الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الرسالة الثالثة والثلاثون
وله أيضا -رحمه الله تعالى- رسالة إلى عيسى بن إبراهيم جوابًا لأربع مسائل: (الأولى): عن قوله تعالى: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ} 1 الآية؟ (والثانية): عن الفرق بين المرفوع والمُسْنَد والمتصل وأيها أصح؟ (الثالثة): عن قول شارح الزاد غير تراب ونحوه؟ (الرابعة): عن قول شارح الزاد أيضا نقلا عن النظم: وتحرم القراءة في الحش وسطحه وهو متوجه إلى حاجته، ثم إن الشيخ استشعر منه أنه يشير إلى رسم فائدة زائدة. فأجاب بما يشفي العليل، ويروي الغليل، ويهدي إلى أقوم نهج وسبيل، بأوضح عبارة وأبين دليل. فرحمه الله من إمام للسنة ما أعلمه، وبعلم التفسير ما أفهمه، وبالفقه وغيره من العلوم ما أحكمه، فلقد فاق بذلك على أقرانه، وكان وحيد عصره وفريد زمانه. وهذا نص الرسالة:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى الأخ المحب عيسى بن إبراهيم -سلك الله بي وبه صراطه المستقيم-.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد: فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو على نعمه. والخط وصل؛ فسرني نبأه عن سلامة تلك الأحوال والذوات، لا زالت سالمة من الآفات، وما أشرت إليه قد علم. وجواب مسألتك ها هو ذا قد رسم -نسأل الله التوفيق والإصابة، وحسن القصد والإثابة-:
[مشروعية بر الكافر غير المحارب والقسط إليه]
فأما قوله تعالى: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ} 2 الآية. فالذي يظهر أن هذا إخبارٌ من الله -جل ذكره- لعباده المؤمنين بأنه لم يَنْهَهُمْ عن البر والعدل والإنصاف في معاملة أي كافر كان من أهل الملل، إذا لم يقاتلهم في الدين ولم يخرجهم من
1 سورة الممتحنة آية: 8.
2 سورة الممتحنة آية: 8.
ديارهم؛ إذ العدل والإحسان والإنصاف مطلوبٌ محبوبٌ شرعا ولذا علل هذا الحكم بقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} 1.
وأما قوله {أَنْ تَبَرُّوهُمْ} 2 فقد قال بعض المُعْرِبِينَ: إنه بدل من الموصول بدل اشتمال، و"أن" وما دخلت عليه: في تأويل مصدر، والتقدير: لا ينهاكم الله عن بِرِّ مَن لم يقاتل في الدين، ولو قال هذا البعض: إنه بدل 3 بُدَاءً: لكان أظهر؛ إذ لا يظهر الاشتمال بأنواعه هنا؛ والأظهر عندي أنْ لا بدلَ مطلقا؛ وأن الموصول معمولٌ للمصدر المتأخر المأخوذ من "أن" وما دخلت عليه؛ فالموصول إذًا في محل نصب بالمصدر المسبوك؛ وتَأَخُّرُ العاملِ لا يضر، وأما على البدلية فهو في محل جر. وقوله:{إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} 4، أكد الجملة هنا لمناسبة مقتضى الحال؛ إذ المقام مظنة لغلط الأكثر؛ ولتوهم خلاف المراد فاقتضى التأكيد والتوفية بالأداة؛ كما يعلم من فن المعاني؛ وقوله:{فِي الدِّينِ} الفاء سببية كما في قوله: "دخلت النار امرأة في هرة"5 الحديث. وسبب النّزول ما رواه الإمام أحمد في مسنده حدثنا أبو معاوية حدثنا هشام بن عروة عن فاطمة بنت المنذر عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها قالت: قدمت أمي وهي مشركة في عهد قريش إذ عاهدوا، فأتيتُ النبي صلى الله عليه وسلم فقلت يا رسول الله:"إن أمي قدمتْ وهي راغبة، أفأصلها؟ قال: نعم صلي أمك"6، وهذا الحديث أخرجه البخاري ومسلم. وفي بعض الطرق: أنها جاءت لابنتها بهدية ضباب وأقط وسمن، فأبت أسماء أن تقبل منها وتدخل البيت حتى سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله هذه الآية.
