الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الرسالة الثالثة عشرة
[دعوة الشيخ ابن عبد الوهاب هي دعوة إلى التوحيد الخالص]
وله أيضا -قدس الله روحه ونور ضريحه- رسالة أرسلها إلى أهل عُنَيْزَة، وهذا نصها:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى من يصل إليه هذا الكتاب من أهل عنيزة، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد: تجري عندكم أمور يتألم منها المؤمنون، ويرتاح لها المنافقون، ولا بد من النصيحة مَعْذِرَةً إلى الله -تعالى- وطلبا لرضاه، وإلا فالحجة قد قامت، وجمهوركم يَتَجَشَّمُ ما يأتي لأسباب لا تخفى. من ذلك: قصد المشاقة، والمعاندة بإكرام داود العراقي، مع اشتهاره بعداوة التوحيد وأهله، والتصريح بإباحة دعاء الصالحين 1 والحث عليه، وغير ذلك مما يطول عده.
ولا بد من تقديم مقدمة ينتفع بها الواقف على هذا فنقول: لما وقع في آخر هذه الأمة ما أخبر به نبيها من اتباع سَنَن من قبلها من أهل الكتاب وفارس والروم، وتزايدت تلك السنن حتى وقع الغلو في الدين، وعُبِدَتْ قبور الأولياء والصالحين، وجُعِلَتْ أوثانًا تُقْصَد من دون الله رب العالمين، عَظَّمَهَا قوم لم يعرفوا حقيقة الإسلام، ولم يشموا رائحة العلم، ولم يحصلوا على شيء من نور النبوة، ولم يفقهوا شيئا من أخبار الأمم قبلهم، وكيف كان بدء شركهم ومنتهى نِحْلَتَهم، وحقيقة طريقتهم، وما هذا الذي عابه القرآن عليهم وذمه، وتلطف الشيطان في كيد هؤلاء الغلاة في قبور الصالحين
1 هذه الإضافة للمفعول أي: إباحة أن يُدْعَى الصالحون فيما لا يطلب إلا من الله؛ لأنه وراء الأسباب وهو شرك.
بأن دَسَّ عليهم تغييرَ الأسماء والحدود الشرعية والألفاظ اللغوية، فسمى الشركَ وعبادةَ الصالحين توسلا ونداء، وَحُسْنَ اعتقاد في الأولياء وتشفعا بهم، واستظهارا بأورادهم الشريفة. فاستجاب له صبيان العقول وخفافيش البصائر، وداروا مع الأسماء ولم يقفوا مع الحقائق، فعادت عبادة الأولياء والصالحين ودعاء الأوثان والشياطين كما كانت قبل النبوة وفي أزمان الفترة حذو النعل بالنعل، وحَذْو القُذَّة بالقُذَّة، وهذا من أعلام النبوة كما ذكره غير واحد. ولم يزل ذلك في ظهور وازدياد، حتى عَمَّ ضررُهُ وبلغ شررُهُ الحاضرَ والباد، ففي كل إقليم وكل مدينة وقرية ممن ينتسب إلى الإسلام وَلائِجٌ يدعونهم مع الله، ويلتمسون بدعائهم قرب الرب ورضاه، يفزعون إليهم في المهمات والشدائد، ويلوذون بهم في النوائب والحاجات، وبعضهم لا يَرِدُ على خاطره ولا يلم بباله دعاء الله في شيء من ذلك؛ لاستشعاره حصول مقصوده ونجاح مطلوبه من جهة الأولياء والأنداد. وقد رأينا وسمعنا من ذلك ما يَعِزُّ حصرُهُ واستقصاؤُهُ، ولو كان يخفى لَعَرَّجْنَا على ذكره وتفصيله، ولكنه أشهرُ من الشمس في نَحْرِ الظهيرة.
إذا عرف هذا وتحقق، فاعلموا أن الله أطلع شمس الإيمان به وتوحيده في آخر هذا الزمان على يد مَنْ أقامه الله في هذه البلاد النجدية داعيا إلى الله على بصيرة، مُذكرًا به، آمِرًا بتوحيده وإخلاص الدين له، ورَدِّ العباد إلى فاطرهم وباريهم وإلههم الحق الذي لا إله غيره ولا رب سواه، ينهى عن الشرك به، وصرف شيء من العبادات إلى غيره، وابتداع دين لم يأذن به الله، لا سلطان ولا حجة على مشروعيته، واستدل على ذلك وقَرَّرَ وصَنَّفَ وحَرَّرَ ونَاظَرَ المبطلين، ونازع الغلاة والمارقين، حتى ظهر دين الله على كل
دين. فتنازع المخالفون أمره، وجحدوا برهان صدقه. فقوم قالوا: هذا مذهب الخوارج المارقين، وطائفة قالت: هو مذهب خامس لا أصل له في الدين، وآخرون قالوا: هو يُكَفِّرُ أهلَ الإسلام، وَصِنْفٌ نسبوه إلى استحلال الدماء والأموال الحرام، ومنهم من عابه بوطنه وأنه دار مسيلمة الكذاب. وكل هذه الأقاويل لا تَرُوجُ على من عرف أصل الإسلام وحقيقة الشرك وعبادة الأصنام، وإنما يحتج بها قومٌ عَزُبَتْ عنهم الأصولُ والحقائقُ، ووقفوا مع الرسوم والعادات في تلك المناهج والطرائق:{قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ} 1؛ فهم من شأنه في أمر مريج، وما ذاك إلا أنه أشرقت له شموس النبوة فقصدها، وظهرت له حقائق الوحي والتنْزيل فآمن بها واعتقدها، وترك رسوم الخلق لا يعبأ بها، ورفض تلك العوائد والطرائق الضالة لأهلها.
