الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لكنه يكون مباركا أينما كان، داعيا إلى الله مذكرًا به هاديا إليه، كما قال عن المسيح عليه السلام:{وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ} 1 أي: داعيا إلى الله مذكرا به معلما بحقوقه. فهذه هي البركة المشار إليها، ومن عدمها محقت بركة عمره وساعاته وخلطته ومجالسته، ونسأل الله العظيم لنا ولكم علما نافعا، يكون لنا لديه يوم القيامة شافعا. أسأل الله العظيم أن يغفر زلتي، ويقبل توبتي، ويقيل عثرتي، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
الرسالة التاسعة عشرة
[الطعن في كتاب الإحياء]
وله أيضا -قدس الله روحه، ونور ضريحه، وعفا عنه- رسالة إلى عبد الله بن معيذر، وكان قد بلغ الشيخ أنه يشتغل بكتاب الإحياء للغزالي، ويقرأ فيه عند العامة؛ وكان كتاب الإحياء مشتملا على ما يمج سماعه من التحريفات الجائرة، والتأويلات الضالة الخاسرة، وإن كان فيه بعض المباحث المستحسنة، لكن فيه من الداء الدفين، والفلسفة في أصل الدين، ما تنفر منه طباع الموحدين، ويخاف منه على ضعفاء البصائر من العامة والجاهلين، وهذا نصها:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له الملك الحق المبين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الصادق الأمين، صلى الله عليه وعلى أصحابه صلاة دائمة مستمرة إلى يوم الدين.
وبعد، فإني رأيت بعض أهل وقتنا يشتغل بكتاب الإحياء للغزالي عند العامة، وهو لا يحسن فهم معانيه، ولا يعرف ما تحت جمله ومبانيه، ليست له أهلية في تمييز الخبيث من الطيب، ولا دراية بما تحت ذلك البارق
1 سورة مريم آية: 31.
من ريح عاتية أو صيب، فكتبت إليه نصيحة، وأرسلت إليه بعض أصحابه، وأرشدته إلى الدواوين الإسلامية المشتملة على الأحاديث النبوية، والسير السلفية، والرقائق الوعظية، فلم يقبل، واستمر على رأيه، وأعجب بنفسه، وأظهر ذلك لبعض من يجالسه، وحط من قدر الناهي له، فكتبت إليه كتابا فلم يصغ، ولم يلتفت، وزعم أنه على بصيرة، وأبدى من جهله الأعاجيب الكثيرة، فأحببت أن أذكر للطلبة والمستفيدين بعض ما قاله أئمة الإسلام والدين في هذا الكتاب المسمى بالإحياء؛ ليكون الطالب على بصيرة من أمره؛ ولئلا يلتبس عليه ما تحت عباراته من زخرف القول.
وصورة ما كتبت أولا:
من: عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى الأخ: عبد الله: سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد. فقد بلغني عنك ما يشغل كل من له حمية إسلامية، وغيرة دينية على الملة الحنيفية، وذلك أنك اشتغلت بالقراءة في كتاب الإحياء للغزالي، وجمعت عليه من لديك من الضعفاء والعامة الذين لا تمييز لهم بين مسائل الهداية والسعادة ووسائل الكفر والشقاوة، وأسمعتهم ما في الإحياء من التحريفات الجائرة، والتأويلات الضالة الخاسرة، والشقاشق التي اشتملت على الداء الدفين، والفلسفة في أصل الدين، وقد أمر الله -تعالى- وأوجب على عباده أن يتبعوا الرسول، وأن يلتزموا سبيل المؤمنين، وحرم اتخاذ الولائج من دون الله ورسوله، ومن دون عباده المؤمنين، وهذا الأصل المحكم لا قوام للإسلام إلا به، وقد سلك في الإحياء طريق الفلاسفة والمتكلمين في كثير من مباحث الإلهيات وأصول الدين، وكسا
الفلسفة لحاء الشريعة؛ حتى ظنها الأغمار والجهال بالحقائق من دين الله الذي جاءت به الرسل، ونزلت به الكتب، ودخل به الناس في الإسلام، وهي في الحقيقة محض فلسفة منتنة، يعرفها أولو الأبصار، ويمجها من سلك سبيل أهل العلم كافة في القرى والأمصار، قد حذر أهل العلم والبصيرة عن النظر فيها، ومطالعة خافيها وباديها. بل أفتى بتحريقها علماء المغرب ممن عرف بالسنة، وسماها كثير منهم إماتة علوم الدين، وقام ابن عقيل أعظم قيام في الذم والتشنيع، وزيف ما فيه من التمويه والترقيع، وجزم بأن كثيرًا من مباحثه زندقة خالصة لا يقبل لصاحبها صرف ولا عدل.
