الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الرسالة السابعة والعشرون
[مداهنة المشركين والسفر إلى بلادهم وعقاب فاعله]
وله أيضا -رحمه الله تعالى، وصَبَّ عليه من شآبيب بره ووالى- رسالة إلى محمد بن علي آل موسى، وإبراهيم بن راشد وإبراهيم مرشد، وقد ذكروا له ما وقع الناس فيه من مُدَاهَنَة المشركين، والإعراض عن دين المرسلين. وقد تقدم نظيرُ هذه الرسالة في المعنى، ولكن لِمَسِيسِ الحاجة والسبب الباعث ما اكتفى بما سبق ولا استغنى، بل نصح ووضَّح وكشف قناع الإشكال، وما أبقى لِمُشْتَبِهٍ من حجة ولا مقال، وذلك بسبب ما حدث من تسهيل أمر السفر إلى بلاد المشركين، وإن غاية ما يفعل مع المسافر الهجرُ، وتركُ السلام من غير تعنيف ولا تخشين. والمُشْتَبِهُ يزعم أن الشيخ عبد الرحمن أفتى بذلك -إن صح الخبر- فإن ثبت فيحمل على قضية خاصة، يحصل بها المقصود والقصد ممن هجر، أو بما ستقف عليه من المحامل التي لا يعرفها كل مشتبه جاهل. والوجوه التي ذكرها الشيخ إذا تأملتها -أيها المنصف- وتعقلتها بشراشر قلبك لعلك عن الشبهات أن تعزف، وللحق الواضح والباطل الفاضح تفرق وتعرف، وهذا نص الرسالة:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى الإخوان المكرمين محمد بن علي آل موسى وإبراهيم بن راشد وإبراهيم بن مرشد -سلمهم الله تعالى وتولاهم-.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد: فأحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو على نعمه، والخط وصل -وصلكم الله بما يرضيه- وسرنا سلامة مَن نحب ونشفق عليه. وما ذكرتم مما وقع فيه الناس من مداهنة المشركين، والإعراض عن دين المرسلين، فالأمر كما ذكرتم، أو فوق ما إليه أشرتم، وقد سبق لكم مني جواب. وأخبرتكم أن هذا من أكبر الوسائل، وأعظم الذرائع إلى ظهور الشرك ونسيان التوحيد، وإنَّ
من أعظم ذلك وأفحشه: ما يصدر مِن بعض مَن يظنه العامةُ مِن أهل العلم وحَمَلة الدين، وما يصدر منهم من التشبيه، والعبارات التي لم يتصل سندُها ولم يُعصم قائلُها، وبهذا ونحوه اتسع الخرق، وفي حديث ثوبان:"وإنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين"1، وهو يتناول مَن له إمامة ممن ينتسب إلى العلم والدين، وكذلك الأمراء. وأبيات عبد الله بن المبارك معلومةٌ لديكم في هذين الصنفين أعني قوله:
وهل أفسد الدين إلا
…
الملوك
…
إلى آخره
وفي مثل هؤلاء قال قتادة: فوالله ما آسى عليهم، ولكن آسى على مَن أهلكوا، وكما نقلتم عن بعضهم زعم أن الشيخ الوالد -قدس الله روحه، ونور ضريحه- أفتى فيمن يسافر إلى بلاد المشركين بأن غاية ما يفعل معه هو الهجر، وترك السلام بلا تعنيف ولا ضرب، وهذه غلطة من ناقلها لم يفهم مراد الشيخ -إن صح نقله- ولم يدر ما يراد بها. وهذا النقل يطالب بصحته أولا، فإن ثبت بنقل عدل ضابط فيحمل على قضية خاصة يحصل بها المقصود بمجرد الهجر، وهي فيمن ليس له ولاية ولا سلطان له على الأمراء والنواب، ويترتب على تعزيره بغير الهجر مفسدة الافتيات على ولي الأمر والنواب، ونحو هذه المحامل. ويتعين هذا -إن صحت-، لأن هذا ذنب قد تقرر أنه من الكبائر المُتَوَعَّدُ صاحبها بالوعيد الشديد بنص القرآن وإجماع أهل العلم، إلا لمن أظهر دينه، وهو العارف به، القادر على الاستدلال وعلى إظهاره، فإنه مُستثنًى من العموم، وأما غيره فالآية تتناوله بنصها لأن الإقامة تصدق على القليل والكثير. فالكبائر التي ليس فيها حَدٌّ يُرجع فيها إلى ما تقتضيه المصلحة من التعزير كالهجر والضرب، وقد يقع التعزير بالقتل كما في حديث
1 الترمذي: الفتن (2229)، وأبو داود: الفتن والملاحم (4252)، وابن ماجه: الفتن (3952) ، وأحمد (5/ 278 ،5/ 284)، والدارمي: المقدمة (209).
