الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والمعاونة على ذكر الله، وتفقه أهل الإسلام بعضهم من بعض، وتحصيل الفضل بالكثرة، وإغاظة العدو بترك الفرقة. ودلت أصول الشريعة -أيضا- على تحريم ما أوجب الفرقة، واختلاف الكلمة والمشاقة، قال تعالى:{اعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا} 1. وانفرادهم عن الجماعة بالسكنى في عقدة أخرى، لا يبيح مفارقة الجماعة بإحداث جمعة أخرى، ومن رأى هذا من المسوغات والمبيحات لهذا الفعل المخالف لأصول الشرع، فهو مصاب في عقله؛ فالواجب عليكم نصحهم وإرشادهم، ودعوتهم إلى الله برفق: {وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} 2، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
الرسالة الثامنة والخمسون
[حكم الجهمية والصلاة خلفهم]
وله -أيضا- رسالة إلى عبد الله بن علي بن جريس، وقد راسله عبد الله يسأله عما أورده بعض الملحدين: أن شيخ الإسلام ابن تيمية -قدس الله روحه- ذكر أن الإمام أحمد رحمه الله كان يصلي خلف الجهمية، فأجابه رحمه الله بما يكفي ويشفي، وأن الصلاة خلفهم، لا سيما صلاة الجمعة، لا تنافي القول بتكفيرهم، حيث لا يمكن الصلاة خلف غيرهم، وأما مع إمكان الصلاة خلف غيرهم فلا، لكن إن صلى خلفهم فعليه الإعادة. وهذا نص الجواب:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى الأخ عبد الله بن علي بن جريس، ألهمه الله الرشد في أمره والكيس.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
والخط وصل، وسرّنا عافيتكم، وحال أهل عمان ما تخفاكم: قل العلم وفشا الجهل، وتجاسر المبتدعة، والواجب التجرد للدعوة إلى الله، والجهاد في سبيله
1 سورة آل عمران آية: 103.
2 سورة الأحزاب آية: 4.
حسب الطاقة، لا سيما بالحجة والبيان، وأحق خلق الله بالجهاد، من يليكم من الجهمية الضلال، ونشر العلم وبيان السنة من أوجب الواجبات، وأفضل الطاعات، ووصل إلينا السؤال الذي يورده بعض الملحدين، وهو أنه نسب إلى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أنه ذكر عن الإمام أحمد أنه كان يصلي خلف الجهمية.
وجواب هذا لو سلم من أوضح الواضحات عند طلبة العلم وأهل الأثر، وذلك أن الإمام أحمد وأمثاله من أهل العلم والحديث، لا يختلفون في تكفير الجهمية، وأنهم ضلال زنادقة، وقد ذكر مَن صنف في السنة تكفيرهم عن عامة أهل العلم والأثر؛ وعد اللالكائي -رحمه الله تعالى- منهم عددا يقعد من ذكرهم في هذه الرسالة، وكذا عبد الله بن الإمام أحمد في كتاب السنة، والخلال وابن أبي مليكة في كتاب السنة، وإمام الأئمة ابن خزيمة قرر كفرهم، ونقله عن أساطين الأئمة. وقد حكى كفرهم شمس الدين ابن القيم في كافيته عن خمسمائة من أئمة المسلمين وعلمائهم. والصلاة خلفهم، لا سيما صلاة الجمعة، لا تنافي القول بتكفيرهم، لكن تجب الإعادة حيث لا تمكن الصلاة خلف غيرهم. والرواية المشهورة عن الإمام أحمد هي المنع من الصلاة خلفهم، وقد يفرق بين من قامت عليه الحجة التي يكفر تاركها، وبين من لا شعور له بذلك، وهذا القول يميل إليه شيخ الإسلام في المسائل التي قد يخفى دليلها على بعض الناس؛ وعلى هذا القول فالجهمية في هذه الأزمنة قد بلغتهم الحجة، وظهر الدليل، وعرفوا ما عليه أهل السنة واشتهرت الأحاديث النبوية، وظهرت ظهورا ليس بعده إلا المكابرة والعناد، وهذا حقيقة الكفر والإلحاد؛ كيف لا، وقولهم يقتضي تعطيل الذات
والصفات، والكفر بما اتفقت عليه الرسالة والنبوات، وشهدت به الفطر السليمات، ما لا يبقى معه حقيقة للربوبية والإلهية، ولا وجود للذات المقدسة المتصفة بجميل الصفات، وهم إنما يعبدون عدما لا حقيقة لوجوده، ويعتمدون من الخيالات والشبه ما يعلم فساده بضرورة العقل من دين الإسلام عند من عرفه، وعرف ما جاءت به الرسل من الإثبات. ولبشر المريسي وأمثاله من الشبه والكلام من نفي الصفات ما هو من جنس هذا المذكور عند الجهمية المتأخرين، بل كلامه أخف إلحادا من بعض هؤلاء الضلال، ومع ذلك فأهل العلم متفقون على تكفيره، وعلى أن الصلاة لا تصح خلف كافر جهمي أو غيره. وقد صرح الإمام أحمد فيما نقل عنه ابنه عبد الله وغيره أنه كان يعيد صلاة الجمعة وغيرها، وقد يفعله المؤمن مع غيرهم من المرتدين إذا كانت لهم شوكة ودولة؛ والنصوص في ذلك معروفة مشهورة نحيل طالب العلم إلى أماكنها ومظانها. وبهذا ظهر الجواب عن السؤال الذي وصل منكم، ورسالتك وصلت، وسرنا حسن جوابكم، وما فيها من النقول عن أهل العلم. ونرجو أن الله يوفقنا وإياكم لما يحب ويرضى، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
(يقول محمد رشيد رضا): فرق فقهاء الحنابلة في الصلاة خلف المبتدعة بين من يعلن بدعته ويدعو إليها فلا يصلي خلفه، وإذا صلى لعذر أعاد. قال الخرقي في منّته:"ومن صلى خلف من يعلن ببدعة أو يسكر، أعاد". وفرقوا بين الجمعة والعيدين وغيرهما. قال ابن قدامة في شرح عبارة الخرقي: فأما الجمعة والأعياد فإنها تصلى خلف كل بر وفاجر، وقد كان أحمد يشهدها مع المعتزلة، وكذلك العلماء الذين في عصره. وذكر الإمام أحمد روايتين في إعادتها. (يراجع التفصيل في صفحة 26 من الجزء الثاني من المغني المطبوع بمطبعة المنار).