قال شيخ الإسلام: ولكن أبو حامد دخل في أشياء من الفلسفة، وهي عند ابن عقيل زندقة، وقد رد عليه بعض ما دخل فيه من تأويلات الفلاسفة، ورد عليه شيخ الإسلام في السبعينية. وذكر قوله في العقول والنفوس، وأنه مذهب الفلاسفة، فأفاد وأجاد، ورد عليه غيره من علماء الدين. وقال فيه تلميذه ابن العربي المالكي: شيخنا أبو حامد دخل في جوف الفلسفة، ثم أراد الخروج؛ فلم يحسن. وكلام أهل العلم معروف في هذا لا يشكل إلا على من هو مزجى البضاعة، أجنبي من تلك الصناعة، ومشايخنا -تغمدهم الله برحمته- مضوا على هذا السبيل والسنن، وقطعوا الوسائل إلى الزندقة والفلسفة والفتن، وأدبوا على ما هو دون ذلك، وأرشدوا الطالب إلى أوضح المناهج والمسالك. وشكرهم على ذلك كل صاحب سنة وممارسة للعلم النبوي، وأنت قد خالفت، وخرجت عن مناهجهم، وضللت المحجة، وخالفت مقتضى البرهان والحجة، واستغنيت برأيك، وانفردت بنفسك، عن المتوسمين بطلب العلم المنتسبين إلى السنة. ما أقبح
الحور بعد الكور! وما أوحش زوال النعم، وحلول النقم! إذا سمعت بعض عباراته المزخرفة قلت: كيف ينهانا عن هذا فلان، ويأمر بالإعراض عن هذا الشان، كأنك سقطت على الدرة المفقودة، والضالة المنشودة. وقد يكون ما أطربك، وهز أعطافك، وحركك، فلسفة منتنة وزندقة مبهمة، أخرجت في قالب الأحاديث النبوية، والعبارات السلفية، فرحم الله عبدا عرف نفسه، ولم يغتر بجاهه، وأناب إلى الله، وخاف الطرد عن بابه، والإبعاد عن جنابه. وينبغي للإمام -أيده الله- أن ينزع هذا الكتاب من أيديكم، ويلزمكم بكتب السنة من الأمهات الست وغيرها، والله يقول الحق، وهو يهدي السبيل، انتهى.
[أقوال المنكرين على الغزالي]
ثم جمعت بعض أقوال أهل العلم، وما أفتوا به في هذا الكتاب، وتحذيرهم للطالب والمسترشد، فمن ذلك قول الذهبي في ترجمته للغزالي: وأخذ في تأليف الأصول والفقه والكلام والحكمة، وأدخله سيلان ذهنه في مضايق الكلام، ومزال الأقدام، ولله سر في خلقه. وساق الكلام إلى أن قال: ذكر هذا عبد الغافر إلى أن قال: ثم حكي عنه أنه راجع العلوم، وخاض في الفنون الدقيقة، والتقى بأربابها، حتى تفتحت له أبوابها، وبقي مدة، وفتح عليه باب من الخوف بحيث يشغله عن كل شيء
…
إلى أن قال: ومما كان يعترض به عليه وقوع خلل من جهة النحو في أثناء كلامه، وروجع فيه فأنصف، واعترف بأنه ما مارسه، ومما نقم عليه ما ذكر من الألفاظ المستبشعة بالفارسية في كيمياء السعادة والعلوم، وشرح بعض الصور، والمسائل بحيث لا يوافق مراسم الشرع، وظواهر ما عليه قواعد الملة، وكان الأولى به، والحق أحق ما يقال، ترك ذلك التصنيف، والإعراض عن الشرح له، فإن
العوام ربما لا يحكمون أصول القواعد بالبراهين والحجج، فإذا سمعوا شيئا من ذلك تخيلوا منه ما هو أضر بعقائدهم، وينسبون ذلك إلى بيان مذهب الأوائل. قال الذهبي: ما نقله عبد الغافر على أبي حامد في الكيمياء، فله أمثاله في غضون تواليفه. حتى قال أبو بكر بن العربي: شيخنا أبو حامد بلع الفلسفة، وأراد أن يتقاياها فما استطاع، انتهى.
ومن معجم أبي علي الصدفي في تأليف القاضي عياض له قال: الشيخ أبو حامد ذو الأنباء الشنيعة، والتصانيف العظيمة، غلا في التصوف، وتجرد لنصر مذهبهم، وصار داهية في ذلك، وألف فيه تواليفه المشهورة، أخذ عليه فيها مواضع، وساءت به ظنون أمة، والله أعلم بسره، ونفذ أمر السلطان عندنا بالغرب، وفتوى الفقهاء بإحراقها، والبعد عنها فامتثل ذلك. انتهى.
