الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الرسالة الحادية عشرة
[الفتنة والشقاق بين آل سعود]
وله أيضا -قدس الله روحه- ونوَّر ضريحه، رسالة إلى زيد بن محمد وصالح بن محمد الشثري -رحمهما الله تعالى- وهي آخر ما كتب -رحمه الله تعالى، وعفا عنه- ثم علم أن كل من دعا إلى الله وجاهد في الله ولله، فلا بد أن يُؤْذَى وَيُنَالَ منه؛ والعاقبة للمتقين، وهذا نصها:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى الأخوين المكرمين زيد بن محمد وصالح بن محمد الشثري -سلمهما الله تعالى-.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته:
وبعد: فأحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو على نعمه، والخط وصل، أوصلكم الله إلى ما يرضيه. وما ذكرتموه كان معلوما وموجب تحرير هذا ما بلغني بعد قدوم عبد الله وغزوه من أهل الفرع، وما جرى لديكم من تفاصيل الخوض في أمرنا، والمِرَاء والغيبة، وإن كان قد بلغني أولا كثير من ذلك، لكن بلغني مع ما ذُكِرَ تفاصيل ما ظننتها، فأما ما صدر في حقي من الغيبة والقدح والاعتراض والمسبة، ونسبتي إلى الهوى والعصبية، فتلك أعراض انْتُهِكَتْ وَهُتِكَتْ في ذات الله، أعدُّها لديه -جل وعلا- ليوم فقري وفاقتي، وليس الكلام فيها. والقصد بيان ما أشكل على الخواص والمنتسبين من طريقتي في هذه الفتنة العمياء الصماء، فأول ذلك مفارقة سعود لجماعة المسلمين وخروجه على أخيه، وقد صدر منا الرد عليه وتسفيه رأيه ونصيحة ولد عائض وأمثاله من الرؤساء عن متابعته والإصغاء إليه ونصرته، وذكرناه
ما ورد من الآثار النبوية والآثار القرآنية بتحريم ما فعل، والتغليظ على مَن نَصَره، ولم نزل على ذلك إلى أن وقعت وقعة جودة، فَثَلَّ عرش الولاية، وانتثر نظامها، وحبس محمد بن فيصل، وخرج الإمام عبد الله شاردًا، وفارقه أقاربه وأنصاره، وعند وداعه وَصَّيْتُهُ بالاعتصام بالله، وطلبِ النصر منه وحده، وعدم الركون إلى الدولة الخاسرة، ثم قدِم علينا سعود بمن معه من العجمان والدَّوَاسِر وأهل الفرع وأهل الحريق وأهل الأفلاج وأهل الوادي ونحن في قلة وضعف، وليس في بلدنا من يبلغ الأربعين مقاتلا، فخرجتُ إليه وبذلتُ جهدي ودافعتُ عن المسلمين ما استطعت، خشيةَ استباحته البلدة، وممن معه من الأشرار وفُجَّار القُرَّاء مَن يحثه على ذلك ويتفوه بتكفير بعض رؤساء بلدتنا، وبعض الأعراب يطلقه بانتسابهم إلى عبد الله بن فيصل، فوقى الله شر تلك الفتنة ولطف بنا، ودخلها بعد صلح وعقد. وما جرى من المظالم والنكث دون ما كنا نتوقع، وليس الكلام بصدده، وإنما الكلام في بيان ما نراه ونعتقده وصارت له ولاية بالغلبة والقهر تنفذ بها أحكامه، وتجب طاعته في المعروف كما عليه كافة أهل العلم على تقادُم الأعصار ومر الدهور. وما قيل من تكفيره لم يثبت لديَّ فسرتُ على آثار أهل العلم، واقتديت بهم في الطاعة في المعروف وترك الفتنة، وما توجب من الفساد على الدين والدنيا، والله يعلم أني بارٌّ راشدٌ في ذلك.
ومن أشكل عليه شيء من ذلك، فليراجع كتب الإجماع كمصنف ابن حزم ومصنف ابن هبيرة، وما ذكره الحنابلة وغيرهم. وما ظننت أن هذا يخفى على مَن له أدنى تحصيل وممارسة، وقد قيل: سلطان ظلوم، خير من فتنة تدوم. وأما الإمام عبد الله فقد نصحت له كما تقدم أشد النصح وبعد
مجيئه، لمَّا أخرجَ شيعةُ عبدِ الله سعود*، وقدم من الإحساء ذاكرته في النصيحة وتذكيره بآيات الله وحقه وإيثار مرضاته والتباعد عن أعدائه وأعداء دينه أهل التعطيل والشرك والكفر البواح، وأظهر التوبة والندم، واضمحل أمر سعود، وصار مع شرذمة من البادية حول آل مرة، والعجمان. وصار لعبد الله غلبةٌ ثبتت بها ولايته على ما قرره الحنابلة وغيرهم، كما تقدم أن عليه عمل الناس من أعصار متطاولة. ثم ابتلينا بسعود، وقدم إلينا مرة ثانية وجرى ما بلغكم من الهزيمة على عبد الله وجنده ومر بالبلدة منهزما لا يلوي على أحد، وخشيت من البادية، وعَجَّلْتُ إلى سعود كتابا في طلب الأمان لأهل البلدة، وكف البادية عنهم، وباشرت بنفسي مُدَافعة الأعراب مع شرذمة قليلة من أهل البلد ابتغاء ثواب الله ومرضاته، فدخل البلد وتوجه عبد الله إلى الشمال، وصارت الغلبة لسعود، والحكم يدور مع علته.