واترك رسوم الخلق لا تعبأ بها
…
في السعد ما يغنيك عن دبران
وقد صنف بعض علماء المشركين في الرد عليه، ودفع ما قرره ودعا إليه، واسْتَهْوَتْهُمْ الشياطينُ، حتى سَعَوْا في آيات الله مُعَاجِزِينَ، وقد بَدَّدَ الله شملهم فتمزقوا أيدي سَبَا، وذهبتْ أباطيلُهم وأراجيفهم حتى صارت هبا. نعم بقيت لتلك الشبهة بقية بأيدي قوم ليس لهم في الإسلام قَدَمٌ، ولا في الإيمان دراية، يتخافتون بينهم ما تضمنته تلك الكتب من الشُّبَه الشِّرْكِية، ويتواصون بكتمانها كما تكتم كتب التنجيم والكتب السحرية، حتى أُتِيحَ لهم هذا الرجل من أهل الفرق فألقيت إليه هذه الكتب فاستعان بها على إظهار أباطيله، وتسطير إلحاده وأساطيله، وزاد على ما في تلك المصنفات، وأباح لغير الله أكثر العبادات، بل زعم أن للأولياء تدبيرا وتصريفا مع
1 سورة المائدة آية: 104.
الله، وأجاز أن يَكِلَ اللهُ أمور ملكه وعباده إلى الأولياء والأنبياء، ويفوض إليهم تدبير العالم. وهذا موجود عندنا بنص رسائله، وَشَبَّهَ على الجهال الذين أعمى الله بصائرهم، أتباع كل ناعق، الذين لم يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجؤوا إلى ركن وثيق من الإيمان والفهم، بشبهات ضالة كقوله: إن دعاء الموتى ونحوه لا يُسمى دعاء وإنما يُسمى نداء، وإن العبادات التي صُرفت لأهل القبور لا تسمى عبادة ولا شركا إلا إذا اعتقد التأثير لأربابها من دون الله. وقوله: من قال لا إله إلا الله واستقبل القبلة فهو مسلم، وإن لم يرغب عن ملة عُبَّاد القبور الذين يدعونها مع الله، ويكذب على أهل العلم من الحنابلة وغيرهم، ويزعم أنهم قالوا وأجمعوا على استحباب دعاء الرسول بعد موته صلى الله عليه وسلم، وَيُلْحِد في آيات الله وأحاديث رسول الله ونصوص أهل العلم، ويتعمد الكذب على الله، وعلى رسوله، وعلى العلماء، يَعْرِفُ ذلك من كلامه مَن له أدنى نهمة في العلم، والتفات إلى ما جاءت به الرسل، ولا يَرُوج باطلُه إلا على قوم لا شعور لهم بشيء من ذلك، عمدتهم في الدين النظر إلى الصور وتقليد أهلها. ومن شبهاته قوله في بعض الآيات: هذه نزلت فيمن يعبد الأصنام، هذه نزلت في أبي جهل، هذه نزلت في فلان وفلان، يريد -قاتله الله- تعطيلَ القرآن عن أن يَتناول أمثالهم وأشباههم ممن يعبد غير الله، ويعدل بربه، ويزعم أن قوله تعالى:{وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} 1 دليل على استحباب دعاء الصالحين مع الله، ويظن أن الشرك الذي جاءت الرسل بتحريمه هو الوسيلة إلى الله، ويحتج على ذلك بما يُمَجُّ سماعه، ويستوحش منه عوامُّ المسلمين لمجرد الفطرة، فسبحان مَن أضلَّه وأعْمَاه {كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} 2.
1 سورة المائدة آية: 35.
2 سورة يونس آية: 33.
وهذا الرجل يأنس إلى بلدتكم ويعتاد المجيء إليها، وله من ملئها وأكابرها مَن يعظِّمه ويواليه وينصره، ويأخذ عنه ما تقدم من الشُّبَه وأمثالها؛ ولذلك أسباب منها البغضاء ومتابعة الهوى وعدم قبول ما مَنَّ الله به من النور والهدى حيث عرف من جهة المُعَارِض، وتأملوا قوله تعالى:{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ} 1. وقد أجمع العلماء على أن نعمة الله المقصودة هنا هي بعثة محمد صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق اللَّذَيْنِ أَصْلُهُمَا وأساسُهما: عبادةُ الله وحده لا شريك له، وخلعُ ما سواه من الآلهة والأنداد. والكفر بهذه النعمة هو ردها وجحدها واختيار دعاء الصالحين، والتعلقُ على الأولياء والمقربين. فرحم الله امرأ تفكر في هذا، وبحث عن كلام المفسرين من أئمة الدين، وعلم أنه مُلاق ربه الذي عنده الجنة والنار.
ثم فيما أجرى الله عليكم من العِبَر والعِظَات ما يُنَبِّه من كان له قلب أو فيه أدنى حياة، قال تعالى لنبيه موسى:{وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ} 2 وجماعتكم أعيى المسلمين داؤهم، وعَزَّ عمّا هم عليه انتقالهم، وما أحسن ما قال أخو بني قريظة لقومه: أفي كل موطن لا تعقلون {وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} 3 وصلى الله على محمد وآله وصحبه أجمعين وسلم تسليما كثيرًا.
1 سورة إبراهيم آية: 28.
2 سورة إبراهيم آية: 5.
3 سورة الأحزاب آية: 4.