ونقل أبو المظفر يوسف سبط ابن الجوزي المتهم بالتشيع في كتابه (رياض الأفهام) قال: ذكر أبو حامد في كتاب (سر العالمين وكشف ما في الدارين) وقال في حديث: "من كنت مولاه فعلي مولاه"1 أن عمر قال: بخٍ بخٍ أصبحت مولى كل مؤمن ومؤمنة. قال أبو حامد: وهذا تسليم ورضى، ثم بعد هذا غلب عليه الهوى حبا للرياسة وعقد البنود وأمر الخلافة ونهيها، فحملهم على الخلافة {فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} 2. وسرد كثيرا من هذا الكلام الفسل الذي تزعم الإمامية.
قال الذهبي: وما أدري ما عذره في هذا؟ الظاهر أنه رجع عنه، وتبع الحق (قلت): هذا إن لم يكن من وضع هذا، وما ذاك ببعيد، ففي هذا التأليف بلايا لا تستطاب.
(قلت): ما ذكره الذهبي ممكن، والغرض أن ما ينسب إلى هذا الرجل
1 الترمذي: المناقب (3713) ، وأحمد (1/ 118 ،4/ 368 ،4/ 370 ،4/ 372).
2 سورة آل عمران آية: 187.
لا يغتر به، ويجب هجره وإطراحه؛ لما في كتبه من الداء العضال، والعثرات التي لا تقال. قال الذهبي: قد ألف الرجل في ذم الفلاسفة كتاب التهافت، وكشف عوراتهم، ووافقهم في مواضع ظنا منه أن ذلك حق أو موافق للملة. ولم يكن له علم بالآثار، ولا خبرة بالسنن النبوية القاضية على العقل، وحبب إليه إدمان النظر في كتاب رسائل إخوان الصفا، وهو داء عضال، وجرب مُرْدٍ، وسم قاتل، ولولا أن أبا حامد من الأذكياء، وخيار المخلصين لتلف. فالحذر الحذر من هذه الكتب! واهربوا بدينكم من شبه الأوائل، وإلا وقعتم في الحيرة، فمن رام النجاة والفوز، فليلزم العبودية، وليكثر الاستغاثة بالله، وليبتهل إلى مولاه في الثبات على الإسلام، وأن يتوفى على إيمان الصحابة وسادة التابعين، والله الموفق. فبحسن قصد العلم يغفر له، وينجو إن شاء الله.
[ما أنكره أهل الأثر على الغزالي]
وقال أبو عمر بن الصلاح: (فصل) في بيان أشياء مهمة أنكرت على أبي حامد، ففي تواليفه أشياء لم يرضها أهل مذهبه من الشذوذ (منها) قوله في المنطق: هو مقدمة العلوم كلها، ومن لا يحيط به، فلا ثقة له بمعلوم أصلا، قال: فهذا مردود. إذ كل صحيح الذهن منطقي بالطبع، وكم من إمام ما رفع بالمنطق رأسا. (فأما كتاب)"المضنون به على غير أهله"، فمعاذ الله أن يكون له. شاهدت على نسخة منه بخط القاضي كمال الدين محمد بن عبد الله الشهرزوري أنه موضوع على الغزالي، وأنه مخترع من كتاب (مقاصد الفلاسفة)، وقد نقضه الرجل بكتاب التهافت.