وأما بعد وفاة سعود فَقدم الغزاة، ومن معهم من الأعراب العتاة، والحضر الطغاة، فخشينا الاختلاف، وسفك الدماء وقطيعة الأرحام بين حمولة آل مقرن مع غيبة عبد الله. وتعذرت مبايعته بل ومكاتبته، ومن ذكره يخشى على نفسه وماله، أفيحسن أن يترك المسلمون وضعفاؤهم نَهْبًا وسَبْيًا للأعراب والفُجار، وقد تحدثوا بنهب الرياض قبل البيعة، وقد رامها من هو شر من عبد الرحمن وأطغى، ولا يمكن ممانعتهم ومراجعتهم، ومن توهم أني وأمثالي أستطيع دفع ذلك مع ضعفي وعدم سلطاني وناصري فهو من أسفه الناس وأضعفهم عقلا وتصورًا.
ومن عرف قواعدَ الدين، وأصول الفقه، وما يطلب من تحصيل المصالح ودفع المفاسد، لم يشكل عليه شيء من هذا، وليس الخطاب مع
* كذا في الأصل المطبوع، والصواب (سعودًا). [معد الكتاب للمكتبة الشاملة]
الجهلة والغوغاء، إنما الخطاب معكم معاشر القضاة والمَفَاتِي، والمتصدين لإفادة الناس وحماية الشريعة المحمدية، وبهذا ثبتت بيعته وانعقدت؛ وصار من ينتظر غائبا لا يحصل به المصالح فيه شبه ممن يقول بوجوب طاعة المنتظر، وأنه لا إمامة إلا به.
ثم إن حمولة آل سعود صارت بينهم شحناء وعداوة، والكل يرى له الأولوية بالولاية، وصرنا نتوقع كل يوم فتنة، وكل ساعة محنة، فلطف الله بنا، وخرج ابن جلوي من البلدة، وقتل ابن صنيتان، وصار لي إقدام على محاولة عبد الرحمن في الصلح، وترك الولاية لأخيه عبد الله؛ فلم آل جهدي في تحصيل ذلك والمشورة عليه، مع إني قد أكثرتُ في ذلك حين ولايته. ولم أزل أكرر عليه في ذلك يوما فيوما حتى يسر الله قبل قدوم عبد الله بنحو أربعة أيام أنه وافق على تقديم عبد الله وعزل نفسه، ورأى الحق له وأنه أولى منه لكبر سنه وقدم إمامته. فلما نزل الإمام عبد الله بساحتنا اجتهدتُ إلى أن محمد بن فيصل يظهر إلى أخيه ويأتي بأمان لعبد الرحمن وذويه وأهل البلد، وسعيت في فتح الباب واجتهدت في ذلك، ومع ذلك كله فلما خرجت للسلام عليه وإذا أهل الفرع وجهلة البوادي، ومن معهم من المنافقين يستأذنونه في نهب نخيلنا وأموالنا، ورأيت معه بعض التغير والعبوس. ومن عامل الله ما فقد شيئا، ومن ضيع الله ما وجد شيئا. ولكنه بعد ذلك أظهر الكرامة ولين الجانب، وزعم أن الناس قالوا ونقلوا -وبئس مطية الرجل زعموا- وتحقق عندي دعواه التوبة، وأظهر لديَّ الاستغفار والتوبة والندم، وبايعته على كتاب الله وسنة رسوله.
هذا مختصر القضية، ولولا أنكم من طلبة العلم والممارسين الذين يكتفون
بالإشارة وأصول المسائل لكتبت رسالة مبسوطة، ونقلت من نصوص أهل العلم وإجماعهم ما يكشف الغمة ويزيل اللبس. ومن بقي عليه إشكال فليرشدنا رحمه الله ولو أنكم أرسلتم بما عندكم مما يقرر هذا ويخالفه، وصارت المذاكرة، لانكشف الأمر من أول وهلة، ولكنكم صممتم على رأيكم، وترك النصيحة ممن كان عنده علم، واغتر الجاهل ولم يعرف ما يَدِينُ الله به في هذه القضية، وتكلم بغير علم، ووقع اللبس والخلط والمراء، والاعتداء في دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم، وهذا بسبب سكوت الفقيه وعدم البحث واستغناء الجاهل بجهله، واستقلاله بنفسه.
وبالجملة فهذا الذي نعتقد ونَدِينُ الله به، والمسترشد يذاكر ويبحث، والظالم والمعتدي حسابنا وحسابه إلى الله الذي عنده تنكشف السرائر، وتظهر مُخَبَّئَات الصدور والضمائر، يوم يبعثر ما في القبور، ويحصل ما في الصدور.
وأما ما ذكرتم من التنصل والبراءة مما نسب في حقي إليكم فالأمر سهل والجُرْح جُبَار، ولا حرج ولا عار، وأوصيكم بالصدق مع الله، واستدراك ما فرطتم فيه من الغلظة على المنافقين الذين فتحوا للشر كل باب، وركن إليهم كل منافق كذاب. وتأمل قول الله تعالى بعد نهيه عن موالاة الكافرين:{يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ} 1 والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
1 سورة آل عمران آية: 30.