الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الرسالة الحادية والعشرون
[مؤاخذة أنصار الجاني وأقاربه بجريرة فعله]
وله أيضا -قدس الله روحه، ونور ضريحه- سؤال سأل عنه والده الشيخ الإمام المبجل، والفاضل النبيل المفضل، الشيخ عبد الرحمن بن حسن، ثم ذيل الشيخ عبد اللطيف على الجواب ذيلا، وهذا نصهما:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد؛ فإني قد سألت والدي -قدس الله روحه، ونور ضريحه- عما يفعله بعض الأمراء بنجد من أخذ ابن العم بجريمة ابن عمه، أو غير ابن عمه من الأصول والفروع، هل له مستند شرعي، أو لا مستند له؟
فأجاب رحمه الله بقوله: الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيد المرسلين وإمام المتقين محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليما.
أما بعد، فقد سألني من لا تسعني مخالفته أن أكتب فيما يفعله الأئمة من أخذ ابن العم وحبسه فيما يأخذه ابن عمه من مال غيره بغير حق، هل له مسوغ في الشرع أو لا؟
فالجواب: اعلم -وفقك الله- أن أهل نجد كانوا قبل ظهور هذه الدعوة الإسلامية فيهم بأسوإ حال، أما الأعراب فلا يلتفت أحد منهم لشريعة الإسلام لا في العبادات، ولا في غيرها من الأحكام في الدماء، ولا في الأموال، ولا في النكاح والطلاق والمواريث، وغير ذلك. وكانوا في شر عظيم فيما بينهم من الحروب، كل طائفة تقاتل الأخرى، وتستحل دماءها وأموالها،
والحضر عندهم في غاية الذل، يأخذون المال منهم كرها.
فلما مَنَّ الله بهذه الدعوة، وقام الجهاد، أجلبوا كلهم على محاربة من دعاهم إلى الإسلام والتزام شرائعه وأحكامه، فحصل التأييد من الله لمن قام بدينه، فجاهدوا الأعراب وغيرهم على طاعة ربهم، والتزام ما شرعه، فبقوا على جهاد الأعراب كلما أسلمت قبيلة جاهدوا بها الأخرى، فما زالوا يجاهدونهم على أن يسلموا، ويصلوا ويزكوا. وأكثرهم ألقى السلم لأهل الإسلام، لكن بقي من البغي والظلم والعدوان على من قدروا عليه واستضعفوه ممن دخل فيما دخلوا فيه من الإسلام، فكل من نهب أو قطع طريقا أو قتل استند إلى قبيلة، فلا يقدر أحد من ولاة الأمر أن يأخذ الحق منهم. والحالة هذه فلو تركوا رأسا، ولم ينظر إلى جنايتهم، ونظر إلى جناية المباشر فقط، لفهم يفهمه بعض القاصرين من حديث "لا يجني جان إلا على نفسه" لضاعت حقوق الناس، ودماؤهم، وأموالهم، وعطلت القاعدة الشرعية، وقصر بالحديث عما يتناوله، ويدل عليه عند إمعان النظر، فعلى قدر ما أحدثوا من البغي، والظلم والعدوان والتعاون على ذلك، ساغ للأئمة أن يحبسوا ابن العم في ابن عمه ليقوم بأداء ما وجب عليه من الحق والطاعة في المعروف من نصرة المظلوم، وإغاثة الملهوف، والبراءة من المحاربين وقطع السبيل.