وقال أحمد بن صالح الجيلي في تاريخه: وقد رأيت كتاب (الكشف والإنباء عن كتاب الإحياء) للمازري: الحمد لله الذي أنار الحق وأداله،
وأباد الباطل وأزاله. ثم أورد المازري أشياء مما تنقَّده على أبي حامد يقول: ولقد أعجب من قوم مالكية، يرون الإمام مالكا يهرب من التحديد، وإيجاب أن يرسم رسما، وإن كان فيها أثر ما أو قياس ما، تورعا وتحفظا من الفتوى فيما يحمل الناس عليه، ثم يستحسنون من الرجل فتاوى مبناها على ما لا حقيقة له، وفيه كثير عن النبي صلى الله عليه وسلم لفق منه الثابت بغير الثابت. وكذا ما أورد عن السلف لا يمكن ثبوته كله، وأورد من نزعات الأولياء، ونفثات الأصفياء، ما يجل موقعه، لكن مزج فيه النافع بالضار، كإطلاقات يحكيها عن بعضهم، لا يجوز إطلاقها لشناعتها، وإن أخذت معانيها على ظواهرها كانت كالرموز لقدح الملحدين، ولا تنصرف معانيها إلى الحق إلا بتعسف، على أن اللفظ مما لا يتكلف العلماء مثله إلا في كلام صاحب الشرع الذي اضطرت المعجزات الدالة على صدقه المانعة من جهله وكذبه إلى طلب التأويل 1 كقوله:"إن القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن"2 وأن "السموات على أصبع"3 وكقوله: "لأحرقت سبحات وجهه"4 وكقوله: "يضحك الله"، إلى غير ذلك من الأحاديث الواردة ظاهرها مما أحاله العقل 5 - إلى أن قال-: فإذا كانت العصمة غير
1 قوله: إلى طلب التأويل إلخ كلام باطل مستدرك مردود على قائله، فالذي درج عليه السلف الصالح وأهل التحقيق من أهل العلم أن هذه الأحاديث تجري على ظواهرها ولا يتعرض لها بتأويل، فمن تأولها فقد سلك غير سبيل المؤمنين، ونحا طريقة المتكلمين المتكلفين الحيارى المفتونين، فعليك بما كان عليه السلف الصالح والصدر الأول، والله أعلم. سليمان بن سحمان. انتهى من حاشية الأصل.
2 الترمذي: القدر (2140)، وابن ماجه: الدعاء (3834).
3 البخاري: تفسير القرآن (4811)، ومسلم: صفة القيامة والجنة والنار (2786)، والترمذي: تفسير القرآن (3238) ، وأحمد (1/ 378).
4 مسلم: الإيمان (179) ، وأحمد (4/ 400 ،4/ 405).
5 وهذه الأحاديث وأشباهها لا تحيلها العقول السليمة، فإن الله ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في أسمائه وصفاته، وهو على كل شيء قدير، بل نقطع على أنها حق على حقيقتها، ولا نتعرض لها بكيف ولا تأويل، بل نصف الله بما وصف به نفسه ووصفه به رسوله، ولا نتجاوز القرآن والسنة، والله أعلم. سليمان بن سحمان. انتهى من حاشية الأصل.
مقطوع بها في حق الولي، فلا وجه لإضافة ما لا يجوز إطلاقه إليه إلا أن يثبت، وتدعو ضرورة إلى نقله فيتأول
…
إلى أن قال: ألا ترى لو أن منصفا أخذ يحكي عن بعض الحشوية مذهبه في قدم الصوت والحرف وقدم الورق، لما حسن به أن يقول: قال بعض المحققين: إن القارئ إذا قرأ كتاب الله عاد القارئ في نفسه قديما بعد أن كان محدثا، وقال بعض الحذاق: إن الله محل للحوادث إذا أخذ في حكاية مذاهب الكرامية.
وقال قاضي الجماعة أبو عبد الله محمد بن حمد القرطبي: إن بعض من يعظ ممن كان ينتحل رسم الفقه، ثم تبرأ منه شغفا بالشرعة الغزالية، والنحلة الصوفية، أنشأ كراسة تشتمل على معنى التعصب لكتاب أبي حامد إمام بدعتهم، فأين هو من تشانيع مناكيره، وتضليل أساطيره المباينة للدين، وزعم أن هذا من علم المعاملة المفضي إلى علم المكاشفة، الواقع بهم على سر الربوبية، الذي لا يسفر عن قناعه، ولا يفوز باطلاعه، إلا من تمطى إلى شيخ ضلالته التي رفع لهم أعلامها، وشره أحكامها؟ قال أبو حامد: وأدنى
…
1 من هذا العلم التصديق به، وأقل عقوبته أن لا يرزق المنكر منه شيئا. فأعرض من قوله على قوله: ولا تشتغل بقراءة قرآن، ولا بكتب حديث، لأن ذلك يقطعه عن الوصول إلى إدخال رأسه في كم جيبه، والتدثر بكسائه، فيسمع نداء الحق فهو يقول: ذروا ما كان السلف عليه، وبادروا إلى ما آمركم به، ثم إن القاضي أقذع وسب وكفر.
وقال أبو حامد: وصدور الأحرار قبور الأسرار، ومن أفشى سر الربوبية كفر، ورأى مثل قتل الحلاج خيرًا من إحياء عشرة لإطلاقه ألفاظًا،
1 بياض بالأصل.
ونقل عن بعضهم قال: للربوبية سر لو ظهر لبطلت النبوة، وللنبوة سر لو كشف لبطل العلم، وللعلم سر لو كشف لبطلت الأحكام. قلت: سر العلم قد كشف بصوفية أشقياء، فانحل النظام، وبطل لديهم الحلال والحرام. قال ابن حمد: ثم قال الغزالي: القائل بهذا إن لم يرد إبطال النبوة في حق الضعفاء، فما قال ليس بحق، فإن الصحيح لا يتناقض، وإن الكامل لا يطفئ نور معرفته نور ورعه.
