الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الرسالة الستون
وله أيضا -قدس الله روحه-، رسالة إلى منيف بن نشاط، وقد سأله عن قول مَن يستدل على حل ذبيحة الوثني والمرتد بقوله -تعالى-:{فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} 1 وعمن كان في سلطان المشركين، وعرف التوحيد وعمل به، ولكن ما عاداهم ولا فارق أوطانهم، فأجابه -رحمه الله تعالى- "وصب عليه من شآبيب بره" ووالى، وبين له في وجوب المسألة الثانية الفرق بين من عجز عن إظهار عداوة المشركين لأجل الخوف وأنه يعذر بذلك، وبين وجود العداوة، لأنه لا بد منها. فإن من لم توجد العداوة من قلبه لم يعاد المشركين، بخلاف الأول فإنها موجودة في قلبه، لكن عجز عن إظهارها، فالواجب عليه مفارقة أوطانهم، والبعد عنهم، فإن لم يهاجر فهو عاص لله بإقامته بين أظهر المشركين. وكذلك سأله عمن كان في دار الإسلام ولم يتعلم أصول الدين، وصار لأجل الجهل بالإسلام يعزر ويوقر أعداء الدين، فبين له في الجواب أن الناس يتفاوتون تفاوتا عظيما بحسب درجاتهم في الإيمان إذا كان أصل الإيمان موجودا، والتفريط والترك إنما هو فيما دون ذلك من الواجبات والمستحبات. فتدبر كلامه رحمه الله فإنه قد يتكلم في هذه المسألة من لا علم عنده ولا معرفة بمدارك الأحكام، ويظن أن من لم يعرف الواجبات والمستحبات والمسنونات من الأقوال والأفعال على التفصيل، أنه ممن أعرض عن تعلم هذا الدين، وخلع ربقة الإسلام عن عنقه، وفارق المسلمين. وهذا نص الجواب.
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى الأخ منيف بن نشاط، لا زال بين اسمه واسم أبيه ارتباط.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. والخط وصل -وصلك الله لما يرضيه- تذكر حديث أبي سعيد، فقول الرسول مقبول، وعلى العين والرأس
1 سورة الأنعام آية: 118.
محمول، وما دل عليه يحصل إن شاء الله، ولكن أنتم أبيتم إلا الخروج والتعلم عن ابن عتيق، وهذا -إن شاء الله- به كفاية.
[ذبائح المشركين وطعامهم]
فأما مسألة الذبائح، ومن استدل على ذبيحة الوثني والمرتد بقوله -تعالى-:{فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} 1، فهو من أجهل الناس بكتاب الله وسنه نبيه وإجماع الأمة، وهو كمن يستدل على لبس الحرير بقوله -تعالى-:{قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ} 2 والجهل بالتأويل، وأسباب التنْزيل ضرره وصل كبائر العمائم، فكيف الحال بالحفاة والعوام. واعلم أن قوله -تعالى-:{وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} 3 فسر بحل الذبائح وأنها هي الطعام، ومفهوم الآية: تحريم ذبائح غير أهل الكتاب من الكفار والمشركين؛ واحتج بهذا أهل العلم، ومفاهيم كلام الله، وكلام رسوله حجج شرعية، وفسر المراد من قوله تعالى:{فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} 4 بأن المراد به ذبيحة المسلم والكتابي إذا ذكر اسم الله عليه أخذ من مفهوم آية المائدة، وهذا هو المشهور المقرر. وفي ذلك كلام وأبحاث لا يحتاج إليها في مثل هذا المقام، لكن من أهمها أن بعض المحققين ذكروا أن الحكمة في تخصيص ذبائح أهل الكتاب بأنهم يذكرون اسم الله، ولا يذكرون اسم من عبدوه عند الذبائح للأكل واللحم، وأما ما ذبحوه تقربا إلى غير الله فهو حرام، وإن ذكرت التسمية عليه، والمقصود ما ذبح للحم. وذكروا أن تحريم ذبيحة المشرك غير الكتابي؛ لأنه لا يأتي بالتسمية ويستحل الميتة، وهذا نظر منهم لأصل من علق الحكم بالمظنة كما علق الحدث بوجود النوم لأنه مظنة. فقول القائل: إن ذبيحة المشرك تباح إذا ذكر اسم الله جهل بهذا، وخروج عن سبيل المؤمنين، وقول السائل: هل التسمية كلا إله إلا الله؟ فليست مثلها من كل الوجوه، ولا ينظر في ذلك إلى هذا البحث.