ومثل هذه القبائل لما تركوا ما وجب من أمر الشرع مع القدرة على القيام، ورضوا بمحاربة الله ورسوله ساغ للأئمة ما ذكر، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وأيضا فلو خلوا بين أهل الإسلام وبين هذا الجاني من أبناء عمهم لتمكن المظلوم من أخذ حقه، ورد مظلمته؛ فهم قد آووا محدثا، وفي الحديث "لعن الله من آوى محدثا"، وفي الحقيقة هذا إحسان إلى
القبيلة، وسبب لتخليصهم من ارتكاب ما حرم عليهم، وهذا الذي أخذ في ابن عمه لم يقصد ماله، بل حبس لأخذ ما بيد مولاه الذي هو ابن عمه. وبالجملة فهذا من أسباب صلاح الناس وصيانتهم، وهذا الذي ذكرنا هو الذي تأوله الأئمة، وظهرت مصلحته، وقلت مفسدته، والذي أخذ النبي صلى الله عليه وسلم ناقته العضباء قال له: لم تأخذ سابقة الحاج؟ قال: "أخذتها بجريرة حلفائك من ثقيف" أو كما قال صلى الله عليه وسلم تسليما كثيرا، وعلى آله وأصحابه والتابعين.
(قلت): فظهر من هذا البيان الذي أفاده شيخنا رحمه الله أن الحكم خاص بأهل القوة والنصرة بخلاف المستضعف الذي لا قدرة له، ولا جناية ولا مصلحة في حبسه ولا يؤبه له عند قبيلته، فعلى الحاكم إمعان النظر في جلب المنافع ودفع المفاسد، أملاه شيخنا عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن -قدس الله روحه، ونور ضريحه-، ثم ذيل على ذلك ذيلا فقال رحمه الله:
ما قاله شيخنا ووالدنا -حفظه الله- في أسر ابن العم في ابن عمه لمصلحة فهو الحكم العدل، وهو الذي عليه أكثر السلف، فإن الرجل إذا قطع السبيل وأخافه، وامتنع بنفسه، وترك من يأويه وينصره، صار قوة له، وإعانة له على ظلمه؛ فإن أخذ بجريرته، وأسر فيه؛ حصل له رد وامتناع، وهذا يعلم بالاضطرار.
[أخذ الحليف بجريرية حليفه]
قال الخطابي في شرح سنن أبي داود في باب النذر فيما لا يملك ابن آدم: حدثنا سليمان بن حرب، ومحمد بن عيسى قالا: حدثنا حماد عن أيوب عن أبي قلابة عن أبي المهلب عن عمران بن حصين قال: "كانت العضباء لرجل من بني عقيل، وكانت من سوابق الحاج، قال: فأسر، فأتي به النبي صلى الله عليه وسلم وهو في وثاق، والنبي صلى الله عليه وسلم على حمار عليه قطيفة، فقال: يا محمد علام تأخذني، وتأخذ سابقة الحاج؟ قال: آخذك بجريرة
حلفائك من ثقيف، وكانت ثقيف قد أسروا رجلين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم".
(قال الشيخ): قوله: (آخذك بجريرة حلفائك من ثقيف) اختلفوا في تأويله فقال بعضهم: هذا يدل على أنه كان بنو عقيل عاهدوا أن لا يتعرضوا للمسلمين، ولا أحد من حلفائهم، فنقض حلفاؤهم العهد، ولم ينكره بنو عقيل، فأخذ بجريرتهم. وقال آخرون: هذا الرجل كافر، ولا عهد له، وقد يجوز أخذه وأسره وقتله، فإن جاز أن يؤخذ بجريرة نفسه، وهي كفره، جاز أن يؤخذ بجريرة غيره ممن كان على مثل حاله من حليف وغيره، ويحكى معنى هذا عن الشافعي. وفيه وجه ثالث، وهو أن يكون في الكلام إضمار، يريد أنك إنما أخذت ليدفع بك جريرة حلفائك، ويفدوا بك الأسيرين اللذين أسرتهم ثقيف ألا تراه يقول: ففدي الرجل بعد بالرجلين. انتهى.
فتأمل هذا؛ فإنه يدلك على صواب الحكم. والآية، وهي قوله:{وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} ليس فيها ما يدفع هذا، ولا يرده، والله الموفق للصواب، وهو أعلم بمواقع الخطاب، وصلى الله على عبده ورسوله محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.
أملاه شيخنا الشيخ عبد اللطيف بن الشيخ عبد الرحمن بن حسن بن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمهم الله -تعالى- وعفا عنهم بمنه، وكرمه آمين.