وقال الغزالي: العارف يتجلى له أنوار الحق، وتنكشف له العلوم المرموزة المحجوبة عن الخلق، فيعرف معنى النبوة، وجميع ماوردت به ألفاظ الشريعة التي نحن منها على ظاهرها، قال عن بعضهم: إذا رأيته في البداية قلت: صديقا، فإذا رأيته في النهاية قلت: زنديقا، ثم فسره الغزالي فقال: إذا رأيتم الزنديق لا يلصق إلا بمعطل الفرائض لا بمعطل النوافل، وقال: وذهبت الصوفية إلى العلوم الإلهامية دون التعليمية. فيجلس فارغ القلب مجموع الهم، يقول: الله الله الله على الدوام فيتفرغ قلبه، ولا يشتغل بتلاوة، ولا كتب حديث، فإذا بلغ هذا الحد التزم الخلوة ببيت مظلم، ويدثر بكسائه، فحينئذ يسمع نداء الحق:(يا أيها المزمل - يا أيها المدثر). قلت؛ إنما سمع شيطانا أو سمع شيئا لا حقيقة له من طيش دماغه، والتوقيف في الاعتصام بالكتاب والسنة والإجماع.
قال أبو بكر الطرطوشي: شحن أبو حامد كتاب الإحياء بالكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما على بسيط الأرض أكثر كذبا منه. شبكه بمذاهب الفلاسفة، ومعاني رسائل إخوان الصفا، وهم قوم يرون النبوة مكتسبة، وزعموا أن المعجزات حيل ومخاريق.
[أقوال العلماء في الغزالي]
قال ابن عساكر: حج أبو حامد وأقام بالشام نحوًا من عشرين سنة ونصف، وأخذ نفسه بالمجاهدة، وكان مقامه بدمشق في المنارة الغربية من الجامع، سمع صحيح البخاري من أبي سهل الحمصي، وقدم دمشق في سنة تسع وثمانين.
وقال ابن خلكان: بعثه النظام على مدرسة ببغداد في سنة أربع وثمانين، وتركها في سنة ثمان وثمانين، وزهد، وحج، وأقام بدمشق مدة بالزاوية الغربية، ثم انتقل إلى بيت المقدس يتعبد، ثم قصد مصر، وأقام مدة بالإسكندرية، فقيل عزم على المضي إلى يوسف بن تاشفين سلطان مراكش فبلغه نعيه. ثم عاد إلى طوس، وصنف البسيط، والوسيط، والوجيز، والخلاصة، والإحياء، وألف المستصفى في أصول الفقه، والمنخول، واللباب، المنتحل في الجدل، وتهافت الفلاسفة، ومحك النظر، ومعيار العلم، وشرح الأسماء الحسنى، ومشكاة الأنوار، والمنقذ من الضلال، وحقيقة القولين، وأشياء، انتهى.
وقال عبد الله بن علي الأثيري: سمعت عبد المؤمن بن علي القيسي سمعت عبد الله بن تومرت يقول: أبو حامد الغزالي قرع الباب، وفتح لنا. قال أبو محمد العثماني وغيره: سمعنا محمد بن يحيى العذري المؤدب يقول: رأيت بالإسكندرية سنة خمسمائة كأن الشمس طلعت من مغربها، فعبرها لي عابد ببدعة تحدث فيهم، فبعد أيام، وصل الخبر بإحراق كتب الغزالي من البريد.
قال أبو بكر بن العربي في شرح الأسماء الحسنى: قال شيخنا أبو حامد قولا عظيما انتقده عليه العلماء، قال: وليس في قدرة الله -تعالى- أبدع من
هذا العالم في الإتقان والحكمة، ولو كان في القدرة أبدع وأحكم منه ولم يفعله، لكان ذلك قضاء للجور، وذلك محال. ثم قال: والجواب أنه باعد في اعتقاد عموم القدرة، ونفي النهاية عن تقدير المقدرات المتعلقة بها، ولكن في تفصيل هذا العلم المخلوق لا في سواه، وهذا رأي فلسفي قصدت به الفلاسفة قلب الحقائق، ونسبة الإتقان إلى الحياة مثلا، والوجود إلى السمع والبصر حتى لا يبقى في القلوب سبيل إلى الصواب؛ واجتمعت الأمة على خلاف هذا الاعتقاد، وقالت عن بكرة أبيها: إن المقدورات لا نهاية لها بكل مقدور الوجود، لا بكل حاصل الوجود، إذ القدرة صالحة. ثم قال: وهذه وهلة لا لعا بها ومنزلة لا تمسك فيها، ونحن وإن كنا نقطة من بحره، فإنا لا نرد إلا بقوله. ومما أخذ عليه قوله: إن للقدر سرا نهينا عن إفشائه، فأي سر للقدر؟ فإن كان مدركا بالنظر وصل إليه ولا بد، وإن كان مدركا بالخبر فما ثبت فيه شيء، وإن كان يدرك بالحيل والعرفان، فهذه دعوى محضة، فلعله عني بإفشائه إن تعمق في القدر، وبحث فيه.
