، وحثهم على ما ينتفعون به في الدنيا والآخرة، من تحكيم كتاب الله، والجهاد لإعلاء كلمته، ونصحهم عن الإصغاء إلى أهل الريب والشك في الدعوة الإسلامية، والحقائق التوحيدية، الذين يبغونها عوجا، ولا يحبون ظهور هذا الدين وعلوه. فهو قد نصح ولاة الأمر منهم، وكبت الله بسببه وأخزى منهم عددا كثيرا، وهو قائم على قضاة تلك البلاد في النظر في أحكامهم، يرد كثيرا مما أجمع على بطلانه منها، وينقضها بالقانون الشرعي، والمنهاج المرعي، وهذا مشهور لا ينكره إلا مكابر.
(شعر) :
وما ضر عين الشمس إن كان ناظرا
…
إليها عيون لم تزل دهرها عميا
وقد عرف من كان له فضل وعلم، أن كلام أمثالكم، وبهت أشباهكم مما يدل على فضله وجلالته وهيبته وفطانته، وأن ذلك مما يزيده الله به -إن شاء- رفعة وشرفا في الدنيا والآخرة، ويوجب -إن شاء الله- حسن العاقبة، قال -تعالى-:{إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالأِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الأِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ} 1، وقال -تعالى- {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} 2. ومما يستحسن لشيخ الإسلام ابن تيمية -قدس الله روحه، ونور ضريحه- قوله:
ولم تكن لي في القلوب مهابة
…
لم تكثر الأعداء فيَّ وتقدح
كالليث لما هيب خط له الزبى
…
وعوت لهيبته الكلاب النبح
1 سورة النور آية: 11.
2 سورة آل عمران آية: 186.
يرمونني شزر العيون لأنني
…
غلست في طلب العلا وتصبحوا
وقال أبو الطيب:
وإذا أتتك مذمتي من ناقص
…
فهي الشهادة لي بأني كامل
وقد أنطق الله ألسن المسلمين بالثناء والدعاء لهذا الشيخ، ونرجو أن الله يقبل شهادتهم، ويجيب لهم دعوتهم، ويقيل عثرته وعثرتهم. اللهم اغفر لنا ما لا يعلمون، واجعلنا خيرا مما يظنون، والمغرور من اغتر بثناء الناس عليه، ولم يعرف حقيقة ما منه وما لديه، لكن الغرض تعريفك أن كلامكم زاده الله به رفعة وشرفا.
كم كان في نكث أسباب العهود بها
…
إلى المخدرة العذراء من سبب
وأما من بهته فقد أصبح بين أهل الإسلام والكمال كقبر أبي رغال، مرجوما بشهب المذمة والمقال، معدودا في زمرة أهل الغي والضلال.
ما يبلغ الأعداء من جاهل
…
ما يبلغ الجاهل من نفسه
[فضيلة الاشتغال بالحرث والزرع وذم الأكل بالدين]
عجيبة عبتم على الشيخ حرثه، وطلبه الرزق باتخاذه النخيل والزروع، مع أن هذا هو حرفة السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، جمهورهم أهل نخيل وحروث، ولما فتحوا خيبر اقتسموها وعاملوا عليها أهلها، وصار لرسول الله صلى الله عليه وسلم سهمه المعروف. ولما أجلى عمر رضي الله عنه اليهود تولى المسلمون العمل فيها بأنفسهم، وهذا معدود من مناقبهم، ولم يذهبوا إلى ما ذهبت إليه اليهود والنصارى، ومن شابههم، من هذه الأمة من الأكل بدينهم، وجعله آلة تكتسب بها الدنيا، ويحتال بها على أكل الحبوس والأوقاف. وكثير من علمائكم جزم بأن الحرث أفضل المكاسب، ونصوصهم موجودة عندكم، ولكن الهوى والعداوة أدياكم إلى أن جعلت المناقب مثالب،
ولا ذنب للشيخ عندكم يقتضي هذا أو يوجبه، لم يحل بينكم وبين مأكلكم ولا رياستكم، ولكن يدعوكم إلى الرغبة في الدين، ونشره في بلاد المسلمين، وترك شبه المرتابين والضالين، والرغبة عن تقليد المشايخ الماضين.
(شعر) :
أصبحت بين معاشر هجروا الهدى
…
وتقبلوا الأخلاق من أسلافهم
قوم أحاول رشدهم وكأنما
…
حاولت نتف الشعر من آنافهم
[الإنكار على الإمام بناء المسجد الجامع]
(فصل) بلغنا عن خدنك، ومن يلوذ بك، أنهم أنكروا على الإمام بناء المسجد الجامع، فقيل له: إنه قد بناه سعود رحمه الله أولا. فقالوا: هذا من باب قوله -تعالى-: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} 1، وقالوا: ومن يصلي في هذا، وقد بني من مال حاله كيت وكيت، وهذا يدل على ما قلناه: إن اعتقادكم في الإمام مثل اعتقادكم في ابن ثنيان، سواء بسواء.
ومهما تكن عند امرئ من خليقة
…
وإن خالها تخفى على الناس تعلم
وهذا ثابت بنقل العدد الكثير من أهل نجد والأحساء، وإنكاره مكابرة، ورد للواضحات. وقد علم أن الاقتداء بأهل الدين في البر والخير، والعمل الصالح كبناء المساجد، ورفع شأنها من آكد ما شرع، ومن أفضل ما سعي فيه وصنع، والاستدلال عليه بقوله -تعالى-:{أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} 2 أقرب للصواب. والله أسأل أن ينصر دينه، ويعلي كلمته، ويحسن العاقبة لعباده المؤمنين، وأوليائه المتقين، إنه ولي ذلك كله، وهو على كل شيء قدير. وصلى الله على نبينا محمد سيد المرسلين، وإمام المتقين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وسلم تسليما كثيرا.
1 سورة الزخرف آية: 23.
2 سورة الأنعام آية: 90.