الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الرسالة التاسعة والخمسون: [فشو الشرك والتعطيل]
وله أيضا -قدس الله روحه، ونور ضريحه- رسالة إلى منيف بن نشاط؛ وقد اشتكى إليه منيف غربة الإسلام، وذكر في رسالته ونظمه معتقده، وما هو عليه من الدعوة إلى دين الله ومكابدة أعداء الله، فأجابه الشيخ -رحمه الله تعالى- يحرضه ويحضه على الاستقامة على هذا المعتقد السليم، ومجانبة أصحاب الجحيم، وعلى الاجتهاد في طلب العلم وتعليمه، والدعوة إلى دين الله وسبيله، وأن ما ذكره في شأن الأعراب من الفرق بين من استحل الحكم بغير ما أنزل الله، ومن لم يستحل، هو الذي عليه العمل وإليه المرجع عند أهل العلم، يعني أن من استحل الحكم بغير ما أنزل الله، ورأى أن حكم الطاغوت أحسن من حكم الله، وأن الحضر لا يعرفون إلا حكم المواريث، وأن ما هم عليه من السوالف والعادات هو الحق فمن اعتقد هذا فهو كافر. وأما من لم يستحل هذا، ويرى أن حكم الطاغوت باطل، وأن حكم الله ورسوله هو الحق، فهذا لا يكفر، ولا يخرج من الإسلام،:{وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا} 1. وهذا نص الجواب:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى الأخ المكرم منيف بن نشاط -سلمه الله، وشد حبله (بالعروة) الوثقى وناط، ومن عليه بالتزام التوحيد والفرح به والاغتباط. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: فأحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، وهو للحمد أهل وهو على كلِ شيْء قدير، وأسأله اللطف بي وبكم في تيسير كل عسير، مما جرت به الأقضية الربانية والمقادير، وأحوالنا على ما تعهد من الصحة والسلامة وترادف النعم لولا غلبة الإعراض عن شكر تلك النعم والتقصير، نشكو
1 سورة الأنعام آية: 132.
إلى الله قلوبنا القاسية، ونفوسنا الظالمة، فنعم المشتكى، ونعم المولى، ونعم النصير. وكتابك وصل إلينا مع النظم اللطيف، الصادر عن الأخ منيف، فسرنا بإفصاحه وإعلامه عن صحتكم، وسلامتكم وحسن معتقدكم وطويتكم، فالحمد لله على اللطف والتسديد، ومعرفة حقه -سبحانه- وما يجب له على العبيد. فاجتهد في طلب العلم وتعليمه، والدعوة إلى دين الله وسبيله، فإنك في زمان قبض فيه العلم وفشا الجهل، وبدل الدين وغيرت السنن، لا سيما أصول الدين، وعمدة أهل الإسلام واليقين، في باب معرفة الله بصفات كماله، ونعوت جلاله. وقد ألحد في هذا من ألحد، وأعرض عن الحق فيه من أعرض وجحد، حتى عطلوا صفات الله تعالى التي وصف بها نفسه، وتعرف بها إلى عباده، كعلوه على خلقه، واستوائه على عرشه، وكلامه وتكليمه، ومحبته وخلته، ورضاه وغضبه، ومجيئه ونزوله؛ فسلطوا التأويل على ذلك ونحوه، حتى عطلوا الصفات عن حقائقها، وحرفوها عن موضعها، وصرفوها عن دلالتها. وكذلك الحال في عبادته وحده وتوحيده، ومعرفة حقه على عبيده، فأكثر الناس والمنتسبين إلى الإسلام ضلوا في هذا الباب، فصرفوا للأولياء والصالحين، والقبور والأنصاب والشياطين، خالص العبادة ومحض حق رب العالمين، كالحب والدعاء والاستغاثة، والتوكل والإجلال والتعظيم والذل والخضوع، بل غلاتهم صرحوا بإثبات التدبير والتصريف لمعبوداتهم مع الله، فجمعوا بين الشرك في الإلهية والشرك في الربوبية، وهذا أمر لا يتحاشون عنه، بل يصرحون به ويفخرون به، ويدعون أنهم من أهل الإسلام،:{لا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ} 1 وهذا الشرك لم يصل إليه شرك جاهلية العرب وقد جرى كما ترى من أناس يقرؤون القرآن ويدعون أنهم من
1 سورة المجادلة آية: 18.
أتباع الرسول، فنعوذ بالله من الحور بعد الكور، ومن الضلال بعد الهدى، ومن الغي بعد الرشاد. كذلك باب تجريد متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم في الأصول والفروع قد ترك، وسد عن أكثر من يدعي العلم والدين، والعمدة والمرجع إلى أقوال من يعتقدونه من المنتسبين والمدعين، ولو تكلم أحد بإنكار ذلك لعد عندهم من البله والمجانين. هذه أحوال جمهور المتشرعين والمتدينين، فهل ترى فوق هذا غاية في غربة الحق والدين؟ فعليك بالجد والاجتهاد في معرفة الإيمان وقبوله، وإيثاره والتواصي به، لعلك أن تنجو من شرك هذا الشرك والتعطيل، الذي طبق الأرض، وهلك به أكثر الخلق جيلا بعد جيل. وما ذكرته عن الأعراب من الفرق بين من استحل الحكم بغير ما نزل الله، ومن لم يستحل، فهو الذي عليه العمل وإليه المرجع عند أهل العلم، ولعل الكلام يقع شفاها إذا وصلت إلينا، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.