قال الذهبي: أنبأنا محمد بن عبد الكريم: أنبأنا أبو حسن السخاوي أنبأنا: خطاب بن قمرية الصوفي: أنبأنا سعد بن أحمد الإسفراييني بقراءتي: أنبأنا أبو حامد محمد بن محمد بن محمد الطوسي قال: اعلم أن الدين شطران: أحدهما ترك المناهي، والآخر فعل الطاعات. وترك المناهي هو الأشد، وفعل الطاعات يقدر عليه كل أحد، وترك الشهوات لا يقدر عليه إلا الصديقون، ولذلك قال أبو عامر العبدي: سمعت أبا نصر أحمد بن محمد بن عبد القاهر الطوسي يحلف بالله أنه أبصر في نومه كأنه ينظر في كتب الغزالي؛ فإذا هي كلها تصاوير.
وقال أبو الوليد الطرطوشي في رسالته إلى ابن المظفر: فأما ما ذكرت من أبي حامد فقد رأيته، وكلمته، ورأيته جليلا من أهل العلم، واجتمع فيه العقل، والفهم، ومارس العلوم طول عمره، وكان على ذلك معظم زمانه، ثم بدا له عن طريقة العلماء، ودخل في غمار العمال، ثم تصوف، وهجر العلوم وأهلها، ودخل في علوم الخواطر، وأرباب القلوب، ووساوس الشيطان، ثم شابها بآراء الفلاسفة، ورموز الحلاج، وجعل يطعن على الفقهاء والمتكلمين. ولقد كاد أن ينسلخ من الدين، فلما عمل الإحياء عمد أن يتكلم في علوم الأحوال ومرامز الصوفية، وكان غير أنيس بها، ولا خبير بمعرفتها، فسقط على أم رأسه، وشحن كتابه بالموضوعات.
قال الذهبي بعد أن ساق كلام ابن الوليد الطرطوشي: قلت: أما الإحياء ففيه من الأحاديث الباطلة جملة، وفيه خير كثير لولا ما فيه من آداب ورسوم وزهد من طريق الحكماء ومنحرف الصوفية، نسأل الله علما نافعا، تدري ما العلم النافع؟ هو ما نزل به القرآن، وفسره الرسول صلى الله عليه وسلم قولا وفعلا، ولم يأت نهي عنه، قال عليه السلام:"من رغب عن سنتي فليس مني"1. فعليك يا أخي بتدبر كتاب الله، وبإدمان النظر في الصحيحين، وسنن النسائي، ورياض النووي، وأذكاره تفلح وتنجح، وإياك وآراء عباد الفلاسفة، ووظائف أهل الرياضات، وجوع الرهبان، وخطاب طيش رؤوس أصحاب الخلوات، فكل الخير في متابعة الحنيفية السمحة، فواغوثاه بالله! اللهم اهدنا الصراط المستقيم. انتهى.
[ملخص حال الغزالي]
ولمحمد بن علي المازني الصقيلي كلام على الإحياء قال فيه: قد تكررت مكاتبتكم في استعلام مذهبنا في الكتاب المترجم بإحياء علوم الدين، وذكرتم
1 البخاري: النكاح (5063)، ومسلم: النكاح (1401)، والنسائي: النكاح (3217) ، وأحمد (3/ 241 ،3/ 259 ،3/ 285).
