الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الرسالة العشرون
[السمت والتؤدة والاقتصاد في الأمور]
وله أيضًا -قدس الله روحه، ونور ضريحه- رسالة إلى صالح بن عثمان بن عقيل هذا نصها:-
بسم الله الرحمن الرحيم
من: عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى الأخ المكرم: صالح بن عثمان بن عقيل، سلمه الله تعالى وتولانا وإياه في الدنيا والآخرة.
سلام عليكم، ورحمة الله وبركاته.
أما بعد: فأحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو على ما أنعم به من سوابغ نعمه، وألبس من ملابس فضله وكرمه، جعلنا الله وإياكم ممن عرف نعمة الله عليه، فاستعان بها فيما يقرب إليه. والوصية الجامعة العظمى، وما وصى الله به -سبحانه- من التقوى وتفاصيلها على القلوب والجوارح بحسب الأحوال والأوقات، لا يخفى على من له به اهتمام، وله إليه التفات. والأحاديث التي سألت عن معناها قد تكلم عليها بعض العلماء بما حاصله أن السمت والهدي في حالة الرجل في مذهبه وخلقه. وأصل السمت في اللغة الطريق المنقاد، ثم نقل لحالة الرجل وطريقته في مذهبه وخلقه. والاقتصاد سلوك القصد في الأمر، والدخول فيه برفق، وعلى سبيل يمكن الدوام عليه. وأما التؤدة فهي التأني والتمهل وترك العجلة، وسبق الفكر والرؤية للتلبس في الأمور.
وأما كون هذه الخصال جزءًا من أربع وعشرين جزءًا من النبوة، فقد قيل: إن هذه الخلال من شمائل الأنبياء عليهم السلام ومن
الخصال المعدودة من خصالهم، وأنها جزء من أجزاء فضائلهم فاقتدوا بهم فيها، وتابعوهم عليها. (قالوا): وليس معنى الحديث أن النبوة تتجزأ، ولا أن من جمع هذه الخلال كان فيه جزء من النبوة، فإن النبوة غير مكتسبة، ولا مجتلبة بالأسباب، وإنما هي كرامة من الله، وخصوصية لمن أراد الله إكرامه من عباده:{اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} وقد انقطعت النبوة بمحمد صلى الله عليه وسلم.
وفيه وجه آخر، وهو أن يكون معنى النبوة هاهنا ما جاءت به النبوة، ودعت إليه الأنبياء عليهم السلام، يعني أن هذه الخلال من أربعة وعشرين جزءا مما جاءت به النبوات، ودعت إليه الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، وقد أمرنا باتباعهم في قوله -عزوجل-:{فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} . قالوا: وقد يحتمل وجها آخر، وهو أن من اجتمعت له هذه الخصال لقيه الناس بالتعظيم والتوقير، وألبسه الله -تعالى- لباس التقوى الذي يلبسه أنبياءه، فكأنها جزء من النبوة. قلت: وما قبل هذا أليق بمعنى الحديث.
وأما حديث الرؤيا: فقيل: معناه تحقيق أمر الرؤيا وتأكيده، وهو جزء من أجزاء النبوة في الأنبياء -صلوات الله وسلامه عليهم- دون غيرهم، لأن رؤيا الأنبياء وحي، قال عمرو بن دينار عن عبد الله بن عمير: رؤيا الأنبياء عليهم السلام وحي، وقرأ قوله -تعالى -:{إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ} وأما تحديد الأجزاء بالعدد المذكور في الحديث، فقد قال فيه بعض أهل العلم: إنه أوحي إليه صلى الله عليه وسلم بمكة ستة أشهر في منامه، ثم توالى الوحي يقظة إلى أن توفي صلى الله عليه وسلم
وكانت مدة الوحي ثلاثا وعشرين سنة منها نصف سنة في أول الأمر يوحى إليه في منامه، ونسبة ستة الأشهر لبقية مدة الوحي جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة.
وسئل بعض أهل العلم عن هذا الحديث قال: معناه أن الرؤيا تجيء على موافقة النبوة لأنها جزء من باقي النبوة. وقال بعضهم: إنها جزء من أجزاء علم النبوة باق، والنبوة غير باقية بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ذهبت النبوة، وبقيت المبشرات (وهي) الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو ترى له. وعندي أن النبوة التي هي الوحي بشرائع الأنبياء عبارة عن نبأ أو شأن عظيم في القوة، وإفادة اليقين. والرؤيا الصالحة التي هي من أقسام الوحي جزء باعتبار القوة، وإفادة العلم من ستة وأربعين جزءا، ولا يقتضي هذا تجزؤ النبوة، وأنها مكتسبة، ولا إطلاق اسم النبوة على هذا الجزء، لأن المسمى هو الكل المستجمع لجميع الأجزاء؛ فلا محذور. ويمكن أن يقال: هذا فيما تقدم معه قوله: "الهدي الصالح، والسمت الحسن، والاقتصاد جزء من خمسة وعشرين جزءا من النبوة"1 هذا ما ظهر لي، والله أعلم، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
1 هذا حديث رواه الترمذي، والطبراني عن عبد الله بن سرجس مرفوعا، ولكن بلفظ "أربعة، وعشرين جزءا"،ولكن ذكره الخطابي في الكلام على حديث الرؤيا بلفظ "خمسة، وعشرين" كما هنا، والقرطبي في شرح مسلم بلفظ "ستة، وعشرين" كما نبه عليه الحافظ في الفتح، ومن المؤسفات أن هذه الرسائل لم يذكر فيها نصوص الأسئلة التي أجيب فيها عنها.