وأما قول ابن زيد وقتادة: إنها منسوخة، فلا يظهر؛ لوجوه: منها: أن الجمع بينها وبين آية القتال ممكنٌ غيرُ متعذرٍ، ودعوى النسخ يصار إليها
1 سورة الممتحنة آية: 8.
2 سورة الممتحنة آية: 8.
3 كذا في الأصل.
4 سورة الممتحنة آية: 8.
5 البخاري: بدء الخلق (3318)، ومسلم: السلام (2243) والبر والصلة والآداب (2619)، وابن ماجه: الزهد (4256) ، وأحمد (2/ 507).
6 البخاري: الهبة وفضلها والتحريض عليها (2620)، ومسلم: الزكاة (1003)، وأبو داود: الزكاة (1668) ، وأحمد (6/ 347).
عند التعذر وعدم إمكان الجمع إن دل عليه دليل. (ومنها): أن السُّنَّة متظاهرةٌ بطلب الإحسان والعدل مطلقا، ولا قائل بالنسخ، لكن قد يجاب عن ابن زيد وقتادة بأن النسخ في كلامهما بمعنى التخصيص؛ وهو مُتَّجِهٌ على اصطلاح بعض السلف؛ ولا شك أن القتال بالسيف وتوابعه من العقوبات والغلظة في محلها مخصوص من هذا العموم.
ووجه مناسبة الآية لما قبلها من الآي: أنه لما ذكر -تعالى- نهيه عبادَه المؤمنين عن اتخاذ عدوه وعدوهم أولياء يلقون إليهم بالمودة؛ ثم ذكر حال خليله، ومن آمن معه في قولهم، وبراءتهم من قومهم المشركين حتى يؤمنوا. وذكر أن لعباده المؤمنين أسوة حسنة خيف أن يتولاهم، ويظن أن البر والعدل داخلان في ضمن ما نهى عنه من الموالاة، وأمر به أن يدفع هذا 1 بقوله تعالى:{لا يَنْهَاكُمُ} 2 الآية.
[اصطلاحات حديثية]
الحديث المرفوع والمسند والمتصل:
وأما المسألة الثانية في الفرق بين المرفوع والمسند والمتصل: فاعلم أن المرفوع: ما أضيف إلى النبي صلى الله عليه وسلم قولا، أو فعلا، أو حكما. واشترط الخطيب البغدادي كون المضيف صحابيا، والجمهورُ على خلافه. والمسند: هو المرفوع، فهو مرادفٌ له، وقد يكون متصلا كمالك عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم وقد يكون منقطعا كمالك
1 قد أوجز الشيخ رحمه الله فجاء كلامه غيرُ كافٍ في بيان المراد، فأجاز البر والعدل لمن نهى الله عن ولايتهم في الآية، وهم المحاربون للمسلمين لأجل صدهم عن دينهم. والمُتَبَادَرُ من الاستئناف البياني في قوله:{لا يَنْهَاكُمُ} إلى آخره الذي هو استدراك على النهي عن الموالاة والمودة للكفار المعادين المحاربين في الدين هو أن من ليس كذلك من الكفار لا يدخلون في عموم النهي الأول من كل وجه بل يجوز برهم والعدل إليهم؛ ولذلك أكد الآية الأولى بالثانية وهي: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ} إلخ.
2 سورة الممتحنة آية: 8.
عن الزهري عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم إذ الزهري لم يسمع من ابن عباس، فهو بسند منقطع. وقد صرح ابن عبد البر رحمه الله بترادفهما؛ والانقطاع يدخل عليهما جميعا وقيل: إن المسند ما وصل إسناده (إلى الصحابي) ولو موقوفا عليه؛ فالمسند والمتصل سواء؛ إذ هذا بعينه هو تعريف المتصل فعلى هذا يفارق المرفوع بقولنا: ولو موقوفا؛ فبينه وبين المرفوع على هذا القول عمومٌ وخصوصٌ وجهي يجتمعان فيما اتصل سنده ورفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم. وينفرد المرفوع في المنقطع المرفوع، وينفرد المسند في الموقوف والأكثر على التعريف الأول، والعموم والخصوص الوجهي، كذلك يجري أيضا بين المرفوع والمتصل كما يعلم مما تقدم.