أن آراء الناس فيه قد اختلفت، فطائفة انتصرت، وتعصبت لإشهاره، وطائفة حذرت منه ونفرت، وطائفة لكتبه أحرقت، وكاتبوني أهل المشرق أيضا يسألوني، ولم يتقدم لي قراءة هذا الكتاب سوى نبذة منه، فإن نفس الله في العمر مددت منه الأنفاس، وأزلت عن القلوب الالتباس، اعلموا أن هذا رأيت تلامذته فكل منهم حكى لي نوعا من حاله ما قام مقام العيان، فأنا أقتصر على ذكر حاله، وحال كتابه، وأذكر جملا من مذاهب الموحدين والمتصوفة، وأصحاب الإشارات والفلاسفة، فإن كتابه متردد بين هذه الطوائف. (ثم قال): وأما علم الكلام الذي هو أصل الدين فإنه صنف فيه، وليس بالمتبحر فيها، ولقد فطنت لعدم استبحاره فيها؛ وذلك أنه قرأ علوم الفلسفة قبل استبحاره في علم الأصول فأكسبته الفلسفة جرأة على المعاني، وتسهيلا للهجوم على الحقائق، لأن الفلاسفة تمر مع خواطرها لا ينزعها شرع. وعرفني صاحب له أنه كان له عكوف على رسائل إخوان الصفا، وهي إحدى وخمسون رسالة، ألفها من قد خاض في علم الشرع والنقل وفي الحكمة، فمزج بين العلمين، وقد كان رجل يعرف بابن سينا ملأ الدنيا تصانيف أدته قوته في الفلسفة إلى أن حاول رد أصول العقائد إلى علم الفلسفة، وتلطف جهده حتى تم له ما لم يتم لغيره 1 ورأيت هذا آخر الموجود من الرسالة.
1 هذا قول مقتضب محرف من كلام المازري، وقد استوفاه الأخ السبكي في طبقاته، ورد عليه وعلى الطرطوشي، فأما أبو حامد فقد رد على الفلاسفة ردًّا لم يسبقه مسلم إلى مثله. ورسائل إخوان الصفاء، ويعزوها شيخ الإسلام إلى الباطنية، وقد ألف أبو حامد عدة كتب في الرد عليهم لم يسبقه إلى مثله مسابق، ولم يلحقه لاحق، وليس كل ما في كل هذه الرسائل خطأ، ولا أبو حامد بالبليد الجاهل الذي يقلد صاحب كل كتاب يقرأه، ولماذا لم يذكر عكوفه بعد ذلك على البخاري ومسلم وموته على ذلك؟ فالحق في أبي حامد، والإحياء ما أبينه ملخصا: =
_________
= الحق أن أبا حامد الغزالي -رحمه الله تعالى- كان من نوابغ علماء الملة وأنصار الدين الداعين إليه والمدافعين عنه؛ ولذلك لقب بحجة الإسلام، وقيل هذا اللقب الخاص والعام إلا الخصوم الذين لم يسلم نابغ منهم. ولإخلاص أبي حامد لله -تعالى- في علمه، وعمله جعل خاتمته خيرا من بدايته، فقد كانت عنايته أولا بالفقه، وأصوله، ثم بالمعقولات، وهي علم الكلام، وما يتعلق به من المنطق والفلسفة، ثم بالتصوف علما وعملا ورياضة، وأما خاتمته فكانت بالرجوع إلى كتب السنة، والعكوف على صحيحي البخاري ومسلم، والأخذ بمذهب السلف الصالح فيها.
وأما كتابه الإحياء فقد ألفه في أثناء تصوفه، وكان يعتمد فيما ينقله فيه من الأحاديث، والآثار على كتب الحديث، وكتب التصوف من غير بحث في الروايات، وتمييز الصحيح وغير الصحيح منها، فوقع فيه كثير من الروايات الضعيفة والموضوعة، وكثير من نظريات الفلسفة التي رآها موافقة للدين، وما كل ما في الفلسفة -ولا سيما الأدبية منها - مخالف للدين، ولا أكثرها أيضا. فكان خصومه يشنعون عليه بهذا وذاك.
فأما المحدثون فقد شنع عليه بعضهم بذكر ما لا يحتج به من الأحاديث والآثار، وأجيب عنه بأنه لم يكن منفردا بذلك، فأكثر المؤلفين في الفقه والتصوف والأدب والتاريخ قد وقعوا في مثل ذلك؛ لأنهم لم يكونوا من نقاد الحديث، ولا من حفاظه، بل وقع في بعض كتب المحدثين روايات واهية وموضوعة، لم ينبهوا عليها، بل منهم من صحح بعضها كالحاكم على جلالة قدره. ولم يشنع أحد من هؤلاء الخصوم على هؤلاء، ولا أولئك كما شنعوا عليه مع العلم بأنه هو لم يضع حديثا، ولم يدّع تصحيح ما لا يصح.