شارب الخمر: "فإن شربها في الرابعة فاقتلوه"1. وقد أفتى شيخ الإسلام بقتل من شرب الخمر في نهار رمضان إذا لم يندفع شره إلا بذلك، وأفتى بِحِلِّ دمِ مَن جَمَزَ إلى معسكر التتار وَكَثَّرَ سوادهم، وأَخْذِ ماله، وكل هذا من التعازير التي يرجع فيها إلى ما يحصل به درء المفسدة وحصول المصلحة، وأفتى بالتعزير في أخذ المال إذا كان فيه مصلحة. وقد عرفتم أن من أكبر المصالح مَنْعُ هذا الضرب بأي طريق، وأنه لا يستقيم حالٌ وإسلامٌ لمَن ينتسب إلى الإسلام مع المخالطة والمُقَارَفَة الشِّرْكِيَّة لوجوه:(منها): عدم معرفة أصول الدين وأحكام الله في هذا ونحوه. (ومنها): العجز عن إظهاره لو عرفوه. (ومنها): أن العدو مُحارب قد سار إلى بلاد المسلمين واستولى على بعضها؛ فليس حكمه كحكم غيره؛ بل هذا جهاده يجب على كل أحد فرض عين لا فرض كفاية، كما هو منصوص عليه. (ومنها): أن تلك البلاد مُلِئَتْ بالمشبهين والصادين عن سبيل الله ممن ينتسب إلى العلم، ويُسَمُّونَ أهلَ التوحيدِ: الغلاةَ كما سماهم إخوانهم: خوارجَ. والهجرة لها مقصودان: الفرارُ من الفتنة، وخوفُ المفسدة الشركية. والثاني: مجاهدة أعداء الله والتَّحَيُّزُ إلى أهل الإسلام. وقد كانت شرطا في أول الإسلام مع ضعف المسلمين وخوف المشركين وشدة بَأْسِهِم، وكثرة الأسباب الداعية إلى الفتنة، والسر فيها لا يُهْدَر ولا يُطْرَح في كل مقام، لا سيما والمُقَارِف لهذا الفعل وغيره من الأفعال الموجبة للردة كثيرٌ جدا، فالنجا النجا، والوحا الوحا قبل أن يَعَضَّ الظالمُ على يديه، ويقول: يا ليتني اتخذتُ مع الرسول سبيلا. ولعل الله أن يَمُنَّ بخطٍ مبسوطٍ يأتيكم بعد هذا، فيه التعريجُ على شيء من نصوص أهل العلم، وبيان كَذِب هذا المُفْتَرِي على الشيخ. وأهل المذهب لا يختلفون في أن حكم السفر حكمُ الإقامة، يُمْنَع منه مَن عَجَزَ عن
1 الترمذي: الحدود (1444)، وأبو داود: الحدود (4482)، وابن ماجه: الحدود (2573) ، وأحمد (4/ 93 ،4/ 95 ،4/ 96 ،4/ 97 ،4/ 100).
إظهار دينه، وفي الحديث:"ما ضل قوم بعد هدًى كانوا عليه إلا أعطوا الجدل ومُنِعُوا العملَ"1 وما وقع فيه الناس وابتلي به الأكثر من ثلب بعض مشايخكم، فقد علمتم ما يُؤْثَر عن السلف أن علامة أهل البدع الوقوعُ في أهل الأثر، وهؤلاء إذا قيل لهم: هاتوا، حقِّقُوا، واكتبوا لنا ما تَنْقِمُونَ، وقَرِّرُوا الحجةَ بما تَدَّعُونَ، أحجموا عن ذلك وعجزوا عن مقاومة الخصوم، ومتى يُدرك الظَّالِعُ شَأْوَ الضليع (شعر):
أماني تلقاها لكل متبر
…
حقيقتها نبذ الهدى والشعائر
وحسابنا وحسابهم على الله الذي تنكشفُ عنده السرائرُ، وتظهر مخبآت الصدور والضمائر، جعلنا الله وإياكم من الذين جردوا متابعة الرسول {وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً} 2، ولم ينتسبوا إلى قَيْسٍ وَيَمَنٍ، كما قد وقع عندكم فيمن فَرَّقُوا دينهم وكانوا شِيَعًا، حمانا الله وإياكم، وثبتنا على دينه وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.
1 الترمذي: تفسير القرآن (3253)، وابن ماجه: المقدمة (48).
2 سورة التوبة آية: 16.