وأما قولك: أيهما أصح؟ فاعلم أن الصحة غير راجحة لهذه الأوصاف باعتبار حقيقتها، وإنما الصحة والحُسن والضعف أوصاف تدخل على كل مِنَ المرفوع والمسند والمتصل، فمتى وُجِدَتْ حُكِمَ بمُقتضاها لموصوفها. لكن المرفوع أولى من المتصل إذا لم يرفع؛ ومن المسند على القول الثاني إذا لم يرفع أيضا، لا من حيث الصحة بل من حيث رفعه إلى النبي صلى الله وسلم وأما الصحة فقد ينفرد بها بعض هذه الأقسام لا من حيث ذاته؛ والمرفوع إذا لم يبلغ درجة الصحة احتج به في الشواهد والمتابعات كما عليه جَمْعٌ.
[مصطلحات فقهية]
اصطلاحات فقهية:
وأما الجواب عن قول شارح الزاد: "غير تراب ونحوه": فاعلم أن نحو التراب هنا: كل ما كان من الأجزاء الأرضية كالرمل والنورة، أو من المائعات الطاهرة، وكذا كل ما لا يدفع النجاسة عن نفسه فإنه لو أضيف
أحد هذه الأشياء إلى الماء الكثير المتنجس لم يطهر بإضافته إليه؛ لكون المضاف لا يدفع عن نفسه فعن غيره أولى، ولو زال به التغير على أظهر الوجهين. وأما نحو التراب في باب التيمم، فهو كل ما كان له غبار يعلق باليد؛ وفي باب إزالة النجاسة هو كل جامد مُنَقٍّ كالأشنان والصابون والسدر، فيفسر النحو في كُلٍّ بما يناسبه.
[القراءة في الحش وسطحه وهو متوجه إلى حاجته]
وأما المسألة الرابعة في قول شارح الزاد نقلا عن النظم: "وتحرم القراءة في الحش وسطحه، وهو متوجه على حاجته". فاعلم أن قوله: "وهو متوجه" من كلام صاحب الفروع، ومعناه أن التحريم يتوجه إذا كان المتخلي جالسا على حاجته بهذا القيد؛ فافهم ذلك وتفطن؛ والكلام في التحريم والكراهة وبيان المختار يستدعي طولا لا يليق باختصار هذه الأسطار.
[نصيحة عامة للمسلمين]
(نصيحة في إيثار الآخرة والعلم والعمل):
ثم إنك تشير إلى رسم فائدة زائدة، وقد وقع نظري عند إملائي هذا على عبارة ابن الجوزي في "السر المصون" ونصها: من علم أن الدنيا دار سباق وتحصيل للفضائل، وأنه كلما علت مرتبته في علم وعمل زادت المرتبة في دار الجزاء، انْتَهَبَ الزمانَ ولم يُضَيِّع لحظة، ولم يترك فضيلة تمكنه إلا حَصَّلَهَا. مَنْ وُفِّقَ لهذا، فليبكر زمانه بالعلم، وليصابر كلَّ محنة وفقر، إلى أن يحصل له ما يريد؛ وليكن مخلصا في طلب العلم عاملا به حافظا له، فإما أن يفوته الإخلاص، فذلك تضييع زمان وخسران الجزاء، وإما أن يفوته العمل به فذاك يقوي الحجة عليه والعقاب له. وأما جمعه من غير حفظه، فإن العلم ما كان في الصدر لا في القمطر، ومتى أخلص في طلبه دله على الله عز وجل، فليبعد عن مخالطة الخلق مهما أمكن، خصوصا العوام، وليصرف نفسه عن