1 سورة الأنعام آية: 118.
2 سورة الأعراف آية: 32.
3 سورة المائدة آية: 5.
4 سورة الأنعام آية: 118.
[عداوة المشركين وإظهارها]
(وأما المسألة الثانية) وهي قولك: من كان في سلطان المشركين، وعرف التوحيد وعمل به. ولكن ما عاداهم ولا فارق أوطانهم؟
(الجواب): أن هذا السؤال صدر عن عدم تعقل لصورة الأمر، والمعنى المقصود من التوحيد والعمل به، لأنه لا يتصور أن يعرف التوحيد ويعمل به، ولا يعادي المشركين، ومن لم يعادهم، لا يقال له عرف التوحيد وعمل به. والسؤال متناقض، وحسن السؤال مفتاح العلم، وأظن مقصودك من لم يظهر العداوة ولم يفارق، ومسألة إظهار العداوة غير مسألة وجود العداوة؛ (فالأول) يعذر به مع الخوف، والعجز لقوله -تعالى-:{إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً} 1 (والثاني) لا بد منه لأنه يدخل في الكفر بالطاغوت، وبينه وبين حب الله ورسوله تلازم كلي لا ينفك عن المؤمن. فمن عصى الله بترك إظهار العداوة فهو عاص لله، فإذا كان أصل العداوة في قلبه فله حكم أمثاله من العصاة، فإذا انضاف إلى ذلك ترك الهجرة، فله نصيب من قوله -تعالى- {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} 2 الآية لكنه لا يكفر لأن الآية فيها الوعيد لا التكفير.
(وأما الثاني) الذي لا يوجد في قلبه شيء من العداوة فيصدق عليه قول السائل: لم يعاد المشركين، فهذا هو الأمر العظيم، والذنب الجسيم، وأي خير يبقى مع عدم عداوة المشركين؟ والخوف على النخل والمساكن، ليس بعذر يوجب ترك الهجرة، قال -تعالى-:{يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ} 3.
[الجهل بقواعد الإسلام وتوقير أعدائه]
(وأما المسألة الثالثة) وهي: من كان في دار الإسلام، ولا تعلم أصول الدين ولا قواعده، ولأجل الجهل بها صار يعزر ويوقر أعداء الدين.
1 سورة آل عمران آية: 28.
2 سورة النساء آية: 97.
3 سورة العنكبوت آية: 56.
(فالجواب): أن أحوال الناس تتفاوت تفاوتا عظيما، وتفاوتهم بحسب درجاتهم في الإيمان إذا كان أصل الإيمان موجودا، والتفريط والترك إنما هو فيما دون ذلك من الواجبات والمستحبات، وأما إذا عدم الأصل الذي يدخل به في الإسلام، وأعرض عن هذا بالكلية، فهو كفر إعراض، فيه قوله -تعالى-:{وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالأِنْسِ} 1 الآية، وقوله:{وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا} 2 الآية. ولكن عليك أن تعلم أن المدار على معرفة حقيقة الأصل، وحقيقة القاعدة، ويعبر بغير التعبير المشهور، وتعزيرهم وتوقيرهم، كذلك تحته أنواع أيضا؛ أعظمها رفع شأنهم، ونصرتهم على أهل الإسلام ومبانيه، وتصويب ما هم عليه، فهذا وجنسه من المكفرات، ودونه مراتب من التوقير بالأمور الجزئية كلياقة الدواة ونحوها. وأما قوله لأبي شريح، فليس فيه ما يدل على تحسين الباطل والحكم به، بل ذكروا وجوها متعددة في معنى ذلك، كلها تفيد البعد والتحريم لمثل فعل البوادي. ومِن أحسن ما قيل: إن هذا تحسين لفعل صدر في الجاهلية، قبل ظهور الشرائع الإسلامية، فلما جاء الشرع أبطل ذلك، و"إذا جاء نهر الله بطل نهر معقل"، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
1 سورة الأعراف آية: 179.
2 سورة طه آية: 124.