وأما التشنيع عليه ببعض المسائل الكلامية والفلسفية والصوفية فالعبرة فيها بإقامة الدليل على بطلان كلامه فيها، وقد رأينا أن العلامة صاحب هذه الرسائل قد عني بنقل كل ما اطلع عليه من الطعن في الغزالي، ولم نر فيها إلا عبارات قليلة منكرة كمبالغته في مدح علم المنطق، وقوله: ليس في الإمكان أبدع مما كان. وقد ذكرها عنها بتعبير شنيع، لا أدري أقاله أم هو نقل لعبارته هذه بالمعنى، وقد أجاب عنها كثير من العلماء أجوبة تنطبق على قواعد الشرع، وردّها بعضهم بكل حال، وهؤلاء لم ينكروا على غيره من المخالفين لظواهر النصوص في التصوف بالشدة التي أنكروا بها على أبي حامد، بل أولوا لغيره ما لا يقبل التأويل، وما هو كفر صريح، بل نرى كل طائفة ترفق بمن كان منها فيما يخالف اعتقادها، وتتأول له كما فعل الحافظ الذهبي، والمحقق ابن القيم في الإنكار على شيخ الإسلام أبي إسماعيل الهروي المحدث السلفي الصوفي، فالأول تمنى لو لم يؤلف كتاب "منازل السائرين" في التصوف، والثاني تأول له بعض العبارات المخالفة لظواهر الكتاب والسنة وهدي السلف؛ حتى ما أنكره عليه شيخه شيخ الإسلام من أبياته الشهيرة في حقيقة =
_________
= التوحيد عند الصوفية:
ما وحد الواحد من واحد
…
إذ كل من وحده جاحد
وكلهم يلقبونه بشيخ الإسلام.
وقد أنكر بعض العلماء على شيخ الإسلام ابن تيمية النابغة الكبير بأشد مما انتقده خصوم أبي حامد عليه، وهو منهم، حتى إنهم كفروه، وما زال أخلافهم المقلدون يتحامون كتبه، ويحذرون المسلمين منها بأشد مما حذر العلامة الشيخ عبد اللطيف هنا من كتاب الإحياء. على أن شيخ الإسلام ابن تيمية قد امتاز على أهل الحديث والأثر بالإطلاع الواسع على علوم الكلام والمنطق والفلسفة التي كان السلف والمقتدون بهم من الخلف يحذرون منها، ولكن لو لم يطلع عليها شيخ الإسلام إطلاعا واسعا لما استطاع أن ينصر السنة ومذهب السلف على كل ما خالفه منها، كما كان أقرانه في علم الحديث يعجزون عن ذلك، وفي مقدمتهم صديقه الحافظ الذهبي رحمهم الله -تعالى-.
والقول الحق في كتاب الإحياء: أن أكثر ما فيه حق ونافع وقوي التأثير في تقوية الإيمان والترغيب في العبادة والتقوى والورع، وإنني ممن انتفع به كثيرا في بدايته، ولا أنكر أنني تضررت أيضا ببعض آرائه، وآراء أمثاله في الجبر، والغلو في الزهد، وأما الحديث، فإن الله -تعالى- ألهمني في أوائل طلب العلم الاشتغال به، فكان ذلك سببا لاقتنائي شرح الإحياء للزبيدي المشتمل على تخريج أحاديثه.
وأقول: إن اشتغال أهل نجد بكتب السنة واعتمادهم في العقائد ورد الشبه في آداب الشرع والتصوف السني على كتب شيخي الإسلام يغنيهم عن كتاب الإحياء، وينبغي أن لا يطلع عليه منهم إلا العلماء، إن وجدوا مقتضيا، ولكنني أنصح بأن لا يطعنوا في أبي حامد، ولا يعدوه مضلا، فإننا إذا أردنا أن نعد كل من أخطأ من العلماء، وأمكن الاستدلال على خطئه ببعض النصوص الصحيحة، أو آثار السلف ضالا مضلا، ولم نميز بين المجتهد المتأول، والمعاند فإنه لا يكاد يسلم لنا من أعلام هذه الملة إلا النادر؛ فإنا نرى أئمة الفقهاء من المذاهب الأربعة قد خالفوا باجتهادهم بعض هذه النصوص. ونرى فروعا كثيرة في الحلال والحرام، قد قيلت بالرأي المخالف لقول النبي صلى الله عليه وسلم:"وسكت عن أشياء رحمة بكم غير نسيان فلا تسألوا عنها" فهل نقول في متبعي أئمتهم فيها: إنه ينطبق عليهم حديث عدي بن حاتم المرفوع في تفسير: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} بأنهم كانوا يتبعونهم فيما يحلون لهم، ويحرمون عليهم؟ قال الإمام مالك رحمه الله: كل أحد يؤخذ من كلامه، ويرد عليه إلا صاحب هذا القبر -، ويشير إلى قبره صلى الله عليه وسلم. وكتبه محمد رشيد رضا.