الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الرسالة الثانية والخمسون
وله أيضا -قدس الله روحه ونور ضريحه- رسالة إلى عبد الرحمن بن محمد بن جربوع، وقد راسله عبد الرحمن، وسأله عن تفصيل ما يجب على الإنسان من التوحيد وأنواعه، وما يجب فيه من المعاداة والموالاة، وعن كيفية طلب العلم للمبتدي وما يكون سببا لتحصيله؟ فأجابه رحمه الله على سؤاله على طريق الإيجاز والإجمال؛ إذ التفصيل يستدعي طولا؛ فبين له رحمه الله الأصول والقواعد، وأرشده إلى تلك المعارف والمقاصد، التي تندرج فيها كل عبادة، وينال بها من رام أسباب نجاته ما أمّله وأراده، وبين له حقيقة الموالاة والمعاداة، التي هي على العباد من أوجب الواجبات، مع أنها قد سفت عليها السوافي فانمحت آثارها، وهجم ليل الأهواء بكلاكله لما أفَلت أقمارها، فيا له من جواب ما أجزله على إيجازه واختصاره! وما أعظم فائدته لمن ألقى السمع وأصغى بقلبه وأفكاره! وهذا نص الرسالة:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى الأخ المكرم عبد الرحمن بن محمد بن جربوع، سلمه الله تعالى، وسلك به السبيل المشروع.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
[إخلاص العبادة لله]
وبعد: فالخط وصل وصلك الله ما يرضيه، وتغتبط في خطك بنعمة الإسلام، ومعرفة التوحيد في هذا الزمان، زادك الله اغتباطا، وأوزعك شكر هذه النعم التي أنعم بها علينا وعليكم، ووفقنا للعمل الصالح الذي يرضاه، وتسأل عن تفصيل ما يجب على الإنسان من التوحيد وأنواعه، وما يجب فيه من المعاداة والموالاة، وكيفية طلب العلم للمبتدي، وما يكون سببا لتحصيله؛ فمعرفة التفاصيل تتوقف على معرفة الأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية. فالدين كله توحيد، لأن التوحيد إفراد الله بالعبادة وأن
تعبده مخلصا له الدين. والعبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله، ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة، فيدخل في ذلك قول القلب وعمله وقول اللسان وعمل الجوارح. وترك المحظورات والمنهيات داخل في مسمى العبادة، ولذلك فسر قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} 1 بالتوحيد في العبادة لأن الخصومة فيه، وهو تفسير ابن عباس.
إذا عرفت هذا عرفت أن على العبد أن يخلص أقواله وأعماله لله، وأن من صرف شيئا من ذلك لغيره فقد أشرك في عبادة ربه، ونقص توحيده وإيمانه، وربما زال بالكلية إذا اقتضى شركه التسوية بربه والعدل به، وتضمن مسبة لله، فإن الشرك الأكبر يتضمنها، ولهذا ينزه الرب تعالى ويقدس نفسه عن ذلك الشرك في مواضع من كتابه كقوله سبحانه:{سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} 2، {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} 3، {وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} 4، ومحَل تفاصيلها الكتب المصنفة في بيان الأحكام الشرعية وواجباتها ومستحباتها، سواء كانت في معرفة القلوب وعلمها، أو عملها وسيرها. فالأول العقائد وهي: التوحيد العلمي، وقد صنف أهل السنة فيها مصنفات من أحسنها كتب شيخ الإسلام ابن تيمية.
وأما الثاني وهو علم أعمال القلوب وسيرها المسمى: علم السلوك، فقد بسط القول فيه ابن القيم -رحمه الله تعالى- في شرح المنازل، وفي سفر الهجرتين. وأما أعمال الجوارح الظاهرة فالمصنفات فيها أكثر من أن تُحصر، وبالجملة فمعرفة جميع تفاصيل العبادة تتعذر؛ إذ ما من عالم إلا وفوقه من هو أعلم منه حتى ينتهي العلم إلى الله.
[الموالاة والمعاداة]
وأما الموالاة والمعاداة فهي من أوجب الواجبات، وفي الحديث:
1 سورة البقرة آية: 21.
2 سورة القصص آية: 68.
3 سورة الصافات آية: 180.
4 سورة يوسف آية: 108.
"أوثق عُرى الإيمان: الحب في الله، والبُغض في الله"1. وأصل الموالاة الحب، وأصل المعاداة البغض، وينشأ عنهما من أعمال القلوب والجوارح ما يدخل في حقيقة الموالاة والمعاداة كالنُّصرة والأُنس والمعاونة، وكالجهاد والهجرة ونحو ذلك من الأعمال، والولي ضد العدو.
[كيفية طلب العلم]
وأما كيفية طلب العلم، ففي حديث ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث معاذا إلى اليمن فقال: "إنك تأتي قوما من أهل الكتاب"2 الحديثَ، فيه بيان كيفيته والبُداءة بالأهم فالأهم من واجبات الإيمان وأركان الإسلام، وينتقل درجة درجة من الأعلى إلى ما دونه، ثم بعد ذلك يتعلم ما يجب من الحقوق في الإسلام، بخلاف ما يفعله بعض الطلبة من الاشتغال بالفروع والذيول. وفي كلام شيخ الإسلام -قدس الله روحه-: مَن ضيّع الأصول، حُرم الوصول. ومن ترك الدليل، ضل السبيل.
وأما السبب في تحصيله فلا أعلم سببا أعظم وأنفع وأقرب في تحصيل المقصود من التقوى قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا} 3 وفي الأثر "من عمل بما عَلِم ورّثه الله عِلم ما لم يعلم" قال الشافعي رحمه الله:
شكوت إلى وكيع سُوء حفظي
…
فأرشدني إلى ترك المعاصي
وقال: اعلم بأن العلم نور
…
ونور الله لا يُؤْتاه عاصي
ومن الأسباب الموجبة لتحصيله: الحرص والاجتهاد، قال تعالى:{وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لأسْمَعَهُمْ} 4 ومنها: إصلاح النية، وإرادة وجه الله والدار الآخرة، فإن النية عليها مدار الأعمال، ولا يتم أمر ولا تحصل بركته إلا بصلاح القصد والنية. وهناك أسباب أُخَر تُذكر في الكتب المؤلفة في آداب العلم والتعلم ليس هذا محل بسطها، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
1 أبو داود: السنة (4599) ، وأحمد (5/ 146).
2 البخاري: المغازي (4347)، ومسلم: الإيمان (19)، والترمذي: الزكاة (625) والبر والصلة (2014)، والنسائي: الزكاة (2435)، وأبو داود: الزكاة (1584)، وابن ماجه: الزكاة (1783) ، وأحمد (1/ 233)، والدارمي: الزكاة (1614).
3 سورة النساء آية: 66.
4 سورة الأنفال آية: 23.